تفسير العهد الجديد

تفسير انجيل لوقا 16 الأصحاح السادس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل لوقا 16 الأصحاح السادس عشر - القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل لوقا 16 الأصحاح السادس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

المحتوى

تفسير انجيل لوقا 16 الأصحاح السادس عشر - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل لوقا 16 الأصحاح السادس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير انجيل لوقا 16 الأصحاح السادس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح السادس عشر

اغتصاب الصداقة الإلهيَّة

في الأصحاح السابق أبرز السيِّد المسيح بأمثلة ثلاثة عن مدى شوق الله لصداقتنا معه، معلنًا حبه وبذله من أجلنا نحن الخطاة ليحملهم إلى مقدَّسه كأبناء بيت الله، وموضع سرور السماء وفرحها. لكن هذا الحب الفائق يلزم مقابلته بالحب والحكمة لاغتصابه. بمعنى آخر الله في محبَّته للإنسان لم يجعله آلة جامدة تتجاوب مع حب الله لاإراديًا، إنما خلقه سيدًا له كمال حريَّة الإرادة، له أن يقبل الصداقة أو يرفضها. الآن يقدَّم لنا السيِّد مثلين ليحثُّنا على اغتصاب صداقته بكمال حريتنا، هما مثل وكيل الظلم ومثل لعازر والغني.

  1. مثل وكيل الظلم 113.
  2. الصداقة الإلهيَّة ومحبَّة المال 1415.
  3. الصداقة الإلهيَّة والوصيَّة الصعبة 1618.
  4. مثل لعازر والغني 1931.
  5. مثل وكيل الظلم

إذ تحدَّث رب المجد يسوع بأمثال عن مدى شوقه لاجتذاب الخطاة عن طريق ضلالهم للدخول بهم إلى مقدَّسه، وجه حديثه إلى تلاميذه في حضرة الفرِّيسيِّين الذين عُرفوا بحب المال [14] والمجد الباطل، مقدَّما لهم مثلاً عن وكيل ظالم يبذر أموال سيِّده، وإذ سأله الموكل أن يقدَّم حساب الوكالة لينزعها عنه حاول أن يكسب له أصدقاء ظلمًا حتى متى طُرد من الوكالة يقبله الأصدقاء في بيوتهم. وقد امتدح السيِّد هذا الوكيل، لا في تبذيره الأموال، ولا في ظلمه، وإنما في حكمته بكسبه أصدقاء له واهتمامه بالحياة المقبلة، فيقدَّم متاع الدنيا الحاضرة لأجل الراحة في المستقبل.

نستطيع قبل أن نستعرض أقوال الآباء في هذا المثل أن نوجز باختصار غاية هذا المثل في النقاط التاليَّة:

أولاً: إن كانت الأمثلة السابقة تعلن عن الحب الأبوي الإلهي نحو الخطاة، فإنه من واجب الخطاة في توبتهم وعِودتهم إلى بيت أبيهم أن يتذرعوا بالحكمة. كما استهان هذا الوكيل بالحاضر من أجل راحته المقبلة، هكذا يليق بنا في توبتنا أن نسلك بروح الحكمة التي تتعدى الاحتياجات الزمنيَّة وتعبر بنا إلى طلب الراحة العتيدة في السماويات.

ثانيًا: أبرز المثل السابق “الابن الضال” عودة الخاطي إلى بيت أبيه نادمًا وتائبًا. هنا في هذا الأصحاح يحدثنا عن الصدقة وحب العطاء، لا كما من مالنا، بل مما أوكلنا الله عليه، فنكسب لنا أصدقاء من مال موكلنا فيقبلوننا معهم في السماوات.

الآن نعود إلى المثل نفسه، إذ يقول الإنجيلي لوقا:

وقال أيضًا لتلاميذه: كان إنسان غني له وكيل،

فوُشي به إليه بأنه يبذر أمواله.

فدعاه وقال له: ما هذا الذي أسمع عنك؟

أعط حساب وكالتك، لأنك لا تقدر أن تكون وكيلاً بعد.

فقال الوكيل في نفسه: ماذا أفعل؟

لأن سيدي يأخذ مني الوكالة،

لست أستطيع أن أنقب، وأستحي أن أستعطي.

قد علمت ماذا أفعل حتى إذا عُزلت عن الوكالة يقبلونني في بيوتهم.

فدعا كل واحدٍ من مديوني سيِّده،

وقال للأول: كم عليك لسيدي؟

فقال: مئة بث زيت،

فقال له: خذ صكك، واجلس عاجلاً، واكتب خمسين.

ثم قال لآخر: وأنت كم عليك؟

فقال مئة كرّ قمح، فقال له: خذ صكك وأكتب ثمانين.

فمدح السيِّد وكيل الظلم، إذ بحكمة فعل،

لأن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم.

وأنا أقول لكم: اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم

حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبديَّة” [1-9].

ويلاحظ في هذا المثل الآتي:

أولاً: يرى البعض أن هذا المثل لم يكن غريبًا على مسامع اليهود في ذلك الحين، إذ يشير الرجل الغني الموكل إلى الدولة الرومانية، التي تركت أمر الجباية في يدّ العشارين الذين يجمعون لحسابها مع اغتصاب الكثير لحسابهم الخاص. فمع جشع الدولة الرومانية كمستعمر إلا أنها كانت تمتدح العشارين الذين يتصرفون في هدوءٍ مع الناس عند جمع الجباية. فالعشار المعتدل في تصرفه يستطيع على المدى الطويل أن يجمع أكثر للدولة كما ينال نصيبًا أوفر، ولا يرهق الممولين، أما العنيف فيحطم الممولين، ويفقد هو سلامه، ولا تستريح الدولة لتصرفاته على المدى الطويل. فالوكيل المذكور هنا حين تنازل عن بعض مما ورد في الصكوك تصرف بحكمة، إذ يخفف عبء الجباية عن اليهود، وفي نفس الوقت يمكن للدولة الرومانية أن تحصل هذه الجباية وإن كانت أقل لكنها بطريقة أسهل.

ثانيًا: يؤكد القدِّيس كيرلس الكبير[1] في تعليقه على هذا المثل كما في مواضع أخرى كثيرة، أن السيِّد المسيح إذ يقدَّم لنا مثلاً لا يقصد بنا أن نطبقه في كل الجوانب، وإنما في الجانب الذي قصده السيِّد. هكذا لا يليق بنا أن نتمثل بهذا الوكيل بتبذيره أموال الوكالة ولا بتلاعبه في الصكوك، وإنما نتمثل بالتزامنا بالحكمة والنظرة المستقبليَّة (الأبديَّة).

  • الوكيل الذي طرده سيِّده من وكالته قد مُدح لأنه حصَّن نفسه من المستقبل…

يلزمنا ألا نتمثل نحن به في كل شيء، إذ لا يليق بنا أن نخدع سيدنا، فنقدَّم الصدقة خلال الخداع…

من ناحيَّة أخرى قيل هذا المثل لكي ندرك أنه أن كان الوكيل الذي عمل بخداع استطاع أن ينال مديحًا… فكم بالحري الذين يسرون الله بتنفيذهم وصاياه في أعمالهم؟![2]

القدِّيس أغسطينوس

ثالثًا: يقول السيِّد المسيح: “لأن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم” [8]. الإنسان الذي يعمل لحساب حياته الزمنيَّة يُحسب ابنًا لهذا الدهر، أما من يعمل لحساب مملكة النور الأبديَّة، فيحسب ابنًا للنور. يود الله أن يكون أبناء النور عاملين بحكمة من أجل هذا الهدف: التمتع بمملكة النور، لكن للأسف أحيانًا يسقطون في التهاون، فيفقدون الحكمة السماويَّة، ليصير السالكون في هذا العالم أكثر منهم تعقلاً من جهة تحقيق غايتهم.

  • يقصد بأبناء هذا الدهر أولئك الذين يضعون فكرهم في خيرات الأرض؛ وأبناء النور الذين ينشغلون بالكنوز الروحيَّة خلال الحب الإلهي. أحيانا في تدبير الأمور البشريَّة نسلك بتعقل منهمكين فيها حتى متى رحلنا نجد ملجأ لحياتنا، بينما ونحن نوجه الأمور الإلهيَّة لا نفكر في نصيبنا هناك[3].

الأب ثيؤفلاكتيوس

رابعًا: لقد سلّم الموكل أمواله في يدّي الوكيل. وهكذا نعيش نحن كوكلاء الله، كل ما هو بين أيدينا من عمل يديه أو عطيَّة من عنده، سواء مواهبنا أو قدراتنا أو دوافعنا أو عواطفنا أو ممتلكاتنا حتى جسدنا وأوقاتنا. نحن وكلاء، سنعطى حسابًا عن كل كلمة. غاية الله من هذه الوكالة ليس مكسبًا ماديًا ملموسًا، إنما تدريبنا على سمة “الأمانة”، هذه التي بها نتأهل لننال النصيب الأعظم في السماوات. الله لا يشغله في العالم شيء إلا أن يرانا أولادًا له نحمل سماته فينا التي تتمركز في “الأمانة”. إن كان الله قد دعي “الأمين” (1 كو 1: 9؛ 10: 13؛ 1 تس 5: 24؛ 2 تس 3: 3، 2 تي 2: 13، عب 2: 17؛ 3: 2؛1 يو1: 9، رؤ 3: 14؛ 19: 11) فإنه يود في أبنائه أن يكونوا أمناء على مثاله، إذ يوصينا: “كن أمينًا إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة” (رؤ 2: 10).

إن كنا وكلاء على ما هو ليس لنا ـ كما يقول القدِّيس أمبروسيوس ـ يلزمنا أن نسلك بروح الأمانة، فنحمل سمة سيدنا.

  • عندما لا ندير ثروتنا حسب مسرة ربَّنا، نُفسد أمانتنا لحساب ملذّات، ونُحسب وكلاء مذنبين[4].

الأب ثيؤفلاكتيوس

خامسًا: دعا السيِّد المسيح ما لدينا من أموال وإمكانيات وقدرات “مال الظلم”، لماذا؟ لأن توزيع هذه الأمور بين البشريَّة يسوده قانون الظلم، فيُولد طفل ليجد والديه قد أورثاه الملايين، بينما يُولد آخر ليجدهما أورثاه ديونًا ومشاكل بلا حصر. إنسان يُوهب ذكاء أو صحة أو قدرات ومواهب يُحرم منها غيره. فما نملكه وإن كنا لم نغتصبه ظلمًا، لكننا تسلمناه في عالم يسوده قانون الظلم. لذا يليق بنا أن نستغله فيما هو لبنياننا في العالم الآخر حيث لا يوجد “ظلم”. لنقتنِ به أبديتنا!

في حكمة عاش الكثير من آبائنا يحرصون على تنفيذ هذه الوصيَّة الربانية: “اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم، حتى إذا فنيتم (متم جسديًا) يقبلونكم في المظال الأبديَّة” [9]، ويحثوننا على ممارستها بطريقٍ أو آخر، فمن تعليقاتهم:

  • كيف يمكننا أن نقيم لأنفسنا أصدقاء من المال، إن كنا نحب المال، ولا نحتمل فقدانه؟ فإننا بهذا سنهلك مع فقداننا للمال أيضًا![5]

العلامة ترتليان

  • الأمور الزمنيَّة تُدعى أمورًا خارجيَّة، لأنها خارج عنا. لنحولها إلى أمور داخليَّة؛ فإن كنا لا نستطيع أن نحمل غنانا معنا عندما نرحل من هنا لكننا نستطيع أن نحمل محبتنا. حريّ بنا إذن أن نرسلها أمامنا فتعد لنا موضعًا في المساكن الأبديَّة[6].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  • إن خدمت القدِّيسين (الفقراء) فستشاركهم مكافأتهم[7].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  • بالعطاء للفقراء نقتني رضى الملائكة وسائر القدِّيسين[8].

القدِّيس أمبروسيوس

  • الصدقة هي أكثر الفنون مهارة؛ لا تبني لنا بيوتًا من الطين بل تخّزن لنا حياة أبديَّة. في كل الفنون نحتاج إلى من يعيننا، أما بالنسبة لإظهار الرحمة فلا نحتاج إلا إلى الإرادة وحدها[9].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  • الصداقة المجردة لا تحمينا ما لم تتبعها أعمال صالحة، ما لم ننفق ثروتنا ببرّ هذه التي جُمعت بطريقة ظالمة[10].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  • لقد أظهر أن كل ممتلكات الإنسان التي تحت سلطانه بالطبيعة هي ليست له، وأنه يُسمح له بممارسة أعمال البرّ المخلِّصة خلال مال الظلم هذا، إذ به يعول من لهم مسكن أبدي مع الآب[11].

القدِّيس إكليمنضس السكندري

  • كثيرًا ما يكون الغنى لصالحنا كقول الرسول الذي يطلب من الأغنياء أن يكونوا أسخياء في العطاء، كرماء في التوزيع، مدخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل لكي بهذا يمسكوا بالحياة الأبديَّة ( 1تي 6: 18-19)؛ وكما يقول الإنجيل بأن هذا الغنى يكون للخير لمن يصنع لنفسه أصدقاءً بمال الظلم. يمكن أيضًا أن يوجه الغنى للشر، عندما نحشده للتخزين، أو للتنعم، غير مبالين باحتياجات الفقراء[12].

الأب تادرس

  • أعطِ خيراتك لا للذين يطعمهم الفلاحون (أصحاب الحقول)، بل للذين ليس لهم سوى الخبز كطعام يقوَّتهم… اهتم بالفقراء والمحتاجين.
  • (يتحدَّث عن ضرورة اهتمام الكنيسة بالفقراء لا بفخامة المباني الكنسيَّة)

قدَّس ربَّنا بفقره فقر بيته، لذلك فلنفكر في صليبه ونحسب الغنى نفاية.

لماذا تعجب من قول السيِّد: “مال الظلم”؟ لماذا نطلب ونحب ما افتخر بطرس بأنه لا يمتلكه (أع 3: 6)؟

  • (في حديثه عن السيِّدة Proba)

باعت ممتلكاتها واقتنت لنفسها أصدقاء من مال الظلم، فتتسلم ذلك في المساكن الأبديَّة.

حسنًا، هل يسقط خدام الكنيسة، أيا كانت رتبتهم، والرهبان الذين هم رهبان بالاسم، في العار باقتنائهم ممتلكات بينما تبيع هذه الشريفة ممتلكاتها[13]؟!

القدِّيس جيروم

هكذا يعلن السيِّد المسيح عن الصدقة كتحويل لممتلكاتنا من هذا العالم الزائل إلى رصيد أبدي في المساكن العلويَّة. وقد دعا السماء “مظالاً أبديَّة”، لأن اليهود كانوا يهتمون جدّا بعيد المظال، ويحسبونه عيد الفرح الحقيقي، فيه يسكنون مظالاً من أغصان الشجر لمدة أسبوع. هكذا تهيئ لنا الصدقة نصيبًا لعيدٍ أبديٍ مفرحٍ، فنقيم في السماء مع مصاف القدِّيسين.

سادسًا: يُعلِّق أيضًا السيِّد المسيح على هذا المثل، قائلاً:

“الأمين في القليل أمين أيضًا في الكثير.

والظالم في القليل ظالم أيضًا في الكثير،

فإن لم تكونوا أمناء في مال الظلم، فمن يأتمنكم على الحق؟!

وإن لم تكونوا أمناء فيما هو للغير، فمن يعطيكم ما هو لكم؟!” [10-12]

  • القليل هو مال الظلم، أي الثروة الزمنيَّة التي غالبًا ما جُمعت خلال الابتزاز والطمع. لكن الذين يعرفون كيف يعيشون الحياة الفاضلة، ويعطشون للرجاء فيما هو مخّزن، ويسحبون فكرهم عن الأرضيات، مفكرين بالحري في العلويَّات، هؤلاء يستهينون بالغنى الزمني تمامًا، إذ لا يقدَّم إلا الملذّات والانغماس في الترف والشهوات الجسديَّة الدنيئة، والبهاء الذي لا ينفع، بل هو وقتي وباطل. لذلك يعلمنا أحد الرسل القدِّيسين، قائلاً: “لأن كل ما في العالم شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة” (1 يو 2: 6). لكن مثل هذه الأمور لا تساوي شيئًا مطلقًا لمن يعيشون الحياة المتعقلة الفاضلة، إذ هي أمور تافهة ووقتيَّة ومملوءة دنسًا، وتثير النار والدينونة، وغالبًا ما تحطم حياة الجسد نهائيًا. لذلك انتهر تلميذ المسيح الأغنياء، قائلاً: “هلم الآن أيها الأغنياء، ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة، غناكم قد تهرأ، وثيابكم قد أكلها العث، ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصدأهما يكون شهادة عليكم” (يع 5: 1-3). كيف يصدي الذهب والفضة؟ بتخزينهما بوفرة شديدة، فيكون ذلك شهادة ضدهم أمام كرسي الحكم الإلهي إنهم غير رحومين. فإنهم إذ جمعوا في كنوزهم فيض عظيم بلا ضرورة، غير مبالين بالمحتاجين مع أنه كان في قدرتهم لو أرادوا أن يمنحوا الخير بسهولة لكثيرين، لكنهم “كانوا غير أمناء في القليل”.

ولكن كيف يصير البشر أمناء، هذا يعلمنا إيَّاه المسيح، وسأشرح ذلك.

سأله فرِّيسي أن يأكل معه خبزًا في يوم سبت، وقد وافق المسيح على ذلك. وإذ ذهب هناك جلس ليأكل فاجتمع كثيرون آخرون يأكلون معهما. ولم يكن من بينهم من يمثل المحتاجين، بل على العكس كانوا جميعًا أناسًا عظماء ومعروفين محبين للمتكآت الأولى، ظمأى للمجد الباطل، كمن يلتحفون بكبرياء الغنى. ماذا قال المسيح للذي دعاه؟ “إذا صنعت غداء أو عشاء فلا تدع أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء لئلاَّ يدعوك هم أيضًا فتكون لك مكافأة؛ بل إذا صنعت ضيافة فادع المساكين الجُدع العرج العمي، فيكون لك الطوبى، إذ ليس لهم حتى يكافئوك، لأنك تُكافئ في قيامة الأبرار” (لو 14: 12-14).

هذا كما أظن الأمانة في القليل، أن يترفق الإنسان بالمحتاج، ويعين من هم في ضائقة بما لديه…

إن كنا غير أمناء في القليل بعدم تشكيلنا حسب إرادة الله، باذلين كل إمكانياتنا على ملذّاتنا وكبريائنا، فكيف نتقبل من الله ما هو حق؟ ما هو هذا الحق؟ منحنا الهبات الإلهيَّة بفيض هذه التي تزين النفس وتشكل فيها جمالاً ربانيًا. هذا هو الغنى الروحي، لا الذي يسمن الجسد الذي يفسده الموت، وإنما الذي يخلص النفس، ويجعلها مستحقة للمباهاة والكرامة قدام الله، فتربح لنفسها المدح الحقيقي.

إذن، من واجبنا أن نكون أمناء لله، أنقياء القلب، رحماء، لطفاء، أبرارًا، مقدَّسين، فإن هذه الأمور تطبع فينا خطوط التشبه الإلهي، وتجعلنا كاملين كورثة للحياة الأبديَّة. هذا إذن ما هو حق!

هذا هو مغزى كلمات المخلِّص وقصدها، الأمر الذي يمكن للإنسان أن يتعلمه مما تبع ذلك، إذ قال: “وإن لم تكونوا أمناء في ما هو للغير، فمن يعطيكم ما هو لكم؟” [12].

مرة أخرى نقول أن ما هو للغير هو الغنى الذي نمتلكه، إذ لم نولد ومعنا الغنى، بل بالعكس وُلدنا عراة، ويمكننا بحق أن نؤكد كلمات الكتاب المقدَّس: “لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء” (1 تي 6: 7). كما نطق أيوب الصبور بكلمات من هذا النوع: “عريانًا خرجت من بطن أمي، وعريانًا أعود إلى هناك” (أي 1: 21). إذن ليس أحد بالطبيعة غنى بذاته، ويعيش في غنى وفير. إنما أضيف إليه ذلك من الخارج كفرصة سنحت له، فإن انتهى الغنى وباد لا يضر هذا بطبيعته البشريَّة. فإننا لسنا كائنات عاقلة، ماهرين في كل عمل صالح بسبب الغنى، وإنما طبيعتنا قادرة على ذلك (الحياة الفاضلة)… الطبيعة البشريَّة هي ملكنا متأهله لكل عمل صالح، كما كتب الطوباوي بولس: “مخلوقين لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها” (أف 2: 10).

لذلك عندما نكون غير أمناء في ما هو للغير، أعني في الأمور التي تُضاف إلينا من الخارج، فكيف نتقبل ما هو لنا؟ كيف يمكن أن نصير شركاء في الأعمال الصالحة التي يهبها الله، التي تزين النفس وتطبع عليها جمالاً إلهيًا، وتشكل فيها بطريقة روحيَّة البرّ والقداسة والأعمال المستقيمة التي تمارس بمخافة الله؟

ليت الذين يملكون منا غنى أرضيًا يفتحون قلوبهم للمحتاجين، فنظهر أمناء ومطيعين لنواميس الله، وتابعين لإرادة ربَّنا في الأمور التي هي في الخارج والتي ليست مالنا، فنتقبل ما هو لنا، أي الجمال المقدَّس العجيب الذي يشكله الله في نفوس البشر، فيجعلهم على شبهه كما كنا في الأصل[14].

القدِّيس كيرلس الكبير

  • ما هو للغير: كمية من الذهب أو الفضة؛ أما ما هو لك فهو الميراث الروحي، إذ قيل في موضع آخر: “فديَّة حياة (نفس) إنسان غناه” (أم 13: 8)[15].

القدِّيس جيروم

  • إن كنا لا نبالي بالأمور المنظورة (نستهين بالعطاء…) فكيف يعلن لنا الله ما هو غير منظور؟[16]

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

سابعًا: يضع السيِّد المسيح حدًا فاصلاً بين قبول صداقته والارتباك بمحبَّة المال، قائلاً: “لا يقدر خادم أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” [13].

  • خادم المسيح الكامل ليس له شيء بجانب المسيح؛ فإن كان له شيء بجانب المسيح فهو ليس كاملاً[17].

القدِّيس جيروم

  • “لا يقدر خادم أن يخدم سيدين”، ليس لأنه يوجد سيدان، إنما سيد واحد، إذ ليس للمال حق السيادة، إنما الإنسان هو الذي يثقل نفسه بنير العبوديَّة (للمال).

ليس للمال سلطان عادل إنما عبوديَّة ظالمة، لذلك قال: “اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم”…

لا تكن عبدًا للمال، ولا للملذّات الخارجيَّة، إذ يليق بك ألا تعترف بسيدٍ آخر غير المسيح[18].

القدِّيس أمبروسيوس

  • يستحيل على شخص بذاته أن ينقسم بين متناقضات ويعيش بلا لوم. هذا أظهره بقوله: “لا يقدر أحد أن يخدم سيدين”… لا يمكن أن نخدم الله ومحبَّة المال…

ليت كل واحدٍ منا يستبعد من ذهنه تمامًا أن يكون عبدًا للمال، فنحني رقبتنا للمسيح مخلِّصنا جميعًا بكل حريَّة بلا مانع[19].

القدِّيس كيرلس الكبير

  • الوكيل الذي يسيء تدبير أمور سيِّده ويفقد ممتلكاته يخاف من مواجهته، وعلى العكس الوكيل الذي يدبر أمور سيِّده حسنًا دائما يلتقي به ببهجة[20].

القدِّيس جيروم

  • اظهر في القليل ما تود أن تفعله متى كان لك الكثير… قدَّم برهانًا كالأرملة التي كان لها فلسين فقدَّمتهما، قدَّمت كل ما تملكه[21].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

2.الصداقة الإلهيَّة ومحبَّة المال

إذ لمس السيِّد المسيح إله الفرِّيسيِّين ووضع يده على جرحهم الحقيقي: “محبَّة المال” لم يطيقوا أن يسمعوه، فصاروا يستهزئون به، إذ قال الإنجيلي: “وكان الفريِسيُّون أيضًا يسمعون هذا كله وهم محبون للمال فاستهزأوا به. فقال لهم: أنتم الذين تبررون أنفسكم قدام الناس، ولكن الله يعرف قلوبكم، أن المستعلي عند الناس هو رجس قدام الله” [1415]. هذا هو داء الفرِيسيِّين “محبة المال” الذي ملك كإله في القلب، مكتسيًا بكبرياء وعجرفة واستعلاء، فعوض اعترافه بشره يتظاهر بالغيرة على الناموس والتدقيق في تنفيذ الشريعة بحرفيَّة قاتلة.

  • إذ يكشف الرب مكرهم الخفي يؤكد تظاهرهم بالبرّ[22].

الأب ثيؤفلاكتيوس

  • أخبرهم السيِّد أنه من واجبهم أن يبيعوا ممتلكاتهم ويوزعونها على الفقراء فيملكون في السماء كنزًا لا يمكن أن يُسرق، وثروة لا تُنتهك، وغنى لا يبدد، فلماذا سخروا به؟ لأن التعليم كان وقورًا، طريقًا للرجاء في الأمور المقبلة، وبابًا يقود الحياة التي بلا فساد، لأنه كان يعلمهم طرق الغنى الحقيقي وكيفيَّة نوال إكليل الدعوة السمائية، كيف يصيرون شركاء مع القدِّيسين وأبناء المدينة العلويَّة، أورشليم التي في السماء، أمنا الحرة حقًا (غل 4: 26)…

لماذا سخروا به؟ لأن هوى الطمع قد ملك على قلوبهم؛ وطغيانه سيطّر على ذهنهم، فكانوا في مذلة حتى بغير إرادة، ساقطين تحت سلطان الشر، ومقيدين برباطات لا تنحل. يقول كاتب سفر الأمثال: “بحبال خطيته يُمسك” (أم 5: 22)…

كما أن الفرس الذي يصعب أن يُلجم وأن يُدار، الثائر، لا يطيع تحركات اللجام، هكذا ذهن الإنسان الساقط تحت تأثير الأهواء والمنجرف تمامًا نحو الشر هو غير مطيع ولا يمكن اجتذابه رافضًا الشفاء ببغضة.

  • إذ عرض المخلِّص عليهم كلمات كثيرة، ورأى أنهم لا يريدون تغيير أهدافهم المخادعة وأهوائهم، مفضلين بالحري بقاءهم في غبائهم الفطري أخذ يوبخهم بعنفٍ… لقد أظهر أنهم مراءون وكذابون… شغوفون نحو المجد اللائق بالأبرار والصالحين دون أن يصيروا هكذا؛ لا يطلبون رضا الله، بل العكس يشغفون نحو الكرامات البشريَّة. لذلك قال: “أنتم الذين تبررون أنفسكم قدام الناس، ولكن الله يعرف قلوبكم، أن المستعلي عند الناس هو رجس قدام الله” [15]. وقد وُجد السيِّد في موضع آخر يقول لهم: “كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدّا بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟!” (يو 5: 44). فإن إله الكل يتّوج بالكرامة الأبرار الذين هم بالحق صالحون، أما المراءون الذين لا يحبون الفضيلة، فيسرقون خلال كلماتهم (المخادعة) مجرد السمعة كمكرمين…

“لله يعرف قلوبكم”، الديان لا يمكن أن يُخدع، إذ يعرف أعماق الذهن، يعرف المجاهد الحقيقي وسارق الكرامة التي يستحقها الغير خلال الخداع. بينما يكرم الله الأبرار الحقيقيين، إذا به يبدد عظام الذين يرضون البشر (مز 53: 5)[23].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  • ليس فقط الزنا والدعارة هما اللذان يدنسان من يمارسهما، لكن الكبرياء أيضًا يدنس الإنسان أكثر منهما[24].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  1. 3. الصداقة الإلهيَّة والوصيَّة الصعبة

إذ ظن الفريِسيُون في حبهم للمال أن يسرقوا الملكوت بالخداع، فيظهرون أمام الناس غير ما يبطنون، مرتدين ثوب الرياء، أكد لهم السيِّد أن ملكوت السماوات يُغتصب خلال الوصيَّة في أعماقها. لقد فتح الفريِسيُون الباب الواسع الذي ينافي روح الوصيَّة. مثال ذلك سمحوا بالطلاق ولو لأجل الطعام، فإن لم يُعجَب الزوج بأكلة تقدَّمها له زوجته طلقها… الأمر الذي يفسد الحياة الزوجيَّة ويحطم مفهومها.

لماذا اختار السيِّد مثل الزواج من بين كل الشرائع أو الوصايا الكتابية؟ لعل السيِّد المسيح أراد أن يربط بين الصداقة الإلهيَّة والحياة الزوجيَّة، فعلاقتنا بالله لا تقوم على تنفيذ الوصيَّة أو تتميم الشرائع في شكليَّة ظاهرة، وإنما على رباط صداقته أو قل اتحاد زوجي روحي لا ينحل. فإن كنا أمناء في علاقتنا مع بعضنا البعض، خاصة في العلاقة الأسريَّة، نلتزم بالوصيَّة في أعماقها، وصيَّة الحب الزوجي والاتحاد الذي لا ينحل، بهذا نكون أمناء في القليل فيُعطى لنا الكثير: الحب والاتحاد مع الله نفسه. هذا هو غاية الناموس، وهذا هو هدف الوصيَّة، أن نغتصب الملكوت بممارسة الوصيَّة في أعماقها الروحيَّة، فلا يسقط منها حرف واحد خلال حياتنا العمليَّة، بهذا نتذوق الحياة الزوجيَّة التي تبغض الطلاق.

يقول السيِّد المسيح: “كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا، ومن ذلك الوقت يُبشر بملكوت الله، وكل واحدٍ يغتصب نفسه إليه. ولكن زوال السماء والأرض أيسر من أن تسقط نقطة واحدة من الناموس. كل من يطلق امرأته ويتزوج بأخرى يزني، وكل من يتزوج بمطلقة من رجل يزني” [16-18].

  • لم يقل الرب أن الناموس توقف وإنما صار بداية للكرازة بالإنجيل، وكأن ما هو أدنى يتوقف بمجيء الأفضل، إذن فلنغتصب بملكوت الله! لنغتصب يسوع بغيرة قويَّة وليس بفتور؛ فإن الاغتصاب في الإيمان هو تقوى، والفتور خطيَّة[25].

القدِّيس أمبروسيوس

  • إنه يهيئهم للإيمان به، لأنه إذ جاء وقت يوحنا كملت كل الأمور. أنا هو ذاك الذي جاء![26]

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  • الناموس الذي لم يكمل خلال متطلبات الحرف تحقَّق في حريَّة النعمة[27].
القدِّيس أغسطينوس
  • كل من يطلق امرأته ويتزوج بأخر يزني”. يظن البعض أن كل زواج هو من الله، إذ كُتب: “الذي جمعه الله لا يفرقه إنسان” (مت 19: 6). لو أن كل زواج من الله لما سُمح بالفرقة، إذ قيل: “لكن أن فارق غير المؤمن فليفارق” (1 كو 7: 15)…

ليس كل زواج هو من الله، فقد أمر ألا يتزوج المسيحي بأممي كما جاء في الناموس… يتم الاتحاد عندما تتكيف الأشياء وتنسجم أوتار الآلة معًا، فتعطي شجي النغم الموسيقي… بهذا ندرك أنه لا يمكن أن يتحقَّق الانسجام في مثل هذا الزواج الذي فيه يكون العريس مسيحيًا والمرأة أممية، إنما يتحقَّق الزواج ويتم الانسجام عندما يجمعهما الرب…

لا تطلق زوجتك لأنك بهذا تعترف أن الله لم يجمعكما، فإن كنت تحتمل الآخرين وتقدَّم لهم الأعذار على تصرفاتهم فافعل ذلك مع زوجتك…

خف الله وانصت لشريعة الرب: “الذي جمعه الله لا يفرقه إنسان”؛ فإنك بالطلاق لا تهدم وصيَّة سماويَّة فحسب، إنما تهدم عمل الله…

تكلم الرب قبلاً عن ملكوت الله قائلاً أنه لا تسقط نقطة واحدة من الناموس، ثم أضاف أن من يطلق امرأته ويتزوج بأخرى يزني ومن تزوج بمطلقة من رجل يزني. ويوصينا الرسول وصيَّة مطابقة لذلك: “هذا السّر عظيم، ولكني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة” (أف 5: 32). هنا نتلامس مع زواج لا يمكن لإنسان أن يشك في أن الله قد جمعه، إذ قال: “لا يقدر أحد أن يقبل إليّ أن لم يجتذبه الآب” (يو 6: 44). إنه الوحيد القادر أن يجمع هذا الزواج، لذا قال سليمان مشيرًا للسّر: “الزوجة المتعقلة فمن عند الرب” (أم 19: 14). المسيح هو العريس، والكنيسة هي العروس والعذراء بحبها وعفتها.

ليته لا ينحرف أحد عن المسيح بسبب ضيق أو خطيَّة، وقد جذبه الآب إليه!

ليت الفلسفة لا تفسد إيماننا، وأيضا البدع!… فإن ذلك طلاق!…

ليت العريس يجد كل عروس تجدل خيوط الفضيلة الثمينة؛ ترفع يديها في الليالي (بالصلاة) (مز 133: 2)، وتدبر عملها، وتزن عاداتها. وتنتظر مجيء عريسها متعجلة ذلك بشوق، قائلة: “العريس قد أبطأ في المجيء، لذا أسرع أنا نحوه لأراه وجهًا لوجه عندما يبدأ في المجيء في مجده. تعال أيها الرب يسوع، فتجد عروسك بلا دنس ولا غضن، لم تدنس مسكنك، ولا أهملت وصاياك”. لتقل أيضًا: “وجدت من تحبه نفسي” (نش 3: 4)، وتدخل بك إلى بيت الخمر… تسكر بالروح، فتكشف لها السّر، وتعلمها الأسرار”[28].

القدِّيس أمبروسيوس

  1. 4. مثل لعازر والغني

إذ تحدَّث السيِّد المسيح عن اغتصاب الملكوت بالخضوع للعريس الواحد ورفض محبَّة المال، والارتباط بناموس السيِّد أو وصيته، الآن يقدَّم لنا مثلاً فيه يكشف كيف فقد الغنَي الملكوت خلال إغراءات الغنى بينما اغتصب لعازر المسكين الملكوت الأبدي. فيما يلي تعليقات بعض الآباء على هذا المثل:

أولاً: يرى بعض الآباء أن هذا المثل هو قصة حقيقيَّة واقعيَّة، ويدلل القدِّيس أمبروسيوس على ذلك بذكر اسم الفقير “لعازر”. وإن كان البعض يرى في هذا الاسم رمزًا مجردًا، لأن كلمة “لعازر” تعني “إلهي معين”، كأن سرّ القوَّة في حياة هذا الفقير، ليس الفقر في ذاته، وإنما قبول آلام الفقر بشكر خلال “الله المعين”.

ثانيًا: يُعلِّق القدِّيس أمبروسيوس على هذا المثل أو هذا الحدث كما يقول، هكذا: [ليس كل فقر بالضرورة مقدَّسًا، ولا كل غنى يكون ممقوتًا[29].] بمعنى آخر ليس الفقر غاية في ذاته ولا الغنى شر في ذاته، إنما حياة الإنسان هي التي تفسد هذا أو ذاك؛ الحياة المدللة المترفة غير المترفقة بالمحتاجين تهين الغنى، والحياة المقدَّسة الشاكرة تزين الفقر.

هذا أيضًا ما أكده القدِّيس يوحنا الذهبي الفم في أكثر من مقال، خاصة مقاله: “لا يقدر أحد أن يؤذي إنسانًا ما لم يؤذِ نفسه”، موضحًا أن الذي يسيء إلى الإنسان هو سلوك الإنسان وحياته وليس غناه أو فقره. حدثنا القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أيضًا عن الفقر أنه لا يقدر أن يضر إنسانًا فيجعله متذمرًا يدفعه إلى كلمات التجديف على الله، إنما النفس الدنيئة هي التي تحطم الإنسان، إذ يقول:

[ليس الفقر هو الذي يفعل بالإنسان هكذا بل دناءة النفس، لأن لعازر كان فقيرًا، نعم كان فقيرًا جدًا، ويعاني بجانب فقره من ضعفٍ جسديٍ أقسى بكثير من الفقر في أية صورة من صوره، الأمر الذي جعل فقره قاسيًا جدًا. وبجانب هذا الضعف أيضًا، كان محرومًا تمامًا من الذين يعولونه، مع صعوبة إيجاد أي مئونة لسّد أعوازه، الأمر الذي ضاعف من مرارة فقره وضعفه… فعدم وجود من يعوله يجعل ألمه أشد، واللهب أقسى، والكارثة أمرّ…

وهناك تجربة رابعة بجانب الجوانب الثلاثة السابقة، وهي عدم اكتراث الغني به بالرغم من ترفه.

وإن أردت، تجد أيضًا أمرًا خامسًا يزيد التهاب النار، أن الغني ليس فقط يعيش في حياة ترف، بل ويرى الفقير مرتين وثلاثًا بل ومرات عديدة يراه كل يوم ملقى عند بابه، إذ هو مشهد خطير لكارثة يُرثى لها. مجرد النظر إليه يكفي أن يلين القلب الحجري، ومع هذا فإن المنظر لم يدفع الرجل القاسي إلى مساعدة هذا الفقير إلى هذه الدرجة؛ إنما كان يقيم مائدته المترفة، عليها الكؤوس المزينة بالورود، والنبيذ النقي يُصب بغزارة. لديه جيوش من الطباخين والمتطفلين والمتملقين يعملون منذ الفجر المبكر، وفرق من المغنين وحاملي الكؤوس والمهرجين، ويقضي كل وقته منغمسًا في الملذّات والسكر والأكل بشراهة، متنعمًا بالملبس والأكل وبأمور أخرى كثيرة.

فمع أنه كان يرى هذا الفقير منكوبًا بالجوع الزائد والضعف الجسدي المرّ، وبالقروح الكثيرة والحرمان والمرض الناتج عن هذا الحال، إلا أنه لم يفكر فيه. فالمتطفلون والمتملقون كانوا يتنعمون بأكثر من احتياجاتهم، أما الفقير – الذي كان فقيرًا جدّا ومنكوبًا بمآسي كثيرة – لم يُعطَ له حتى الفُتات الساقط من مائدته بالرغم من اشتهائه له بشوق عظيم.

رغم هذا كله، فإن شيئًا من هذه الأمور لم تؤذِ لعازر إذ لم ينطق بكلمة قاسيَّة، ولا تكلم بحديث دنيء، إنما كقطعة الذهب التي تشع ببريق أعظم كلما تنقت بنار متزايدة.

بالرغم من هذه الضيقات التي أحاطت به، إلا أنه تسامى عليها، وعلى ما تنتجه هذه الأمور من هياج.

فإن كنا نتكلم عن الفقراء عامة، وما يثور في نفوسهم من حسدٍ وما يتعذبون به من تفكير الحقد الرديء، عند رؤيتهم للأغنياء ناظرين إلى أنه لا تستحق الحياة المتسمة بالفقر أن توجد، هذا يفكر فيه الفقراء الذين يجدون القوت الضروري ولهم من يعطيهم أعوازهم، فكم يكون هذا الفقير لعازر؟ ألم يكن بحق حكيمًا جدًا، طيب القلب، إذ يرى نفسه أفقر من كل الفقراء، بل وبه ضعف، وليس له من يقيه أو يعطف عليه، مُلقى في وسط المدينة وكأنه في وسط صحراء بعيدة، يتلوى من مرارة الجوع، ويرى كل الخيرات تتدفق على الغني كما من نافورة؟ ليس له أية تعزية بشريَّة، ملقى كغذاء دائم تلحسه ألسنة الكلاب، ومن ضعفه وتحطيم جسده لا يقدر حتى على طردها!

أما تدرك إذن أن الذي لا يؤذي نفسه لا يقدر أن يؤذيه شيء؟… لأنه أي ضرر أصاب هذا من ضعف جسده أو عدم وجود من يحميه أو التفاف الكلاب حوله أو من شر مجاورته للغني ورؤيته عظم الترف والتنعم والكبرياء الذي للأخير؟ هل هذه الأمور أضعفته ليضاد الفضيلة؟ هل أوهنت هدفه؟

إنه لم يؤذه شيئًا بالكليَّة، بل كثرة أتعابه مع قسوة الغني، زودته قوَّة، وصارت بالنسبة له دعامة لنوال أكاليل النصرة غير المتناهية، كوسائل تزداد بها مكافأته، وباعث لنوال جزائه… إذ كان يحتمل تجربته بشجاعة وثبات عظيم[30].]

ثالثًا: يرى القدِّيس أمبروسيوس[31] من الجانب الرمزي أن هذا الغني يشير إلى المعلمين المتعجرفين خاصة الهراطقة، أما لعازر المسكين فيشير إلى الرعاة الكارزين خلال مسكنة الروح. كان الغني “يلبس الأرجوان والبز، وهو يتنعم كل يوم مترفهًا”، هكذا يختفي الهراطقة وراء الألفاظ البرّاقة والتعبيرات المخادعة كزي ثمين خارجي يخفي وراءه انحراف الإيمان. لهذا الغني خمسة إخوة يرتبط بهم خلال علاقة الجسد، وكأنهم بالحواس الخمس التي يدنسها الهراطقة، فبينما يظهرون كمتعبدين وأصحاب علم إذا بحياتهم الداخليَّة فاسدة خلال حواس جسدانية شهوانية غير مقدَّسة للرب. أما الفقير فكان يدعى “لعازر”، أي “إلهي معين”. فالخادم الحقيقي هو الذي لا يتكئ على ذاته، وإنما على الله معينه. الذي يفيض على حياته الداخليَّة بنعمته الفائقة، ويعمل به أيضًا في كرازته ورعايته، يقول مع الرسول بولس: “لنا هذا الكنز في أوانِ خزفيَّة ليكون فضل القوَّة لله لا منا”، “ليس أننا كفاة من أنفسنا أن نفتكر شيئًا كأنه من أنفسنا بل كفايتنا من الله” (2 كو 4: 7؛ 3: 5).

رابعًا: يقول السيِّد المسيح: “كان إنسان غني، وكان يلبس الأرجوان والبزّ، وهو يتنعم كل يوم مترفهًا. وكان مسكين اسمه لعازر الذي طرح عند بابه مضروبًا بالقروح” [1920].

  • أسألك أن تلاحظ بدقة كلمات المخلِّص… لقد دعاه “غنيًا” هكذا، أما الفقير فأشار إليه بالاسم. ماذا نستنتج من هذا؟ أن الغني بكونه غير رحيم كان في حضرة الله بلا اسم، إذ قيل في موضع آخر بصوت المرتل عن الذين لا يخافون الرب: “لا أذكر أسماءهم بشفتي” (مز 16: 4)، أما الفقير فكما قلت فذُكر اسمه بلسان الله[32].

القدِّيس كيرلس الكبير

  • أشار ربَّنا إلى اسم الفقير دون اسم الغني إذ يعرف الله المتواضع ويزكيه دون المتكبر[33].

البابا غريغوريوس (الكبير)

  • [عن اهتمامه بالملابس الخارجيَّة من أرجوان وبزّ]

لقد تغطى التراب والرماد والأرض بالأرجوان والحرير، أو حمل التراب والرماد والأرض عليه أرجوانًا وحريرًا. وكما كانت ثيابه هكذا كان طعامه (يأكل جسده الترابي الطعام المترف)[34].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  • لننظر إلى كبرياء الغني الذي كان متعجرفًا بسبب أمور ليست بذات قيمة حقيقيَّة، إذ قيل: “كان يلبس الأرجوان والبزّ”، أي كان همه أن يتزين بلباس جميل، فكان ثوبه غالي الثمن. يحيا في ولائم لا تنقطع، هذا ما يعنيه بالقول “يتنعم كل يوم”، هذا بجانب القول “مترفهًا” أي مسرفًا… ماذا كانت النتيجة؟ يختلف قليلاً عن أشكال التماثيل والرسم، إذ بالحقيقة كان الغني موضع إعجاب المنهمكين في الحسيات، أما قلبه فكان مملوء كبرياءً وتشامخًا، فكان يظن في نفسه شيئًا بعجرفة، مع أنه لا يوجد في ذهنه شيء ممتاز، كان يقدَّم ألوانًا متباينة بسبب كبريائه الفارغ. كانت لذته في الولائم الباهظة التكلفة والموسيقى والطرب، له طباخون كثيرون يعملون لإثارة النهم بالأطعمة الشهية؛ يرتدي حاملو الكؤوس ثيابًا جميلة؛ لديه مغنون ومغنيات؛ يسمع أصوات المتملقين. هكذا كان يعيش الغني، لذا يحذِّرنا تلميذ المسيح، قائلاً: “لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة” (1 يو 2: 16).

بينما كان لعازر يعاني من المرض والفقر، مطرودًا عند باب الغني. كان الغني يسكن القاعات المرتفعة والمنازل الفسيحة الفخمة، أما الفقير فكان ملقيًا خارجًا، مُهملاً يبدو كمن لا يستحق شيئًا. إذ حُرِم من الحنو عليه والرعاية به لم يجد ما يشبع جوعه، فكان يجمع الفتات الساقط من مائدة الغني. كان أيضًا يتعذب من مرضٍ خطيرٍ بلا علاج، نعم والكلاب كانت تلحس قروحه؛ وكما يبدو أنها لم تكن تؤذيه وإنما كانت تواسيه وتحنو عليه، فبألسنتها يرطبون أتعابه وينزعون ما يؤلمه، ويلطفون من أمر قروحه.

لكن الغني كان أقسى من الوحوش إذ لم يترفق به ولا واساه، إنما كان عنيفًا[35].

القدِّيس كيرلس الكبير

  • ليس شيء أخطر من الترف. اسمع ما يقوله موسى عنه: “(يعقوب) سمن وغلط، المحبوب رفس” (تث 32: 15 الترجمة السبعينيَّة). لم يقل موسى أن يعقوب مشى وإنما المحبوب رفس، مظهرًا كيف صار متشامخًا وبلا ضابط.

في موضع آخر يقول موسى أنه متى أكلت وشربت: “احترز من أن تنسى الرب إلهك” (تث 8: 11). بهذا فإن الشبع يقود إلى النسيان. لهذا أيها الأحبَّاء، متى جلستم على المائدة تذكروا أن تنطلقوا من المائدة إلى الصلاة. املأ بطنك باعتدال كي لا تثقل فلا تقدر أن تحني ركبتيك وتدعو الله… ليتنا بعد العشاء لا نذهب إلى السرير بل إلى الصلاة، لئلاَّ نصير أكثر غباوة من الحيوانات غير العاقلة.

إني أعرف أن كثيرين ينتقدون ما أقوله، حاسبين إنني أقدَّم عادة جديدة غريبة في حياتنا.

  • إننا لم نولد ولا نعيش لكي نأكل ونشرب، إنما نأكل لكي نعيش. في البداية لم تكن الحياة من أجل الطعام، وإنما الطعام لأجل الحياة. أما نحن فكأننا قد جئنا إلى العالم لهذا الغرض، أن نقدَّم كل شيء لكي نأكل[36].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

خامسًا: يرى بعض الآباء في هذا المثل صورة رمزية لليهود والأمم، فكان الغني المتعجرف يمثل اليهود الذين أنعم الله عليهم بغنى عظيم، إذ قدَّم لهم العهود والناموس والنبوات الخ. وكان يليق بهم أن يقدَّموا للعالم من هذا الغنى بطريقة روحيَّة، فيكونوا هم الكارزين بالحق والمبشرين بإنجيل الخلاص، لكنهم اعتزوا بالغنى في حرفيته، واستغلوا عطايا الله لحساب ذواتهم وكرامتهم الزمنيَّة، وأرادوا أن يلقوا بالأمم كمسكين خارج أبواب الإيمان، مملوء بالجراحات والقروح.

ازدرى اليهود بالمسكين (العالم الأممي)، فحرم اليهود الجاحدون من بركات الإيمان والتمتع بالملكوت الإلهي، بينما انفتح الباب للأمم ليمسح الله دموعهم، ويشبع نفوسهم، ويشفيهم من قروحهم الظاهرة والخفيَّة. كان اليهود كالغني الذي كان يأنف من قروح لعازر المسكين ولا يطيق رائحة قروحه في ولائمه العظيمة ليكون بين مدعويه، إذ هو يسأم حتى رائحة الهواء الطبيعيَّة كما يقول القدِّيس أمبروسيوس. كانوا يجدون متعتهم في بؤس الفقراء والاستهزاء بالمساكين، فأرسل الله عونًا للأمم ليحملهم إلى ملكوته.

  • هذا الرجل الغني يرمز لليهود الذين كانوا يفتخرون باستحقاقاتهم الذاتيَّة، الذين “يجهلون برّ الله ويطلبون أن يثبتوا برّ أنفسهم” (رو 10: 3).

الأرجوان والبزّ هما كرامة الملكوت، إذ كُتب في الإنجيل عن اليهود: “إن ملكوت الله ينزع منكم، ويُعطى لأمة تعمل برًا” (راجع مت 21: 43).

الوليمة الفاخرة هكذا هي الاستخدام الفارغ (الخاطىء) للناموس لتمجيدهم، إذ كانوا يسيئون استخدامه، فيحسبونه للكبرياء الفارغ عوض الانتفاع به للخلاص.

الشحاذ الذي دُعي “لعازر”، والذي يعني “المُعان”، يعني الأمم الذين تمتعوا بعون أعظم حيث ظهروا أقل من الآخرين من جهة الغنى… في الحقيقة كان الأمم – أو لعازر – يشتهون الفتات الساقط من مائدة الغني، إذ كانوا يشتهون نوال معرفة الناموس الروحي كملذّات سماويَّة. الفتات الساقط من المائدة هو كلمات الناموس التي أُلقيت على الأرض بسبب كبرياء اليهود عندما كانوا يتكلَّمون للشعب بعجرفة. أما القروح التي ملأت جسم لعازر فهي الاعتراف بالخطايا التي ظهرت في الخارج وكأنها قد اندفعت من الداخل كدمٍ فاسدٍ.

  • يليق بنا أيها الأخوة الأعزاء أن نميز بين الجروح والقروح. الجروح تحل بنا من الخارج، أما القروح فتأتينا من الداخل. لذا فالقروح تعني الاعتراف بالخطايا لأنها إذ تطفح على الجلد في الخارج يكون ذلك شهادة على بدء الصحة في الداخل لذلك عندما يعترف إنسان بخطاياه في تواضع يبدو كمن صار مملوء قروحًا في الخارج، وإنه صار في صحة داخليًا. أما إذا كان كذاك الغني يزيّن جسده مستهينًا بالاعتراف بالخطايا، يكون مزّينًا في الخارج بينما الداخل مملوء قروحًا. هكذا كان ذاك الغني الذي ارتدى الأرجوان والبزّ بينما كانت نفسه موبوءة بالبرص. لهذا كانت نفس الغني في عيني الملائكة كجسد المسكين في عيني البشر، أما نفس الفقير فكانت كجسد الغني.

بعد الموت تبادلا الوضع، فقد تحلى لعازر بلآلىء الفضائل بعد قروحه، فحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، أما الغني فبعد ثيابه الأرجوانية ضُرب ببرص الخطيَّة وانحدر إلى أعماق الهاويَّة.

على أي الأحوال لم يتعذب الغني في الهاويَّة بسبب غناه، وإنما بسبب كبريائه وقسوته.

علاوة على هذا يمكن فهم الكلاب التي كانت تلحس القروح بأشر الناس الذين يحبون خطاياهم، إذ لا يتوقفون عن مدح أفعالهم الشرِّيرة بألسنتهم الطويلة.

  • يفهم “حضن إبراهيم” على أنه راحة المطوبين الذين ينتمون لملكوت السماوات، إذ يُستقبلون هناك بعد هذه الحياة. أما الدفن في الهاويَّة فهي نهاية أعماق كل العقوبات التي تحلّ على المتكبرين والقساة بعد هذه الحياة.

حقيقة أنه كان في عوز إلى تبريد لسانه عندما كان ملتهبًا بكليته، إنما تعني أن “الموت والحياة في سلطان (يدّ) اللسان” (أم 18: 21)، وأن: “الفم يعترف به للخلاص” (رو10: 10). لهذا فإن اللسان سقط تحت احتراق أشد لأنه ليس فقط رفض أن ينطق بأنه يلزم إعطاء الفقير شيئًا وإنما لأنه أيضًا تفّوه بكلمات قاسيَّة للغاية. طرف اللسان يفهم به نعمة الروح القدس كما قال الرب نفسه: “إن كنت بإصبع الله أخرج الشياطين” (لو 11: 20). بالحقيقة يُفهم بطرف الإصبع أقل عمل للرحمة الذي به تُعطى المعونة للبشر بالروح القدس[37].

الأب قيصريوس أسقف آرل

  • من هم أولئك الذين يمثلهم ذاك الغني الذي يرتدي ثيابًا فاخرة والمتنعم بكل هذه الولائم اليومية؟ أليس الشعب اليهودي الذي قدَّم العبادة خلال الأمور الخارجيَّة، مستخدمًا مباهج الناموس الذي تسلموه بدوافع باطلة وليس لنفع حقيقي؟!

ومن هو لعازر هذا الذي تغطى بجراحات إلا الشعوب الأممية؟! هؤلاء الذين إذ تحولوا إلى الله لم يخجلوا من الاعتراف بخطاياهم، قل كان لهم جراحات كثيرة (داخليَّة) أُعلنت بقروح ظاهرة، وذلك كما إذا حدث تعفن داخلي في الجسد فإنه يؤثر على الجلد، فيظهر التعفن خارجيًا بقروح. هكذا عندما نعترف بخطايانا نكون كمن أظهر القروح. في الاعتراف نعلن بطريقة نافعة عن فيروس الخطيَّة الذي يختبئ سمه داخل النفس. الجراحات الظاهرة تقدَّم للسطح القروح المتغللة من تحت، هكذا أيضًا عندما نعترف بخطايانا نكشف قروحنا الخفيَّة.

اشتهى لعازر المسكين أن يأكل الفتات الساقط من مائدة الغني ولم يعطه أحد شيئًا، لأنهم شعب متكبر يرفض أن يضم الأمم إلى معرفة ناموسهم. إذ كان لهم معرفة الحق كانوا ينمون في الغرور لا في المحبَّة، يتشامخون في فساد بالغنى الذي وُهب لهم.

لقد تقبّل الشعب اليهودي كلمات المعرفة هذه بفيض، فسقطت منهم كفتات من مائدتهم، أما الكلاب فعلى العكس جاءت تلحس قروح المسكين الساقط على الأرض.

أحيانًا يقصد الكتاب المقدَّس بكلمة “كلب” معنى “الكارز”، لأنه عندما تلحس الكلاب الجراحات تشفيها، هكذا عندما يعلمنا المعلمون القدِّيسون أن نعترف بخطايانا، نقول إنهم يلحسون قروح ذهننا بلسانهم، عندما يحثوننا يخلصوننا من الخطيَّة، كما لو كانوا يعيدوننا إلى الصحة.

الله نفسه يخبرنا خلال المرتل أن لسان الكارز يعني به “الكلب”، عندما قال: “دم أعدائك، ألسنة كلابك من الأعداء نصيبهم” (مز 68: 23).

من وسط اليهود غير المؤمنين أُختير المبشرون القدِّيسون، الذين أن استخدمت التعبير ينبحون لتأكيد الحق، كلاب الله للحراسة ضد السارقين واللصوص. على العكس، إذ يتكلَّم عن رفض البعض نقرأ: “كلاب بُكم لا تقدر أن تنبح” (إش 56: 10).

المبشرون القدِّيسون يدينون الخطيَّة مزكين الاعتراف بها، قائلين: “اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات، وصلوا بعضكم لأجل بعض لكي (تخلصوا)” (يع 5: 16).

تلحس الكلاب جراحات لعازر، هكذا إذ يتقبل المعلمون القدِّيسون اعترافات الأمم يشفون جراحات نفوسهم. وقد جاء اسم “لعازر” ينطبق على التفسير، إذ يعني “مُعان”، يُعان لكي يشفى بالإصلاحات والعظات.

أيضًا يمكن فهم لحسات الكلاب على أنها لسان المتملقين الناعمة، يتم ذلك عندما يمدحوننا بالتملقات الدنيئة عن أعمال يحدثنا عنها ضميرنا بأنها شرِّيرة[38].

البابا غريغوريوس (الكبير)

إن كان بعض الآباء يرون في لعازر المسكين رمزًا للأمم، وقد قدَّم لهم الله الكارزين – أن صح التعبير ككلاب الحراسة – يعلنون لهم الشفاء من قروحهم الداخليَّة والخارجيَّة بقبول كلمة الكرازة والاعتراف بالخطايا، فإن للقدِّيس أمبروسيوس[39] تفسير آخر، إذ يرى في هذا الفقير الذي تلحس الكلاب قروحه صورة رمزية لرسول الأمم بولس الذي احتمل الجلدات، فصار جسده كأنه مضروب بقروح، وقد جاءت الأمم لتتقبل تعاليمه الإيمانية خلال هذا الجسد المضروب والمهان. الأمم التي شبهت بالكلاب الجائعة لخبز البنين (مت 15: 26) شبعت خلال جراحات الرسول بكرازته عن الإنجيل. بمعنى آخر إن كان الأبناء قد رفضوا الخبز الحيّ، إذ لم يقبلوا تحقيق النبوات في شخص المسّيا، جاءت الأمم (تحسب نفسها ولو كالكلاب) تطلب الفتات الساقط من مائدة الأنبياء لتشبع أبديًا. بهذا جاع البنون وشبعت الكلاب (حسبما دعاهم اليهود من باب السخريَّة).

يكمل القدِّيس أمبروسيوس حديثه، قائلاً: [إيه أيتها القروح المطّوبة الشافيَّة من العذاب الأبدي! إيه أيها الفتات (مت 15: 27) الفائق الطارد للجوع أبديًا! إنك تشبع المسكين الذي يَقبلك غذاءً أبديًا.]

يقول أيضًا: [صار الغنى فقرًا، والفقر غنى… فقد صار الغني في عذاب إذ حُرم من الملذّات بعد أن كان مترفًا، يتوق في الجحيم أن يبّل الفقير طرف إصبعه بماء ويبرد لسانه. أنه محتاج إلى الماء غذاء الروح وقت البليَّة[40].]

سادسًا: إذ قدَّم لنا السيِّد المسيح صورة لعازر والغني في العالم، عاد ليقدَّم الصورة المقابلة عند موتهما، إذ يقول: “فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ومات الغني أيضًا ودفن” [22]. عبرت الصورة الزمنيَّة المؤقتة التي كان فيها الغني يعيش في ملذّاته الزمنيَّة ولعازر مطروحًا على الأرض يشتهي الفتات الساقط من مائدته. وحلت صورة أبديَّة مغايرة فيها يُحرم الغني من أبيه إبراهيم، إذ يراه بعيدًا جدّا عنه، هذا الذي كان يفخر قبلاً في عجرفة أنه ابن إبراهيم دون أن يحمل إيمانه العملي. بينما احتل المسكين (الأمم) الموضع أبديًا إذ صار في حضن إبراهيم يتمتع معه بالملكوت السماوي.

في نص منسوب للقدِّيس يوحنا الذهبي الفم جاء: [فجاة تحولت العذابات العظيمة إلى بركة. فقد حُمل (المسكين) بعد أتعابه الكثيرة إذ كان واهنًا، أو غير قادرٍ على المشي، لذا حملته الملائكة. ملاك واحد لم يكن كافيًا لحمله بل جاء كثيرون يحملونه، إذ كونوا جوقة مفرحة، كل ملاك يتهلل أن يلمس ثقلاً عظيمًا كهذا. ببهجة يفعلون هذا حاملين الثقل لكي يقدَّموا البشر لملكوت السماوات. لقد حمل إلى حضن إبراهيم لكي يحتضنه إبراهيم ويجعل مدللاً. حضن إبراهيم هو الفردوس![41]]

  • لاحظ بدقة كلمات المخلِّص، فبالنسبة للفقير يقول أنه حُمل بواسطة الملائكة إلى حضن إبراهيم؛ أما بالنسبة للغني فلم يقل شيئًا من هذا، إنما اكتفى بالقول أنه مات ودُفن. فإن الذين يضعون رجاءهم في الله يجدون في رحيلهم من العالم خلاصًا من العذابات والألم. علمنا سليمان شيئًا من هذا القبيل: “في نظر الناس يبدو أنهم ماتوا، ويُظن رحيلهم ضررًا، ومُضيهم عنا خرابًا، وأما هم ففي سلام، ورجاؤهم مملوء خلودًا” (حك 3: 2، 3). يُعطى لهم مقياس من التعزية يتناسب مع أتعابهم، بل ما يفوق أتعابهم ويزيد، إذ يقول المسيح في موضع ما: “كيلاً جيدًا ملبدًا مهزوزًا فائضًا يُعطون في أحضانكم” (لو 6: 38).

كما أن السفن التي تبحر تواجه الأمواج العنيفة، وتصارع الرياح الشديدة القويَّة، ولكنها إذ تبلغ المواني تستقر فلا تقذفها الأمواج، هكذا بنفس الطريقة أظن أن نفوس البشر إذ تنطلق من متاعب الأرضيات وتدخل المساكن العلويَّة كما في ميناء الخلاص…

أما بالنسبة للغني الذي سلك بقسوة لا تعرف الرحمة، فإن انفصال الجسد بالنسبة له كان موتًا، إذ يترك اللذة إلى العذاب، ويخرج من المجدٍ إلى الهوانٍ، ومن النورٍ إلى الظلمة. كان يجب أن يعاني الغني من هذه الأمور إذ كان متنعمًا، مغلق اليدين، غير مستعد لممارسة الرحمة. ومما يزيد عذابه أنه في الجحيم تطلع ليرى لعازر في حضن إبراهيم[42].

القدِّيس كيرلس الكبير

  • إنني أعرف كم هو مرعب الجزاء الذي حل بفكر الغني المتكبر الذي كان يلبس الأرجوان ولم يرد أن يساعد لعازر. الفقير الذي نحتقره ولا نستطيع حتى النظر إليه، أن تطلعنا إليه يثير معدتنا، هو إنسان مثلنا، صُنع من نفس طينتنا، وشُكل من نفس معدننا. ما يعانيه الآن يمكن أن يحلّ بنا. لننظر إلى جراحاته كجراحات لنا[43].
  • هوذا يقدَّم البؤس عوض الشبع، ويقدَّم الشبع عوض البؤس[44].

القدِّيس جيروم

  • [يتحدَّث عن موت نفس الغني قبل جسده، إذ يقول:]

لنضع أمامنا الغني الذي في قصة لعازر، فنعرف ما هو موت النفس، إذ كان يحمل نفسًا ميتة كما يظهر من تصرفاته.

لم يكن يمارس عملاً من أعمال النفس، إنما كان يأكل ويشرب ويعيش في ترف فحسب. هذا هو حال الأشخاص القساة الذين بلا رحمة حتى الآن، إذ لهم نفس ميتة كما كان لهذا الغني. لقد هرب منه الدفء الصادر عن محبَّة قريبنا، فكانت نفسه ميتة أكثر من موت الجسد. أما الفقير فلم يكن هكذا إذ كان واقفًا على قمة الحكمة السماويَّة مشرقًا، وبالرغم من صراعه ضد الجوع المستمر ولم يكن له حتى القوت الضروري، لكنه لم يتفوه بكلمة تجديف ضد الله، بل احتمل كل شيء بنبلٍ. وهذا عمل للنفس ليس هينًا، بل يكشف عن نفس قويَّة كاملة الصحة[45].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  • يقول المسيح: “فمات المسكين وحملته الملائكة” [22].

أود في هذه النقطة أن أزيل مرضًا شرِّيرا تفشى في نفوسكم، فإن بسطاء كثيرين يظنون أن نفوس الذين يموتون بطريقة عنيفة (كمقتولين) تصير شياطين. هذا أمر مستحيل، بل ومستحيل تمامًا. ليس نفوس الذين يموتون خلال العنف تصير شياطين، بل نفوس الذين يعيشون في الخطيَّة؛ لا بمعنى أن طبيعتهم البشريَّة تتغير، وإنما يكون سلوك حياتهم متمثلاً بشر الشياطين. هذا ما أوضحه المسيح حقًا لليهود عندما قال: “أنتم أبناء إبليس” (يو 8: 44). دعاهم أبناء إبليس ليس لأنهم تغيروا إلى طبيعة إبليس إنما لأنهم يمارسون أعماله. لهذا يضيف: “وشهوات أبيكم تريدوا أن تعملوا. بنفس الطريقة يقول يوحنا: “يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟! فاصنعوا أثمارًا تليق بالتوبة، ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا” (مت 3: 7-9)…

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  • ها أنتم ترون هنا أنه يقال: “وحملته الملائكة”.

واحد أُقتيد كسجين والآخر حمل على الأكتاف كمنتصر!

وكما في الساحة عندما يصاب المقاتل بجراحات كثيرة ويتفجر منه الدم يوضع عليه إكليل النصرة، فيحيه الواقفون أمام الساحة بهتافات عاليَّة، ويحملونه إلى بيته بالتصفيق والصياح بإعجاب، هكذا اقتادت الملائكة لعازر. أما الرجل الثاني فقد جاءت بعض القوات الشرِّيرة تطلبه، ربَّما أُرسلت لهذا الغرض (لتبكيته على تصرفاته).

[يرى القدِّيس ذهبي الفم أن الشرِّير عند موته تقتاد الخطايا نفسه لتكون سرّ تبكيته المستمر.]

  • مات الغني ودفن، وقد سبق فدفن نفسه في جسده كما في قبر، إذا ارتدى الجسد كمقبرة لنفسه (خلال الشهوات الجسديَّة[46]).

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

سابعًا: يحدثنا السيِّد المسيح عن صورة الغني قاسي القلب في العذاب بينما يتنعم لعازر بحضن إبراهيم، قائلاً: “فرفع عينيه في الهاويَّة وهو في العذاب، ورأى إبراهيم من بعيد، ولعازر في حضنه” [23].

  • كان ثقل آلام الفقير يزداد بوجوده ملقيًا أمام باب الغني ينظر الغنى الذي يعيش فيه. هكذا عندما مات الغني، فقد ازداد عذابه بكونه وهو في الهاويَّة يرى سعادة لعازر، فلا يقف الأمر عن إحساسه بعذاباته الخاصة وإنما بمقارنته لنفسه بالنسبة لكرامة لعازر تتضاعف آلامه…

رفع الغني عينيه لكي ينظر لعازر لا ليحتقره، إذ صار لعازر فوق، أما هو فأسفل. ملائكة كثيرون حملوا لعازر أما هو فأمسكت به عذابات بلا حصر…

كان بكامله في العذابات، ولم يكن فيه ما هو حُرّ إلا عيناه لكي تتطلعا إلى فرح الغير. سُمح لعينيه أن تنظرا حتى يزداد عذابه إذ يرى نفسه لا ينعم بما لدى الغير…

رأى الغني لعازر في حضن إبراهيم… لأن إبراهيم كان مملوءًا حبًا، أما هو فكان مدانًا بجريمة القسوة. كان إبراهيم يجلس بجوار داره يترقب العابرين ليدخل بهم بيته، أما هو فكان يطرد حتى الذين عند بابه[47].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

مع أن الكتاب المقدَّس يشهد عن إبراهيم أنه كان غنيًا جدًا، لكنه كمحبٍ للعطاء يتقبل في حضنه الفقراء والمحتاجين كما يتقبل محبي العطاء، الحاملين سماته، أما المترفون والمدللون غير المبالين بإخوتهم فلا يجدوا لهم موضعًا فيه. يكمل السيِّد المسيح المثل، قائلاً:

فنادى وقال: يا أبي إبراهيم ارحمني،

وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني،

لأني معذب في هذا اللهيب” [24]

  • واحد كان يسأل الفتات من مائدة الغني، والآخر يطلب قطرة ماء من إصبع الفقير. لكن الفقير نال الفتات بأكثر سهولة من الغني في طلبه قطرة الماء، إذ جاءه الجواب: “يا ابني أذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك” (لو 16: 25) [48].

الآب قيصريوس أسقف آرل

  • اللهيب الذي فيه يحترق الغني ونقطة الماء التي يطلبها ليسا ماديين، وإنما أشبه برؤيا بالنسبة للنائمين والأشخاص الهائمين (مختطفين)، إذ تظهر لهم الأمور غير الماديَّة كما لو كانت مجسمة. فمع كون هذا الشخص وهو في هذه الحالة بدون جسد، أي روح مجردة، لكنه رأى نفسه كمن هو في جسده، إذ يستحيل عليه أن يميز حاله (ويعبر عنه بغير ذلك)[49].

القدِّيس أغسطينوس

  • لسانه الذي نطق بعجرفة عظيمة (يود أن يبرّده)، لأنه حيث توجد الخطيَّة تكون العقوبة. إذ كان لسانه قد عصى أكثر تعذّب أكثر.
  • أراد أن يبرّد لسانه بينما كان هو بكامله في اللهيب. هذا يعني ما قد كتب: “الموت والحياة في يدّ اللسان” (أم 18: 21)، “الفم يعترف به للخلاص” (رو 10: 10). فخلال الكبرياء لم يفعل ذلك (يعترف بالمسيح لخلاصه). أما طرف الإصبع فيعني أقل القليل من الأعمال التي يمارسها الإنسان بالروح القدس[50].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  • يا لأحكام الله غير المنطوق بها، يا لعدل مكافأته التي يقدَّمها عن الأعمال الصالحة والشرِّيرة.

لقد أخبرنا قبلاً أنه إذ كان الغني على الأرض كان الفقير يشتهي الفتات الساقط من مائدته ولم يعطه أحد شيئًا. الآن يخبرنا أن الغني في آلامه يشتهي أن يبل لعازر لسانه بماء، لعل قطرة ماء تبرّد فمه. من هذا نتعلم أيها الإخوة حزم الله الشديد. الغني الذي لم يكن يرغب أن يعطي الشحاذ الفتات القليل النازل من مائدته، الآن في الهاويَّة يتوسل طالبًا أمرًا تافهًا. أنه يصرخ من أجل قطرة ماء، ذاك الذي رفض تقديم فتات خبز!

يلزمنا أن نعرف السبب لماذا سأل الغني من أجل قطرة ماء ليبرد لسانه… لأن من يقيم ولائم كثيرة عادة يكون كثير الكلام، هكذا هذا الرجل الذي حمل أفراحه إلى الحياة المتنعمة وقد دين باللهيب صار لسانه محترقًا أكثر من أي عضو آخر. خطأه الأول هو إفراطه في الأكل الأمر الذي يرافقه كثرة الثرثرة، والخطأ الثاني هو قساوته[51].

البابا غريغوريوس (الكبير)

  • أخيرًا صار الغني شحاذًا يطلب من الفقير، ويسأل من مائدة ذاك الذي كان جائعًا وملقيًا لأفواه الكلاب. لقد تبدل الحال، وعرف كل واحد من هو الغني الحقيقي ومن هو الفقير بحق، فظهر لعازر أغنى من الكل، والآخر أفقر الجميع.

كما في المسارح يلبس الممثلون قناعات الملوك والقادة والأطباء والمعلمين والأساتذة والجنود، لكنهم هم ليسوا كذلك في حقيقتهم، هكذا الغنى والفقر هنا مجرد أقنعة، أن جلست في مسرح ورأيت إنسانًا يرتدي قناع ملك فلا تغبطه ولا تحسبه قد صار ملكًا، ولا تشتهي أن تكون مثله… هكذا الغني هنا أيضًا غالبًا ما يكون فقيرًا (في أعماقه)، أن نزعت عنه قناعه، وكشفت ضميره، ودخلت إلى فكره، غالبًا ما تجد فيه فقر الفضيلة، وتجده منتميًا إلى أدنى الطبقات[52].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

فقال إبراهيم: يا ابني أذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك،

وكذلك لعازر البلايا،

والآن هو يتعزى وأنت تتعذب.

وفوق هذا كله بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أثبتت

حتى أن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون،

ولا الذين من هناك يجتازون إلينا” [25-26].

ويلاحظ في هذه الإجابة الآتي:

1- يدعو إبراهيم الغني “يا ابني”، لعله يقصد بهذا أنه لا ينكر بنوته له حسب الجسد، هذه البنوة لم تنفعه شيئًا، بل تدينه، لأنه لم يسلك بروح أبيه وإيمانه. وما نقوله هنا عن الغني ينطبق أيضًا على كل مؤمن حمل إمكانيات خلاصه ولم ينتفع منها، كمن قبل الإيمان واعتمد وصار بين يديه كلمة العهد الجديد الخ. هذه العطايا التي تؤهله لممارسة حياة الشركة العمليَّة تدينه في اليوم الأخير. فإن كان قد نال البنوة لله خلال مياه المعموديَّة بالروح القدس، تبقى هذه البنوة تبكته، وتصير بالأكثر سّر عذابه.

  • لاحظ حنو هذا الأب البطريرك إذ يدعوه ابنه، لكنه لا يقدَّم له عونًا إذ حرم نفسه بنفسه من الشفاء. يقول له: “أذكر”، أي تأمَّل الماضي، لا تنسى أنك ابتهجت بغناك، واستوفيت خيراتك، إذ ظننت هذا خيرًا لك. لم تستطع أن تنتصر وأنت على الأرض فلا تنتصر هنا.

يقول: “وكذلك لعازر بلاياه“، ليس لأن لعازر كان ينظر إلى الفقر والجوع والمرض القاس كشرور تلحق به، إنما هكذا كانت نظرة الغني له.

عندما نسقط تحت ثقل المرض نفكر في لعازر، فنقبل هذه الأمور الشرِّيرة بفرح في هذه الحياة…

يقول “استوفيت خيراتك في حياتك“. كأنه يقول له إن كنت قد صنعت أي عمل صالح فقد نلت مكافأتك التي تستحقها، إذ استوفيت الكل في ذلك العالم بكونك عشت مترفًا، لك غنى عظيم وتتمتع بملذّات كثيرة وفيرة. وإن كان لعازر قد ارتكب شرًا ما فقد احتمل الفقر والجوع وأعماق البؤس. كلاكما أتى عريانًا، جاء لعازر عاريًا من خطاياه فيتقبل تعزية، وأنت عارٍ من البرّ فتتقبل عقوبة بلا تعزية، لذلك أردف قائلاً: “والآن هو يتعزى وأنت تتعذب”…

قد تقول: ألا يمكن التمتع بالغفران هنا وهناك؟ (أي هل يمكن لإنسان أن يعيش في راحة جسديَّة هنا وراحة أبديَّة؟) حقًا، هذا أمر صعب بل ومن المستحيلات؛ فحيث لا يوجد فقر يثور فينا الطمع، وحيث لا يوجد مرض يلتهب الغضب، وإن لم تقاومنا تجارب تغلبنا الأفكار الفاسدة. نحتاج إلى جهاد، ليس بالهين لنلجم الغضب، ونكبح الشهوات الشرِّيرة، ونخضع كبرياء المجد الباطل، وننزع التشامخ والتعالي، ونسلك حياة قاسيَّة (جادة). من لا يمارس مثل هذه الأمور لا يقدر أن يخلص[53].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  • “يا ابني أذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك”…

لقد قدَّمت خيراتك لشهواتك وللمتملقين، ولم تذكر مرة واحدة المريض والمتألَّم، لم تشفق على لعازر عندما رأيته ملقيًا عند أبوابك. لقد رأيت الرجل في بؤس لا يُحتمل، فريسة لأحزان لا تُطاق، إذ كان يعاني من أمرين، كل منهما أقسى من الآخر؛ آلام قروحه الشديدة وحاجته لضروريات الحياة. كانت الحيوانات تلطف من أتعاب لعازر، إذ كان متألَّما، “لحست الكلاب قروحه“، أما أنت فكنت أقسى من الحيوانات… يقول الكتاب المقدَّس أن الحكم بلا رحمة للذين لا يستعملون الرحمة (يع 2: 13). كنت تشارك لعازر ويكون لك نصيب معه في تعزيته يهبك الله إيَّاه لو أنك جعلته يشاركك ثروتك. لكنك إذ لم تفعل ذلك فأنت وحدك تتعذب. هذا هو ما يليق بالقاسي القلب الذي لا يشارك المريض أتعابه متفكرًا فيه[54].

القدِّيس كيرلس الكبير

الآن، ماذا يعني بقوله: “وفوق هذا كله بيننا وبينكم هوة عظيمة“، أو كما جاءت في بعض الترجمات: هوة ثابتة؟ ربما عني أن الوقت قد انتهى فلا مجال للتوبة بعد أو للسقوط. فما ناله الإنسان إنما يحياه أبديًا، لا يقدر شرِّير أن يترك الجحيم إلى الفردوس، ولا مجال لأبناء الملكوت بعد رحيلهم أن يسقطوا. وكما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس أن هذا الحديث إنما يكشف عن خطأ أتباع أوريجينوس القائلين بأن الكل سيتجددوا عند مجىء المسيح الأخير ولا يهلك أحد.

لقد انتهى زمان التوبة، كما يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [هناك لا يكون بعد زمان للتوبة. كم من أمور حزن عليها الغني لكن حزنه لم ينفعه شيئًا[55].] ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [يوجد بين الغني والفقير هوة عظيمة، إذ لا يمكن تغيير المكافأة بعد الموت.] ويقول القدِّيس أغسطينوس أن الحكم الإلهي لن يتغير ولا يمكن للأبرار أن يترفقوا بأحد حتى وإن أرادوا ذلك. يؤكد ذلك القدِّيس يوحنا الذهبي الفم بقوله: [إنه كمن يقول: نستطيع أن نرى لكننا لا نقدر أن نعبر. نحن نرى ما قد هربنا منه وأنت ترى ما قد فقدته. فرحنا يتزايد إذ نرى عذابك (الذي هربنا منه)، وعذابك يتزايد برؤيتك أفراحنا.]

“فقال: أسألك إذا يا أبتِ أن ترسله إلى بيت أبي.

لأن لي خمسة إخوة حتى يشهد لهم،

لكيلا يأتوا هم أيضًا إلى موضع العذاب هذا.

قال له إبراهيم: عندهم موسى والأنبياء، ليسمعوا منهم.

فقال: لا يا أبي إبراهيم،

بل إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون.

فقال له: أن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء

ولا أن قام واحد من الأموات يصدقون” [27-31].

ويلاحظ في هذا الحوار الذي دار بين إبراهيم أب المؤمنين والغني الآتي:

أولاً: أن كان الغني صاحب قلب ضيق فلم يقدَّم شيئًا من ممتلكاته ليعين الفقراء لكنه ارتبط بعاطفة حب لإخوته الخمسة، وقد بقيت هذه العاطفة حتى بعد رحيله، لكنها عاطفة عاجزة وغير عمليَّة، لأن الوقت قد ضاع منه. أنه يود خلاص إخوته لكن بعد أن فقد هو خلاصه ولم تعد له دالة لدي الله للعمل بالصلاة! بمعنى آخر كيف يمكن لفاقد الخلاص أن يطلب من أجل خلاص الآخرين.

  • لقد صار الوقت متأخرًا أن يقوم الغني بدور المعلم، إذ لم يعد هناك وقت للتعليم أو التعلم.

القدِّيس أمبروسيوس

  • أحيانا تتعلم قلوب الأشرار ممارسة الحب خلال سقوطهم تحت العقوبة، لكن يكون ذلك باطلاً… لأنهم إذ هم ملتصقون بخطاياهم لا يحبون أنفسهم[56].

الأب غريغوريوس (الكبير)

ثانيًا: طلب الغني من إبراهيم أن يرسل لعازر لإخوته إذ حسب نفسه غير أهلٍ لهذا العمل، وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: ]شعر أنه غير مستحق للشهادة للحق. إن كان لا يحصل على قطرة ماء تبرد لسانه، فإنه لا ينتظر أن يُسمح له بالخروج من الهاويَّة للكرازة بالحق. [

ثالثًا: رفض إبراهيم إرسال لعازر مكتفيًا بالناموس الموسوي وكتب الأنبياء ليؤكد السيِّد المسيح بهذا المثل أن العهد القديم هو أساس الإيمان المسيحي، فما يعلنه الإنجيل، إنما وضع الناموس والأنبياء أساسه. بهذا أيضًا يبكم أفواه الهراطقة مثل الغنوسيين الذين يرفضون العهد القديم ويستخفون به. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنه أراد تأكيد أن من يحتقر كلمة الله لا ينتفع من أحد ولو كان قائمًا من الأموات. لقد احتقر اليهود الناموس ولم يسمعوا للأنبياء، لذلك إذ جاءهم ليس لعازر قائمًا من الأموات، بل السيِّد المسيح القائم من الأموات، والذي يقيم من الأموات واهبًا الحياة، لم يسمعوا له.

يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: ]حقا أن من لا يسمع للكتب المقدَّسة لا يبالي بالميت الذي يقوم من الأموات. هذا ما يشهد له اليهود إذ أرادوا مرة أن يقتلوا لعازر (الذي أقامه السيِّد من الموت)؛ ومرة أخرى ألقوا الأيدي على الرسل غير مبالين بقيامة البعض من الأموات في ساعة الصليب. لاحظ أيضًا أن أي إنسان ميت يقوم إنما هو عبد، لكن ما يقوله الكتاب المقدَّس إنما ينطق به الرب نفسه. إذن ليقم إنسان ميت أو لينزل ملاك من السماء، فإن الكتاب المقدَّس أصدق من الكل، فإن واضع الكتاب هو رب الملائكة، رب الأحياء والأموات. لو أن الله يعلم بأن قيامة ميت تفيد الأحياء لما امتنع عن العمل بهذا، مقدَّما كل شيء من أجل نفعنا[57].[

رابعًا: يمكننا أيضًا أن نلمس من هذا الحوار جانبًا إيجابيًا، وهو إن كان الغني الذي حُرم من الملكوت أبديًا، وقد فقد كل رجاء حتى في قطرة ماء تلطف لسانه إلى لحظات ينشغل بقلبه من جهة إخوته حسب الجسد الذين في العالم، أليس بالحري للكارزين والقدِّيسين الذين تدربوا في العالم على اتساع القلب والشوق لخلاص العالم كله يصلون من أجل تحقيق هذه الرسالة، مشتهين أن يتمجَّد الله في كل شيء؟!

إن كان هذا بالنسبة للكارزين والإنجيليين، فبالأحرى بالنسبة للسيد المسيح الذي لا يتوقف ينبوع حبه قط. يقول القدِّيس أغسطينوس: ]حاشا لنا أن نقول بأن ذاك الذي لم يستطع الموت أن يحطمه، أن الموت ينهي حبه، فإن كان الغني المتكبر والشرِّير يظهر حبه لإخوته الخمسة حتى بعد موته، فهل يمكن لنا أن نظن بأن حب المسيح يتوقف عند موته؟! حاشا أيها الإخوة[58].[

خامسًا: من هم هؤلاء الإخوة الخمسة الذين يحتاجون إلى موسى والأنبياء ليخلصوا؟ يرى القدِّيس أغسطينوس إنهم اليهود الذين يرمز لهم برقم خمسة، لأنهم تحت الناموس الذي سجل في أسفار موسى الخمسة، فإنهم لا يقبلون السيِّد المسيح القائم من الأموات ما لم يقبلوا الناموس والأنبياء روحيًا.

ويرى القدِّيس يوحنا الذهبي الفم إنهم يرمزون إلى الحواس الخمس التي لم تتقدس ما دامت تحيا في هذا العالم مترفة ومدللة، فإن ماتت مع السيِّد المسيح تتقدس به! الغني يمثل الإنسان الذي يعيش مدللاً في شهواته وملذّاته، فيفقد أقرب من له، تقدِّيس حواسه، وكأنها إخوته الخمسة.

سادسًا: يرى القدِّيس إيريناؤس[59] في مثل لعازر والغني تأكيد للنقاط التاليَّة:

أ. إذ تترك النفس الجسد لا تلبس جسدًا آخر كما يظن الذين ينادون بتناسخ الأرواح، وإلا كان الغني قد نزل إلى العالم بجسدٍ آخر عوض العذاب الأبدي.

ب. تعرف النفوس بعضها البعض حتى قبل أن تلبس الجسد الممجد في اليوم الأخير.

ج. أن النفوس وإن كان لها بداية لكنها تبقى خالدة، إما في الملكوت أو في جهنم.

[1] In Luc. Ser. 108.

[2] Quaest Evan. 2:34.

[3] Catena Aurea.

[4] Catena Aurea.

[5] On Patience 7.

[6] In 1 Tim. Hom. 11.

[7] In Phil. Hom 1.

[8] In Luc 16:1-13.

[9]Catena Aurea.

[10] In Heber. 1:4.

[11] Who is the Rich Man… 31.

[12] Cassian: Conf. 6:3.

[13] Ep. 54:12; 52:10; 130:7.

[14] In Luc Ser. 109.

[15] Ep 22:31.

[16] In 1 Tim hom 5.

[17] Ep. 14:6.

[18] In Luc 16:1-13.

[19] In Luc Ser 109.

[20] In Ps. Hom 7.

[21] In Hebr. Hom 3:9.

[22] Catena Aurea.

[23] In Luc Ser 110.

[24] In Ioan 16:4.

[25] In Luc 16: 19-31.

[26] In Matt. hom 37.

[27] Reply to Faustus 19:8.

[28] In Luc 16: 16-18.

[29] In Luc 16:19–31.

[30] من يقدر ان يؤذيك, 1965, ص 41 – 44.

[31] In Luc 16:19–31.

[32] In Luc Ser 111.

[33] Moral 1:8.

[34] Catena Aurea.

[35] In Luc Ser 111.

[36] Conc. Lazaro 1.

[37] Ser. 165:1-3.

[38] In Evang. hom 40.

[39] In Luc 16:19-31.

[40] In Luc 16:19-31.

[41] Catena Aure

[42] In Luc Ser. 111.

[43] Ep 77:6.

[44] Ep 48:21.

[45] In 2 Cor hom 6.

[46] Conc. Lazar. 2.

[47] Conc. Lazar. 2.

[48] Ser. 164:3.

[49] City of God, 21:10.

[50] Catena Aurea.

[51] In Evang. hom 40.

[52] Conc Lazar 2.

[53] Conc Lazar 2,3.

[54] In Luc Ser 112.

[55] Conc. Lazar. 2;3.

[56] In Evang. hom 40.

[57] Conc. Lazaro 4.

[58] In Ioan tr 55:2.

[59] Adv. Haer. 2:24:1.

تفسير انجيل لوقا 16 الأصحاح السادس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي