شفاء المولود أعمى – ق. كيرلس الأسكندرى – د. نصحي عبد الشهيد
شفاء المولود أعمى - ق. كيرلس الأسكندرى - د. نصحي عبد الشهيد
شفاء المولود أعمى – ق. كيرلس الأسكندرى – د. نصحي عبد الشهيد
الأحد السادس
شفاء المولود أعمى
للقديس كيرلس الأسكندرى
(جزء من شرح الإصحاح التاسع من إنجيل يوحنا)
شفاء المولود أعمى[1]
يو1:9 ،4،3 ” وفيما هو مجتاز رأى إنسانًا أعمى منذ ولادته.. أجاب يسوع.. لتظهر أعمال الله فيه. ينبغى أن أعمل أعمال الذى أرسلنى مادام نهار. يأتى ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل” .
… ولكى يعطى جوابًا للتلاميذ وكأنه يفسر سبب ولادته أعمى، فإنه يقول ” لكى تظهر أعمال الله فيه“. وهذا يعنى بعبارة أخرى بسيطة: الرجل لم يولد أعمى بسبب خطاياه الشخصية أو بسبب خطايا والديه؛ ولكن حيث إنه قد حدث أنه وُلد أعمى، فمن الممكن أن يتمجد الله فيه. لأنه حينما يتحرر ويُشفى من المرض المزعج الذى حلّ به ـ بقوة من فوق ـ فمن الذى لا يعجب بذلك الطبيب الذى شفاه؟ ومن هو الذى لا يعترف بسلطان الشفاء الذى أظهره المسيح؟ ينبغى أن أعمل أعمال الذى أرسلنى مادام نهار، يأتى ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. فى هذه الكلمات، يسمى الرب زمن الحياة فى الجسد “نهارًا”، وزمن وجودنا فى الموت يسميه “ليلاً”. لأنه حيث إن النهار جُعل لتتميم الأعمال والليل جُعل للراحة والنوم، لذلك فإن زمن الحياة الذى ينبغى أن نعمل فيه ما هو صالح، يسميه الناس “نهار” ووقت النوم ـ الذى لا يمكن أن يُعمل فيه أى عمل ـ يسمونه “ليل”. لأن الذى مات قد تبرأ من الخطية، كما يقول القديس بولس، إذ أنه عاجز عن فعل أى شئ، ولذلك فهو عاجز عن فعل الخطية. وهكذا فالكتاب المقدس فى الواقع يعترف بوجود فكرة “نهار مجازى” وكذلك بفكرة “ليل مجازى” فى المقابل. وإذا أخذنا فى الاعتبار هذه التفسيرات المجازية ـ كل منها فى الوقت الصحيح ـ فإنها تكشف لنا عن معنى هذه الكلمات التى أمامنا بطريقة خالية من الخطأ …
يو 5:9 ” مادمت فى العالم فأنا نور العالم ” .
هل سنفتكر إذن (بسبب هذا الكلام) أن المسيح لم يعد موجودًا الآن “فى العالم”، وهل سيُظْن أنه بصعوده إلى السماء بعد قيامته من الأموات لم يعد يسكن وسط الذين يحيون فى الحياة الحاضرة؟ (بل بالحرى نقول) إنه لكونه إله، فهو يملأ ليس فقط السماء وما وراء السماء ويعتنى بها، بل أيضًا يملأ العالم الذى نسكنه ويعتنى به. وكما أنه حينما عاش مع الناس بالجسد، لم يكن غائبًا عن السماء، هكذا أيضًا حينما نفكر تفكيرًا صائبًا ـ فإننا سنؤمن أنه حتى حينما يكون خارج العالم بالجسد، فإن طبيعته الإلهية التى لا يُنطق بها، لا تزال حاضرة وسط الذين يعيشون فى العالم. وتهيمن على الكون، وهى لا تغيب عن أى موجود من الموجودات، ولا تتخلى عن أى كائن، بل هى حاضرة فى كل مكان وفى كل الأشياء؛ وهى تملأ كل الكون المنظور وكل ما يمكن تصوره أنه وراء الكون المنظور.
ولذلك يجب أن نفهم معنى ما يقوله الرب فى هذه الكلمات. فالرب بعد أن طرح جانبًا شكوك اليهود كشئ فاسد، وأوضح أنهم كانوا متورطين بحماقة فى تعاليم غير صحيحة؛ ولما كان قد أعطى النصيحة لتلاميذه أنه يليق بهم بالأحرى أن يجاهدوا حبًا فى الأمور التى ترضى الله، وأن يكفوا عن البحث فى الأمور التى تفوق أفهامهم؛ وبعد أن حذرهم ـ بطريقة ما ـ ان وقت العمل سوف يفلت من أيدى أولئك الذين لا يعملون شيئًا ـ إن لم يكرسوا كل حماسهم للرغبة فى عمل الصالحات أثناء وجودهم بالجسد فى العالم؛ فإنه يضع نفسه كمثال (لهم) فى هذا الأمر.
لأنه يقول، ها أنا أيضًا أعمل فى العمل الخاص بى، وحيث إنى أتيت لأعطى النور لأولئك الذين يحتاجون إلى النور، لذلك ينبغى أن أجعل النور يحل أيضًأ حتى فى عيون الجسد ـ إن كانت هذه العيون مريضة بمرض العمى المريع، وذلك حينما ألتقى بأى واحد من هؤلاء العميان.
ولذلك سوف نفهم ما قاله الرب على أنه يشير بمعنى بسيط إلى هذه المناسبة. لأنه لا ينبغى ان يشك أحد فى أن الابن الوحيد هو بالفعل نور حقيقى، وأنه يملك المعرفة والسلطان لكى ينير ليس فقط الكائنات التى فى هذا العالم بل أيضًا كل المخلوقات الأخرى العلوية. وإذا طبقنا معنى هذه الكلمات (التى قالها الرب) على المولود أعمى، فأظن أننا سنقدم شرحًا جديرًا بالتصديق.
يو6:9 ،7 ” قال هذا وتفل على الأرض وصنع من التفل طينًا وطلى عينى الأعمى. وقال له أذهب واغتسل فى بركة سلوام، الذى تفسيره مرسل، فمضى واغتسل وأتى بصيرًا ” .
نحن نعتبر أن الشفاء الذى حصل لهذا الرجل المولود أعمى هو مثال لدعوة الأمم إلى الإيمان ولذلك فإننا سنوضح معنى السر ملخصًا فى كلمات قليلة.
أولاً، لأن المخلص رأى الرجل الأعمى أثناء عبوره “وفيما هو مجتاز”، فقد رآه بعد أن خرج من الهيكل اليهودى، وأيضًا لأن المخلص قرر أن يشفى هذا الرجل دون توسل أو طلب من أحد، بل بالأحرى من تلقاء ذاته ومن رغبته الداخلية الصالحة، لذلك فمن المفيد أن ننظر إلى هذه المعجزة باعتبارها معجزة رمزية.
فهذه المعجزة ترينا بالرمز أن جموع الأمم لم تقدم أى توسل لكى يحصلوا على الخلاص، فإنهم كانوا جميعًا فى الضلال. ولذلك فإن الله، إذ هو صالح بطبيعته فقد أتى بإرادته الذاتية لكى ينعم عليهم برحمته. لأنه كيف يمكن أو بأى طريقة يستطيع العدد الضخم من اليونانيين ومن شعوب الأمم، أن يطلبوا الرحمة من الله بينما ذهنهم كان مظلمًا بالجهل الفظيع حتى أنهم كانوا غير قادرين بالمرة أن ينظروا واهب النور. فكما أن الرجل الذى شُفى، لكونه كان أعمى لم يكن يعرف يسوع ومع هذا فإنه قد حصل على منفعة وفائدة لم يكن يتوقعها بواسطة عمل المخلص الرحيم ومحبته، هذا ما حدث أيضًا للأمم بواسطة المسيح.
لقد حدث شفاء للأعمى فى السبت، والسبت يمكن أن يقدم لنا مثالاً ورمزًا للعصر الأخير من العالم الحاضر الذى فيه أشرق المخلص بالنور على الأمم. فالسبت هو آخر الأسبوع، والابن الوحيد أتى فى الجسد وظهر لنا جميعًا فى الزمن الأخير وفى العصور النهائية لهذا العالم .
أما عن طريقة الشفاء فإنه يليق بنا حقيقة أن نُدهش ونقول: “ ما أعظم أعمالك يارب، كلها قد صنعتها بحكمة ” (مز24:103س).
فربما يقول أحد: لماذا رغم أن الرب يستطيع بسهولة أن يجعل كل شئ صحيحًا، بكلمة، لماذا يصنع من التفل طينًا، ويطلى عينى الأعمى ويبدو كأنه يصف له عملية من نوع ما، بقوله له: ” أذهب اغتسل فى بركة سلوام“؟.
إننى أعتقد أن هناك بالتأكيد معنى عميق مختبئ وراء هذه الكلمات، لأن المخلص لا يفعل شيئًا بدون هدف. فبطلاء الطين يكمل ما كان ناقصًا أو عاطلاً فى طبيعة العين، وبذلك يبين أنه هو بذاته الذى صورنا فى البداية، وهو خالق ومصّور الكون. وقوة عمل الشفاء هذه تحوى معنى سريًا بشكلٍ ما، لأن ما قلناه حالاً فيما يخص هذا العمل وما نعتبر أنه يمكن أن يُفهم منه سوف نذكره مرة أخرى.
لم يكن الأمم يستطيعون أن يتحرروا من العمى الذى أصابهم وأن ينظروا النور الإلهى القدوس، أى أن ينالوا معرفة الثالوث القدوس الواحد فى الجوهر، إلاّ بأن يُعطَى لهم أن يصيروا شركاء جسده المقدس وأن يغسلوا خطيتهم التى هى مصدر الظلام والغم، وأن يجحدوا سلطان الشيطان، أى فى المعمودية المقدسة.
وحينما طبع المخلص على الرجل الأعمى العلامة الرمزية التى كانت إشارة مسبقة للسر، فإنه فى نفس الوقت أظهر تمامًا قوة مثل هذه المشاركة بأن طلى عينيه بتفله.
وكصورة للمعمودية المقدسة فقد أمر الرجل أن يسرع ويغتسل فى سلوام وهو اسم، شعر الإنجيلى بسبب حكمته وبالإلهام الإلهى أنه من الضرورى أن يعطى تفسيره. فإننا نعرف من هذا التفسير أن “المُرسَل” ليس هو أحد آخر سوى الله الابن الوحيد آتيًا ومرسلاً من فوق، أى من الآب، لكى يحطم الخطية وضراوة الشيطان: ونحن إذ نتعرف على الابن الوحيد عائمًا بطريقة غير منظورة فوق مياه المعمودية المقدسة، فإننا بالإيمان نغتسل، لا لأجل ” إزالة وسخ الجسد“، كما هو مكتوب (أنظر 1بط21:3)، ولكن لغسل وإزالة نوع من التلوث والنجاسة التى فى عيون الذهن، حتى عن طريق التطهير يمكننا فى المستقبل أن ننظر الجمال الإلهى بنقاوة.
ولأننا نؤمن أن جسد المسيح هو واهب للحياة، حيث إنه هو هيكل ومسكن كلمة الإله الحى، وفيه توجد كل قوته، ولذلك نحن نعلن أن جسده هو أيضًا “مصدر للنور”، لأنه هو جسد ذلك الذى هو النور الحقيقى بطبيعته. وكما أنه حينما أقام وحيد الأرملة من الموت، فإنه لم يكتف بمجرد أن يأمره قائلاً: ” أيها الشاب لك أقول قم“، رغم أنه معتاد أن يتمم كل الأشياء التى يريدها بواسطة كلمة، لكنه أيضًا لمس النعش بيده، مبينًا أن جسده أيضًا فيه قوة واهبة للحياة. هكذا أيضًا فى هذه الحالة (المولود أعمى) فإنه يطلى بتفله كاشفًا أن جسده أيضًا هو مصدر للنور حتى إن كان بمثل هذه اللمسة البسيطة. لأنه جسد النور الحقيقى، كما سبق وقلنا.
وهكذا يذهب الرجل الأعمى بأقصى سرعة ممكنة ويغتسل، ويتمم كل ما طُلب منه بدون تلكؤ مظهرًا فى شخصه استعداد الأمم للطاعة، أولئك الذين كتب بخصوصهم ” تميل أذنك لاستعداد قلوبهم” (مز38:9س). لقد كان اليهود البؤساء قساة القلب حينئذٍ، أما الأمم فكانوا خاضعين تمامًا فى طاعتهم وشهدوا لذلك عمليًا باختبارهم.
والرجل الأعمى إذ قد نزع عنه عماه، غاسلاً إياه من الطين فإنه يرجع الآن “بصيرًا”. وهكذا كانت مسرة المسيح أن يتم هذا.
لذلك فما أعظم الإيمان، الذى يجعل نعمة الله المعطاة لنا، أن تصير قوية فينا.
وما أكثر ضرر الشك والتردد لأن ” رجل ذو رأيين هو متقلقل فى جميع طرقه ” كما هو مكتوب ” ولن ينال شيئًا من عند الرب ” (أنظر يع7:1و8).
يو35:9 : ” وسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجًا ” .
البشير المُوحى إليه يقول إن ربنا يسوع المسيح “سمع”، وهو لا يقصد بالضرورة أو بصورة أكيدة أن أحدًا أخبره بأنهم أخرجوه ـ بل ـ كما يقول أحد الحكماء فى موضع ما: ” روح الرب يملأ المسكونة وأذن السمع تسمع كل الأشياء” (حكمة7:1 ،10)، بالتأكيد هو يسمع كما يقول المرنم : ” الذى غرس الأذن ألاّ يسمع؟ الذى صنع العين ألاّ يبصر؟” (مز9:93س). لذلك حينما نهان من أجله، أو نحتمل أى شئ مؤلم من أولئك الذين اعتادوا أن يحاربوا الله، فيجب أن نؤمن أن الله ينظر ويراقب، وأنه يسمع كلام المحاكمة ضدنا، لأن طبيعة الحدث نفسها، وإخلاص الذين يُهانون لأجله يصرخان بصوت عالٍ فى الأذان الإلهية.
يو35:9 ” فوجده وقال له أتؤمن بابن الله ” ؟ .
الرجل الذى وُلد اعمى طرده الفريسيون خارجًا، وبعد قليل من طرده، بحث عنه المسيح، وحينما وجده أدخله إلى الأسرار. إذن فهذا أيضًا يكون علامة لنا أن الله يحفظ فى فكره الذين يشهدون عنه والذين بسبب ثقتهم فيه لا يتحاشون الأخطار. فها أنت تسمع كيف يظهر نفسه وكأنه يعطى مكافأة حسنة، ويسرع لكى يغرس فيه الكمال الأعلى لتعاليم الإيمان. وهو يقترح عليه السؤال لكى يحصل منه على الموافقة (على الإيمان به). وهذه هى طريقة إظهار الإيمان. وهكذا أيضًا فالذين يأتون إلى المعمودية الإلهية، فإنهم قبل المعمودية وأثناء فترة الاستعداد يُسألون بخصوص إيمانهم، وحينما يوافقون ويعترفون بالإيمان، فإننا نُدخلهم فى الحال كأُناس مستعدين لنوال النعمة. لذلك، فمن هنا تبرز دلالة هذا الحدث بالنسبة لنا، وقد تعلمنا من مخلصنا المسيح نفسه كيف أنه أمر صائب أن إقرار الإيمان هذا ينبغى أن يتم. وهكذا أكد بولس المُوحى إليه، أيضًا، أن تيموثاوس ” اعترف الاعتراف الحسن أمام شهود كثيرين“، ويقصد بهم الملائكة القديسين: وإن كان أمرًا مرعبًا أن يزيف الإنسان الكلام الذى يُقال أمام الملائكة، فكم يكون مرعبًا بالأكثر امام المسيح نفسه؟
هو (المسيح) يسأل الرجل الذى كان أعمى ليس فقط إن كان يرغب أن يؤمن بل أيضًا يحدد بمن يؤمن. لأن الإيمان (ينبغى) أن يكون ” بابن الله”، وليس إيمانًا بإنسان مثلنا، بل بالله المتجسد. ويقينًا فإن هذا هو ملء السر الخاص بالمسيح. وبقوله “أتؤمن”؟ فكما لو كان يقول “هل تظهر نفسك متفوقًا على جنون أولئك الناس؟ هل تبتعد عن شكوك أولئك الناس، وتقبل الإيمان؟”، فإن التشديد على ضمير المخاطب (أنت) يتضمن بطريقة ما مثل هذا التمييز بين المولود أعمى وبين الأشخاص الآخرين.
يو36:9 : ” من هو يا سيد لأؤمن به ؟” .
النفس التى تملك ذهنًا سليمًا وتبحث باجتهاد عن كلمة الحق وعيون فهمها حرة، فإنها تمضى باستقامة إلى كلمة الحق بدون ارتباك مثل باخرة تدخل الميناء، وتحصل دون تعب على منافع الميناء من منافذه. وهكذا أيضًا الرجل الذى كان أعمى هو نفسه برهان على ما نقول. لأنه ـ بواسطة المناقشات الكثيرة والتأملات قد وصل إلى الإعجاب بالسر الخاص بالمسيح، كما أنه قد ذُهل بدهشة عظيمة من قدرته التى لا يُعبر عنها، والتى تم اختبارها ليس بواسطة أشخاص آخرين بل بواسطة نفسه وفى نفسه، ولذلك فقد صار مستعدًا أن يؤمن، وهو يفعل هذا بدون أى تأخير. فها هو ـ أنظر، أنظر، يسأل باجتهاد من هو الشخص الذى يعلق به ذلك الإيمان الذى كان قد ارتفع بناؤه داخل نفسه. لأنه هذا فقط هو ما كان ينقصه ـ وهو كان مهيأً مسبقًا لهذا الإيمان.
يو37:9 ” فقال له يسوع قد رأيته والذى يتكلم معك هو هو ” .
عندما سأل الرجل، يسوع، من هو الذى ينبغى الإيمان به، فإنه يجيب بالإشارة إلى نفسه، ولم يقل ببساطة “هو أنا”، بل بقوله إن الشخص الذى كان ينظر إليه المولود أعمى، أى الشخص كان يتكلم معه، هو ابن الله؛ فهو يفكر مقدمًا فى ما هو لمنفعتنا، وهو يؤسس لنا ـ بطرق متنوعة ـ ما يساعد على الوصول إلى إيمان سليم من أى خطأ، إيمان غير منحرف ـ لئلا ـ بينما نحن نظن فى أنفسنا أننا أتقياء، فإننا قد نسقط فى شباك الشيطان، بالتحول بحماقة بعيدًا عن حقيقة السر. فيوجد الآن بعضًا من أولئك الذين يظنون أنفسهم مسيحيين ـ وهم لا يفهمون حدود التجسد بدقة ـ قد تجاسروا أن يفصلوا ذلك الهيكل المأخوذ من امرأة لأجلنا، عن الله الكلمة، وقد قسموا ذاك الذى هو بالحقيقة والواقع ابن واحد إلى ابنين، وذلك بسبب أنه صار إنسانًا. لأنهم بغباء شديد ينفرون من الاعتراف بما لم ينفر الابن الوحيد نفسه من أن يفعله من أجلنا. لأنه، كما هو مكتوب: ” إذ كان فى صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون مساويًا لله، بل أخلى نفسه آخذًا صورة عبد” (فى7،6:2)، لكى يصير إنسانًا مثلنا، بلا خطية طبعًا: ولكنهم فى آرائهم الغريبة يعيبون بطريقة ما على خطته الإلهية المملوءة حبًا للبشر، وإذ يطرحون الهيكل المأخوذ من امرأة ـ بعيدًا عن البنوة الحقيقية بأقصى ما يستطيعون، فى أفكارهم، فإنهم لا يقبلون تواضعه وإخلاءه لذاته، ويفكرون تفكيرًا بعيدًا تمامًا عن الحق؛ فهم يقولون إن الابن الوحيد لله الآب ـ أى الكلمة المولود من جوهره، هو واحد، وأن الابن المولود من امرأة هو واحد آخر، ألا يكونون مملوئين بكل عدم تقوى ـ أولئك الذين يقسمون ذاك الذى هو بالحق والفعل ابن واحد، إلى اثنين؟ لأن من جهة كونه الله الكلمة، فإننا نفكر فيه على أنه متميز عن الجسد؛ ومن جهة كونه جسد، فإننا نفكر فيه على أنه متميز عن الكلمة: ولكن من جهة أن الكلمة الذى من الله الآب صار جسدًا، فإن الاثنين يكفان عن أن يكونا متميزين وذلك بسبب الاتحاد والارتباط اللذين لا يُدركان (يفوقان الفهم): لأن الابن هو واحد وواحد فقط، قبل اتحاده بالجسد وحينما أتى بالجسد؛ ونعنى بالجسد الإنسان بكليته، أعنى الإنسان المكون من نفس وجسد. وبالتأكيد، فإنه بسبب هذا الاعتقاد، فإن الرب ـ بسبق رؤيته الفائق ـ حينما سُئل هنا أيضًا: “من هو ابن الله”؟ لم يقل “هو أنا”، فربما كان من المحتمل حينئذٍ أن يفترض البعض بجهل أنه يشير بذلك إلى الكلمة وحده الذى أشرق من الله الآب؛ ولكنه أظهر ذاته بنفس الطريقة ـ التى تبدو بالنسبة للبعض موضع شك كبير ـ بقوله “قد رأيته”، وأيضًا أوضح أن الكلمة نفسه كان حالاًّ فى الجسد بأن أضاف قائلاً: “والذى يتكلم معك هو هو”. إذن، ها أنت ترى ما أعظم الوحدة التى للكلمة؛ لأنه لا يجعل أى تمييز بل يقول إنه هو نفسه ذلك الذى يقدّم نفسه للعيون الجسدية كما أنه هو نفسه الذى يُعرف بواسطة الكلام. لذلك، فبالتأكيد أنه من الجهل التام ومن عدم التقوى أن يُقال كما يقول البعض بدون تروى: “يا إنسان المسيح”، فلكونه الله فهو قد صار إنسانًا دون أن ينفصل عن ألوهيته؛ وهو الابن أيضًا بالجسد: لأنه بهذه الأمور يكون أعظم وأكمل اعتراف، وأكمل معرفة للإيمان به (بابن الله).
يو38:9 ” فقال أومن يا سيد . وسجد له ” .
الإنسان الذى كان أعمى يسرع ليقدم إقراره (بالإيمان) ، أعنى من جهة إيمانه، وهو حار فى تقواه. لأنه حينما عرف أن الشخص الذى كان حاضرًا معه والذى يراه بعينيه هو بالحقيقة الابن الوحيد، فإنه سجد له كإله، رغم أنه يراه بالجسد بدون المجد الذى يليق بالله فعلاً. ولكن لأن قلبه قد استنار بحلول قوة المسيح وسلطانه، فإنه ينمو نحو الأفكار الحكيمة والصالحة بتفكير حسن، وينظر جمال طبيعته الإلهية التى لا يُنطق بها؛ لأنه لو لم يكن قد آمن أنه الله لما كان قد سجد له، لأنه قد تهيأ واستعد ونال الإرشاد أن يفكر هكذا بتأثير ما قد حدث له، أى العمل العجيب الذى تم بمعجزة.
وحيث إننا نقلنا كل الظروف المتصلة بالرجل الأعمى إلى تاريخ الأمم، هيا بنا الآن نتحدث مرة أخرى عن هذا الأمر. فأرجو أن تلاحظوا كيف يحقق (المولود أعمى) بمثاله بأن يسبق ويصوّر مقدمًا السجود بالروح الذى كان الأمم مدعوين إليه بإيمانهم (بالمسيح). لأنه كان من عادة إسرائيل أن يخدموا رب الكل بحسب أوامر الناموس ـ بذبائح عجول وبخور، وبتقدمات حيوانات أخرى؛ ولكن المؤمنين من الأمم لا يعرفون هذا الأسلوب فى العبادة بل تحولوا إلى الطريق الآخر، أى الأسلوب الروحانى، الذى يقول الله إنه حقًا عزيز عنده وحلو لديه بنوع خاص. لأنه يقول: “ لن آكل لحم الثيران، ولن أشرب دم التيوس” (مز13:50). وهو يحثنا على ما هو أفضل أى أن ” نقدم ذبيحة الشكر ” أى العبادة بالترنم أى نحتفل بما يرى المرتل أن كل الأمم سوف تفعله بواسطة الإيمان وفى الروح القدس وستقول كأنها توجه الحديث لربنا ومخلصنا: ” كل الأرض ستسجد لك، وسترنم لك، وسيرنمون لاسمك” (مز4:65س). بل إن ربنا يسوع المسيح نفسه يبين أن العبادة الروحية أفضل من العبادة الناموسية، حينما يقول للمرأة السامرية: ” يا امرأة صدقينى، تأتى ساعة، لا فى هذا الجبل ولا فى أورشليم تسجدون للآب… ولكن تأتى ساعة وهى الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له . الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا” (يو24،23،21:4) .
وإذا نحن فكرنا بطريقة صائبة، فسوف نعرف أن الملائكة القديسين أيضًا يتميزون بهذا النوع (من الخدمة)، مقدمين لله مثل هذه العبادة كنوع من التقدمة الروحية. فمثلاً، حينما أعطى الروح أمرًا للساكنين فى الأعالى أن يقدموا التكريم اللائق بالله للبكر والابن الوحيد، يقول: ” ولتسجد له كل ملائكة الله ” (تث43:32 سبعينية، عب6:1) والمرنم الإلهى دعانا أيضًأ أن نفعل هذا قائلاً: “هلم نسجد ونجثو أمامه” (مز6:94س). وليس من الصعب أن نعالج هذا الأمر باستفاضة، ولكننا إذ نضع نهاية مناسبة لكلماتنا، فإننا سنتوقف حاليًا عن تقديم أية مناقشات أخرى، سوى أننا سنكرر مرة أخرى أن الرجل الذى كان أعمى يتمم بطريقة تستحق الإعجاب، مثال عبادة الأمم، جاعلاً سجوده تعبيرًا ملازمًا لاعترافه بالإيمان.
يو39:9 ” فقال يسوع لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون ” .
حينما يشرح المسيح ـ بصوت إشعياء سبب ظهوره فى هذا العالم، يقول ” روح الرب علىّ لأنه مسحنى: أرسلنى لأبشر المساكين لأنادى للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر” (إش1:61). وأيضًا يقول فى موضع آخر ” أيها الصم اسمعوا أيها العمى أنظروا لتبصروا” (إش18:42). فإن كان يقول إنه لهذا اختاره الله الآب لكى ينادى للعمى بالبصر، فكيف يقول هنا: ” لدينونة أتيت أنا إلى هذا، لكى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون“؟ فربما يقول أحدهم ” إذن، هل المسيح خادم للخطية ” بحسب لغة بولس؟ حاشا، لأنه جاء ليتمم القصد المسبق لصلاحه من نحونا، أى لينير كل الناس بمصباح الروح. ولكن اليهود ـ بسبب أصرارهم على عدم الإيمان لم يقبلوا النعمة المشرقة عليهم، فحكموا على أنفسهم بظلمة من اختيارهم. لأنه ـ إذ كان ينبغى أن يأتى بحسب إعلان الناموس ـ فإن اليهود كانوا ينتظرون إشراق النور أى المسيح… ولكنهم بسبب عدم إيمانهم ساروا فى ظلمة عميقة. فهو يقول: إنى جئت لأعطى البصر للعميان عن طريق إيمانهم بى، ولكن عناد وقساوة (الفريسيين) وعدم إيمانهم جعلت مجيء الذى يعطى النور إن يصير بالنسبة لهم مجيء للدينونة. فلأنهم لم يؤمنوا لذلك دينوا. وهذا ما قاله المخلص بوضوح أكثر بكلمات أخرى: ” الحق الحق أقول لكم، الذى يؤمن بالابن لا يُدان، والذى لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد” (يو18:3). ومن المناسب أن يعلن المسيح عن أهمية الإيمان به فى هذه المناسبة التى أمامنا (فتح عينى المولود أعمى) لأنه يعلن أن هذا الرجل قد نال البصر ليس بالجسد فقط بل من جهة الذهن والروح ايضًا، لأنه قبل الإيمان، أما الفريسيون فقد أصابهم العكس تمامًا، لأنهم لم يروا مجده رغم أن مجده كان مضيئًا بأشد وضوح، أى فى ذلك العمل العجيب الذى كان عظيمًا جدًا وجديدًا تمامًا.
1 أجزاء من شرح إنجيل يوحنا الإصحاح التاسع ، للقديس كيرلس الأسكندرى.