أبحاثكتب

برديصان الرهاوي ف3 – فيوض في الفكر المشرقي – الخوري بولس الفغالي

برديصان الرهاوي ف3 - فيوض في الفكر المشرقي - الخوري بولس الفغالي

برديصان الرهاوي ف3 – فيوض في الفكر المشرقي – الخوري بولس الفغالي

برديصان الرهاوي ف3 - فيوض في الفكر المشرقي - الخوري بولس الفغالي
برديصان الرهاوي ف3 – فيوض في الفكر المشرقي – الخوري بولس الفغالي

 

 

القسم الثالث

برديصـــان الرهـاوي وشــرائــع البــلدان

 

برديصان. أو ابن نهر ديصان، موطنه الرها (أورفا الحالية في تركيا)، عاصمة مملكة أسرونيا بلغتها السريانية. بحسب المؤرخين وُلد في 11 تموز سنة 154. أخذ بالحضارة الهلنيّة ولكنه كتب في السريانية. اهتدى إلى المسيحيّة في شبابه فألّف بعض القصائد التي استلهمت إيمانه. غير أنه عُرف خصيصًا كمعلّم الفلسفة المسيحية. ضاعت آثارُه كلها تقريبًا، غير أن تلميذًا من تلاميذه عرف نهج معلّمه: فكتاب شرائع البلدان يبدو بشكل حوار بين المعلّم وتلاميذه في ردّ على الفكر الشرقي الذي استلهم العالم الكلداني القديم حول القدر. ونحن في هذا القسم نقرأ فصلين:

 

1- برديصان الرهاوي وحواره عن القدر

 

2- كتاب شرائع البلدان لبرديصان الرهاوي.

 

ونلاحظ ثانيًا أنَّ الشرَّ هو عمل كثُرت في هذه الآونة الأخيرة الكتُب المترجمة أو الموضوعة عن الفلسفة وما تفرَّع عنها من موادّ في علم النفس والإنسان والاجتماع، وبدأت تظهر، وإن بطريقة حيّية وخجلة، بعض الدراسات عن تاريخ الفلسفة منذ أفلاطون وأرسطو إلى العصر الوسيط فالحديث. تُرجمت آثار عن الغرب، ولكن ظلَّت آثار الشرق بأكثريَّتها مجهولة. فمَن لنا بطرح أفكار أبناء الشرق، من خلال آثارهم، لا من خلال ما كَتب لنا الغربُ عنهم؟ كيف نريد أن نبتكر فلسفة إن لم نغرز جذورنا في أساس تقليدنا الشرقيّ الذي عمره ثلاثة آلاف سنة أو أربعة قبل المسيح؟ وكيف نجابه الغرب ونحاوره إن كنّا لا نعرف تراثنا؟ أيكون المشرق وعاء فارغًا لا بدَّ من أن نملأه بما يأتينا من عالم الغرب؟ إنَّ عالم المشرق يزخر بالتيّارات الفكريَّة التي طبعتْ روحانيَّةَ أفلاطون واجتذبت إليها الرواقيَّة فكان إمامها زينون، الفينيقيّ الأصل، وأحد معلِّميها بوسيدون ابن أفامية (قلعة المضيق) في سورية. وكان لعالم الشرق تأثيره في القرون الوسطى بما انتقل عبر العربيَّة إلى اللاتينيَّة من طبّ ابن سينا وشروحات ابن رشد وعلم اجتماع ابن خلدون.

 

ونسأل: أين تأثيرنا اليوم؟ وهل يمكن أن يكون لنا دورٌ نلعبه في الفكر العالميّ إن بقيَتْ معرفتنا لتراثنا معرفة سطحيَّة لا تتعدَّى ما تعلَّمناه في سنوات البكالوريا؟ يا ليتنا نتعرَّف إلى نميسيوس الحمصيّ الذي كتب »عن طبيعة الإنسان« في بداية القرن الرابع المسيحيّ، ومكسيم الصوريّ الذي عاش في القرن الثاني المسيحيّ فسبق مفكِّرًا آخر من صور، اسمه بورفير (حوالي 234-300) كان له الفضل الكبير في إيصال فكر أفلوطين المصريّ إلينا عبر كتاب »التاسوعات«! ويا ليتنا تعرَّفنا إلى برديصان الرهاويّ، وتاتيان السوريّ، وأفرام السريانيّ الذي علَّم في نصيبين وأسَّس مدرسة الرها في القرن الرابع المسيحيّ! وكيف ننسى ماني ومرقيون، وكلَّ عالَم الغنوصيَّة الذي قدَّم مفاهيم جديدة للتيّارات الفكريَّة في المسيحيَّة والإسلام؟

 

لا شكَّ في أنَّ هؤلاء الكتّاب لم يتكلَّموا باللغة العربيَّة، بل دوِّنتُ آثارهم في لغات نحن نجهلها اليوم، في اليونانيَّة والسريانيَّة واللاتينيَّة وغيرها. ولكن متى كانت اللغة حاجزًا؟ إنَّ هي إلاَّ سبيل لإيصال الحقيقة إلى الإنسان. سبقنا العربُ في العصر العبّاسيّ وترجموا بعضها، وها هو تاريخنا يدعونا إلى نشرها ونقل ما لم يُترجم منها، فتصبح في متناول يدنا نصوصٌ ما زلنا نعيش منها في عمق لاوعْينا.

 

هذا هو هدفي من هذا المقال عن برديصان الرهاويّ.

 

1- من هو برديصان؟

 

عندما نشر البحّاثة الإنكليزيّ وليام كيورتون سنة 1855 كتابه آثار سريانيَّة ملتقطة(1)، ونقل محتوياته عن مخطوطة وجدها في المتحف البريطانيّ رقمها 14658، وهي من القرن السادس أو السابع. أخذ العلماء يبحثون عن وجه رجل حيَّر الناس في عصره وما زال يقسم الباحثين بشأن الأثر الوحيد الذي بقي لنا منه وهو كتاب شرائع البلدان أو حوار في القدر. وهذا الرجل اسمه برديصان.

 

قالوا عن هذا الكاتب الذي ترك لنا أوَّل أثر في السريانيَّة بعد ترجمة الكتاب المقدَّس، إنَّه كان مؤمنًا فأثَّر في ملك الرها ليدين بالنصرانيَّة. وقالوا عنه أيضًا إنَّه كان هرطوقيٌّا مبدعًا. وعرفنا من التواريخ متى وُلد ومتى مات، وكأنَّ حياته لا تزال محفوفة بالأساطير. وجعلوا منه رسول أرمينيا وأحد دعاتها إلى النصرانيَّة، كما أعطوه دورًا في مجيء البعثة الهنديَّة التي زارت إيلاجبلوس، حوالي سنة 220. وقالوا عند ذلك إنَّه ابن الفراتيّين، واعتبرته أرمينيا ابنًا لها بارٌّا، واستأثرت به الرها، عاصمة الأسروان، وكلٌّ يريد شرف القربى إليه(2).

 

وُلد برديصان في الرها أو في جوارها سنة 154ب.م.، فجاء اسمه يربطه بالنهر الذي يمرُّ بالمدينة فيجعلها جنَّة، أي نهر ديصان(3). اسم أبيه »نوحومو« واسم أمِّه »نحشيرام«، وما كانا، على ما يبدو، من السوريّين، بل جاءا إلى سورية من بلاد الفراتيّين في السنة الخامسة عشرة لملك شهروت بن فرس، ملك الفرس، أي سنة 455 يونانيَّة (144 مسيحيَّة).

 

كان برديصان صديقًا للملك أبجَر (179-216) التاسع الكبير ابن معنو الثامن، بعد أن كان رفيقه على مقاعد الدراسة، وكانت له مكانة سامية في القصر الملكيّ. وهناك لاقى يوليوس الأفريقيّ وعرف فيه أمهر الرامين بالسهام في بلاد الأسروين(4). وهكذا تتلمذ له أعظم شخصيّات العاصمة بفضل قوَّته وعلمه ومهارته.

 

لمّا كان الملك أبجر مولعًا بالعلوم والفنون، سُرَّ برديصان بأن يقضي في البلاط الملكيّ السنين الطوال ويقضي على طريقة الفراتيّين حياة هادئة بين تلاميذ يكنُّون له كلَّ احترام وتقدير. وفي ذلك الوقت حار أتباع مرقيون، وارتبطوا بعلاقة مع أبيركيوس الذي حارب هو أيضًا البدعة المرقيونيَّة(5)، كما أنَّه اطَّلع على الديانة المسيحيَّة مدفوعًا بعامل الحشريَّة الدينيَّة، وعلى تيّارات عصره الدينيَّة والفلسفيَّة، فكوَّن لنفسه نظامًا فكريٌّا. وقالوا فيه إنَّه أخذ بتعاليم ولنتنين الغنوصيّ قبل أن يهاجم الولنتيّين وينهي حياته كرئيس شيعة مستقلَّة.

 

وعندما احتلَّ الإمبراطور كركلاَّ (سنة 216 أو 217) مدينة الرها، قتلَ ملكَها وأخذ ابنَي الملك رهينة، وبدأت فترة من التضييق والاضطهاد على أبناء المدينة. وهذا أمر يذكره أوسيب القيصريّ(6). أمّا برديصان فكان يعشق الحرِّيَّة، ولهذا ترك الرها وذهب إلى أرمينيا، وهناك عاش متنقِّلاً من مدينة إلى أخرى. وكان له، خلال إقامته في البلاد، أن اتَّصل ببعثة هنديَّة(7) جاءت سنة 217 للقاء الملك إيلاجبلوس (217-222). أمّا وفاته فجاءت، على ما يبدو، سنة 222، عن عمر يناهز الثمانية والستّين(8).

 

2- تلامذة برديصان

 

ذكر مخائيل السريانيّ اسم اثنين من أبنائه هما أبجارون وحسدو، ولكنَّه لم يقل عنهما شيئًا. أمّا سوزومين، المؤرِّخ اليونانيّ في أواسط الجيل الخامس، فحدَّثنا في تاريخه الكنسيّ (3: 16) عن ابنه هرمون قائلاً إنَّه كان متضلِّعًا من اللغة اليونانيَّة وإنَّه كتب في لغته السريانيَّة الوطنيَّة أشعارًا ظلَّ الناس ينشدونها بعد موته(9). ولاحظ أفرام السريانيّ (306-373) أنَّ الناس ما زالوا يتذوَّقون أسلوبه الأنيق ولغته الموسيقيَّة، فيَضلّون بآرائه التي أخذها عن أبيه وعن فلاسفة اليونان، وفيها من المغالطات ما يخصُّ النفس وولادة الأجساد والتقمُّص.

 

لم يكن لتلامذة برديصان عبقريَّة معلِّمهم ليجمعوا شتات أفكارهم في وحدة منظَّمة، لذلك راحوا يتأثَّرون بالغنوصيَّة والمانويَّة فابتعدوا عن التعليم الأساسيّ. وعندما سيهاجم أفرام السريانيّ المبدعين، سيجمع ماني ومرقيون وبرديصان معًا بعد أن تقاربت أفكارهم(10).

 

في عهد ربولا الرهاويّ(11) الذي توفِّي سنة 435، لاحقت السلطة البرديصانيّين واضطهدتهم مع من اضطهدت من اليهود والوثنيّين، وهدفها اقتلاع بذور الوثنيَّة من البلاد، إذ لم تكن ترى علاقة لعلم التنجيم الفارسيّ بالإيمان المسيحيّ. وهكذا تقوَّض تنظيم البرديصانيّين وهُدمت أماكنُ اجتماعاتهم فاهتدى عدد كبير منهم إلى الأرثوذكسيَّة بينما التحق قسم آخر بالمانويَّة دون أن يذوب فيها.

 

سيَذكر يعقوبُ الرهاويّ (633-708) أنَّه لاقى برديصانيّين في عصره(12)، ولكنَّه لا يقول هل كانوا أفرادًا أو جماعات. وسيذكر كتاب الفهرست الموضوع في نهاية القرن العاشر فيقول إن الشيعة البرديصانيَّة ما زالت موجودة في البصرة(13). ونعرف من ذيول الكتب العديدة أنَّ أتباع برديصان لعبوا دورًا كبيرًا في نقل علم اليونان والفرس إلى العرب، فحافظوا على الخطِّ الذي رسمه لهم معلِّمهم ووجَّهوا الفكر شطر العلوم والفلسفة، مبتعدين عن التيّار الأفراميّ الذي رفض فلسفة اليونان ودعا تلامذته ليعودوا إلى التأمُّل في الكتاب المقدَّس، ولو سلخهم هذا التأمُّلُ عن العالم الذي يعيشون فيه.

 

3- مؤلَّفات برديصان

 

يبدو أنَّ برديصان ألَّف في السريانيَّة كتبًا عديدة ترجمها فيما بعد تلامذتُه إلى اليونانيَّة. ويورد أوسابيوس، أسقف قيصريَّة فلسطين، في كتابه التاريخ الكنسيّ (الجزء الرابع 30: 1) أنَّ برديصان ألَّف 150 نشيدًا على غرار أناشيد الملك داود (أي المزامير)، وأكَّد أفرام السريانيّ كلام أوسابيوس؛ إلاَّ أنَّه لم يصل إلينا من هذه الأناشيد إلاَّ بضع شذرات.

 

ويذكر هيبوليت في ردِّه على كلِّ الهرطقات(14) أنَّ برديصان ألَّف حوارات عديدة يهاجم فيها المرقيّونيّين، ويشير أوسابيوس إلى أنَّه كتب مقالات للدفاع عن المسيحيّين المضطهدين في عهد الإمبراطور كركلاّ، ويلمِّح الأسقف جورج العربيّ إلى كتاب عن الأسترولوجيا أو علم التنجيم. أمّا كتاب الفهرست(15) فيورد أسماء ثلاثة كتب لبرديصان هي كتاب النور والظلمة، وكتاب روحانيَّة الحقّ، وكتاب المتحرِّك والجماد. وينهي كلامه بقوله: »وله كتب كثيرة، ولرؤساء المذهب في ذلك أيضًا كتب كثيرة لم تصل إلينا«.

 

ونسب الباحثون إلى برديصان كتبًا كثيرة في الأدب القديم، منها موشَّحات سليمان(16) التي دُوِّنت في القسم الأوَّل من القرن الثاني، وأعمال توما(17) التي كُتبت في السريانيَّة في بداية القرن الثالث، ودفاع مليتون السرديسيّ(18) المكتوب على عهد الإمبراطور كركلاّ. هذه الكتب الثلاثة وُضعت في عصر برديصان الرهاويّ وفي محيطه الجغرافيّ، فتأثَّر بها أو تأثَّرت به. ونستنتج أنَّه إنّ نُسب إلى هذا المفكّر العديد من الكتب، فهذا يدلُّ على المكانة الفريدة التي احتلَّها في عصره بفضل سعة علومه وكثرة اطِّلاعه في الرها، في تلك المدينة الواقعة على الحدود بين المملكة الرومانيَّة ومملكة الفراتيّين والمؤلَّفة نقطة التقارب بين الثقافة الهلِّينيَّة الآتية من الغرب وثقافة بلاد الرافدين المتأثِّرة بالعالم الفارسيّ.

 

أمّا المؤلَّف الذي اشتهر به برديصان ووردت بعض نصوصه في كتب اليونان، فهو »كتاب شرائع البلدان« أو »حوار في القدر«(19). ذكره أبيفان ثمَّ أوسابيوس(20) الذي أقحم بعضًا من نصوصه في كتابه التهيئة الإنجيليَّة (6: 9)، وأورد بسودو كليمان مقاطعَ عنه في كتب الاستطلاع (9: 19-29).

 

هذا المؤلَّف هو حوار بين برديصان والمدعوّ »عويدا« الذي يريد أن يقتنع قبل أن يؤمن. حضر هذا الحوار تلامذةُ برديصان وكتب أحدُهم، وهو فيلبُّس، ما تفوَّه به المعلِّم من آراء.

 

يعتبر برديصان أنَّ الإنسان يخضع لعوامل ثلاثة هي الطبيعة والقدر والإرادة. الإرادة هي حرَّة. والقدر يمثِّل السلطان الذي أعطاه الله الواحد والخالق للكواكب لكي تؤثِّر في ظروف حياة الإنسان منذ ساعة ولادته. أمّا الطبيعة فهي خاضعة لشرائع لا تتبدَّل، والإنسان، وهو جزء من الطبيعة، يتأثَّر بهذه الشرائع ويخضع في بعض جوانب حياته لقدرة الكواكب، غير أنَّه يتمتَّع بحرِّيَّةٍ تسمح له بأن يفعل الخير والشرّ.

 

يبرهن برديصان أنَّ الإنسان خاضع للطبيعة في ما يتعلَّق بوظائفه الحياتيَّة البدائيَّة. أمّا أحداث حياته فتقع تحت حتميَّة القدر الذي يتجسَّم في الكواكب والنجوم. وخارجًا عن ذلك فالإنسان حرّ أن يفعل ما هو قويم وأن يمتنع عن كلِّ سوء.

 

إذًا، هناك حدٌّ يقف عنده سلطانُ القدر المطلق وهو حرِّيَّة الإنسان. والبرهان على ذلك وجود الشرائع والنواميس المتعدِّدة التي يخضع لها الإنسان فلا تُبدَّل أو تَنسَخ. وطالعُ الإنسان لا تأثير له في الأعمال التي يقوم بها طوال حياته، لأنَّ شرائع الإنسان أقوى من القدر. ويأتي برديصان، داخل هذا العرض، بمجموعة من المعطيات التي نجدها في الأجناس والعروق البشريَّة. تحدَّث برديصان عن الحرِّيَّة والقدر فسُمّي كتابه حوار في القدر، وأورد شرائع البلدان فسُمّي كتاب شرائع البلدان.

 

4- نظرة برديصان إلى الإنسان في الكون

 

ننطلق من كتاب شرائع البلدان لنرسم الخطوط العريضة لنظرة برديصان إلى الإنسان في الكون.

 

نقطة الانطلاق

 

يبدأ الكتاب بسؤال يطرحه عويدا: »إن كان الله واحدًا، كما تقولون، وإن كان كوَّن البشر فأراد بذلك أن تفعلوا ما يأمركم به، فلماذا لم يخلق البشر بحيث لا يستطيعون أن يأثموا، بل يحسنون دائمًا في ما يفعلون؟«(21)

 

هذا السؤال، سعى تلامذة برديصان إلى الإجابة عنه فما أقنعوا عويدا، واكتفوا بالقول: »آمنْ لكي تستطيع أن تعرف كلَّ شيء«. غير أنَّ عويدا رفض هذا المنطق وأجابهم: »لا أستطيع أن أؤمن إلاَّ إذا اقتنعت«(22).

 

وهكذا ينطلق الحوار بين برديصان وعويدا بحضور فيلبّس. أخذ برديصان بطريقة سقراط فسأل عويدا: »قل لي، يا ابني عويدا، ما هو رأيك: أليس إله الكلِّ واحدًا؟ أم لا يريد، وهو الواحد، أن يسير البشرُ سيرةً بارَّة ومستقيمة؟«

 

هذا السؤال يجعلنا نعتبر مع برديصان أنَّ الله واحد هو، وهذا ما يجعله يتعارض والغنوصيَّة التي عرفها برديصان عبر مرقيون، والتي كانت تقول بوجود إله الشرِّ في وجه إله الخير لتحلَّ مشكلة الخير والشرِّ في الإنسان(23).

 

ينظر برديصان إلى الإنسان نظرة مثاليَّة: إنَّه يعيش بطريقة بارَّة أو بحسب الطبيعة(24)، وهذا ما يجعلنا نستشفُّ تأثير الرواقيّين في كتاب شرائع البلدان، وهم الذين نادوا بالعيش بحسب الطبيعة. بالإضافة إلى ذلك، نحن لسنا أمام خلاص يتمُّ بخروجنا من العالم، بل يقوم بحياة داخل العالم. هنا نلتقي أيضًا والرواقيّين الذين يريدون للإنسان أن ينخرط في الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة. فإبيكتات كان يعتبر أنَّ تعليمه يهيّئ تلاميذه للوظائف العامَّة، وكان يندِّد بالشبّان الذين يطيلون المكوث على مقاعد الدراسة، ويقول إنَّ حياة الإنسان العاديَّة هو حياته كزوج وكمواطن وكصاحب منصب في الدولة(25).

 

ونلاحظ كلامًا يقابل القول المأثور: \\\’أؤمن لكي أفهم، وأفهم لكي أؤمنب. غير أنَّ برديصان لا يفصل بين العلم والإيمان، ويعتبر أنَّ اللامؤمن فريسة الخوف ولا يعرف شيئًا معرفة أكيدة. فحالته ترسم صورة قاتمة عن الذين لم تصل إلى قلبهم نعمة الإيمان(26).

 

ب- الحرّيَّــة

 

بعد هذه المقدِّمة يدخل برديصان في صلب الموضوع، ويطرح على بساط البحث مشكلة الحرِّيَّة. يقول أوَّلاً إنَّ الله لم يخلق الإنسان كأداة تتصرف من دون فهم، بل خلقه حرٌّا، على خلاف الخلائق التي هي خاضعة لشريعة ثابتة: فالشمس والقمر والبحر والأرض هي في يد الله وهو يحرِّكها كما يشاء. ويقول ثانيًا إنَّ الله أعطى الإنسان الحرِّيَّة والإرادة، فرفعه على سائر المخلوقات وساواه بالملائكة. أجل، إنَّ الإنسان المخلوق على صورة الله يتصرَّف بحرِّيَّة ويأمر الأشياء المخلوقة، ويفعل ما يشاء أو يمتنع عن عمل يريد الامتناع عنه. هنا لا ينظر برديصان إلى الحرِّيَّة على أنَّها ما يكوِّن جوهر الإنسان، بل ينظر إليها في ممارستها: إنَّها إمكان العمل أو الامتناع عن العمل؛ إنَّها إمكان اتِّخاذ القرار المناسب. والنتيجة هي: من يستطيع أن يفعل الخير يستطيع أن يفعل الشرّ، ومن لم يكن في مقدوره أن يفعل الشرّ ليس في وسعه أن يفعل الخير. إنَّ حرِّيَّة الاختيار والأرادة سيف ذو حدَّين.

 

يجعل برديصان الخلائق خاضعة للإنسان، إلاَّ أنَّه لا ينفي كلَّ حرِّيَّة عن تلك التي نسمِّيها اليوم خلائق جامدة. فالشمس والقمر والكواكب ليست محرومة كلَّ الحرمان من الحرِّيَّة. وإذا كان ما يدلُّ على حرِّيَّة الإنسان هو أنَّه سيمثُل أمام الله الديّان، فهذه الخلائق ستمثُل هي أيضًا إلى القضاء في اليوم الأخير لأنَّها تتمتَّع ببعض الحرِّيَّة. حينئذٍ يسأل فيلبُّس برديصان: »كيف ستُدان المخلوقاتُ التي هي خاضعة لحتميَّة النظام؟« إنَّ العناصر ستُدان لا في ما هي فيه مقيَّدة، بل في ما هي فيه متمتِّعة بالحرِّيَّة. فالكائنات لا تُحرَم من كيانها عندما تكوَّن، إنَّما تتناقص قوَّتها عندما يمتزج الواحد بالآخر فتخضع لقدرة خالقها. إذًا، هي لا تُدان في الأمور التي تكون فيها خاضعة للحتميَّة، بل في تلك التي هي خاصَّة بها(27).

 

ويستنتج برديصان: الشمس والقمر والكواكب والأرض هي حرَّة، وهي أيضًا خاضعة لحتميَّة شريعة ثابتة. وبما أنَّها تتمتَّع بالحرِّيَّة، وإن جزئيَّة، فهي تخضع لدينونة الله في آخر الزمان، لأنَّه حيث لا حرِّيَّة فهناك لا ثواب ولا عقاب. وبما أنَّ الحرِّيَّة هي جوهر الكائنات كلِّها فكلُّ كائن له ذرَّة من الحرِّيَّة، أو بالحريّ العناصر الأربعة الأولى التي عرفتها الفلسفة، وهي النار، أو النور، والريح والماء والأرض، وهذه العناصر تبقى حرَّة ما زالت واحدة موحَّدة في البساطة، وهي تخسر القليل أو الكثير من حرِّيَّتها عندما يمتزج بعضها ببعض.

 

نجد هنا تفسيرًا لوجود الشرِّ في العالم كما عرفته الفلسفات الشرقيَّة: الشرُّ في التركيب والتمازج والكثرة، لأنَّه حيث تكون الكثرة يدخل العدوُّ الذي هو عالم الظلمة، دون أن يدري به أحد، وعندما يدخل إلى الكون لن يستطيع الكون أن يتخلَّص منه دون صلاة إلى الله الذي يرسل إليه المخلِّص.

 

ولكن داخل هذه النظرة إلى الكون يبقى الإنسان فريدًا من نوعه، لأنَّ حرِّيَّته تختلف عن حرِّيَّة سائر الكائنات. فحرِّيَّة الكائنات حرِّيَّة أصليَّة كانت لها عندما تكوَّنت، ثمَّ خسرت قسمًا كبيرًا منها عندما تمَّت عمليَّة المزج في العالم. أمّا حرِّيَّة الإنسان فهي حرِّيَّة الإرادة التي تجعل الإنسان فوق العوالم وتساعده على أن يفعل الخير والشرَّ كيفما أراد.

 

غير أنَّ عويدا لم يقتنع بأنَّ للإنسان إرادة حرَّة، واعتبر أنَّ الوصايا هي من الثقل بحيث يعجز الإنسان عن حملها والعمل بها. فيجيب برديصان مشدِّدًا على قوى الإنسان الجسديَّة، بل على قواه الروحيَّة التي هي قوَّة النفس. قال:

 

»أنت تجيب جواب من لا يريد أن يحسن في عمله، وجواب من يسمع لعدوِّه فيخضع له. إنَّ البشر لم يؤمروا إلاَّ بفعل ما يستطيعون فعله. والحال أنَّ هناك وصيَّتين وُضعتا أمامنا وهما تجمِّلان الحرِّيَّة وتزيِّنانها، واحدة تدفعنا إلى أن نتفرَّق عن كلِّ ما هو شرّ وعن كلِّ ما لا نريده أن يكون لنا، وثانية تدفعنا إلى أن نعمل ما هو صالح وما نحبُّ وما نرغب في أن يكون لنا. فأيُّ إنسان هو أضعف من أن يمتنع عن السرقة والكذب، وعن الفجور والزنى، وعن البغض والغشّ«؟

 

كلُّ هذه الأعمال خاضعة لروح(28) الإنسان. ليست تحت سلطة جسده، بل هو يفعلها بإرادة نفسه. وإن يكن الإنسان فقيرًا ومريضًا وشيخًا، وفاسدًا في عضو من أعضائه، فهو يستطيع أن يمتنع عن كلِّ هذه الأعمال. وكما يستطيع أن يمتنع عنها، يستطيع كذلك أن يحبَّ الآخرين ويدعو لهم بالبركة ويقول الحقَّ ويصلّي طالبًا الخير لكلِّ معارفه(29).

ج- الطبيعـة

 

عندما اعترض عويدا على أنَّ الإنسان يستطيع أن يتجنَّب الشرَّ دون أن يعمل الخير، أدخل برديصان فكرته عن طبيعة الإنسان فقال إنَّ الخير يرتبط بطبيعة الإنسان الحقَّة، لا بتلك التي تشوَّهت بفعل امتزاجها بالعالم. قال:

 

»إنَّه لأسهل علينا أن نعمل الخير من أن نتحفَّظ من الشرّ. فالخير خاصّ بالإنسان، ولأجل ذلك نراه يفرح عندما يصنع خيرًا. أمّا الشرُّ فهو عمل خاصٌّ بالعدوّ، ولهذا عندما يصنع الإنسان أعمالاً منحرفة يكون مضطربًا ولا يكون صحيحًا في كيانه«(30).

 

نلاحظ أوَّلاً أنَّ برديصان يفرِّق بين الطبع (فوسيس في السريانيَّة) والكيان والطبيعة (كينو في السريانيَّة). فكلمة الطبع تستعمَل دومًا في معنى عامّ، فيما كلمة الكيان تُستعمَل في معنى خاصّ. فالحيوانُ طبعٌ والإنسان طبع والنبات طبع، غير أنَّ طبيعة الإنسان هي غير طبيعة الحيوان، وهي ليست بمحصورة في وظائف نباتيَّة. الجسم خاضع للطبيعة، ولكن مع ذلك هناك مكان لأمور الروح، وحقل يكون فيه الإنسان حرٌّا، لأنَّ الحرِّيَّة مرتبطة بروح الإنسان.

 

إنَّ الإنسان يستطيع أن يوجِّه حياته بحرِّيَّة كاملة داخل إمكاناته التي يحدِّدها كيانه. يستطيع أن يأكل اللحم أو لا، أن يضاجع امرأة أو أن يعيش حياة عفيفة. نجد أناسًا يُشبهون الأسود المفترسة شراسة، ونجد غيرهم لا يؤذون نملة. بالإضافة إلى ذلك يستطيع الإنسان أن يغيِّر سلوكه فينتقل من الخير إلى الشرّ، والعكس بالعكس.

 

انطلاقًا من هذه الظواهر نستنتج أنَّ الإنسان لا يخطأ بسبب هذا الكيان الذي يشارك فيه كلُّ إنسان، وإن اختلف الإنسان عن الآخر. فالذين يعتبرون أنَّ الإنسان يخطأ بسبب كيانه أو طبيعته، يحمِّلون الربَّ مسؤوليَّة خطيئتهم لكي يبرِّئوا نفوسهم منها. إنَّهم لا يفهمون أنَّ الشريعة لا تطبَّق على الطبيعة، لأنَّ الإنسان وحده يعاقَب أو يبرَّر بسبب ما يفعله بإرادة حرَّة. إنَّ الشريعة لا تطبَّق إلاَّ على الحرِّيَّة(31).

 

العدوّ الذي يجرح طبيعة الإنسان الحقَّة، إذ بهذه الطبيعة (أو الكيان) يرتبط عمل ما هو قويم. مُزجت العناصر وهجم الظلام عليها فامتزج بها. لهذا يُلام الظلام على ما فعل عندما أدخل الشرَّ إلى العالم. أجل، إنَّ الظلام هو بصورة خاصَّة عنصر شرٍّ في العالم وعدوُّ سائر الكائنات، وهو يصيب الإنسان فيصبح مهيَّأ لعمل الشرّ. إنَّ الإنسان الذي يسير باستقامة يتمتَّع براحة ضمير تدوم فيه كلَّ أيّام حياته، وهو يعرف سلامًا يشبه السلام الذي عرفته الكائنات قبل أن يضع فيها الظلام بلبلته وفتنته.

 

ويعترض عويدا على كلام برديصان ويعتبر أنَّ الإنسان يخطأ بطبيعته، أي بسبب تركيبه الطبيعيّ. فكما أنَّ الأسد، وكلّ أسد، يأكل اللحم بسبب تركيبه الطبيعيّ، وكما أنَّ النعجة، وكلّ نعجة، تأكل العشب بسبب تركيبها الطبيعيّ، وكما أنَّ النحلة تجمع العسل، والنملة تخزن الحبَّ في الصيف لأيّام الشتاء، وكما أنَّ العقرب، وكلَّ عقرب، تجرح من يقترب منها بسبب تركيبها الطبيعيّ، كذلك يُولَد الإنسان وينمو ويُنجب أولادًا ويشيخ، ويأكل ويشرب وينام ويستيقظ، وأخيرًا يموت(32). هذه الأمور الخاصَّة بالإنسان يشارك فيها الحيوان: فطبيعة الحيوان هي مجموع أعماله الغرائزيَّة، وأعمالُ الإنسان هي تعبيرٌ عن طبيعته. ومجموعةُ هذه الطبائع المتنوِّعة هي عملُ الطبع الذي يعمل كلَّ شيء ويخلق كلَّ شيء ويحقِّق كلَّ شي بحسب الأمر المعطى له.

 

د- القدَر(33)

 

وطرح عويدا وفيلبُّس سؤالاً قالا فيه إنَّ الناس ينقادون بحسب ما يقضي لهم القدَر ويفرض عليهم من أعمال، وهكذا تنتفي حرِّيَّتهم وتتأثَّر طبيعتهم فتميل عن الخطِّ الذي حدَّده الله لها. قال برديصان مجيبًا:

 

»وأنا أيضًا، يا فيلبُّس وبَريَمو، أعرف أنَّ هناك أناسًا يسمَّون الكلدانيّين، وأعرف آخرين غيرهم كان فنُّ التنجيم محبَّبًا إليهم كما كان يومًا من الأيّام محبَّبًا إليّ. وقلتُ في مكان آخر إنَّ نفس الإنسان تتوق إلى معرفة ما لا يعرفه كثيرون غيرها. وهؤلاء الكلدانيّون يتوهَّمون أنَّهم يقدرون أن يحصلوا على ذلك. وكلُّ ما يفعلونه من خطأ أو صلاة، وكلُّ ما يحصل لهم من أمور في الغنى والفقر والمرض والصحَّة وفساد الجسد، إنَّ هو إلاَّ من صُنْع الكواكب المسمّاة سبعة«(34).

 

نلاحظ أوَّلاً اسم »بَريَمو« الذي يعني ابن اليمّ والبحر، وهو لقب لمرقيون الذي وُلد على شاطئ البحر الأسود فلقِّب بابن اليمّ كما لقِّب برديصان بابن ديصان، نهر مدينة الرها.

 

ونلاحظ ثانيًا أنَّ فنَّ الكلدانيّين هو فنُّ التنجيم وأنَّه تركه الآن. هذا الفنُّ الذي بدأ منذ التاريخ القديم مع السومريّين والأكاديّين والبابليّين قبل أن ينتقل إلى اليونان والرومان، لم يسلم منه أيُّ مفكِّر في الشرق أكان برديصان أم ماني أم بوسيدون أم بطليموس، دون أن نستطيع التمييز بين ما هو علم الفلك (الأسترونوميا) وما هو فنّ التنجيم (الأسترولوجيا)، بين ما هو توقُّع وتبصُّر مبنيٌّ على أُسس علميَّة وحسابيَّة، وما هو تنبُّؤ وتكهُّن يرتبط بعلم المعرفة وأساليبها المطبوعة بالسرّيَّة.

 

اتَّسم في هذا المجال فكرُ برديصان بعناصر أسترولوجيَّة وعناصر مأخوذة من الفكر المسيحيّ، وامتزج التيّاران في ما كُتب بحيث لا نستطيع أن نفصل الواحد عن الآخر. وهذا التمازج بين الأسترولوجيا والفلسفة سبق الرواقيّون وعرفوه فنظَّموا فلسفة كاملة عن الحياة والكون. كلُّ هذا عرفه برديصان، ولمّا جاء إلى المسيحيَّة مدفوعًا بنزعة فضوليَّة، دمج فلسفتَه القديمة بعناصر معرفته الجديدة.

 

ذكرنا في ما سبق شروحًا عن أمور تقع خارج إرادة الإنسان، الغنى والفقر، المرض والصحَّة، العيب في الجسم، وهذه يسبِّبها القدر المتجسِّد في الكواكب. يقول برديصان:

 

»بالنسبة إليَّ، يبدو لي، بحسب ضعفي، أنَّ هذه البدع الثلاث التي ذكرناها، فيها من الصحَّة وفيها من الخطأ. هي صحيحة لأنَّ الناس يتكلَّمون بحسب الشبه الذي يتراءى لهم، وهم يرون الأمور كما تعرض لهم. وهي خاطئة لأنَّ حكمة الله أقامت العوالم وخلقت البشر ورتَّبت المدبِّرين ووهبت للخلائق والعناصر والبشر والحيوانات، وكلُّ هذه الطغمات التي تكلَّمت عليها لم يُعطَ لها أن تتسلَّط على كلِّ شيء. فالمسلَّط على كلِّ شيء هو واحد، أمّا الباقون فهم مسلَّطون على شيء وغير مسلَّطين على شيء آخر، كما قلت، لتظهر نعمة الله في الذين أعطيَ لهم سلطان والذين لم يعطَ لهم سلطان«(35).

 

إنَّنا نجد أنَّ كلَّ سلطة في الكون ترجع في النهاية إلى الله، وأنَّ الله يفوِّض سلطته بالتسلسل، فيكون لبعض الخلائق سلطان على البعض الآخر. هذه السلطة تنحدر من أعلى إلى أسفل، وتبقى هكذا سلطة الله هي التي تعمُّ الكون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عبر ما تعطيه لبعض الخلائق من سلطان. أجل، إنَّ كلمة الله بسلطتها الخلاّقة قسمت هذه السلطة، ولكن داخل حدود. وهذا يعني أنَّ عناصر الكون، ومنها الإنسان، هي حرَّة من جهة وغير حرَّة من جهة ثانية، لها سلطان على أشياء وليس لها على غيرها. إنَّ امتلاك السلطة هو نتيجة الحرِّيَّة الآتية من الله.

 

قرأنا في النصِّ الذي أوردناه كلمتين لهما مدلولهما في عالم فنِّ التنجيم: المتسلِّط (شليطفو في السريانيَّة) والمدبِّر (مدبرنو في السريانيَّة). يستعمل الكاتب الكلمتين بصيغة الجمع ليدلَّ على الكواكب التي تتمتَّع بسلطان على عالم الأرض، وعلى النجوم التي بظهورها ومكانتها في السماء تدبِّر حياة البشر وتسوسهم وترشدهم وتنير لهم الطريق. أمّا السبعة فهي الكواكب الخمسة مع الشمس والقمر. وأمّا العناصر فهي الأرض والبحار. إنَّ سلطة الكواكب والقدَر تبدأ حيث تنتهي سلطة الإنسان ومدى حرِّيَّته.

 

هنا يبيِّن برديصان كيف أنَّ القدَر الذي يمثِّل سلطة أبراج السماء على الأرض، يدبِّر أمور الإنسان في مجال لا سلطة للإنسان عليه. نودُّ كلُّنا أن نتمتَّع بالغنى والصحَّة والسلطة، ولكنَّ الغنى والصحَّة والسلطة ليست ملك الجميع، إنَّ هي إلاَّ مُلك الأقلِّيَّة الضئيلة. أولادُنا يُفرحوننا أو يؤلموننا، بعضنا يحصل على أكثر ممّا يتمنّى ويحصل بعضنا الآخر على ما لا يريد، تصيبنا الأحداث فنقبلها أو لا نقبل، ومن الواضح أنَّ لا سلطة لنا عليها. هذا هو حظُّنا من القدَر، ويُنهي برديصان كلامه فيقابل بين القدَر والطبيعة وبين دور كلٍّ منهما فيقول:

 

»نتكلَّم الآن فنعطي برهانًا على القدَر: ليس له سلطان على كلِّ شيء، لأنَّه، وهو المدعوُّ قدرًا، ليس إلاَّ ترتيب المسيرة التي وهبها الله للمسلَّطين (أي الكواكب والشمس والقمر) والعناصر (أي الأرض والبحر). وبحسب هذه المسيرة وهذا النظام، تتغيَّر الأرواح من حالة إلى أخرى بانحدارها إلى النفس، وتتغيَّر الأنفس من حالة إلى أخرى بانحدارها إلى الأجساد. وهذا التغيُّر هو ما يسمَّى القدَر والطالع(36). إنَّ هذا التجمُّع يُغربَل ليكون في عون من ساعده الله وسوف يساعده بحنانه ونعمته إلى نهاية كلِّ شيء. ينقاد الجسد بحسب الطبيعة، بينما تتألَّم النفس وتشعر معه، غير أنَّ القدَر لا يضايق الجسد ولا يعينه في كلِّ أمر فرد يقوم به. فالرجل لا يكون أبًا قبل الخامسة عشرة من عمره، ولا تكون الإمرأة أمٌّا قبل الثالثة عشرة. وكما أنَّ لبداية الإنجاب ناموسًا، كذلك لنهاية الإنجاب في الشيخوخة ناموس، فتُحرم النساء من الحبَل ويخسر الرجال قوَّة الإنجاب الطبيعيَّة… ولا يستطيع القدَر أن يعطيهم أولادًا في وقت لم يعد للجسد فيه قدرة طبيعيَّة على الإنجاب، كما لا يستطيع القدَر أن يحفظ جسد الإنسان من الموت إن هو لم يأكل ولم يشرب، ولا يستطيع أن يجعله لا يموت إن هو أكل أو شرب. هذه الأمور وكثير غيرها هي خاصَّة الطبيعة.

 

»ولكن عندما تكتمل الأزمنة وأنواع الطبيعة، حينئذٍ يأتي القدَر… فيساعد الطبيعة مرَّة… ويحرمها مساعدته مرَّة أخرى…«(37).

 

بالنسبة إلى الطبيعة، كلُّ البشر ينقادون بالتساوي؛ أمّا بالنسبة إلى القدَر فبطريقة مختلفة؛ وأمّا بحرِّيَّتنا فكما يريد كلُّ واحد منّا. فالطبيعة تقف عند مستوى وظائف الحياة النباتيَّة، والقدَر على مستوى الأحداث الخارجة عن سلطتنا، والحرِّيَّة عند مستوى الآداب والأخلاق حيث الشرائع والنواميس تعلِّم الإنسان أن يكون سيِّد نفسه.

 

من الضروريّ أن نبيِّن أن ليس للقدَر سلطان على كلِّ شيء، فهو ليس إلاَّ نظامًا لمسيرة الكون كما حدَّدها الله، وهو هنا ليساعد مَن يريد المساعدة. فالقدَر وضعه الله وجعله مسيرة ثابتة ترسمها الكواكب في كلِّ الفلك. ولهذا فكلُّ قوَّته تأتيه من الله، وهي تؤهِّله ليؤثِّر على الأرواح والأنفس النازلة عبر دائرة (أو حلقة. راجع الكلمة السريانيَّة »حلقو« التي تعني القدَر) الكواكب المختلفة إلى جسم الإنسان. عندما تنزل روح الإنسان ونفسه إلى جسمه في وقت الولادة، تحدِّد مجموعة أفلاك السماء حينئذٍ مصير حياته في ما بعد: أيكون غنيٌّا أم فقيرًا؟ أيكون له المرض أم الصحَّة؟

 

هـ – الإنسان

 

انطلاقًا من كلِّ ما قلناه، يمكننا أن ننظر إلى الإنسان كما يتصوَّره برديصان. الإنسان مركَّب من الروح والنفس والجسد. لا يستعمل برديصان كلمة »روحو« السريانيَّة ليعبِّر عن عنصر الروح، مع أنَّ الكلمة مشتركة بين اللغات الساميَّة (ونقرأها في الكتب المقدَّسة). والسبب في ذلك هو، ولا شكَّ، أنَّ كلمة »روحو« السريانيَّة تعني الروح والريح، والريح هي أحد العناصر الأربعة الأولى، التي هي من عالم الأرض، بينما روح الإنسان هي من عالم السماء. فهو إذًا يستعمل كلمة »مدعوّ«(38) التي تدلُّ على العِلم والمعرفة والعقل، وهذا ما يجعلنا قريبين من التيّار الغنوصيّ الذي يجعل خلاص الإنسان في العِلم والمعرفة(39). أمّا النفس فهي صلة الوصل بين عالم الأرض وعالم السماء. فإذا كانت الروح تعرف الأمور تكون أداة الإحساس والإدراك البشريّ. وهكذا نستطيع القول، في خطِّ فكر برديصان، إنَّ الروح هي عالم الحرِّيَّة، والنفس عالم القدَر، والجسد هو عالم الطبيعة.

 

إنَّ هذه الثلاثيَّة التي نقرأها في برديصان تلتقي وما نعرفه عن ثلاثيَّة اليونان (Trichonomie). فكلمة nouV اليونانيَّة تقابل »مدعوّ« (أو »رعينو«) السريانيَّة التي ترجمناها بكلمة الروح، وكلمة yuch اليونانيَّة تقابل في السريانيَّة »نفشو« أو النفس، وكلمة »swma« ومعناها الجسد، تقابل السريانيَّة »فغرو«.

 

إنَّ الفكر اليونانيّ عرف منذ القديم أن يميِّز بين معطيات الكون إجمالاً. فهناك nouV، أي العقل والروح، الذي يقف بعيدًا عن عناصر الكون والذي هو نقيٌّ بحيث لا يعرف أيَّ تركيب؛ جاء إلى العالم فجعل النظامَ حيث كانت الفوضى مسيطرة على عناصره؛ وسوف يشدِّد أفلاطون على خلود الروح وعلى معرفتها المثُل لأنَّها من عالمها(40). ثمَّ إنَّ هناك النفس(41)، وتعني الحياة التي تترك الحيَّ عند موته عبر الفم أو عبر جرح من جروحه(42). وهناك الجسد الذي هو بالنسبة إلى الإنسان »سجن« أو »قبر«. فنستطيع القول بأنَّ الإنسان يملك جسمًا، أو بأنَّ النفس هي صورة الجسد الجوهريَّة.

 

ونعود إلى نظرة برديصان فنرى أنَّ الروح تأتي مباشرة من الله الذي أعطى الإنسان الحرِّيَّة. وهكذا ترتبط الحرِّيَّة بروح الإنسان. أمّا الحدود الموضوعة للحرِّيَّة فتأتيه من القدَر المتجسِّد في حلقة النجوم والكواكب. وأمّا النفس فترتبط بالقدَر الذي يحدِّد حظوظ الإنسان. وأمّا البنية الطبيعيَّة فهي خاصَّة بالجسد. وهكذا تجتمع، من جهة، الروح والنفس والجسد، وتجتمع، من جهة أخرى، الحرِّيَّة والقدَر والطبيعة. في داخل الجسم البشريّ تشكِّل النفس والروح وحدة متماسكة، وتنزلان سويَّة عبر حلقة الكواكب، فتُحدِّد مسيرة الإنسان، وفي الوقت ذاته تتمسَّك الروح بالحرِّيَّة المعطاة لها من الله.

 

كلٌّ من البنية الطبيعيَّة والقدَر والحرِّيَّة له حقله الخاصّ، وحيث يتوقَّف تأثيرُ الواحد يبدأ تأثير الآخر. فقدرة الإنسان على الإنجاب مثلاً ترتبط ببنيته الطبيعيَّة، ولكن عندما تنتفي هذه القدرة، فالقدَر نفسه لا يستطيع أن يفعل شيئًا ليساعده على الإنجاب. لا يستطيع الإنسان أن يعيش من دون طعام، وهذا أمر يتعلَّق بالبنية الطبيعيَّة، والقدَر أيضًا لا يستطيع أن يحفظ الإنسان على قيد الحياة من دون طعام.

 

هناك ظروف نرى فيها القدَر يتدخَّل فيُعين الطبيعة أو يعارضها. لا يعطي برديصان أمثلة عن قدرة القدَر على مساعدة الطبيعة، بل يذكر أمثلة عن إمكان معاكسة القدَر للطبيعة: فالقدَر يلعب دوره أمام صعوبات الزواج، ويكون سبب موت طفل في عمر مبكِّر أو تكوينه تكوينًا معاهًا. ولولا القدَر لما كان المرض والجفاف، ولولاه لما انقلب النظام الاجتماعيّ رأسًا على عقب فسيطر الصغار على الكبار والجهّال على العقلاء.

 

ويلقي برديصان كلامه بلهجة تأكيديَّة فيقول: »أعرف معرفة صريحة أنَّ كلَّ مرَّة تفسد الطبيعة فتبتعد عن استقامتها، ففسادُها سبَبُه القدَر«(43). من هذا الكلام وغيره نستنتج أنَّ في الطبيعة بعض الاستقامة، وأنَّ بنية الإنسان الطبيعيَّة هي طبيعته الحقَّة، وهي الشكل المثاليّ لوجوده البشريّ. غير أنَّ القدَر يؤثِّر في الطبيعة شرٌّا أو خيرًا. فالصدق والاستقامة عند الإنسان يعنيان الحياة بحسب الطبيعة، كما يقول الرواقيّون؛ وعندما تنتفيان من الإنسان، قُلْ هو القدَر، هي الحرِّيَّة.

 

النقاوةُ في الإنسان أمرٌ أوَّليّ، غير أنَّه ككلِّ الكائنات لا يحافظ على نقاوته الأولى وطبيعته الحقَّة، لأنَّه مبنيٌّ من عناصر امتزجت بالظلمة فخسرت بعضًا من طبيعتها. وبما أنَّ الظلمة تشكِّل جزءًا من الإنسان، لم يعد الإنسان يتمتَّع بطبيعته الصحيحة السليمة كما أُعطيت له، وهذا ما يجعلنا قريبين من المانويَّة(44).

 

أجل، إنَّ القدَر يستطيع أن يضع البلبلة في الطبيعة، ولكنَّ الحرِّيَّة أقوى من القدَر، إن لم يكن في كلِّ شيء، فأقلَّه في أمور محدَّدة. يقول برديصان:

 

»وكما رأينا أنَّ القدَر يسحق الطبيعة، هكذا نستطيع أن نرى حرِّيَّة الإنسان ترمي القدَر أرضًا وتسحقه. هي لا تسحقه في كلِّ شيء، كما أنَّه هو لا يسحق الطبيعة في كلِّ شيء. فيجدر بهذه الثلاثة، أي الطبيعة والقدَر والحرِّيَّة، أن يحافظ كلُّ واحد منها على طريقته الخاصَّة بالحياة، إلى أن تتمَّ المسيرة«(45).

 

وتبقى المسألة الأخيرة: إذا كانت بنيةُ الإنسان الطبيعيَّة لا تدفعه أصلاً إلى أن يخطأ، فهل يكون للقدَر أن يحدوه على عمل السوء؟ لا، يقول برديصان، لأنَّ للإنسان حرِّيَّة الإرادة التي تدفع طبيعته إلى الاقتراب من الخير والحذر من الشرّ. وهكذا تبدو طبيعة الإنسان مرتبطة بطريقة غير مباشرة بعالم الأخلاق. أجل، إنَّ الطبيعة، بما فيها من طبيعة محض، تتوجَّه دومًا شطر الخير فلا يبلبلها القدَر أو يُفسدها. وسوف يبيِّن أنَّ القدَر لا يؤثِّر في أعمال الإنسان الأخلاقيَّة أو الاأخلاقيَّة، فينطلق في عمليَّة تقصٍّ واسعة في شرائع البلدان المختلفة.

 

إنَّ قرار القدَر لا يدفع كلَّ إنسان إلى أن يعمل بالشكل ذاته. ومن هنا يستنتج برديصان أنَّ الإنسان لا يخطأ بسبب قدَره المتجسِّد في مجموعة النجوم ساعة ولادته(46). بما أنَّ الناس في البلد الواحد وُلدوا تحت مجموعة نجوم متنوِّعة، وبما أنَّهم يعملون بشرائع ونواميس واحدة رتَّبوها ونظَّموها، فهذا يعني أنَّ حرِّيَّة الإنسان أقوى من القدَر وتأثيرِ الكواكب. وهكذا نقول إنَّ القدَر لا يحدِّد سلوك الإنسان، وإنَّ الإنسان لا يخطأ بسبب تأثير القدَر. إنَّ ما يحدِّد سلوك الإنسان هو الحرِّيَّة، وإنَّ الإنسان يستطيع، مهما كانت الظروف، أن يوجِّه حياته شطر الخير أو شطر الشرّ، وهو عندما يخطأ يفعل ذلك لا مدفوعًا بالقدَر والقضاء، بل بحرِّيَّة الإرادة والاختيار.

 

الخاتمة

 

تلك بعض لمحات سريعة عن برديصان الرهاويّ، عن حياته التي امتزج فيها الواقع بالأسطورة، وعن فكره الذي اتَّخذ منحى جديدًا لم يكن لأحد أن يتوقَّعه. كتب كتابه عن القدَر ولجأ إلى أمثلة مأخوذة من شرائع البلدان ليدلَّ على أنَّ الحرِّيَّة هي أسمى ما في الإنسان، ففهم الناس من بعده أنَّ كتابه نفي للحرِّيَّة وبرهان على وجود القدَر. غريب أمر هذا الرجل الذي أثَّر فكره في ماني وتلاميذه وأفرام ومدرسته، وظلَّ الناس يتحدَّثون عنه أجيالاً بعد موته. أما يستحقُّ أن نخصَّه بدراسة وافية تبيِّن حضوره في عالم الشرق وتُظهر كيف انتقل فكره إلى الفلسفة المسيحيَّة والإسلاميَّة، فدرسه السريان واليونان والعرب وأعطونا نواحي مختلفة عن رجل يمثِّل الكثير من تراثنا الفكريّ؟

 

(1) W. CURETON, Spicilegium syriacum containing remains of Bardesane, Meliton, Ambrose and Mara bar Serapion, ed. With English transl, and notes, London, 1855

 

(2) عن سيرة برديصان، راجع: B. ALTANER, Précis de Patrologie, Paris, 1961, p. 139; G. BARDY, Bardésane, les bardésanites, dans DHGE, VI, col 765-769; Catholicisme, I, col. 1245-1247, Paris, 1948; F. CAYRE, Précis de Patrologie, Paris, 1927, pp. 365-366; F. NAU, Bardésane… dans DTC, II (1923), col 291-401; J. QUASTEN, Initiation aux Pères de l’Eglise, vol I, pp. 300-302, Paris, 1955; H.J.W. DRIHVERS, Bardaisn of Edessa,Assen 1966.

 

– ألبير أبونا، أدب اللغة الآراميَّة، بيروت، 1970، ص 58-66.

 

– كامل مراد ومحمَّد البكري، تاريخ الأدب السريانيّ من نشأته إلى الفتح الإسلاميّ، مصر، 1949، ص 57-65.

 

– البطريرك أفرام برصوم، اللؤلؤ المنثور، حلب، 1956، ص 240.

 

(3) الرها واسمها الحالي أورفا. أمّا اليونان والرومان فلقّبوها بأوذيسا بسبب غزارة مياهها، بعدما سمّاها سلوقس الأوَّل على اسم مدينة في مقدونية. R. JANIN, dans DHGE, XVI (1960), col. 1420-1421; G. BARDY, Edesse, dans : Catholicisme, III (1952), col. 1331-1334; J.B. SEGAL, Edesse, the Blessed City, Oxford, 1970

 

(4) اسمه الكامل: سكستوس يوليوس أفريكانوس (+ 240). رافق سبتيموس ساويروس، الإمبراطور الرومانيّ (193-211) إلى الرها سنة 195، وهناك شاهد برديصان ولقَّبه بالفراتيّ. ويسمّي المدينة الرها الفراتيَّة (راجع: QUASTEN, op.cit., vol. II, pp. 165-166

 

(5) يقول أبيركيوس عن نفسه إنَّه خلال سفره الطويل إلى المشرق عبَرَ الفراتَ وزار الرها وسائر كنائس بلاد الرافدين حيث عمل بنجاح ضدَّ المرقيونيّين والتقى ببعثة من المسيحيّين على رأسها برديصان المشهور بأصله وغناه.

 

Th. NISSEN, Die Petrusakten und ein bardesanistischer Dialog, dans der Aberkiosvita, II, ZNW, 9 (1908), pp. 315-328 et surtout p. 328; H. GREGOIRE, Bardésane et S. Abercius, dans Byzantion, T. 25-27 (1955-1957), pp. 363-368.

 

(6) Voir EUSèBE DE CéSARéE, Histoire Ecclésiastique, IV, 30.

 

(7) Voir JéROME, Adv. Jov. 2, 14; P.L. XXIII, col. 317 et De Viris illustribus, XXXIII

 

(8) بالنسبة إلى سنة ولادته وسنة وفاته، راجع مخائيل السريانيّ: J. B. CHABOT, Paris, 1900-1901, en 4 volumes, vol. I, p. 109-111; P.O., XIII, P. 255-256, Paris, 1916

 

(9) SOZOMENE, P.G., LXVII, col. 953-1630, et le corpus de Berlin, J. BIDEZ, Sozomenus Kirchengeschichte, GCS, 50, Berlin, 1960

 

(10) راجع أناشيد أفرام ضدَّ المبدعين، 1/9-18؛ 2/1؛ 3/7-8. ببرديصان طارت ضلالة اليونان، فعلَّم أنَّ الربَّ خلق كلَّ شيء وأتقن كلَّ شيء. ثمَّ بماني تسلَّط الكذب الآتي من بلاد الهند، فأدخل قوَّتين تحارباننا. ثمَّ ذكر مرقيون ثلاثة أصول. وهكذا كثَّروا عدد الآلهة ليكونوا بدون إله (3/7).

 

(11) يقول ربّولا هذا الكلام عندما كتب سيرة حياته. راجع: J. J. OVERBECK, S. Ephraemi Syri, R. Balaei aliorumque opera selecta, Oxonii 1865, pp. 159-209. Pour la traduction française, voir F. NAU, dans: Revue histoire des Religions, 103 (1931), pp. 97-135.

 

(12) كتب يعقوب اثنتي عشرة رسالة إلى العموديّ يوحنّان مجيبًا إلى سؤال عن أصول مختلفة.

 

يذكر يعقوب ولنتين ومرقيون دون أن يتحدَّث عن علاقتهما ببرديصان.

 

(13) ابن النديم، الفهرست، الطبعة الألمانيَّة (Z.D.N.6)، سنة 1859، الجزء الثالث عشر، ص 642.

 

راجع أيضًا المسعوديّ، كتاب التنبيه والإشراف، طبعة لايدن، سنة 1898، ص 101.

 

وابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، القاهرة، 1317/1899، الجزء الأوَّل، ص 35-36.

 

(14) Philosophoumena ou Réfutation de toutes les heresies (VII, 31, 1). Voir, P. WENDLAND, Hippolytus Werke, 3o Band, Refutatio omnium haeresium, GCS, 26, Leipzig, 1916. Trad. frse. A. SIOUVILLE, Philosophoumena ou Réfutation… trad. et notes (coll. Les texts du Christianisme), Paris, 1928.

 

(15) راجع: Mani seine Lehre und seine Schrift aus dem Fihrist… Von G. Flügel, Leipzig, 1862, pp. 161-162

 

(16) اكتشفت في مخطوطة سريانيَّة سنة 1905 وهي تتكوَّن من أربعين موشَّحًا. راجع ترجمة جورج صابر، بيروت، 1973. لا يمكن الموشَّحات أن تكون من وضع برديصان، فهي تتحدَّث عن حياة شظف وتقشُّف، بينما عرف برديصان الأرستقراطيّ أن يفيد من مباهج الحياة، راجع: , pp. 183ss.op. cit. QUASTEN,

 

A.F. J. KLIJN, The Acts of Thomas, Suppl. Nov. Test. V, Leiden, 1962(17)

 

ترجمت هذه الأعمال إلى اليونانيَّة والأرمنيَّة والحبشيَّة واللاتينيَّة. يبدو أنَّ كاتب هذا الكتاب هو من شيعة البرديصانيّين. راجع: pp. 158-160 op. cit, QUASTEN,

 

(18) أسقف سرديس في ليدية (تركيّا اليوم). عاش في القرن الثاني والَّف كتبًا لم يبقَ لنا منها إلاَّ بضعة مقاطع قصيرة مبعثرة في بطون الكتب. نُسب إليه دفاع عن الدين المسيحيّ في السريانيَّة. راجع: , pp. 273-281.op. cit QUASTEN,

 

(19) ترجم كتاب شرائع البلدان إلى اللغات الأوروبّيَّة المتعدِّدة.

 

H.J.W. DRIJVERS, The Book of the Laws of Countries, Dialogue onFate of Bardesane of Edesse, Assen, 1965.

 

  1. NAU, Bardésane l’Astrologue, le Livre des Lois des Pays. Texte syriaque et trad. frse., Paris, 1899; G. LEVI DELLA VIDA, Bardesane. Il dialogo delle Leggi dei Paesi, Roma, 1921; H. WIESMANN, Die Schrift über die Gesetze der LنnderJahre Stella Matutina Feldkirche, 1931, pp. 553-572.

 

(20) EUSEBIUS, Preparatio Evangelica, GCS, 43, 1, Berlin, 1954; EPIPHANE,

 

Panarion, Bd II, GCS, 31, Leipsig, 1922.

 

(21) شرائع، 1. نورد النصَّ بناء على المرجع السريانيّ كما حقَّق فيه وترجمه إلى اللاتينيَّة F. NAU, Patrologia Syriaca, pars prima, tomus secundus, col. 536-611, Paris, 1907

 

مقابلة بين ما هو جهل وحماقة وإثم وخطأ (سكلو في السريانيَّة)، وما هو طيِّب (طوب في السريانيَّة) وجيِّد وحسن.

 

(22) شرائع، 5. الإيمان والاقتناع. الأوَّل يستند إلى الوحي والثاني إلى العقل (رعينو في السريانيَّة).

 

(23) راجع: E. C. BLACKMANN, Marcion and his influence, London, 1949; A. VON HARNACK, Marcion, Das Evangelium von fremden Gott, Darmstadt, 1960, p. 93-102.

 

(24) العبارة المعروفة عند الرواقيّين: ما يوافق الطبيعة (jusin atak في اليونانيَّة) وما يعارض الطبيعة. راجع:

 

  1. BRéHIER, Histoire de la Philosophie, t. I : L’Antiquité et le Moyen Age, Fasc 2, période hellénistique et romaine, Paris, 1967, p. 284ss; G. FURLANI, “Sur le Stoïcisme de Bardésane d’Edesse”, Archiv. Orient., IX (1937), pp. 347-352

 

(25) راجع: أبيكتات، المقالات. المقالة الثانية 14: 7؛ المقالة الثالثة 26: 35.

 

(26) شرائع، 6-7. لأنَّ الكثيرين لا إيمان لهم فإنَّهم لا يستطيعون أن يقتنعوا، فيهدمون في كلِّ وقت ويبنون.

 

(27) شرائع، 10. نحن هنا أمام نظرة شرقيَّة انتقلت إلى عالم اليونان، وهي تعتبر أنَّ البساطة كمال وأنَّ التركيب نقص. عندما تمتزج الكائنات البسيطة تتدخَّل الظلمة ويمتلئ العالمُ شرٌّا.

 

(28) الروح تترجم لا الكلمة السريانيَّة روحو بل رعينو التي تقابلها في اليونانيَّة كلمة »nouV« والتي تعني العقل والفكر والروح وهي قمَّة الإنسان.

 

(29) شرائع، 10-11. الكلمة الأساسيَّة »اشكح « في السريانيَّة، وهي تعني استطاع، قدر على الشيء وأطاقه. نحن أمام حرِّيَّة الإرادة والاختيار: أن تقدر أن تفعل الخير أو الشرّ، أن لا تقدر أن تفعل الخير أو الشرّ.

 

(30) شرائع، 14. ترجمنا الكلمة السريانيَّة »كيونو« بالعربيَّة »كيان« أو الطبيعة والخليقة، وسوف نترجم كلمة »فوسيس « السريانيَّة (راجع: jusiV اليونانيَّة وتعني nature, manière d’être بالطبع. راجع: A. W. KLIJN, The Word k’jan in Aphraates, Vigiliae christianae, 12 (1958), pp. 57-67

 

(31) شرائع، 16-17. أين هي طبيعة الإنسان، والبشر يتميَّزون الواحد عن الآخر بأعمالهم ورغباتهم؟…

 

(32) شرائع، 15. كلُّ حيوان يتصرَّف محافظًا على طبيعته الخاصَّة به، وكذلك الإنسان.

 

(33) القدَر ترجمة للكلمة السريانيَّة »حلقو«، والفعل منها يعني وزَّع الشيء وفرَّقه. هناك كلمتان يونانيَّتان الأولى moira وتعني القدَر المشخصن، والثانية Eimarmenh وتعني النصيب كما يحدِّده القدَر.

 

(34) شرائع، 18. هذا رأي، ويقابله رأي آخر يقول إنَّ القدر غير موجود وهو اسم فارغ.

 

(35) شرائع، 19.

 

(36) الطالع يترجم السريانيَّة »بيت يلدو«، وهو ما يتفاءل به من السعد أو النحس بطلوع الكواكب عند ولادة الولد.

 

(37) شرائع، 20-21. هناك ابتعاد عن المعنى الحرفيّ للنصّ، وهو موجز جدٌّا، ليسهل فهمه.

 

(38) يستعمل برديصان أيضًا كلمة »رعيونو« وهي مرادفة لكلمة »مدعوّ« وهي تعني الرأي والضمير والعقل، والفكر والنيَّة.

 

(39) راجع كلمة gnwsiV في اليونانيَّة. E. BUONAIUT, Le gnosticisme, Roma, 1907; E. DE FAYE, Gnostiques et gnosticisme, Paris, 1913; H. LIESEGANG, Die Gnosis, Stuttgart, 1955.

 

(40) راجع: vol. Encyclopaedia Universalis, S. PETREMENT, Dualisme, dans:

 

V, col 826.

 

(41) النفس: animus. راجع anima في اللاتينيَّة، وتعني الريح والنفس. ثمَّ جاءت كلمة qumoV، وهي ترتبط بالدم وتدلُّ على الهوى والإرادة والروح، وكلمة yuch التي تدلُّ على الحياة وترتبط بفعل التنفُّس وتذكِّرنا بالنفَس المنعش عندما يتنفَّس الكائن الحيّ. إنَّه من المدهش أن نجد ما قرأناه عند اليونان حاضرًا في اللغة العربيَّة حيث النفْس (بتسكين الفاء) تعني الروح والدم، وحيث النفَس (بفتح الفاء) تعني نسيم الهواء والريح الذي يدخل ويخرج من فم الحيّ!

 

(42) , I, col 841ss.Ency. Universalis H.D. SAFFREY, L’âme, dans:

 

(43) شرائع، 21.

 

(44) راجع: H.C. PUECH, Le Manichéisme, Paris, 1949, pp. 74ss; G. .

 

; G. WIDENGREN, Mani und der Manichism, Stuttgart, 1961, pp. 48ss.

 

(45) شرائع، 22. هنا يذكر برديصان المدَّة اللازمة لكي تتمَّ هذه المسيرة: ستَّة آلاف سنة. هذه الفكرة توسَّع فيها جاورجيوس، أسقف العرب، مبيِّنًا كيف حسب برديصان هذه الستَّة آلاف سنة، منطلقًا من الفترة التي يحتاج إليها كلُّ كوكب لكي يكمل مسرته. راجع: F. NAU, Journal Asiatique, 1901, pp. 209-215; T. JANSMA, L’Hexaméron de Jacques de Sarough, dans L’Orient Syrien, IV (1959) 26ss et 277ss.

 

(36) شرائع، 23-24. قال عويدا: الإنسان لا يخطأ بسبب طبيعته. هذا ما اقتنعتُ به من برهانك أنَّ كلَّ الناس لا يتصرَّفون بطريقة مماثلة. فإن كان لك أن تبرهن لنا أنَّ الذين يخطأون لا يخطأون بسبب القدَر (حلقو في السريانيَّة) والقضاء (فوسقو في السريانيَّة)، فحينئذٍ يجب أن نعتقد بأنَّ للإنسان حرِّيَّة خاصَّة به وأنَّه بطبيعته يتقرَّب إلى الخير ويحذر الشرّ، ولأجل ذلك هو يُدان بعدل في اليوم الأخير.

 

لا بدَّ من التنويه بالنظرة السامية القديمة التي نقرأ شكلاً من أشكالها في الكتاب المقدَّس. في هذا الإطار يبدو الإنسان مكوَّنًا من ثلاثة عناصر: النفس ( )، بثر (اللحم والجسم. راجع »بشر« في العربيَّة) والروح . فالنفس تعني الحلق، وجهة التنفُّس، وتدلُّ كذلك على كلِّ شهوة ورغبة، وأيضًا على »الأنا«؛ »نفش« هي الشخص. أمّا »بثر « فهي التعبير الملموس عن النفس، أي القلب والكلى والكبد، يعني الجسم كمعبّر عن عواطف النفس. غير أنَّ ما يضمن وجود المركَّب »نفش- بثر ) هو الروح الذي انتقل إلى الإنسان من الله عندما نفخ فيه نسمة الحياة (تك 2: 3). فالروح هو ما يربط الإنسان بالله، هو حضور الله في الإنسان.

 

برديصان الرهاوي ف3 – فيوض في الفكر المشرقي – الخوري بولس الفغالي