آبائيات

علامات على الطريق – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد

علامات على الطريق - الطريق الأرثوذكسي - د. نصحى عبد الشهيد

علامات على الطريق – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد

علامات على الطريق - الطريق الأرثوذكسي - د. نصحى عبد الشهيد
علامات على الطريق – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد

 

 

الطريق الأرثوذكسي للأسقف كاليستوس وير

 

” أنا هو الطريق والحق والحياة ”                                   (يو6:14)

          ” لا تعطينا الكنيسة نظامًا، بل مفتاحًا، لا خطة عن مدينة الله، بل تعطينا وسيلة لدخولها. وقد يفقد شخص ما طريقه لأنه لا يملك خطة. لكن كل ما يمكن أن يراه، سيراه من دون وسيط، سيراه مباشرة، ويكون حقيقيًا بالنسبة له، بينما الذي درس الخطة فقط، يغامر بالبقاء خارجًا، ولا يجد في الحقيقة أي شئ “.

(الأب جورج فلورفسكى)

          القديس سرابيون السائح، أحد أشهر آباء البرية في القرن الرابع الميلادي، كان قد سافر ذات مرة لزيارة روما. وهناك علم بأمر إحدى الناسكات ذائعة الصيت، وهي امرأة كانت تعيش دائمًا داخل غرفة ضيقة واحدة، لم تغادرها قط، وإذ كان يرتاب في طريقة حياتها ـ لأنه هو نفسه كان سائحًا عظيمًا، دعاها وسألها: لماذا تجلسين هاهنا؟ فأجابته ” أنا لست جالسة، أنا على سفر “.

          “ أنا لست جالسة، أنا على سفر“. كلمات يمكن أن يطبقها كل مسيحي على نفسه. فلكي تكون مسيحيًا، يعنى أن تكون مسافرًا، أي في رحلة. يقول الآباء الشرقيون، إن حالنا يشبه حال الشعب الإسرائيلي في برية سيناء، فنحن نعيش في خيام، لا في بيوت، لأننا نتحرك على الدوام روحيًا. نحن في رحلة (سفر) عبر الفضاء الداخلي للقلب، رحلة لا تُقاس بالساعات في معاصمنا ولا بالأيام في نتائج حوائطنا، لأنها رحلة خارج الزمن إلى الأبدية.

          ومن أقدم أسماء المسيحية هو ببساطة ” الطريق “. ومكتوب في سفر أعمال الرسل (23:19) ” وحدث في ذلك الوقت شغب ليس بقليل بسبب هذا الطريق “، ” فلما سمع هذا فيلكس أمهلهم، إذ كان يعلم بأكثر تحقيق أمور هذا الطريق” (أع22:24). إنه اسم يؤكد الصفة العملية للإيمان المسيحي.

          المسيحية أكبر من أن تكون نظرية حول الكون، وأكبر من كونها تعاليم مكتوبة على ورق. إنها طريق نسافر من خلاله، في أعمق وأغني معنى، إنها ” طريق الحياة “.

          وهناك طريقة واحدة فقط لاكتشاف الطبيعة الحقيقية للمسيحية. يجب علينا أن نخطو على هذا الطريق، وأن نلزم أنفسنا بطريق الحياة هذا، عندئذ سنبدأ في رؤية ما به بأنفسنا. وطالما بقينا خارجًا، لا نقدر أن نفهم بشكل صحيح. من المؤكد أننا بحاجة إلى أخذ إرشادات قبل أن نبدأ؛ نحتاج أن نعرف ما هي علامات الطريق التي نبحث عنها، ونحتاج أن يكون معنا رفقاء صحبة. حقًا، بدون إرشاد من الآخرين، من الصعب أن نبدأ الرحلة. لكن إرشادات الآخرين لا يمكنها أن تنقل إلينا ماهية الطريق فعلاً، ولا يمكنها أن تكون بديلاً للخبرة الشخصية المباشرة. إن كل واحد منا مدعو أن يتحقق بنفسه مما تعلمه ـ كل واحد مطالب أن يعيد اختبار ” التقليد ” الذي تسلمه ويحياه بنفسه.

          يقول المطران ” فيلاريت ” أسقف موسكو إن قانون الإيمان لا يخصك إن لم تكن قد عشته. وما من أحد يقدر أن يكون مسافرًا في هذه الرحلة البالغة الأهمية بينما هو قابع في مكانه، ما من أحد يقدر أن يكون مسيحيًا بشكل غير مباشر. إن لله أولادًا لكن ليس له أحفاد !

          وكمسيحي في الكنيسة الأرثوذكسية، أود بشكلٍ خاص أن أؤكد على هذه الحاجة إلى “الاختبار الحي”. تبدو الكنيسة الأرثوذكسية في نظر كثيرين من أهل الغرب في القرن العشرين أنها كنيسة جديرة بالاعتبار بشكل ملحوظ، لأنها تمثل جو التراث القديم والتقاليد المحافظة. إن رسالة الأرثوذكس لإخوانهم الغربيين تبدو هكذا، ” نحن ماضيكم “، ورغم ذلك، فإن الولاء للتقليد بالنسبة للأرثوذكس لا يعني بالدرجة الأولى قبول صيغ أو عادات قديمة من أجيال ماضية، بل بالأحرى قبول الجديد الدائم الجدة والاختبار الشخصي والمباشر للروح القدس، ” في الحاضر، هنا والآن “.

          وفي وصفه لزيارة إحدى كنائس الريف باليونان، يؤكد يوحنا بيتجمان على عنصر ” التراث “، لكنه يركز أيضًا على شئ آخر أكثر:

                    … الظلام الدامس يبتلع النهار.

                    هنا حيث توقد شمعة وتصلي.

      وعلى لهب الشمعة تظهر العيون المتوهجة.

لقديسي الموضع الذين يُظهرون ودون إبهار

استشهادهم منقوشًا على الجدار

حيث يسقط نور النهار

الخافت باهتًا

والضوء يُظهر لوحة مشروخة، ألوانها الأزرق والأخضر البحري والأحمر والذهبي،

يظهر من خلالها الخشب الحبيبي

لأيقونات، أكْثَر الناس من تقبيلها وربما تعود

إلى القرن الرابع عشر…

هكذا تنمو الشجرة العتيقة في قوة واقتدار

وقد جعلها الاضطهاد مشذبة ترويها الدماء

وجذورها الحية عميقة في طين ما قبل المسيحية

لا تحتاج إلى حماية بيروقراطية

فحمايتها في قيامتها الدائمة.

 

          ويلفت بيتجمان الأنظار هنا إلى أكثر ما يملكه الأرثوذكس من نفائس: أعني إلى قيمة الإشارات الرمزية، مثل لهب الشمعة، ودور الأيقونات في إيصال معنى كنيسة محلية ” كسماء على الأرض “، وسمو الاستشهاد في الاختبار الأرثوذكسي تحت حكم الأتراك منذ عام 1453م، وتحت حكم الشيوعيين منذ عام 1917م. وتعد الأرثوذكسية وبحق في العالم الحديث “شجرة عتيقة “. وبجانب عمرها الضارب في القدم هناك الحيوية، حيث “القيامة الدائمة ” وهذا هو المهم، وليس مجرد التراث القديم. فالمسيح لم يقل ” أنا عادة قديمة ” بل قال ” أنا هو الحياة “.

 

          وهدف هذا الكتاب الحالي أن يكشف عن المنابع العميقة لهذه ” القيامة الدائمة “، ويشير الكتاب إلى بعض علامات الطريق الحاسمة والإشارات على الطريق الروحي. وما من محاولة بذلناها هنا لتقديم تقرير فعلي دقيق على التاريخ الماضي والحالة المعاصرة للعالم الأرثوذكسي. وهذا ما يمكن الحصول على معلومات عنه فى كتابى السابق ” الكنيسة الرثوذكسية The Orthodox Church (Penguin Books)، الذي نُشر أصلاً سنة1963؛ وحاولت بقدر الإمكان أن أتجنب هنا تكرار ما ذكرته فى ذلك الكتاب.

 

          وهدفي من هذا الكتاب الحالي أن أقدم تقريرًا موجزًا عن التعاليم الأساسية للكنيسة الأرثوذكسية، حيث يظهر الإيمان طريقًا للحياة، وسبيلاً للصلاة. تمامًا مثلما عنون تولستوى الروائي إحدى قصصه القصيرة ” ما يحيا به الناس “، هكذا يمكن أن يُدعى هذا الكتاب ” ما يحيا به المسيحيون الأرثوذكس “. وفي حقبة مبكرة أكثر رسمية كان يمكن أن يأخذ هذا العمل شكل ” تعليم مسيحى للكبار” يحوي أسئلة وأجوبة. لكن ليست هناك محاولة أن يكون العمل شاملاً كل شئ، فقد قيل القليل جدًا هنا عن الكنيسة وصفة “المجمعية” (Conciliar) فيها، وحول شركة القديسين، والأسرار المقدسة، ومعنى العبادة الليتورجية: وربما استطعت أن أجعل هذا الخط الفكري موضوعًا لكتابٍ آخر. وبينما أشير من حين لآخر إلى طوائف مسيحية أخرى، فإني لا أعقد أية مقارنات منهجية. فاهتمامي منصب على وصف الإيمان الذي أحياه كأرثوذكسي، وأن أجعل ذلك بألفاظ إيجابية، عن أن أقترح مناطق الاتفاق والاختلاف مع الكاثوليكية الرومانية أو مع البروتستانتية.

 

          وإذ اشتاق أن أسمع صوت الآخر، وأن أري شهادات أخرى أفضل بجانب صوتي وشهادتي، فقد وضعت في الكتاب عدة اقتباسات، خاصة في بدء كل فصل وختامه. وتوجد ملاحظات مختصرة عن المؤلفين (وكتبهم)، الذين اقتبست منهم فى نهاية هذا الكتاب. إن معظم الفقرات المقتبسة هي من ” كتب الصلوات الأرثوذكسية ” المستعملة يوميًا فى عبادتنا الكنسية[1]، أو من كتابات الذين نطلق عليهم لقب ” الآباء “. وهم كُتّاب غالبًا من القرون الثمانية الأولى للتاريخ المسيحى، وفى بعض الحالات من تاريخ متأخر عن ذلك؛ لأنه يمكن أن يوجد مؤلف من عصرنا الحاضر ونطلق عليه أيضًا لقب ” أب ” وإن كان بمعنى خاص. وهذه الاقتباسات هي ” الكلمات ” التي ثبت أنها أكثر الكلمات عونًا لي شخصيًا، كعلامات على الطريق لاكتشافاتي الخاصة على الطريق. ويوجد طبعًا كُتاب آخرون كثيرون، لم يُذكروا بالاسم فى هذا الكتاب، وقد اقتبست من هؤلاء بعض الكلمات أيضًا..

          أيها المخلص،

          يا من سافرت مع لوقا وكليوباس إلى عمواس،

          سافر مع خدامك الذين بدأوا الآن ارتحالهم على الطريق واحفظهم من كل شر..                                                                               (صلاة تُقال قبل بداية أى الرحلة)

 

 

عيد القديس الرسول والإنجيلي يوحنا اللاهوتى

26 سبتمبر 1978

الأرشمندريت كاليستوس

 

 

2 يقصد كتب صلوات الخدمات فى كنيسة الروم الأرثوذكس التي هو عضو فيها وأحد لاهوتييها المعاصرين.

 

علامات على الطريق – الطريق الأرثوذكسي – د. نصحى عبد الشهيد