هل حددت النبوات زمن التجسد والفداء .. كتاب مسيح النبوات وليس مسيح الأساطير
نبوات حددت زمن التجسد والفداء بأحداث تاريخية وسنوات محددة
1- خلفيات النبوة:
عندما أعطى الله بني إسرائيل الشريعة عن طريق موسى النبي شدد عليهم أن يطيعوا وصاياه لتكون لهم بركات الرب ويبقوا في الأرض الموعودة ولكن أن عصوه فستكون النتيجة اللعنات والجلاء عن الأرض (تث28). وبرغم ذلك فقد خالف هذا الشعب الله وفعلوا كل الشرور وعلى رأسها عبادة الأصنام فتنبأ أرميا النبي أن الله سيعاقبهم بسبب خطاياهم بالسبي إلى بابل مدة سبعين سنة ” لذلك هكذا قال رب الجنود. من أجل أنكم لم تسمعوا لكلامي هاأنذا أرسل فآخذ كل عشائر الشمال يقول الرب 000 وتصير كل هذه الأرض خراباً ودهشاً وتخدم هذه الشعوب ملك بابل سبعين سنة ” (ار25 :8و11). وتم تحقيق هذه النبوّة عندما جاء نبوخذ نصر إلى أورشليم لينفذ ما قررته إرادة الله ومشيئته وحاصر أورشليم ثلاث مرات حتى دمرها وأحرق الهيكل.
الأولى في سنة 605 ق م أحتل المدينة وسمح للملك يهوياقيم أن يحكم باسمه كتابع له وخاضع لسلطانه وأخذ بعض كنوز الهيكل وعددا من الفتيان “من بني إسرائيل ومن نسل الملك ومن الشرفاء ” (ع3). وكان من ضمنهم دانيال ورفاقه الفتية الثلاثة (2أخ36 :6و7).
والثانية في سنة 597 ق م عندما جاء نبوخذ نصر ثانية وأخذ بقية أواني الهيكل وكنوزه ونقلهم إلى بابل وأخذ الملك يهوياقيم 10.000 أمير وضابط ورجل شرطة وجميع
-1 –
الصناع والمهرة ولم يترك في يهوذا إلا مساكين الشعب. وكان من بين الذين أخذهم حزقيال الكاهن والنبي (2مل24 :14–16).
وفي سنة 586 ق م جاء للمرة الثالثة ليعاقب صدقيا الملك على تمرده عليه، فحاصر المدينة ثم كسر الأسوار ” وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم وكل بيوت العظماء احرقها بالنار ” (2مل25 :9)، وبعد أن أحرق المدينة بالكامل قتل أبناء صدقيا الملك وأخر ملوك يهوذا، وقلع عيني صدقيا نفسه وقاده إلى بابل مقيداً بالسلاسل والأغلال 2مل25).
ولكن فيما بعد هزم الفرس مملكة بابل واستولوا على بابل وكل البلاد التي كانت تحتلها ومن ضمنها اليهودية وترقي فيها دانيال النبي إلى فوصل إلى درجة رئيس وزراء بابل. وفي السنة الأولى لبداية الإمبراطورية الفارسية، أي سنه (539 – 538 ق م)، كان دانيال النبي قد تجاوز الخامسة والثمانين من العمر وكان له في السبي حوالي 68 سنه (605 – 538 ق م). فأخذ يقرأ في أسفار الأنبياء السابقين عليه ويدرس ما جاء فيها (دا9 :2)، وقد فهم من نبوّات سفر ارميا النبي ” عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى أرميا النبي لكماله سبعين سنه على خراب أورشليم (أر25: 12؛29: 10 – 14). وعندما تأكد دانيال النبي من أن مدة السبي قد وصلت إلى نهايتها وجه وجهه إلى الله ” طالباً بالصلاة والتضرعات بالصوم والمسح والرماد ” (دا9 :3) معترفاً بخطايا شعبه الذي حاد عن وصايا الله ولم يسمع للأنبياء الذين أرسلهم، ومن ثم، صلى دانيال ” يا سيد لنا خزي الوجوه ” (دا9 :18)، وذكر الله بعهوده لإبراهيم وداود، وأنهم نالوا ما سبق أن حذرهم الله منه، وتضرع إلى الله أن يصرف غضبه عنهم ليس لأجلهم هم لأنهم خطاه ” لأنه لا لأجل برنا نطرح تضرعاتنا أمام وجهك بل لأجل مراحمك العظيمة ” (دا9 :18).
وقبل أن ينتهي دانيال النبي من صلاته كانت الاستجابة قد وصلت من السماء، وحاملها هو الملاك جبرائيل، الملاك الذي أعلن لزكريا الكاهن عن مجيء يوحنا المعمدان بروح إيليا وقوته ليتقدم الطريق أمام الرب المسيح (لو1 :11-17)، والذي بشر العذراء القديسة مريم بحبلها بالمسيح بالروح القدس وولادتها للقدوس (لو1 :26-35).
ولم يكن الإعلان الذي حمله الملاك جبرائيل عن نهاية مدة السبي فحسب بل كان نبوّة،
– 2-
من أعظم نبوّات الكتاب المقدس عن المسيح، كانت نبوّة بتحديد المدة التي سيأتي في نهايتها المسيح، نبوه بتحديد زمن مجيء المسيح. فقد أعطى للأنبياء الآخرين كثيراً من علامات مجيء المسيح، أما دانيال النبي فقد أعطى له، تحدد له، الزمن الذي سيأتي فيه المسيح. قال الملاك جبرائيل لدانيال النبي: ” سبعون أسبوعا قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا ولكفارة الأثم وليؤتى بالبر الأبدي ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القدوسين. فأعلم وأفهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعا يعود ويبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة. وبعد اثنين وستين أسبوعا يقطع المسيح وليس له وشعب رئيس آت يخرب المدينة والقدس وانتهاؤه بغماره وإلى النهاية حرب وخرب قضى بها. ويثبت عهداً مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة وعلى جناح الأرجاس مخرب حتى يتم ويصب المقضي على المخرب ” (دا9 :24-27).
ولدراسة هذه النبوّة في ضوء الكتاب المقدس ومعرفة جوهرها ومغزاها يجب أن نضع أمامنا النقاط التالية:
(1) ماذا تعنى الأسابيع في هذه النبوّة؟
V وما هي مدتها الفعلية؟
V متى تبدأ؟
V ومتى تنتهي؟
V كيف فُسرت، هذه النبوّة، عبر التاريخ اليهودي؟
V وكيف فُسرت عبر التاريخ المسيحي؟
(2) تقسيم محتويات النبوة وشرح كيفية إتمامها لغوياً وكتابياً.
(3) تفسير النبوة كتابيا ولغوياً عبر التاريخ اليهودي والمسيحي.
(4) الخلاصة التي يقدمها لنا محتوى النبوّة نبوياً وعملياً.
– 3-
2 – معنى الأسابيع ومدتها الفعلية:
كلمة ” أسبوع ” المذكورة هنا، هي في العبرية ” [;Wbv (Shabua) = شبوع “، وفي اليونانية ” a,doj = ados “، ولا تعنى مجرد أسبوع من سبعة أيام، بل تعنى رقم سبعة، وحده من سبعة، كما أن جمعها، هنا، ” شبوعيم – Shabu’im = “، ليس هو الشكل المؤنث المعتاد من أسابيع، وفي اليونانية ” e`bdoma,j = ebdomas “[1]، وتعطي نفس المعنى، ومن ثم تعنى ” وحدات أو فترات من سبعه – Heptads “[2]، وقد وردت في فهرس يونج Young ” أسبوع أو سبعه “[3]، كما وردت في قاموس ” Gesenius للمفردات العبرية والكلدانية “؛ ” سبعه، عدد سبعي “[4]. أي وحده من سبعه، مثل دسته والتي تعنى وحده من اثنى عشر[5].
ومن ثم فقد اجمع جميع علماء اليهودية والمسيحية، في تفسيرهم لهذه النبوّة، بجميع اتجاهاتهم، على أن عبارة ” سبعون أسبوعا “، تعنى ” سبعون سبعات أو ” سبعون وحدة سبعات “[6]. أي 70×7 = 490، وتعنى في مفهوم النبوّة وجوهرها “سبعون أسبوعا من السنين[7]. ومن ثم فقد ترجمت في العربية المشتركة ” سبعين مرة سبع سنوات “، كما ترجمت في بقية الترجمات العربية ” سبعون أسبوعا “، وفي غالبية الترجمات الإنجليزية ” Seventy weeks ” وفي بعضها ” Seventy sevens ” و ” Seven times seventy year ” و ” Seventy sets of seven time periods “. وكلها تعني سبعين وحدة من سبعة.
والسؤال هنا: لماذا تعنى هذه المدة سبعات سنين؟
لأنها لا تصلح أن تكون مدة ثواني (= 16,8 دقائق)، ولا مدة دقائق (= 16،8 ساعات)، ولا مدة ساعات (= 41،20يوم)، ولا مدة أيام ( = سنه وثلاثة شهور)، ولا مده أسابيع (= حوالي 9 سنوات ونصف)، ولا مدة شهور (= حوالي 41سنه). وذلك لأن الأحداث المتضمنة في النبوّة، كما فسرها المسيحيون واليهود والليبراليون والنقاد تحتاج تحقيقها وإتمامها إلى مئات السنين، يتطلب عدة قرون، فمن إعادة تجديد أورشليم وبنائها بعد السبي إلى مجيء المسيح وصلبه ودمار الهيكل سنة 70م (حسب التفسير المسيحي واليهودي) حوالي خمسه قرون، ومن تلك البداية إلى الملك السوري انيتوخس ابيفانس الذي احتل اليهودية ودنس الهيكل سنه 167 ق م أو إلى موت أونيا الكاهن، كما يرى النقاد والليبراليون حوالي ثلاثة قرون ونصف على الأقل.
كما أن دانيال النبي نفسه قد ميز بين هذه السبعات ذات المدد الطويلة وبين الأسبوع المكون من سبعة أيام فيقول في الإصحاح العاشر ” كنت نائحاً ثلاثة أسابيع أيام 000 ولم أدهن حتى تمت ثلاثة أسابيع أيام ” (دا10 :3). ولو كان المقصود هنا مجرد أسابيع، أيام، عادية لكان الملاك قد قال سبعون أسبوعا من الأيام، وهذا لم يحدث.
تقسم النبوّة الأسبوع الأخير إلى نصفين كل نصف منها يتكون من ثلاث سنوات ونصف متساوية مع المدة المذكورة في (دا7 :25 و7 :11) والمعبر عنها بـ ” زمان وزمانين ونصف زمان “، أي ثلاث سنوات ونصف، كما بينا في الفصل السابق.
كان دانيال النبي يقرأ في سفر ارميا النبي ويفكر في انقضاء مدة السبعين سنه على السبي، كان يفكر في تدبير الله بلغة السنين، ومن ثم فقد أعطى الله مده جديدة يعيش فيها الشعب في فلسطين إلى دمار الهيكل نهائياً والعودة إلى الشتات من جديد ومجيء الملك، المسيح المنتظر، المسيح الرئيس، ابن داود، وقد تحددت هذه المدة من إعادة تجديد أورشليم وبنائها إلى مجيء المسيح ودمار الهيكل بـ 490 سنه ” سبعون أسبوعا من السنين “.
يقول أوتو زوكلر Otto Zocklelr أستاذ اللاهوت في جامعه جريفزولد في بروسيا (بألمانيا) في القرن التاسع عشر ” أن مثل هذا التحول النبوي والروحي إلى فترات كثيرة من سبع سنوات لكل منها له ما يوازيه في استخدامات القدماء “[8]. وكان ذلك ملحوظا بين يهود فتره ما بين العهدين فيقسم كتاب اليوبيلات كل يوبيل إلى أسابيع سنين متعاقبة[9]. وكان لدى اليونان والرومان أيضا ما يعرف بـ ” أسبوع سنه – Week Year “[10].
ويذكر الكتاب المقدس أن هناك ثلاثة أنواع من الأسابيع أو السبعات وهي سبعات أيام وسبعات سنين وأسبوع من سبعة أزمنة كل منها سبع سنوات، أي 49 سنه. أي أسبوع من سبعة أيام وأسبوع من سبع سنين وأسبوع من 49سنه.
هناك أسبوع مكون من سبعة أيام يحسب من السبت إلى السبت الذي يليه، أي ستة أيام + السبت (خر20 : 11 – 18). وهناك أسبوع من سبع سنوات ” ست سنين تزرع حقلك ” وأما السنة السابعة ففيها يكون للأرض سبت عطله ” (لا25 :3-7). هذا الأسبوع الذي من سبع سنوات كان مألوفا للآباء البطاركة، فعندما اتفق لابان مع يعقوب أن يخدمه ” سبع سنين براحيل ” كانوا ينظرون إلى هذه السنوات السبع كأسبوع ” أكمل أسبوع هذه 000 بالخدمة التي تخدمني سبع سنين ” (تك29 :15-28). وكان هناك أيضا أسبوع من 49 سنه ” سبعة سبوت سنين. سبع سنين سبع مرات. فتكون لك أيام السبعة السنوية تسعا وأربعين سنه ” (لا25 :8).
وبناء على ما سبق فقد أجمع جميع علماء اليهودية والمسيحية سواء القدماء أو المعاصرين على أن الـ ” السبعن أسبوعا ” تعنى 490 سنه نبوية. تبدأ من القرن الخامس قبل الميلاد وتنتهي في القرن الأول للميلاد. وقد أجمعت الغالبية، كما سنرى، على أنها تبدأ فيما بين (سنة 457 و 445 ق م) وتنتهي فيما بين (26/27و33و70م).
3 – جوهر النبوّة وغايتها:
قال الملاك جبرائيل لدانيال النبي ” سبعون أسبوعا قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة “. وكلمة ” قُضيت = حُدِّدَت ” أو ” قُطعت ” من مجرى الزمن لأن الله يعامل أورشليم بكيفية خاصة وكان دانيال النبي يصلى من اجل شعبه ومن اجل أورشليم مدينته والتي دعاها الوحي بـ ” مدينه القدس “، و ” مدينه الحق ” ومن ثم فقد جاءت الإجابة من أجل شعبه بالدرجة الأولى.
(1) لتكميل المعصية:
كلمه ” تكميل ” هنا في أصلها تعنى، المنع أو التقييد (تك8 :2؛23 :1)، والإزالة، أي إزالة الخطية، إزالة المعصية ” لِإفْناءِ المَعصِيَةِ ” من أمام وجه الله ” أستر وجهك عن خطاياي وأمح كل آثامي ” (مز51 :9)، ومن ثم فقد ترجمت في الكاثوليكية: ” لإفناء المعصية “، وفي المشتركة: ” لِلقضاءِ على المَعصيَة “. وكلمه المعصية، هنا معرفة بالـ ” المعصية ” وتشمل الرفض والارتداد، رفض اليهود للمسيح سواء في مجيئه الأول أو قبل التوبة والرجوع في مجيئه الثاني. كان تمردهم وعصيانهم الذي صلى دانيال من أجله سيستمر إلى النهاية.
كان بنو إسرائيل يقدمون لله ذبائح تكفيراً عن خطاياهم، كما كانوا يجتمعون في يوم (عيد) الكفارة كل عام ويقدمون ذبائح دموية تكفيراً عن هذه الخطايا، حيث يقول الكتاب: ” لأنه في هذا اليوم يكفّر عنكم لتطهيركم، من جميع خطاياكم أمام الرب تطهرون ” (لا16 :30). ولكن هذه الكفارة كانت مؤقتة ورمزيه ولم يكن لها الكفاية، القدرة الكافية، على محو الخطية والقضاء على المعصية وإزالتها أو إفنائها تماماً، إنما كانت ترمز للمسيح حمل الله الحقيقي، الذي شاءت إرادة الله ومشورته الأزلية، أن يقدم المسيح ذاته فدية وكفارة عن خطايا العالم. لذا يقول الكتاب: ” لأن الناموس إذ له ظل الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء لا يقدر أبدا بنفس الذبائح كل سنة التي يقدمونها على الدوام أن يكمّل الذين يتقدمون. وإلا أفما زالت تقدم. من اجل أن الخادمين وهم مطهرون مرة لا يكون لهم أيضا ضمير خطايا. لكن فيها كل سنة ذكر خطايا. لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا. لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقربانا لم ترد ولكن هيأت لي جسدا. بمحرقات وذبائح للخطية لم تسرّ. ثم قلت هانذا أجيء في درج الكتاب مكتوب عني لأفعل مشيئتك يا الله. إذ يقول آنفا انك ذبيحة وقربانا ومحرقات وذبائح للخطية لم ترد ولا سررت بها.التي تقدّم حسب الناموس. ثم قال هانذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله. ينزع الأول لكي يثبت الثاني. فبهذه المشيئة نحن مقدّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة ” (عب10 :1-10).
فقد جاء المسيح في ملء الزمان وقدم نفسه ذبيحة عن خطايا العالم كله في كل مكان
– 4-
وزمان (1يو2 :1و2). يقول الكتاب أيضاً” ” متبررين مجانا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من اجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله ” (رو3 :24و25). ” لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره (جروحه) شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه أثم جميعناً ” (اش53 :4-6).
(2) وتتميم الخطايا:
تعنى كلمة ” تتميم ” هنا، ختم (1مل21 :8)، أي ” ختم الخطايا ” أو كما يقول أيوب ” معصيتي مختوم عليها ” (أي14 :17)، كما تعنى الغلق، والغلق على الأشياء بمعنى إخفائها (أي9 :7)، كما تعنى الإنهاء والإزالة ” وإنهاءِ الخطيئَةِ “، ” وإِزالَةِ الخَطيئة “. أي أن الله سيضع نهاية للخطية بغفرانها على الصليب بدم المسيح الذي قدم ذاته كفارة عنها وقد وصفت بأنها ختمت لأنها أزيلت بدم المسيح، فقد ” أخذ المسيح على نفسه ملاشاتها وأبادتها بمعنى أنه كسر شوكتها وأبطل نفوذها وسيطرتها بحيث لم تعد لها قائمه فيما بعد “[11]. وقد رفض جزء من بني إسرائيل، التي كانت النبوّة موجهه إليهم، المسيح، فأكملوا معصيتهم وختموا على خطاياهم برفضهم للمسيا، ملكهم (يو19 :15و16)، وتقديمه للصلب والموت.
(3) ولكفارة الأثم:
ولكفارة الأثم أو ” وتكفير الإثم “، أو ” واَلتَّكْفيرِ عنِ الإِثْمِ “. وهنا يعنى الفعل ” يكفر ” يغطى، أو يكفر عن، أو ” يغفر، يصفح ” (ار28 :11) و ” يمحو ” (مز79 :9) و ” يحجب ” (تك6 :4) ويطهر ” تطهر المذبح بتكفيرك عليه ” (خر29 :36)، وذلك بمعنى يتخلص من حمل الخطية بالدم أو التوسط (حز32 :3). وكفارة الأثم تعنى إزالة الذنب أو العقاب الذي ينبع من الذنب. والفداء لا يمكن أن يتم إلا بصليب المسيح ” الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا من كل أثم ويطهر لنفسه شعبا خاصّا غيورا في أعمال حسنة ” (2تي2 :14)، كما سبق أن تنبأ عنه العهد القديم، أيضاً، قائلاً: ” وهو يفدي إسرائيل من كل آثامه ” (مز130 :8)، فالمسيح وحده هو الذي يغطى خطيئة الإنسان ويحجبها عن نظر الله بتقديم جسده كفارة عن الخطايا وإيفاء العدل الإلهي حقه[12].
(4) وليؤتى بالبر الأبدي:
أي ” البر أو البار الأبدي = والإِتيانِ بِالبِرِّ الأَبَدِيّ = وإحلالِ الحَقِّ الأبديِّ، ” أو كما يقول القديس أثناسيوس الرسولي ” إلى أن يأتي البر الحقيقي المزمع أن يكون فديه عن الجميع “[13]. والبر هنا مرتبط بالفداء والخلاص، كقول اشعياء النبي بالروح ” أما خلاصي إلى الدهر يكون وبرى لا ينقض 000 أما برى إلى الأبد يكون وخلاصي إلى دور الأدوار ” (اش51 :6و8). وهذا البر لا يتم إلا بالمسيح وحده البار، والذي دعي بالروح ” غصن بر ” و ” الرب برنا ” (ار23 :6؛33 :16؛51 :10)، وكما يقول بولس الرسول بالروح: ” المسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبر وقداسة ” (1كو1 :30)، ” متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح ” (رو3 :24). وقد بررنا بدمه وحمله لخطايانا، وتنبأ عنه اشعياء النبي كعبد الرب البار الذي يبرر الكثيرين بحمله آثامهم: ” وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين وآثامهم هو يحملها ” (اش53 :11).
(5) وختم الرؤيا والنبوة:
وتترجم أيضاً ” وتَمامِ الرُّؤيا والنُّبوءَة “، فقد ختم الرب يسوع المسيح وتمم كل رؤى ونبوات العهد القديم التي سبق جميع الأنبياء وتنبؤا بها عنه، وأكمل كل ما هو مكتوب عنه، كقوله هو نفسه ” لأبد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنى في ناموس موسى والأنبياء والمزامير ” (لو24 :44). وتعنى الآية أيضاً وضع النهاية للرؤى والإعلانات بمجيء المسيح الذي تمت فيه جميع الوعود والنبوّات والذي كان هو محورها وهدفها، كقوله ” ليتم كل ما هو مكتوب ” (لو21 :26). يقول Young ” عندما يأتي المسيح لن يكون هناك حاجه أخرى للنبوّة بمفهوم العهد القديم “[14]، وهذا ما أكده الوحي في قوله ” الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثا لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمه قدرته ” (عب1 :1-3). فقد تكلم الله بواسطة الأنبياء الذين أعطاهم رؤى ونبوات ” لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا ” (مت11 :13)، وهذا كله تم وختم بمجيء المسيح وصلبه.
يقول القديس أثناسيوس الرسولي متسائلاً: ” متى بطلت النبوّة والرؤيا من بني إسرائيل إلا عندما أتى المسيح قدوس القدوسين؟ لأنه من ضمن العلامات والبراهين القوية على مجيء كلمة الله أن أورشليم لا تكون قائمه فيما بعد، ولا يكون نبي قائماً فيهم، ولا تعلن لهم رؤيا وهذا أمر طبيعي “[15].
” فعندما جاء قدوس القدوسين ” كان طبيعياً أن تختم الرؤيا والنبوة، وتبطل مملكه أورشليم. لأن الملوك كان يجب أن يمسحوا بينهم إلى أن يمسح ” قدوس القدوسين “. ويعقوب تنبأ بأن مملكه اليهود تبقى حتى مجيئه “[16].
” وقد هتف المخلص نفسه قائلاً ” الناموس والأنبياء إلى يوحنا تنبأوا “. فلو كان بين اليهود الآن نبي أو ملك أو رؤيا، لجاز لهم أن ينكروا المسيح الذي أتى (مت11 :13؛لو16 :16). أما أن لم يوجد ملك ولا رؤيا، بل من ذلك الوقت إلى الآن ختمت كل نبوه، وأخذت المدينة والهيكل “[17].
-5-
(6) ولمسح قدوس القدوسين:
عندما بشر الملاك العذراء بميلاد المسيح قال لها: ” القدوس المولود (منك) يدعي ابن الله ” (لو1 :35)، ودعي الرب أيضاً بـ ” قدوس الله ” (مر1 :33) و ” القدوس البار ” (أع3 :14) و” قدوس بلا شر ولا دنس ” (عب7 :26)، كما دعي بـ ” القدوس الحق ” (رؤ3 :7). وأكد آباء الكنيسة أنه هو المقصود في عبارة دانيال، هذه، يقول هيبوليتوس ” قدوس القدوسين ليس سوى ابن الله وحده “، ويقول اكليمندس الإسكندري ” جاء المسيح ربنا قدوس القدوسين “[18]، ويقول القديس أثناسيوس الرسولي ” المسيح قدوس القدوسين “[19].
وقد وردت كلمه ” قدوس القدوسين ” في العبرية ” قدش قدشيم = ~yvi(d”q”) vd<qoï “، وترجمت في اليونانية السبعينية ” a[gion a`gi,wn = قدوس القديسين “، واستخدمت حوالي 40 مرة معرفة بأداة التعريف ” قدش ها قدشيم ” لتعنى ” قدس أقداس ” وطبقت على خيمة الاجتماع وأدواتها والذبائح والتقدمات المختلفة “[20]. وعندما استخدمت بدون أداة تعريف ” قدش قدشيم ” فقد استخدمت لهارون وبنيه (1أخ23 :13)، واستخدمت هنا عن الرب يسوع المسيح بالتوازي مع قول النبوّة عنه ” المسيح الرئيس ” وهذا ما اجمع عليه آباء الكنيسة وعلماؤها[21].
وقد رأي البعض انه إذا كانت العبارة تشير إلى مكان، فتكون الإشارة إلى دخول المسيح المقام إلى السموات ذاتها ” الذي بدم نفسه دخل مره واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبدياً ” (عب9 :12). وذلك لأجل مختاريه “[22]. كما رأي بعض آخر أنها تشير إلى الكنيسة المسيحية ” فالمراد بقوله قدوس القدوسين الكنيسة المسيحية باعتبار أن مؤمنيها هم هيكل الله الحي ” والمراد بقوله لمسحها هو انسكاب الروح القدس كما حدث في يم الخمسين “[23]. ولكن أقدم الآباء وسياق الكلام وروح الكتاب يؤكدون أن الرب يسوع المسيح هو ” قدوس القدوسين “. ومن ثم فقد ترجمت في السريانية القديمة بـ ” مسيا قدوس القدوسين “[24]. وما يؤكد أن لقب ” قدوس القدوسين ” هذا خاص بالرب يسوع المسيح هو استخدام الفعل ” مسح ” والتي جاء منها ” المسيح، المسيا، الممسوح ” ويعنى التكريس أو التعيين كاهن أو نبي أو ملك، وبرغم أن فعل المسح ينطبق على خيمة الاجتماع كعلامة تكريس (خر30 :26؛40 :9-11)، لكنه لم يطبق قط على قدس الأقداس، إنما طبق على كهنة وملوك وأنبياء كهارون وشاول وداود (خر40 :13؛1صم10 :1؛16 :3) كمسحاء للرب. وبالتالي طبق على الرب يسوع باعتبار كونه كاهناً ورئيس الكهنة الأعظم (عب5 :5و6)، ونبي (تث18 :15-18؛ لو1 :70 ؛ أع3 :22) ، وملكاً (رؤ17 :4). ومن ثم يقول فيه المرنم بالروح ” كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب استقامة قضيب ملكك 000 أحببت البر وأبغضت الإثم من اجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك ” (مز45 :7و8)؛ (عب1 :8و9). وقد مسح الرب يسوع المسيح ككاهن وملك ونبي بالروح القدس الذي حل عليه في المعمودية (مت3 :16 ؛يو1 :32). يقول بطرس الرسول بالروح ” يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوه ” (أع10 :38).
4 – متى بدأت هذه الأسابيع النبوية ومتى انتهت؟
يقول الملاك جبرائيل لدانيال النبي ” فاعلم وافهم أنه من خروج (صدور) الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً يعود ويبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة ” ع25.
وفي قول الملاك هنا أربع ملحوظات:
(أ) فقد فصل الأسابيع الـ 69 الأولى عن الأسبوع الأخير (الـ 70). وتتكون هذه الأسابيع من (1) السبعة أسابيع الأولى أو الـ 49 سنة (2) الـ 62 أسبوعا (3) الأسبوع الخير: (7 + 62 +1 = 70).
(ب) وتكلم عن عمل خاص بالأسابيع السبعة الأولى أو الـ 49 سنة الأولى من هذه الأسابيع الـ 69 التي بدأت فيها العودة الأولى إلى أورشليم تحت قيادة زروبابل، وبدأ فيها ترميم المذبح وإعادة تنظيم العبادة وطقوسها وشعائرها (عز2و3).
(ج) وفصل الأسبوع الأخير، أو الـ 7 سنوات الأخيرة، (الأسبوع السبعون) وقسمه إلى جزأين كل جزء من ثلاث سنوات ونصف، أشار إلى دمار الهيكل في النصف الثاني منهما.
(د) ثم حدد بداية هذه الأسابيع الـ 69 (7 + 62 أسبوع) بصدور مرسوم إعادة بناء وتجديد أورشليم، بعد العودة من السبي، كما حدد نهايتها بمجيء وظهور وبداية خدمة
– 6-
المسيح ” المسيح الرئيس “.
فمتى صدر هذا الأمر أو المرسوم؟ ومن هو المسيح الرئيس هذا؟ ومتى بدأ الأسبوع الأول يبدأ الأسبوع السبعون؟
بعد انتهاء مدة السبي، حسب نبوّة ارميا النبي، صدرت ثلاثة أوامر ملكية أو مراسيم، ارتبطت جميعها بالعودة إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل والمدينة.
1 – المرسوم الأول؛ أصدره الملك الفارسي العظيم كورش سنة 538 ق م بعد استيلائه على بابل. وكان اشعياء النبي قد سبق وتنبأ عن هذا الملك قبل استيلائه على بابل بحوالي 150 سنه ووصفه ” بمسيح الرب ” المنفذ لإرادة الله الذي سيأمر ليس بالعودة إلى أورشليم فحسب، بل سيأمر بإعادة بناء الهيكل وأورشليم “[25]. ” القائل عن كورش راعى فكل مسرتي يتمم ويقول عن أورشليم ستبنى وللهيكل سيؤسس. هكذا يقول الرب لمسيحه لكورش 000″ (اش44 :8 ؛45 :1). أن الرب إله السماء 000 أوصاني أن ابني له بيتاً في أورشليم “[26]. وهكذا بدأت العودة الأولى إلى أورشليم تحت قيادة زروبابل، وبدأ ترميم المذبح وإعادة تنظيم العبادة وطقوسها وشعائرها (عز2و3)، وعند بناء الهيكل واجه العائدون صعوبات شديدة وعراقيل من الولاة وخصوم الديانة اليهودية (عز4 -6). وفي عهد الملك داريوس الأول (522-486 ق م) تم البحث في خزائن الوثائق الفارسية المحفوظة في بابل ووجد مرسوم الملك كورش وبناء عليه أمر الملك داريوس الأول باستمرار العمل (عز6 :6 – 16) الذي استغرق من 520 إلى 515 ق م فتم العمل في 23 آذار من السنة السادسة من ملك داريوس، أي في أبريل 515 ق م (عز6 :19).
2 – المرسوم الثاني؛ أصدره الملك ارتحشتا الأول (464 – 424 ق م) في السنة السابعة من ملكه أي سنه 457 / 456 ق م (عز7 :12-27)، وحمله عزرا الكاهن والكاتب مع مجموعه أخرى وعادوا إلى أورشليم (عز 8). وهكذا بدأت العودة الثانية إلى أورشليم تحت قيادة عزرا، بعد حوالي 80 سنة من العودة الأولى. وقد ركز مرسوم ارتحشتا هذا على ثلاثة أمور؛ هي الأذن لمن يريد، من يهود بابل، بالعودة إلى أورشليم (عز2و3)، تنظيم القضاء للشعب وتطبيق شريعة موسى (عز7 :7و25و26)؛ ترتيب الأمور المالية للصرف منها على إقامة الشعائر الدينية المرتبطة بالهيكل وبحسب مشيئة الله (عز7 :25و26). ومن ثم فقد كان عزرا الكاهن والكاتب هو الباني الروحي، المؤسس الروحي لمرحله ما بعد السبي وقبل انقطاع النبوّة.
3 – المرسوم الثالث؛ أصدره، أيضا، الملك ارتحشتا الأول في ” شهر نيسان في السنة العشرين ” لملكه، أي (مارس – أبريل 445ق م). وحمله نحميا، رجل البلاط الفرس وساقي الملك (نح1 :11) ، ومن ثم بدأت العودة الثالثة إلى أورشليم. وبموجب هذا المرسوم قام نحميا ببناء سور أورشليم وأعاد بناء المدينة نفسها (نح2و3).
والسؤال هنا هو إلى أي أمر أو مرسوم من هذه المراسيم الثلاثة أشار الملاك جبرائيل؟ والإجابة هي المرسوم الثاني الذي أصدره الملك ارتحشتا الأول في السنة السابعة من ملكه أي سنه 457 م/456 ق م.
1 – فقد صدر أمر الملك ارتحشتا الأول، لونجمينوس (464 – 424 ق م) لعزرا الكاهن والكاتب في السنة السابعة لملكه (عز7 :12)، أي سنه 457 م/456 ق م. وعند تتبع هذه المدة المذكورة في كلام الملاك جبرائيل حسب تقسيم النبوّة لها نصل للآتي:
(1) 7 أسابيع = 49 سنة بدأت سنة 457/456 ق م لتنتهي سنة 408 /407 ق م.
وقد تم خلال هذه الأسابيع السبعة الأولى، أي الـ 49 سنه (7 × 7 = 49)، بحسب ما جاء بالنبوّة، إعادة بناء حوائط وشوارع أورشليم برغم الظروف الصعبة، وأكتمل تنظيمها سنه 408 /407 ق م.
(2) ثم بدأت مدة الـ ” اثنان وستون أسبوعا ” أي 434 سنه (62 × 7 = 434). وعند جمع مدة الـ 62 أسبوعا (434 سنه) مع السبعة أسابيع (49 سنة) = 62 + 7 = 434 سنة (7 أسابيع + 62 أسبوع = 69 أسبوع أي 483 سنة). وهذه المدة بدأت سنه صدوره
– 7-
الأمر سنه 457 /456 ق م ووصلت لسنه 26 /627 م (383 – 457 /456 = 26 /27). أي سنة عماد الرب يسوع المسيح من يوحنا المعمدان.
(3) أو بحسبة مختصرة نطرح مدة التسعة والستين أسبوعا، 483 سنة من تاريخ صدور الأمر سنة 457 /456 ق م لتصل إلى سنة 26/27م (483 – 457 /456 = 26 / 27م). وهي نفس السنة التي جاء فيها المسيح ” كالرئيس “، بحسب ما تعلن النبوّة، وهي نفس السنة التي أعتمد فيها من يوحنا المعمدان.
وقد بدأ يوحنا المعمدان خدمته في ” السنة الخامسة عشره من سلطته طيباريوس قيصر ” (لو3 :1)، أي خلال سنة 26م[27]، والمفروض أن الرب يسوع المسيح بدأ خدمته بعد يوحنا المعمدان بستة شهور[28]، وبالتالي يكون المسيح قد بدأ خدمته في سنه 26/27م. ولأن الرب يسوع المسيح كرز حوالي ثلاث سنوات ونصف يكون قد صلب سنة 30م.
5 – تقسيم الأسبوع الأخير على نصفين وعمل المسيح فيهما:
ويقول النصف الثاني من النبوّة: ” وبعد اثنين وستين أسبوعا يقطع (يقتل = يفصل) المسيح وليس له (ولا يكون له = ولا من يدافع عنه) وشعب رئيس آت (ويأتي رئيس بجيشه = ويأتي رئيس) يخرب المدينة والقدس وانتهاؤه بغمارة (وكما بالطوفان يقضي عليهما) والى النهاية حرب وخرب (قتال وتخريب) قضي بها. ويثبت (يقطع) عهدا مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة وعلى جناح الأرجاس مخرب (وفي جناح الهيكل تكون شناعة الخراب = وفي الهيكل ترتفع رجاسة الخراب) حتى يتم ويصبّ المقضي على المخرب (إلى أن ينصب غضب الله على الذي رفعها) ” (دا9 :26و27).
1 – صلب المسيح وأبطال الذبائح والتقدمات ودمار الهيكل: وهنا تقسم النبوّة الأسبوع الأخير إلى نصفين (ثلاث سنوات ونصف لكل منهما)، النصف الأول منها (ثلاث سنوات ونصف) تمت فيها خدمة المسيح ومحاكمته وصلبه وقيامته وبداية الكرازة به في أورشليم واليهودية والسامرة. ويتفق العلماء على أن الرب يسوع المسيح صلب في 14 نيسان (أبيب / مارس) سنه 30م. وعند موت المسيح على الصليب أنشق حجاب الهيكل، كما يقول الكتاب ” وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل ” (مت27 :51؛مر15 :38)، ” وانشقّ حجاب الهيكل من وسطه ” (لو23 :25)، كما يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس المعاصر لدمار الهيكل (36 – 100م) أن العتبة العليا التي كان يعلق بها حجاب الهيكل قد سقطت أيضاً[29]. وهذا يتفق تماماً وبالحرف الواحد مع إعلان النبوة عن صلبه وإبطاله للذبائح والتقدمات ” في منتصف الأسبوع “، أي بعد ثلاث سنوات ونصف من بداية خدمته (سنة 26/27 + 1/2 3 سنوات = سنة 30 م).
فقد تمت نبوة دانيال النبي في مجيء المسيح وصلبه بالحرف الواحد، وهذا يؤكد على حقيقة أن كل ما يختص بالمسيح مرتب بحسب مشورة الله الأزلية إرادته الإلهية وعلمه السابق وأن الكتاب المقدس هو كلام الله الموحى به بالروح القدس، يقول القديس جيروم[30] أنه بعد ثلاث سنوات ونصف من خدمته، أتم المسيح وأبطل ” ظلال الأشياء الحسنة التي ستأتي “، أي الطقوس اللاوية، إذ قدم نفسه ” لأن الناموس إذ له ظل الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء لا يقدر بنفس الذبائح كل سنة التي يقدمونها على الدوام أن يكمل الذين يتقدمون ” (عب10 :1)، فكل طقوس الناموس وشعائره ” هي ظل الأمور العتيدة ” (كو2 :17)، ولما أكملها في نفسه، بذبيحة نفسه، أعلن أنه ” قد أكمل ” (يو19 :30)، ” إذ أنه قبل أن يضع الرب يسوع روحه ويسلمها في يدي الآب قال ” قد أكمل ” وأسلم الروح. ليعلن للجميع أنه أتم العمل الذي جاء من أجله، ومن ثم ” أنشق حجاب الهيكل من أعلى إلى أسفل” إيذاناً وإعلاناً بانتهاء عهد وبداية عهد جديد، كقول النبوّة: ” ها أيام تأتي يقول الرب واقطع مع بيت اسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا ” (ار31 :31).
-8-
2 – تثبيت العهد وأبطال تقديم الذبائح: يقول القديس جيروم في تفسيره لقول النبوة[31] ” ويثبت عهداً مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة ” ع 27؛ إن ذلك تم بخدمته ثلاث سنوات ونصف، ثم بخدمة رسله بعد قيامته “. وتقول دائرة معارف النبوات الكتابية أن كلمة ” يثبت ” تعنى حرفياً ” يجعل العهد يسود “[32]، ” يقطَعُ 000 عَهدًا ثابتًا “، والفاعل هو المسيح الذي هو موضوع الآية والنبوة. ومن ثم تترجم الآية في الترجمة اليسوعية ” في أُسْبوعٍ واحِدٍ يَقطعُ مع كَثيرينَ عَهداً ثابتاً، وفي نِصفِ الأُسْبوعِ يُبطِلُ الذَّبيحَةَ والتَّقدِمَة “، والعهد هنا هو العهد الذي تم بدم الفداء، بدم المسيح على الصليب، الذي به اشترى الكنيسة ” كنيسة الله التي اقتناها بدمه ” (أع20 :28). هو عهد الله الفدائي، الذي سبق وتنبأ عنه اشعياء النبي ” وأجعلك عهداً للشعب ونوراً للأمم لتفتح عيون العمى لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة ” (اش42 :6و7)، ” وأقطع لكم عهداً أبدياً مراحم داود الصادقة ” (اش55 :3)، والذي تنبأ عنه أيضا أرميا النبي ” ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل وبيت يهوذا عهداً جديداً ” (ار31 :31)، ” وأقطع لهم عهداً أبدياً ” (أش61 :8؛ ار32 :40). هذا العهد بلا عيب ” لأنه لو كان الأول بلا عيب لما طلب موضع لثان. لأنه يقول لهم لائماً هوذا أيام تأتى يقول الرب حين أكمل مع بيت إسرائيل وبيت يهوذا عهداً جديداً 000 فإذ قال جديدا عتق الأول. وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال ” (عب8 :8و13)، إنه بدم ” راعى الخراف العظيم بدم العهد الأبدي ” (عب13 :20)، ” ولأجل هذا هو وسيط عهد جديد لكي يكون المدعوون إذ صار موت لفداء التعديات التي في العهد الأول ينالون وعد الميراث الأبدي ” (عب9 :15). لقد أنهي الرب يسوع المسيح تدبير العهد القديم على الجلجثة، وانشق حجاب الهيكل، إذ قدم ذاته ذبيحة ذات قيمة لا نهائية، وثبت العهد الجديد بخدمته ثلاث سنوات ونصف قبل الصليب وبكرازة رسله بعد القيامة، خلال الثلاث سنوات ونصف التالية أو نصف الأسبوع الثاني، لليهود. فقد كان النصف الثاني من الأسبوع السبعين هو فترة تأسيس الكنيسة والبشارة بالإنجيل لليهود، وهذه الفترة انتهت باستشهاد القديس أستيفانوس، وحدث ذلك اليوم (يوم رجم أستيفانوس) اضطهاد عظيم على الكنيسة التي في أورشليم فتشتت الجميع في كور اليهودية والسامرة ” (أع8 :1). ثم بتحول شاول إلى المسيحية وإلى اسم بولس الرسول، ثم بداية دخول الأمم إلى المسيحية بإيمان قائد المائة الروماني كرنيليوس وحلول الروح القدس عليه هو ومن معه ” فأندهش المؤمنون الذين من أهل الختان كل من جاء مع بطرس لأن موهبة الروح القدس انسكبت على الأمم أيضاً ” (أع ص 10)، وذلك حوالي سنة 33/34.
ويرى كثيرون من المفسرين الكتابيين المحافظين، أن فترة الثلاث سنوات ونصف الثانية من الأسبوع السبعين امتدت، عملياً، إلى دمار أورشليم والهيكل سنة 70 م، إذ أن التقدمات والذبائح أبطلت عملياً وكلية بدمار الهيكل نهائياً 00 ويرون أن لغة النبوة تتحدث عن أحداث ستحدث بعد الأسبوع الثاني والستين، الذي هو الأسبوع التاسع والستين، (7 + 62 = 69)، وهي كالآتي:
أ – يصف ع 27 أن قطع المسيح سيكون في منتصف الأسبوع السبعين.
ب – ثم يلي ذلك مباشرة الحديث عن دمار المدينة والقدس.
ج – ثم عن ” نهاية ” أو ” نهاية حرب “.
د – ويعلن ع 27 أن العهد سيثبت مع كثيرين ” في وسط الأسبوع “.
ر – وأن الذبائح والتقدمات ستبطل.
س – ثم يأتي الحديث عن ” المخرب ” وعن ” نهاية ” كاملة.
هذه الأحداث مكملة وداخلة في محيط الأسبوع السبعين، ولكن إتمامها يمتد إلى ما وراء السبعين أسبوعاً، فدمار أورشليم والقدس حدث بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف من تاريخ الصلب والقيامة. نعم لقد بطلت الذبائح والتقدمات بصلب المسيح وانشقاق حجاب الهيكل ولم يعد للهيكل فائدة، وأصبح غير ذي قيمة وغير موجود روحياً وعملياً، إلا أن إزالته من الوجود وإتمام النبوة الحرفي تما سنة 70 م.
3 – رجاسة الخراب ودمار أورشليم والقدس: ثم تقول النبوة ” وشعب رئيس آت يخرب المدينة والقدس وانتهائه بغماره وإلى النهاية حرب وخرب قضى بها 000 وعلى جناح الأرجاس مخرب حتى يتم ويصب المقضي على المخرب ” ع 26،27. وفي الترجمة المشتركة ” ويأتي رئيسٌ بِجيشِهِ فيُخرِّبُ المدينةَ والمَقْدِسَ. وكما بِالطُّوفانِ يقضي علَيهِما، فَيَحينُ الحربُ والخرابُ اللَّذانِ قَضى اللهُ بِهِما “، وفي اليسوعية ” ويأتي رَئيسٌ فيُدَمِّرُ
– 9-
المَدينةَ والقُدْس. بِالطُّوفانِ تَكونُ نِهايَتُها، وإِلى النِّهايَةِ يَكونُ ما قُضِيَ مِنَ القِتالِ والتَّخْريب “. وقد أجمع المفسرون المحافظون، الكتابيون على أن المقصود بعبارة ” شعب رئيس آت ” هو الجيش الروماني الذي دمر أورشليم والقدس سنة 70م. أما ” جناح الأرجاس ” فتقسم إلى ” جناح ” والذي يشير في العهد القديم إلى الجيش (أش8 :3؛ار48 :40)، وهنا تشير إلى ” جناح الهيكل ” الذي حاول اليهود الاحتماء تحته. و ” الأرجاس ” من ” رجس ” أو ” رجاسة ” أو ” رجسة ” والتي أشير إليها في بـ ” معصية الخراب ” في (دا 11 :31؛12 :11) بـ ” الرجس المخرب “، والتي أشار إليها الرب يسوع المسيح في حديثه عن دمار أورشليم ونهاية العالم بـ ” رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي ” (مت24 :15)، وتشير عموماً إلى عبادة الأصنام الرجسة وأشكال عبادتها الوثنية المقيتة[33]، كما يقول عن الصنم ” ملكوم رجس العمونيين ” (1مل11 :5)، والصنم ” كموش رجس الموآبيين ” (1مل11 :7) و ” عشتروث رجاسة الصيدونيين ” (2مل23 :13). وأشار بها الرب يسوع المسيح إلى تدنيس الهيكل بواسطة الرومان ودماره.
وقد ربط الرب يسوع المسيح بين ” رجسة الخراب ” في هذه النبوة ودمار الهيكل سنة 70 م في قوله ” فمتى نظرتم رجسة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدس. ليفهم القارئ. فحينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال ” (مت24 :15). ونقلها القديس لوقا بمعناها فقال ” ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش (تُحاصِرُها الجُيوشُ – قد حاصَرَتْها الجيُوش) فحينئذ اعلموا انه قد اقترب خرابها ” (لو21 :20)، وفي قول الرب هنا تحذير واضح لتلاميذه بالهرب إلى الجبال عندما يرون ” رجسة الخراب ” قائمة في الهيكل، كما تشير الجملة الاعتراضية التي علق بها الإنجيلي ” ليفهم القارئ ” إلى أن المقصود هنا هو الجيوش الرومانية التي وضعت راياتها، كما يقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس الذي كان شاهداً لها ” وبينما هرب الثوار (اليهود) إلى المدينة والتهم اللهب المقدس ذاته وكل ما يحيط به احضر الرومان راياتهم وأقاموها تجاه الباب الشرقي وهناك ضحوا لها “[34]. وكانت رايات الجيش الروماني هي النسور الفضية المقدسة وهذا ما أوضحه الرب نفسه بقوله: ” ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش فأعلموا أنه قد أقترب خرابها. حينئذ ليهرب الذين في اليهودية إلى الجبال. والذين في وسطها فليفروا خارجاً. والذين في الكور فلا يدخلوها. لأن هذه أيام انتقام ليتم كل ما هو مكتوب ” (لو21 :20-23). وقد تحققت هذه النبوّة وإعلان المسيح بصورة حرفية دقيقة، فبعد 66 سنة من ميلاد المخلص دخل سستيوسCestius حاكم سوريا المدينة مع القوات الرومانية وحاصر الهيكل وقفز الجنود من حوائط الهيكل ووقفوا في المكان المقدس. ثم استدعي سستيوس الجنود وغادر المدينة، ولكن بعد أربع سنوات دُمرت المدينة والهيكل وصار خراباً تماماً[35]، ويقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس شاهد العيان على أحداث خراب أورشليم ودمار الهيكل: ” لقد حكم على المقدس منذ زمن طويل من الله بالنار، والآن وبعد مرور السنين اقترب اليوم المحتوم، اليوم العاشر من شهر Lous (سبتمبر)، وهو نفس التاريخ الذي احرق فيه الملك نبوخذ نصر الهيكل من قرون. ولكن الآن كان الشعب (اليهود) هو الذي سبب الحريق الهائل وبدأه. إذ أنه عندما أنسحب تيطس بفترة قصيرة هاجم الثوار الرومان ثانية، وتبع ذلك معركة حدثت بين حراس المقدس والقوات التي كانت تطفئ النار داخل الساحة الداخلية، فهزمت القوات الرومانية اليهود وتعقبتهم في انتقام شديد إلى الهيكل نفسه مباشرة. وبدون انتظار لأي أوامر وبدون خوف من هذا العمل الرهيب انتزع أحد الجنود الذي كان مندفعاً بقوة علوية قطعة ملتهبة من الصوف وقفز على ظهر جندي آخر، وقذف بالجمرة الملتهبة من فتحة شباك ذهبي منخفض 000 وعندما اندلعت ألسنة اللهب صرخ اليهود في رعب أشعل المأساة؛ وتزاحموا للإنقاذ دون تفكير في اقتصاد حياتهم أو ادخار قوتهم لأن المبنى المقدس الذي كانوا يحرسونه بقوة وتكريس مثل هذا، كان يتلاشى أمام أعينهم “[36].
” وهكذا سقطت أورشليم في السنة الثانية من حكم فسبسيان في الثامن من شهر جربيوس (أكتوبر 70م) “[37]، ” وقد كان مجموع الأسرى الذين أسروا خلال الحرب كلها 97.000، كما كان مجموع الذين ماتوا مدة الحصار الطويل في مراحله الأولى إلى النهاية 1.100.000 (مليون ومائة ألف) وأغلبهم من اليهود بالجنس 000 الذين اجتمعوا من الدولة كلها للاحتفال بعيد الفطير وحاصرتهم الحرب فجأة، وكان الزحام هو السبب فأصيبوا أولاً بالطاعون، وأخيراً بالجوع “[38].
ويؤكد المؤرخ والكاهن اليهودي يوسيفوس أن ما حدث للمدينة والهيكل كان لسببان؛ الأول هو أثم اليهود وخطيتهم، والثاني، هو ما سبق أن تنبأ به الأنبياء، خاصة دانيال النبي، عن هذا الرجس والخراب. كما يؤكد أن اليهود، في هذه المرة بالذات، هم الذين دنسوا الهيكل بأنفسهم وكانوا سبباً آخر في تدنيس الرومان له ومن ثم يقول:
+ ” ما الذي آتى بالجيش الروماني ضدنا؟ أليس أثم سكان أورشليم “[39].
+ ” كان الهيكل نفسه مشهداً للخيانات والقتل والزنا وقد دنس بأيدينا “[40].
+ ” إن هؤلاء الغيورين Zealotsوالسفاكين كانوا السبب في إتمام النبوات ضد دولتهم، لأنه كانت أقوال قديمة (مشيراً إلى نبوات دانيال النبي) تقول أن المدينة ستؤخذ في هذا الوقت، وأن المكان المقدس سيحرق بالنار في حرب عندما يحرض على الفتنة وأن أيديهم ستدنس هيكل الله. ولكن لم يصدق الغيورون هذه الأقوال ومن ثم فقد جعلوا من أنفسهم أداة الإتمام “[41].
ثم يشير إلى نبوّات دانيال النبي ثانيه ” من لا يعرف كتابات الأنبياء القدماء والنبوّة الموجهة ضد المدينة البائسة وأنها الآن على وشك الإتمام؟ هم قد تنبؤا أنها ستؤخذ عندما يبدأ أحد بإراقة الدماء. ألم تمتلئ المدينة والهيكل بجثث مواطنيكم؟ لذلك جلب الله نفسه ناراً عليها ليطهرها بواسطة الرومان، ويدمر المدينة المليئة بمثل هذه الأرجاس “[42].
ويقول أيضاً ” أعتقد أن الله قد حكم بدمار المدينة لأنها دُنست، وأراد أن يطهر المكان المقدس بالنار ليوقف بها مدافعيها وأصدقاءها “، لقد تمزقت المدينة إلى قطع بواسطة الرجال القساة الخونة الداخليين المتصنعين، ولذلك فقد تمنى عواجيز الرجال والنساء الموت ” وأفترض أنه لو تأخر الجنود الرومان في المجيء ضد هؤلاء الأوغاد لكانت المدينة قد ابتلعتها الزلازل أو غمرها فيضان أو دمرها رعد من السماء، مثلما كانت سدوم “[43].
وهكذا تمت نبوّة دانيال النبي ونبوّة الرب يسوع المسيح حرفياً وبالتفصيل وبتدقيق رائع ومذهل يدل على أن كل شيء مرتب ترتيبا أزليا ومعروفا سابقا قبل تأسيس العالم، وأن كل كلمة في الكتاب المقدس وفي سفر دانيال النبي هي ما تنفس به الله وتكلم به رجال الله القدسيون مسوقين من الروح القدس.
6 – التفسير اليهودي لهذه النبوّة عبر التاريخ:
آمن الغالبية العظمى[44] من علماء اليهود على مر العصور، أن هذه النبوّة، تشير إلى مجيء المسيح المنتظر ودمار أورشليم سنه 70م على يد فسبسيان وولده تيطس، وسنه 134 على يد الإمبراطور الروماني هادريان. وتبين آيات عديدة في الإنجيل، خاصة الإنجيل للقديس لوقا، كما بينّا أعلاه، أن اليهود كانوا في زمن ميلاد المسيح، في حالة انتظار وترقب لمجيء المسيح. ويقول الكاهن والمؤرخ اليهودي يوسيفوس: ” كتب دانيال أيضاً بخصوص الرومان وأنهم سيدمرون دولتنا. هذه الأمور كلها تركها هذا الرجل (دانيال) مكتوبة كما كشفها له الله “[45]. ويطبق عبارة ” رئيس آتٍ ” على تيطس، كما يتكلم بأسلوب يدل على أن ما يقوله كان هو السائد في عصره، خاصة بعد دمار أورشليم. وبالتالي يكون المسيح قد جاء قبل ذلك. يقول مونتجمرى، غير المؤمن: ” أن هذا التفسير (تفسير يوسيفوس) أصبح التفسير اليهودي السائد بدون استثناء؛ وانتقل إلى التفسير المسيحي، الذي رأي في نبوّة الأسابيع السبعين، نبوّة عن مجيء المسيح بالتساوي مع سقوط المدينة المقدسة “[46]. ونقول له أن تفسير النبوّة هذا لم يكن مجرد تفسير يوسيفوس بل أن يوسيفوس تكلم بصيغة تعبر عن إيمان كل معاصريه من علماء اليهود بدليل أن الجميع كانوا في حالة انتظار لمجيء المسيح ودمار أورشليم، بل وكانوا منتظرين مجيئه ودمار أورشليم في هذا التوقيت بالذات، كما أوضحنا أعلاه.
ويقول تفسير ” سيدر أولام – Seder Olam” من القرن الثاني الميلادي أن الـ 490 سنه مقسمه كالآتي: 70 سنه السبي + 34 سنه، فارس (العودة من السبي) + 180 سنه، الإغريق + 103 الحشمونيين + 103 الهيرودسيين = 490 سنه[47]. أي أن النبوّة تمت في مجيء المسيح ودمار أورشليم.
ويلخص لنا القديس جيروم في نهاية القرن الرابع وبداية الخامس الميلادي، تفسير اليهود لهذه النبوّة، وهو الذي تقابل معهم في فلسطين ونقل عنهم النص العبري للعهد القديم، ويقول أنهم حسبوا الـ 490 سنه، من السنة الأولى لداريوس الميدي (539 ق م) ووصلوا بها إلى عصر المسيح ووجدوا فيها نبوّة عن موته، ونبوّة عن اقتراب الجيش الروماني تحت قيادة فسبسيان وتيطس[48]، ويقول مونتجمرى أن اليهود الذين استند عليهم جيروم وجدوا إتمام النبوّة في دمار أورشليم بواسطة الرومان، واعتبروا أن ثلاث سنوات ونصف من الأسبوع الأخير تشير إلى دمار أورشليم على يد فسبسيان وتيطس والثلاث سنوات ونصف الأخرى تشير لحرب هادريان. وفسروا ” الرئيس الآتي ” بأنه فسبسيان. كما يضيف انه يظهر أن اليهود قد سلموا بأن قوله عن موت ” المسيح ” يشير إلى يسوع المسيح، وترجموا عبارة ” وليس له ” بمهارة إلى ” ولكن مملكة اليهود لن تكون له “[49].
ويضيف مونتجمرى أيضا أن دمار أورشليم كان هو موضوع السبعين أسبوع في رأي العظات المنسوبة لأكليمندس الروماني، في تفسير رجسه الخراب “[50].
وينقل مونتجمرى عن كثيرين من علماء اليهود في العصور الوسطى آراءهم في تفسير هذه النبوّة. ويقول التفسير اليهودي التالي اتبع الرأي التقليدي في اعتبار أن نقطة النهاية في النبوّة هي دمار أورشليم بواسطة تيطس أو هادريان. وهكذا يقول راشي وبن عزرا وغيرهم. وينقل عن بن عزرا قوله أن الأسبوع الأول بدأ في السنة العشرين للملك ارتحشتا 000 “[51].
ويقول أيضاً انه ” بحسب Sanh.,97a قسمت الأسابيع إلى سبعة أجزاء، كان يجب أن يأتي المسيا في نهايتها “[52] وينقل عن Shottgen بعض الأمثلة لتفاسير اليهود لهذه النبوّة، منها قول الربي Nachmanides ” قدوس القدوسين ليس سوى المسيا، المكرس من أبناء داود “[53] وينقل عن الربي موسى هادارشان Haddarshan قوله ” البر الأبدي، هو الملك المسيا “[54]، وهذا نفس ما ينقله جيروم عن يهود عصره[55].
وينقل تفسير لانج إشارة الجمارتين بهذه النبوّة إلى الحرب ضد فسبسيان[56]، ويقول تفسير لانج نقلاً عن التقاليد الربية والتلمودية أن كُتّاب الترجوم أهملوا ترجمة الهاجيوجرافا، أي الكتب المقدسة لأنه مكتوب فيها أن ” المسيا سيقطع “؛ وان المسيا قد جاء فعلاً في الوقت، الزمن، الذي دمرت فيه أورشليم وأخرب الهيكل، ولكنه جاء متألم ومتخفي “[57].
وفي العصور الحديثة يقول بعض من الربيين أن هذه النبوّة تشير إلى المسيح، ويقول رابي سيمون لوزاتو من فينسيا أن ” نتيجة الفحص المطول والعميق من جانب العلماء اليهود قد تؤدى إلى أن يصبحوا جميعاً مسيحيين، لأنه بحسب تحديد دانيال للزمن، لا يمكن إنكار أن يكون المسيا قد آتى فعلاً “[58].
-10-
7 – تفسير آباء الكنيسة في القرون الأولى لهذه النبوّة:
آمن جميع آباء الكنيسة منذ فجرها الباكر واجمعوا على أن هذه النبوّة هي البرهان الأكيد على تحديد الوحي الإلهي للزمن الذي كان يجب أن يأتي فيه المسيح، وقد جاء بالفعل حسب ما أعلن الملاك جبرائيل لدانيال النبي؛
V فقد حسب يوليانوس افريكانوس (200 – 245 م) المدة من مرسوم الملك ارتحشتا في السنة العشرين أي سنه 445ق م، ثم قال؛ بالحساب من ارتحشتا إلى زمن المسيح تتكون الأسابيع السبعين وذلك بحساب اليهود “[59].
V وقال يوسابيوس القيصري (264-340م)؛ ” هذه الأمور سجلناها لنبين انه بظهور مخلصنا يسوع المسيح تمت نبوّة أخرى. لان الكتاب المقدس في سفر دانيال ذكر صراحة عدد محدد من الأسابيع حتى مجيء المسيح 000 تنبأ بكل وضوح انه بعد تمام هذه الأسابيع تتلاشى المسحة نهائياً. وقد أوضحنا تماماً أن هذا ما تم في ميلاد مخلصنا “[60].
V وقال العلامة ترتليان أن زمن مجيء المسيح معلوم في سفر دانيال ” وبعد حسابه سنبرهن أنه (المسيح) أتى بحسب الأزمنة المقررة والعلامات الكافية “[61].
V وقال القديس أثناسيوس الرسولي ( 296 – 373م)، ” دانيال المتزيد في الحكمة، الذي حدد كلا من التاريخ الفعلي لمجيء المخلص وحلوله الإلهي بيننا، إذ قال ” سبعون أسبوعاً قضيت على شعبك000 “[62] ويكمل بقية النبوّة في آية 24.
V وقال القديس كيرلس الأورشليمي ” دانيال يحدد تاريخ التجسد000 يقول انه بعد انقضاء 483 سنه على إعادة بناء الهيكل، عند زوال الملوك، يأتي ملك أجنبي يولد المسيح في زمانه “[63].
V أما القديس جيروم فيقول ” لا يمكن لأحد أن يشك أن هذه النبوّة خاصة بمجيء المسيح، الذي ظهر في العالم بعد هذه الأسابيع السبعين “[64].
إن ذروه وروح وجوهر النبوّة هو في مجيء المسيح وعمله وخدمته.
V يقول القديس أكليمندس الإسكندري (150 – 215م)، ” جاء المسيح ربنا ” قدوس القدوسين ” وتمم الرؤيا والنبوة ومسح في جسده بروح أبيه القدوس “[65].
V وقال القديس جيروم ” وبه ختمت المعصية وانتهت (تمت) الخطية وأزيل الإثم وأعلن البر الأبدي الذي ساد على قسوة الناموس، وتمت الرؤيا والنبوة لأن الناموس والأنبياء كانوا إلى يوحنا، ثم مسح قدوس القدوسين[66].
فبمجيء المسيح تمت فيه النبوات وختمت الرؤيا والنبوة وبالتالي بطلت الذبائح والتقدمات وجميع الشعائر والطقوس اليهودية، والتي كانت في روحها وجوهرها ترمز إلى عمله وتشير إليه. يقول القديس أثناسيوس الرسولي:
” لأنه متى بطلت النبوّة والرؤيا من إسرائيل إلا عندما أتى المسيح قدوس القدوسين؟ لأنه من ضمن العلامات والبراهين القوية على مجيء كلمة الله إن أورشليم لا تكون قائمه فيما بعد ولا يكون نبي قائماً فيهم، ولا تعلن لهم رؤيا. وهذا أمر طبيعي “[67]، فعندما جاء ” قدوس القدوسين، كان طبيعيا أن تختم الرؤيا والنبوة وتبطل مملكه أورشليم “[68]، ” ومتى هتف المخلص نفسه قائلا ” الناموس والأنبياء إلى يوحنا تنبأوا ” (مت11 :13). فلو كان بين اليهود الآن ملك أو رؤيا، لجاز لهم أن ينكروا المسيح الذي أتى. أما إن لم يوجد ملك ولا رؤيا، بل من ذلك الوقت إلى الآن ختمت كل نبوه وأخذت المدينة والهيكل “[69].
وقد أجمع آباء الكنيسة على أن عبارتي ” المسيح الرئيس ” تشير إلى الرب يسوع المسيح، فتشير الأولى إلى مجيئه كالملك الآتي والمسيح المنتظر، ابن داود، ومن ثم ترجمت في السريانية ” إلى مجيء المسيا الملك “[70]، وتشير الثانية إلى موته الكفاري، ولذا ترجمت في السريانية أيضاً إلى ” سيقتل المسيا “[71]. كما آمن عدد كبير من الآباء أن عبارة ” قدوس القدوسين ” تعنى الرب يسوع المسيح، ومن ثم ترجمت في السريانية إلى ” مسيا قدوس القدوسين “[72].
كما أجمع الآباء مع علماء اليهود، على أن المقصود بعبارة ” شعب رئيس آت ” هو دمار أورشليم وخرابها وتدنيس الهيكل على أيدي الإمبراطور الروماني فسبسيان وأبنه تيطس سنه 70م.[73]
————————–
2 Encyclopedia Biblical Prophecy. P. 383.
5 Lehman Strauss Commentary of Daniel, p. 268.
———————
7 ترجمت هكذا في عدة ترجمات مثل الترجمة العربية الجديدة.
[9]The Pulpit Commentary, Vol. 13: 267
[10] Intr. Bib. Comm. Vol. 6 P.
[11] الآيات البينات 292.
[12] الآيات البينات 292.
[13] ) تجسد الكلمة 2:40.
[14] Ency. Proph. 286.
[15] تجسد الكلمة 1:40.
[16] السابق 3:40.
[17] السابق 3:40.
22 أنظر مثلاً: خر29 :37؛30 :10و29و36؛لا2 :3و10؛6 :10و18و22؛7 :1و6؛10 :12و17.
24 Prophecy and The Church P. 114.
————————————————-
27 كان من عادة أشور وبابل ” السياسية ” التي كانوا يتبعونها “ترحيل أفراد الشعب المهزوم إلى بلاد أجنبية وغريبة أما كورش فلم يفعل ذلك 00 بل على النقيض من ذلك حث الشعوب المهزومة على العودة إلى أوطانها وإعادة الآلهة إلى هياكلها. ومن بين المستفيدين من سياسة كورش الرشيدة هذه كان اليهود الذين أصبحت عاصمتهم وهيكلهم أكواما من الخراب والدمار”. د. صموئيل شولتز –العهد القديم يتكلم” ص324.
30 بدأت سلطته طيباريوس قيصر سنه 11م ومن ثم تكون السنة الخامسة عشرة هي سنه 26 لميلاد المسيح.
31 إذ أن العذراء قد حبلت بالمسيح بعد الحبل بالمعمدان بستة شهور (لو 26:1)، وبدأ السيد المسيح خدمته في سن الثلاثين (لو3 :23).
33 Chr. Wordsworth Vol.6 P. 45.
36 Gesenius P. 847 & Theo. Word book OT, P. 955.
37 Jos. Jewish Wars B. Iv. 6,1.
38 Apotolos Makarkis Interp. NT Vol. 1 P. 385.
47 فقد أعتقد عدد قليل جداً من علماء اليهود، قبل الميلاد، أن هذه النبوّة تشير إلى قدرة الاضطهاد الشديد الذي اضطهده الملك السوري انتيوخس ابيفانس، الرابع (175-164ق م)، لليهود في القرن الثاني ق م والمعروفة بفترة المكابيين. ولكن هذا لا يتفق لا مع سياق ولا فكر النبوّة ولا مع ما قاله الرب يسوع المسيح والمؤرخ اليهودي عنها.
– 101 –
54 Ibid.
– 103 –
67 Chr. Words Worth Vol. 6p. 45.
68 Stromata B.I, 21.
73 كما أشار بعض منهم مثل هيبوليتوس على أن الأسبوع الأخير ” السبعون ” لم يأت بعد، وأنه يتكلم عن ضد المسيح الذي سيأتي قبل المجيء الثاني للسيد المسيح، الدينونة.