آبائياتأبحاث

هل الله هو الأول في حياتك؟ ج3 – الأب أنتوني م. كونيارس

هل الله هو الأول في حياتك؟ ج3 - الأب أنتوني م. كونيارس

هل الله هو الأول في حياتك؟ ج3 – الأب أنتوني م. كونيارس

هل الله هو الأول في حياتك؟ ج3 - الأب أنتوني م. كونيارس
هل الله هو الأول في حياتك؟ ج3 – الأب أنتوني م. كونيارس

 

 

هل الله هو الأوَّل في حياتك؟

اطلبوا أوَّلاً ملكوت الله وبرَّه، وهذه كلُّها تُزاد لكم

 

لماذا جاء المسيح؟

بالإضافة إلى ما يُعلِنه السيِّد المسيح ليُعبِّر عمَّن يكون هو بالأقوال: «أنا هو I am», نجده يُعلِن عن سرِّ مجيئه إلى العالم بالقول: «جئتُ I came»:

«لا تظنُّوا أنِّي جئتُ لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئتُ لأنقض بل لأكمِّل» (مت5: 17).

«لأنِّي لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة» (مت9: 13).

«لأنَّ ابن الإنسان قد جاء لكي يطلُب ويُخلِّص ما قد هلك» (لو19: 10).

«ابن الإنسان لم يأتِ ليُخْدَم بل ليخدِم, ويبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مت20: 28).

«لأنِّي قد نـزلتُ من السماء, ليس لأعمل مشيئتي, بل مشيئة الذي أرسلني» (يو6: 38).

«أتيتُ ليكون لهم حياة, وليكون لهم أفضل» (يو10: 10).

«الآن نفسي قد اضطَرَبَت. وماذا أقول: أيُّها الآب نجِّني مِن هذه السَّاعة؟ ولكن لأجل هذا أتيتُ إلى هذه السَّاعة. أيُّها الآب, مجِّد اسمك! فجاء صوتٌ مِن السماء: “مجَّدتُ وأُمجِّد أيضًا”» (يو12: 27-28).

   «أنا قد جئتُ نورًا , حتى كل مَن يؤمِن بي لا يمكث في الظُّلمة» (يو12: 46).

«… لم آتِ لأدين العالم بل لأُخلِّص العالم» (يو12: 47).

«لهذا قد وُلِدتُ أنا, ولهذا قد أتيتُ إلى العالَم لأشهد للحق. كلُّ مَن هو مِن الحق يسمع صوتي» (يو18: 37).

«خرجتُ مِن عند الآب, وقد أتيتُ إلى العالم, وأيضًا أترك العالم وأذهب إلى الآب» (يو16: 28).

بعد رؤية هذه التَّصريحات الرَّائعة التي نطق بها السيِّد المسيح ابن الله, كيف لا نُعطيه الأولويَّة في حياتنا؟

سجناء الأمور غير المهمَّة

تصبح الحياة سجنًا عندما تصير الأمور غير المهمَّة كليَّة الأهميَّة. التفاهة وما ليس له قيمة يأخذان وضعهما ليربكا وضع الأولويَّات في حياتنا, وعادة ما تكون لحساب الأسرة والأصدقاء فيما يأخذ الله خطوة إلى الخلف, وتأخذ الأمور غير الضَّروريَّة المكانة الأولى. لم يستطع الشَّاب الغني أن يتخلَّى عن انشغاله بالأمور غير المهمَّة حتى يتبع المسيح, فكان سجينًا للأمور غير المهمَّة.

كثيرون يُشبهون فيلكس الوالي الروماني الذي قال لبولس: «أمَّا الآن فاذهب, ومتى حصلتُ على وقتٍ أستدعيك» (أع24: 25), والوقت لم يأتِ أبدًا. ولا زال آخرون كثيرون مثل يهوذا الإسخريوطي يقعون ضحيَّة لِلَمعان الفضَّة. لا زالت هناك ضغوط تضغط علينا لنكون سجناء الأمور غير الهامَّة, لذا أوصانا السيِّد المسيح: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

قصَّة:

ذهبت طفلة ذات ثلاثة أعوام مع جدَّيها إلى المدفن حيث ترقُد الجدَّة الأكبر. قالت البنت لأمِّها: “لماذا لم تأخذ الجدَّة عكَّازها وأقراطها معها؟” أجابتها الأُم: “هي لا تحتاج تلك الأشياء بعد”. سوف يأتي الوقت الذي فيه لن نحتاج هذه الأمور بعد. كل تلك الأمور غير المهمَّة التي نعتبرها ذات أهميَّة قصوى لن نحتاج إليها فيما بعد. وعندئذٍ ما هو مهم بالفعل سوف يصبح واضحًا جدًّا, وسوف يوضع كل شيء في مكانه الصَّحيح. «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

جون واناماكر

كان جون واناماكر John Wanamaker المدير العظيم لواحد من المتاجر المشهورة بالولايات المتحدة الأمريكيَّة, كان مشرفًا على مدارس أحد مكوَّنة من ألف عضو. عندما سأله البعض: “كيف تجد الوقت الكافي لمدارس الأحد؟” أجاب: “تعليم الصِّغار والشباب عن السيِّد المسيح هو عملي الأوَّل, أمَّا الأمور الأخرى فأعتبرها ثانويَّة. كان هذا الرجل بالفعل على حق, فقد تعلَّم أن يطلب «أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

المشكلة لدى العديد من الناس هو أنَّه ليس لديهم غرضٌ عامٌّ أو توجُّهٌ في الحياة. فعلى سبيل المثال قارَنَ توماس كارليل Thomas Carlyle الناس بالسُّفُن, وقال إنَّ 75% من الناس يشبهون سُفُنًا بلا دفَّة, وهي عُرضَة لكلِّ تغيُّر في الرِّيح والمد والجزر, فهي تتحرَّك بلا هدف, فيما يتمنَّى ركَّابها أن تدخل الميناء, ولكن عادة ما ينتهي بها الأمر إلى الاصطدام بالصُّخور والتحطُّم عليها. ولكن عندما نعطي لله الأولويَّة في الحياة, فهذا يستبدل التجوُّل من حياة بلا هدف إلى حياة ذات هدف. كما أنَّه أيضًا يُوجِّهنا نحو الهدف الذي خلقنا الله له, وهو الاتِّحاد بالله: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

مِن سيِّئٍ إلى أسوأ

يشرح الأب بيتر جيلكويست سهولة أن نصبح مُشتَّتين عندما يتعلَّق الأمر بموضوع الأولويَّات في الحياة. ويروي الأب القصَّة التالية في مقال كان قد كتبه من قبل ويقول فيه:

”تقابلتُ منذ سنتين مع طالب جامعي كان قد ذهب إلى مؤتمر أرثوذكسي مع والدته التي أجبرته بلباقة على الحضور معها. لكن الأمور للأسف سارت من سيِّئ إلى أسوأ, فقد اشتكى الطالب في اليوم الثاني من سوء الغذاء, إلاَّ أنَّه أخذ يتحدَّث معي فقال لي: “كطفلٍ كنتُ مسيحيًّا, وخدمتُ على  المذبح وتحدَّثتُ عن الإيمان مع الأصدقاء. أمَّا الآن, فعندما تضطرب بي الأمور أذهب لأعترف ثمَّ أسقط ثانية, وأعترف مرَّة أخرى, وبعد ذلك انتابني شعور أنَّني لن أتغيَّر أبدًا, وبدا لي أنَّني كلَّما أحاوِل كلَّما تسوء الأمور”. ثمَّ قال الشاب إنَّنا مِن خلال حديثنا فإنَّ الأمور تتَّضِح أكثر. فقال له الأب: “هل تغضب منِّي إذا وصفتُ لك المشكلة؟” فأجاب الشاب: “تفضَّل وأخبرني”. قلتُ له: “في مرحلة ما في حياتك جذبك العالم والأصدقاء والرياضة والفتيات عن الطريق الرُّوحي وأبعدوك عنه, وأخذت الأمور تسوء لأنَّك نحَّيتَ الله جانبًا, وبدأت تعيش حياتك بنفسك. صرتَ مَلِكًا لنفسك وجعلتَ السيِّد المسيح رقم 19 في اهتماماتك ال20”. سألني الشاب: “كيف عرفت ذلك؟” فأجبته: “لأنَّني فعلتُ نفس الشيء لمَّا كنتُ في عمرك, فإذا كنتَ ترغب في العودة, فأنا مُستعِدٌّ أن أُساعدك لتعود إلى الله”. قابلني الشاب في ذلك اليوم وصلَّينا معًا, وقرَّر الشاب أنْ يبدأ بداية جديدة في حياته, وعلى مدى الأيَّام الباقية في المؤتمر كانت هناك ابتسامة تعلو وجهه؛ تلك التي لم تكن موجودة مِن قبل”.

كل ما فعله الشاب هو أنَّه أعاد ترتيب الأولويَّات في حياته, فقَبِلَ ثانية ما أُعطيَ له في المعموديَّة, واستجاب لدعوة أنَّ ما يجب أنْ نُركِّز عليه في حياتنا هو إعطاء الأولويَّة لله في حياتنا, ولنكرِّس كل قلبنا للمسيح. «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

نحن نصنع لأنفسنا ما يهلكنا في النَّهاية

اختيار الأولويَّة الخطأ في حياتنا يمكن أنْ يهلكنا.

قصَّة:

يروي هنرى نووين Henri Nouwen  في كتابه: “الشافي المجروح” قصَّة خياليَّة قديمة هنديَّة. تقول القصَّة إنَّ أربعة إخوة أُمراء قرَّروا أن يُتقنوا مهارات مُعيَّنة, وبعدما مرَّ زمان طويل تقابل الإخوة ليعرض كل واحد منهم ما تعلَّمه. قال الأخ الأوَّل: “أتقنتُ نوعًا مِن العلوم أستطيع به أن آخذ عظمة من عظام أي كائن حي وأكسوها لحمًا يتناسب معها”. فقال الثاني: “وأنا أستطيع أن أجعل جلد هذا الحيوان وشعره ينموان”. وقال الثالث: “أستطيع أن أعمل لهذا الكائن أطرافًا يتحرَّك بها إذا وُجِد اللحم والجلد والشَّعر”. وأخيرًا قال الرابع: “يمكنني أن أُعطي هذا الكائن حياة إنْ كانت هيئته كاملة”.

ذهب الإخوة الأربعة معًا إلى الغابة ليبحثوا عن عظمة يمكنهم أن يمارسوا دراساتهم وعلومهم عليها, وتصادف أن وجدوا عَظْمَة أسد. أضاف الأوَّل منهم لحمًا لهذه العظمة, والثاني جعل الجلد والشَّعر ينموان, وجعل الثالث لها أطرافًا تلائمها, وظلَّ الثلاثة منتظرين ما سيصنعه أخوهم الرابع, الذي تمكَّن بدوره أن يُعطي الحياة للجثَّة الموجودة, وما إنْ تحرَّك الأسد حتى قفز هذا الوحش على الأربعة رجال وقتلهم جميعًا واختفى في الغابة.

مغزى هذه القصَّة الخياليَّة هي أنَّ لدينا القدرة على ابتكار وصنع ما مِن شأنه أن يهلكنا ويُدمِّرنا؛ فالأهداف والأحلام والأولويَّات الخطأ من شأنها أن تُهلِك حياتنا, إلاَّ إذا طلبنا ملكوت الله وبرَّه أولاً, ليعطي حياة حقيقيَّة لِمَا نعيشه. وعلى سبيل المثال, فبالعِلم يمكننا أن نبتكر الأشياء التي يمكنها في النهاية أن تهلكنا.

قال فاكلاف هافل Vaclav Havel الرئيس السابق لتشيكوسلوفاكيا: “لم نتعلَّم حتى الآن كيف نصنع الأخلاق قبل السياسة والعِلم والاقتصاد”.

وعندما نفشل في أن نجعل لله أولويَّة حياتنا وبره وملكوته, وعندما نفشل في أن نضع الأخلاق قَبْل السِّياسة والعلوم والاقتصاد, فنحن ندفع ثمنًا فادحًا. لذلك نحن نحتاج «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

الذين يجعلون مِن الشُّهرة أولويَّة حياتهم

هناك العديد من الأشياء التي من الممكن أن نجعلها الأولى في حياتنا. يجعل الكثيرون من الشُّهرَة قمَّة أولويَّاتهم في الحياة, فتصبح هي كل ما يستهلك مشاعرهم, ويُضحُّون بكلِّ شيءٍ على مذبح الشُّهرة, ومثال على ذلك هو د. كريستيان برنارد Dr. Christian Barnard الذي أجرى أوَّل عمليَّة زرع قلب. ولمَّا كان هذا الطبيب ملحدًا, فقد كان يعتقد أنَّ الإنسان هو مجرَّد جسم ودم بلا روح, والقلب في اعتباره مجرَّد آلة يمكن أن يستبدلها الإنسان, وبالرغم من ذلك, فإنَّ عمليَّة زرع القلب لن تنقذ أرواح البشر مِثل التَّطعيم ضدَّ الإنفلونـزا.

اشتهر د. برنارد بعلمه وكان فخورًا بنفسه, وظنَّ أنَّه سينال حتمًا جائزة نوبل, التي لم يحصل عليها! فقد دمَّره الكبرياء فعلاً. قالت زوجته التي طلَّقها إنَّه لمَّا اشتهر, كان يقضي الساعات الطوال محدقًا في المرآة, وكان تجسيدًا لثالوث الذات ego: لي me, نفسي myself, أنا I. كان يقول لزوجته إنَّ الناس يُعجَبون به وليس بها على الإطلاق. وعندما كان يُسأل, كان يبدي وجهة نظره في كلِّ الموضوعات التي لا تمتُّ بِصِلَة إلى موضوع زراعة القلب مثل نجوم السينما والرياضة, وموضوعات أخرى مثل ارتفاع درجة حرارة الأرض. عندما اقترب من نهاية حياته وصار مريضًا, فقد ظلَّ مُتشبِّثًا بفكرة أن يظل شابًّا على الدوام, فظلَّ يحقن نفسه بأدوية مختلفة ليمنع مظاهر الشَّيخوخة وتجعُّد بشرته. إنَّ استحواذ فكرة الشُّهرة عليه وبحثه المحزن الدَّؤوب عن إكسير الشباب, يشرح حقيقة المَثَل القائل: “الذين يريد عدو الخير أن يُدمِّرهم يجعلهم أوَّلاً مشهورين”.

إعطاء الأشياء الخطأ الأولويَّة في الحياة قد يكون مميتًا. لو جعل برنارد اللهَ أولاً في حياته بدلاً مِن الذات والشُّهرة, لجاءت كل أولويَّات الحياة الأخرى في مكانها السَّليم.

الذين يجعلون مِن العَمَل أولويَّة الحياة

يوجد بعض الأشخاص الذين بدلاً من الشُّهرة يجعلون مِن عملهم أولويَّة الحياة. نشرت إحدى المجلاَّت المُتخصِّصَة في الاقتصاد مقابلات مع مائة من الشَّخصيَّات الأكثر نجاحًا كمديرين تنفيذيِّين. قال الشَّخص الذي جاء على قمَّة العشرة الأوائل: “الوصول إلى مستوى النجاح في الأعمال التجاريَّة الذي حصلت عليه يتطلَّب الالتـزام التام. إذا كانت أُسرتك تمثِّل إلحاحًا عليك, احصل على أُسرة جديدة, هذا بالضَّبط ما فعلته”. ولكن الناس صارت أكثر حكمة الآن عمَّا سبق, يترك الكثيرون من المديرين التنفيذيِّين العمل في شركاتهم ولديهم هذا التَّفسير: “إنَّ الأمر لا يستحق”. تُوافِق الكثير من العائلات على العيش بدخل أقل مع تواجد أكبر للأم وللأب. الشَّخص الذي قال: “اُحصل على أُسرة جديدة”, كان من الممكن أنْ يقول: “اُحصل على وظيفة مختلفة” أو: “اُحصل على بعض القِيَم الأخلاقيَّة الجديدة” أو: “اجعل ما هو مهم في الحياة أولاً لك”. ما قَصَدَه ذلك المدير الذي على القمَّة عندما أسقط أسرته كان يقصد أن يقول بالفعل: “اُحصل على أُسرة جديدة, لا تهتم أو تعبأ ما إذا كنتَ موجودًا معها أم لا”. مثل هذه الأسرة لديها مطالب أقل ولا تجعلك تشعر بالذَّنب لغيابك عنها طالما تحصل على المال من أجلها.

هل هذا هو كل ما تعنيه الحياة؟

في مرحلة ما في الحياة نحتاج أن نطرح هذا السؤال, حتى ولو كان منَّا مَن هو أكثر المديرين والمسؤولين نجاحًا: “هل هذا هو كل ما تعنيه الحياة؟” قال أحد المديرين المشهورين CEO عندما تقاعد: “لديَّ ابنٌ يعيش في مكان ما, وليس لديه الآن وقتٌ لي, وأنا لا ألومه. في الحقيقة لا أعلم أي شيء عنه, فعندما كان معي في البيت لم أُخصِّص أي وقت له, فقد أهملته تمامًا بسبب انشغالي في عملي”.

الأولويَّات التي نختارها لها نتائج وعواقِب تلاحقنا في نهاية المطاف, لذلك صار من الواجب علينا أن نضع الأمور الأولى في المكانة الأولى. ضَع الزرَّ الأوَّل في مكانه الصَّحيح, وباقي الأزرار ستأتي في مكانها الصَّائب تلقائيًّا: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

ماذا عنك لو امتَحَنْتَ حياتك اليوم؟ أو طُلِبَ منك أن تعطي حساب وكالتك؟ هل قضيتَ حياتك من أجل المال؟ هل تخلَّيتَ عن مثاليَّاتك وعائلتك وذبحتها على مذبح الرِّبح؟ هل جعلتَ قِيَم العالم الذي بلا إله تتحكَّم في حياتك؟ بل وربَّما جعلتَ الله بالقرب منك, ولكن على مسافة؟ اليوم يطلب منَّا السيِّد المسيح أن نختار مَن نخدمه, لأنَّه: «لا يقدر أحد أن يخدم سيِّدَيْن. لأنَّه إمَّا أنْ يُبغِض الواحد ويُحب الآخَر, أو يلازم الواحد ويحتقر الآخَر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال» (مت6: 24).

ثنائيَّة الرَّأي والفكر

نجد في ثنائيَّة الفكر العدو الرِّئيسي لجعل الأولويَّة الأولي في الحياة لله. عبَّر الراحل هنري نووين عن كيف أنَّ ازدواجيَّة الرَّأي تمنعنا مِن أن نجعل لله الأولويَّة بقوله:

”يُمكنني أن أعترف وأُشخِّص مخاوفي وأتعابي التي عشتها خلال السنين الثلاث الأخيرة فأقول إنَّ ثنائيَّة الرَّأي في حياتي انتابتني ومعها فقدتُ البساطة التي فيها. وبالفعل كم كان قلبي منقسمًا وما زال إلى الآن. أريد الله ولكن أريد في نفس الوقت أن أكون رجل أعمال كبيرًا. أريد أن أكون مسيحيًّا حقيقيًّا, ولكنِّي أريد أن أكون ناجحًا في عملي كمعلِّم أو واعظ يُشار له بالبنان. أريد أن أكون قدِّيسًا, ولكن أريد أن أستمتع بإثارة الخطيَّة. أريد أن أكون بالقرب من السيِّد المسيح, ولكن أريد أن أكون مشهورًا يمدحني ويحبني الجميع. لا عجب مِن أن الحياة أصبحت مشروعًا متعبًا. يقول كيركيجارد Kierkegaard: “صفات القدِّيس وخصائصه أن يطلب شيئًا واحدًا”. ولكنَّني أطلب أكثر من شيءٍ واحد؛ قلبي منقسم, وعقلي منقسم, وولائي منقسم جدًّا“.

ثنائيَّة الرَّأي والفكر عدوٌّ كبير لتقرير الأولويَّات, وهي تمنعنا مِن أن نجعل حياتنا تُركِّز على قيمة عظيمة فائقة للحياة: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم», وهي تجعلنا نُصاب بانفصام الشَّخصيَّة, فيصبح كل واحد منَّا شخصين مختلفين أو أكثر, يتدافعون في اتِّجاهات مختلفة. علاج هذه الثنائيَّة هي أن نكون ذوي رأي واحد: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

الشِّفاء من الثُّنائيَّة

بالإضافة إلى الرأي الواحد والقلب الواحد والفكر الواحد, ما الحل لمشكلة الثنائيَّة؟ إنَّه: “القلب الجديد” الذي وعدنا الله أن يعطيه لنا:

«وأعطيكم قلبًا جديدًا, وأجعل روحًا جديدة في داخلكم, وأنـزع قلب الحجر مِن لحمكم وأعطيكم قلب لحم»

(حز36: 26).

هذا: “القلب الجديد” يجعلنا بنعمة الله نستطيع التحرُّك إلى الأمام مِن تعدُّد الاهتمامات إلى رؤية أكثر وضوحًا نحو ما هو أساسي. يُذكِّر القدِّيس بولس المسيحيِّين في أفسس بثمار القلب الجديد فيقول:

«أنْ تخلعوا مِن جهة التصرُّف السَّابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور, وتتجدَّدوا بروح ذهنكم, وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البِرِّ وقداسة الحق… عاملين مشيئة الله مِن القلب» (أف4: 22-24, 6: 6).

هذا “القلب الجديد”يتحوَّل من ازدواجيَّة الرَّأي وتعدُّد الاهتمامات, ويُركِّز على طلب شيء واحد, أنْ يعمل مشيئة الله:

«… أفعل شيئًا واحدًا: إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتدُّ إلى ما هو قدَّام. أسعى نحو الغرض لأجعل جُعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع» (في3: 13-14).

يقول السيِّد المسيح:

«طعامي أنْ أعمل مشيئة الذي أرسلني وأُتمِّم عمله»

(يو4: 34).

«لتكن مشيئتك, كما في السماء كذلك على الأرض»

(مت6: 10).

افترض!

افترض أنَّك تجري مقابلات مع أشخاص تقدَّموا للحصول على وظيفة لشغل مكان مهم جدًّا. ماذا سيكون ردَّ فعلك نحو إجابات مثل هذه؟ 

السؤال: هل أنت شخصٌ يُعتَمَد عليه؟   

الإجابة: لبعض الوقت.

السؤال: هل تؤدِّي عملك بشكلٍ جيِّد؟

الإجابة: أحيانًا.

السؤال: هل تجد صعوبة في اتِّخاذ القرارات؟

الإجابة: نعم ولا…

لنضع الأمور في نصابها وبشكلٍ أفضل, دعني أستخدم كلمات الكتاب المقدَّس: «رجلٌ ذو رأيين هو متقلقل في جميع طرقه» (يع1: 8). الأشخاص الأقوياء في الرب يعرفون ماذا تعني أن تكون كلمة: “نعم” التي يقولونها: “نعم”, وكلمة: “لا”, “لا”.

لعلَّ التَّعريف التقليدي لازدواجيَّة الرَّأي هو المَثَل الذي قدَّمه القدِّيس أغسطينوس St. Augustine عندما كان يقول: “يارب طهِّرني, ولكن ليس الآن”. كان القدِّيس يشرح هنا ازدواجيَّة الرَّأي التي وردت في رسالة القدِّيس يعقوب عندما قال: «المُرتاب يُشبِه موجًا من البحر تخبطه الرِّيح وتدفعه, فلا يظن ذلك الإنسان أنَّه ينال شيئًا من عند الرب. رجلٌ ذو رأيين هو متقلقل في جميع طرقه» (يع1: 6-8).

رأيتُ منذ عدَّة سنوات لافتة معلَّقة على مكتب ناظر محطَّة القطار في شنغهاي تقول: “نستلم حقائبك ونوزِّعها في جميع الاتِّجاهات”. كم عدد الأشخاص الذين يحاولون أن يوزِّعوا نفوسهم في جميع الاتِّجاهات, وليس لهم التَّماسُك ولا الرَّأي الواحد. يطلب منَّا الرب يسوع أن نُركِّز على شيء واحد في غاية الأهميَّة في الحياة ألا وهو الله, وملكوته وبرُّه. اختر شيئًا واحدًا والتـزم به: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

مركزان للاهتمام

أكمل أحد الرسَّامين الشبان لوحة طبيعيَّة رائعة الجمال, وعرضها على أسرته. قال أحد الأفراد عنها: “جميلة جدًّا”, وعلَّق آخَر عليها قائلاً: هي تحفة فنيَّة رائعة”. ولكن هزَّ أحد أقاربه الكبار في السنِّ رأسه معبِّرًا عن عدم موافقته على هذه الآراء. سأله الشاب الفنان: “هل لا تُحب هذه اللوحة التي رسمتها؟”, فأجابه ذلك الشَّخص: “إنَّني أُقدِّرها, ولكن لن تعيش هذه اللوحة طويلاً, فهذه اللوحة لها مركزان للاهتمام, وأشار بإصبعه قائلاً: انظر فستجد هنا شجرة كبيرة, كما هناك أيضًا جبل تكسوه الثلوج, فيلتبس على الناس موضوع اللوحة, وهكذا ستبدأ أنت نفسك في أن تكره اللوحة”. لا يوجد عمل فنِّي يمكنه البقاء والاستمرار وبه مركزان للاهتمام.

تضطرب صورة الحياة كلِّها عندما ينقسم ولاء الإنسان. قال الرب يسوع: «لا تقدرون أن تخدموا الله والمال». لن يوجد داخلنا سلام لأنَّ هناك أرض معركة داخلنا ينقسم فيها الولاء. قال بولس الرسول: «ليَ الحياة هي المسيح» (في1: 21), وهذا نموذج للرَّأي الواحد غير المنقسم. عندما يكون السيِّد المسيح مركز الحياة ومحورها ونقطة التَّركيز فيها, سيكون للحياة توجُّه ومعنى, وستُعطي الفرح والبهجة لكلِّ ما نعيشه. نحن في أشدِّ الحاجة لأن نتخلَّص من الولاء المنقسم. «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

ما معنى: “ملكوته”؟

ما معنى: « اطلبوا أولاً ملكوت الله؟» ما هو المقصود بملكوت الله؟ قدَّم لنا السيِّد المسيح قصَّتين توضِّحان قيمة ملكوت الله في (مت13: 44-46). قال إنَّه كان يوجد إنسان يحفر في الحقل, فوجد فيه كنـزًا مخفي, ومِن فرحه مضى وباع كلَّ ما كان له واشترى ذلك الحقل. وأخبرنا السيِّد المسيح أيضًا قصَّة أخرى عن تاجر كان يقضي حياته كلها في البحث عن اللآلئ الغالية, وأخيرًا وجد لؤلؤة كانت هي أجمل لؤلؤة رأتها عيناه, فمضى وباع كل ما كان له واشترى هذه اللؤلؤة الغالية. هذه هي المشاعر التي يتعيَّن علينا أن نحملها نحو ملكوت الله. لنكون مواطنين في هذا الملكوت, فإنَّ هذا الأمر يستحق كل شيء نملكه وكل شيء نكونه. يجب أنَّ كل ما يمنعنا من أن نصبح مواطنين لهذا الملكوت نقطعه ونلقيه بعيدًا. يقول لنا الرب أن نطلب الملكوت أولاً وليس أخيرًا. استخدَم الرب تشبيهًا أقوى ليُعبِّر به عن أهميَّة ملكوت الله عندما قال: «إنْ كانت عينك اليمنى تُعثرك فاقلعها وألقها عنك, لأنَّه خيرٌ لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقَى جسدك كلُّه في جهنَّم» (مت5: 29, مر9: 43-48). مثل هذه الأولويَّة تتطلَّب إجراء عمليَّات جراحيَّة كثيرة.

ملكوت الله هو…

ماذا يعني ملكوت الله؟

ملكوت الله يعني أنَّ السيِّد المسيح يجلس على عرش القلب ليصبح رقم “واحد”, وأن نطيعه أكثر من الآخَرين.

ملكوت الله يعني أن نُحب بعضنا مثلما أحبَّنا المسيح.

ملكوت الله يعني أن نسير الميل الثاني.

ملكوت الله يعني أن نغفر بعضنا لبعض مثلما غفر لنا المسيح.

ملكوت الله يعني أن نقول الحق في محبَّة.

ملكوت الله يعني أن نحب من يكرهنا.

ملكوت الله يعني: «لتكن مشيئتك, كما في السماء كذلك على الأرض».

ملكوت الله يعني أن نصلِّي من أجل الذين يسيئون إلينا.

ملكوت الله يعني أن نكون خدَّامًا لإخوتنا.

ملكوت الله يعني أن نطعم الجائع.

ملكوت الله يعني أن نـزور المحبوس والمريض.

ملكوت الله يعني أن نغسل أقدام الآخَرين لو لزم الأمر مثلما فعل السيِّد المسيح.

وهكذا, في كلمات عمليَّة وشخصيَّة جدًّا, قدَّمنا معنى مُبسَّطا لعبارة: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه».

ما هو ليس ملكوت الله

لنُفكِّر لحظات في ما ليس هو ملكوت الله. قالت إحدى السيِّدات:

”ذات يوم, أخذتُ كتابي المُقدَّس, وحدث أنَّني قرأتُ الأصحاح السادس من إنجيل متى: «لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون, ولا لأجسادكم بما تلبسون» (مت6: 25). أخذتُ في البكاء بحرارة, وبدموع غاضبة تساءلتُ كيف يطلب الله منِّي هذا الشيء؟ ألا يعرف كيف كنتُ أجتهد لأنفِّذ ما ينبغي عليَّ أن أفعله في حياتي؟ وحتى أثناء غضبي لاحظتُ أنَّ الفقرة التالية تقول: «لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه» فشعرتُ بالخجل من نفسي, وأدركتُ أنَّني لم أُفكِّر مليًا في ملكوت الله, فقد كنتُ أعيش في ملكوتي. لا عجب أنَّني كنتُ قلقة, وكنتُ أُحاول أن ألعب دور الله لمن هم حولي, فقد كنتُ أحاول أن أَسِدَّ كل احتياجاتهم كل الوقت“.

بعدما كشف الله لهذه السيِّدة هذه الحقيقة, توقَّفَت أن تحيا في ملكوت ذاتها, أدركت أنَّها عندما تضع نفسها وعائلتها في يدي الله, يقلُّ قلقها وترتفع جودة العناية المُحبَّة.

مثال آخَر على ما هو ليس ملكوت الله

أُقدِّم لكم مثالاً آخَر عمَّا هو ليس ملكوت الله.

قصَّة:

تمَّ استدعاء أحد الأطباء ليكشف على أحد المرضى وهو رئيس شركة كبيرة, كان يعاني من أزمات ربو متـزايدة, وعندما حدثت له الأزمة الأخيرة, بدا أنَّه لن ينجو منها. لم يجد الطبيب سببًا عضويًّا لمرضه, لذا سأله: “هل هناك ما يزعجك؟” أجابه المريض: “لا, فأنا عضوٌ في الكنيسة وعضوٌ فعَّال, فلا يوجد ما يزعجني”, فتركه الطبيب وهو حائر. في اليوم التالي أرسل المريض مُستدعيًا الطبيب وقال له:

”طبيبي العزيز, أخبرتك بالأمس أنَّه لا يوجد ما يزعجني, ولكنَّني كنت أتحدَّث إلى الله كل ليلة أمس, وظهرت أمامي بحروف واضحة على السَّقف كلمات تقول: «اطلبوا أولاً ملكوت الله», وعلى الحوائط رأيتُ نفس الجملة مكتوبة بوضوح: «اطلبوا أولاً ملكوت الله», ومكتوب أيضًا على أرضيَّة الحجرة: «اطلبوا أولاً ملكوت الله». أستطيع الآن أن أخبرك، “أيُّها الطبيب العزيز”، أنَّني كنتُ أطلب أولاً ملكوت جون براون John Brown. كنتُ أترقَّى في عملي في الشركة إلى أن أصبحتُ على قمَّتها, ولكنَّني فعلتُ ذلك بقساوة دون أن أكترث بالآخَرين. كنتُ إنسانًا متمركزًا حول نفسي تمامًا, ولكن شيئًا ما حدث لي الآن, فأنا أطلب الآن أولاً ملكوت الله“.

قال الطبيب: “تركتُ المريض متأثِّرًا والدموع في عيني. لقد رأيتُ للتو مولدًا جديدًا لنفس”: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

يا الله, ليأتِ ملكوتي

أودُّ أن أشارككم مثالاً آخَر لِما هو ليس ملكوت الله. هناك الكثيرون من المسيحيِّين الذين يخدعون أنفسهم بأنهم أعضاء في ملكوت الله, في حين أنَّهم ليسوا كذلك, فهم أعضاء في ملكوت ذواتهم their own ego. هؤلاء هم الذين يأتون إلى المسيح من أجل أن يملوا عليه في صلواتهم ما يتوقَّعون أن يُنفِّذه لهم, وصلواتهم تجري على هذا المنوال:

”إلهي, دعني أُقدِّم لك ملخَّصًا حول موقفي الحالي. أنت ترى أنَّني الآن متورِّطٌ ومشغولٌ بهذا الأمر, كما لديَّ الأمور التالية في أجندتي الخاصَّة, وهنا أريد منك مساعدة ولو قليلة. لا أُثقِل عليك في أمور أخرى؛ ولكن إنْ باركتني أيضًا سيكون هذا الأمر رائعًا. نعم, أعتقد أن هذا يكفي لهذا اليوم فقد أطلتُ عليك. أشكرك, يمكنك أن تنصرف الآن“.

مثل هؤلاء الناس لا يطلبون ملكوت الله وبرَّه أولاً, ولكن ملكوت الذات. لقد تعاملوا مع الرب يسوع كما يتعامل الناس مع الجِن ليُحقِّق طلباتهم.

مثل هؤلاء لديهم الخطط الأنانيَّة وذواتهم وطموحاتهم وأولويَّاتهم وأغراضهم, ويطلبون الله ببساطة ليخدمهم, وصلواتهم هي هكذا: “يارب, لتكن مشيئتي, ليأتي ملكوتي”. لكي تكون في ملكوت الله, فهذا يعني أنَّك تحيا وفق قانونه. هو الأوَّل وليس نحن. ملكوت الله هو أغلى شيء في الحياة, تمامًا مثل الكنـز المخفي في الحقل واللؤلؤة الكثيرة الثمن. تلك التي متى وجدتها, فأنت تُضحِّي بكلِّ شيء لتمتلكها. الأمور الأرضيَّة تبدو بلا قيمة أمامها عند مقارنتها, رغم روعتها وجمالها. هذا هو الغرض الأسمى في الحياة وشُغلنا الشَّاغل: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

هذه كلُّها تُزاد لكم

ماذا كان يقصد الرب يسوع بهذه الكلمات: «هذه كلُّها تُزاد لكم»؟ أبونا السماوي يعلم أنَّنا نحتاج إلى أمور كثيرة في حياتنا وقد تعهَّد أن يعطيها لنا: «فلا تهتمُّوا قائلين: ماذا نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟ فإنَّ هذه كلَّها تطلبها الأمم. لأنَّ أباكم السماوي يعلم أنَّكم تحتاجون إلى هذه كلِّها. لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم» (مت6: 31-33). أبونا السماوي يعلم أنَّنا نحتاج إلى هذه الأمور: الطعام والمسكن والملبس وأنَّه سوف يعطيها لنا؛ ولكن حاجتنا الأعظم هي إلى الأشياء الأبديَّة: الإيمان, المحبَّة, الفرح, السلام, التسامح, الحياة الأبديَّة. هذه هي عطايا الله التي لا تُقدَّر بثمن ومحفوظة لنا عن طريق حياة وموت ابن الله الرب يسوع وقيامته المجيدة.

كل تلك البركات الأخرى, والتي يعطي الله الكثير منها إنَّما هي لمدَّة قصيرة من الوقت؛ أمَّا ملكوته فدائمٌ إلى الأبد. لهذا قال السيِّد المسيح: «لا تكنـزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يُفسِد السُّوس والصَّدأ, وحيث ينقب السَّارقون ويسرقون. بل اكنـزوا لكم كنوزًا في السماء, حيث لا يفسد سوس ولا صدأ, وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون» (مت6: 19-20), «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم». يقول الرب يسوع: اطلبوا ملكوت الله أولاً, وسوف يعتني الله بكم أفضل ممَّا تهتمُّون أنتم بأنفسكم.

يصيغ القدِّيس يوحنا ذهبي الفم هذا بقوله:

[اطلبوا أولاً الأشياء التي تخص الله, أمَّا الأشياء التي تخص الإنسان فسوف تأتيكم حالاً وبكفاية].

يقول الرب يسوع إنَّ الاحتياجات الوقتيَّة في الحياة سوف تُزاد لكم ولن تنقص. لهذه الأمور مكانها, ولكن ليس المكان الأوَّل.

يكتب مايستر إيكارت Meister Eckhart ويقول:

”إذا كنتَ تريد الله فقط, سوف تنال كل الأشياء بالتبعيَّة“.

ركِّز على الأولويَّات الأساسيَّة, ثمَّ الأولويَّات الثانويَّة ستأتيك تباعًا.

توجد في كتابات الكنيسة الأولى وآدابها قولاً للسيِّد المسيح غير موجود في الأناجيل. يقول هذا القول: ” اطلبوا الأشياء عظيمة الشَّأن, ثمَّ الأشياء الصَّغيرة سوف تُزاد لكم. اطلبوا السمائيَّات, وأمَّا الأرضيَّات فستـُزَاد لكم”. يحثُّنا السيِّد المسيح على الأولويَّة الأولى, أولويَّة الأولويَّات: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».كل شيء آخَر سوف يهتم بنفسه, والأخريات كلها ستكون لكم. وبعيدًا من أن تحتقروا هذه الأشياء, فإنَّكم ستقدِّرون قيمتها أكثر لأنَّها عطايا من الله أعطاها لأولاده الذين يحبُّهم. ولكن كيف يمكننا أن نعطي لملكوت الله الأولويَّة الأولى في الحياة, فالقصَّة التالية ستساعدنا على الإجابة.

قصَّة:

الفلاح وملكة النَّحل

ذات مرَّة, رأى فلاح سربًا من النَّحل في غابة قريبة منه, فخطر في باله فكرة هي أنَّه سيكون أمرًا لطيفًا ومربحًا أن يقتني نحلاً في مزرعته, وبذلك سيتوفَّر له ولعائلته العسل, بل وربَّما في المستقبل يصير تاجرًا كبيرًا في بيع العسل. أحضر الفلاح صندوقًا للخلايا وذهب إلى الغابة حيث رأى النحل, وأمسك بمجموعة منها ووضعها في الخليَّة التي اشتراها. ذهب الفلاح في اليوم التالي إلى الغابة وأمسك بمجموعة أخرى, وظلَّ يفعل نفس الشيء لعدَّة أيَّام آملاً وحالِمًا أن يصبح تاجر عسل عظيم الشَّأن؛ ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان, فقد كان النحل يعود إلى الغابة مرَّة أخرى. وفي إحباط وحزن شديد ذهب الفلاح لاستشارة أحد النحَّالين المتخصِّصين وسأله: “ما السَّبب في عودة النحل؟ هل مِن مشكلة؟ لماذا لا يبقى النحل في الخلايا التي أحضرتها رغم توفَّر كل أصناف الزهور في مزرعتي الكبيرة؟” أجابه النحَّال: “الطريقة الوحيدة لنقل سِرب النَّحل إلى حيث تريد هو أن تمسك أولاً بروح هذا السِّرب, وبمجرَّد أن تمسك بروح السِّرب, فالنحل كله سيطيعك”. سأله الفلاح مُستغرِبًا: “وماذا تكون روح النحل هذه لأمسك بها؟” أجابه النحَّال: “امسك بمَلِكَة النحل, فالهدف الوحيد في حياة النحل هو أن يخدم المَلِكَة, وجميع النحل سيأتي إلى مزرعتك”. الرب يسوع هو ملك الملوك ورب الأرباب وسيِّد الأسياد, ومتى مَلَك على النفس, فكل شيء يتبعه: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

مثال: داود النبي

هيَّا بنا نتطلَّع إلى بعض الأمثلة لأشخاص طلبوا ملكوت الله وبرَّه أولاً. نقرأ في (1مل11: 4) ما يلي: «ولم يكن قلبه (سليمان) كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه». كان داود هو حبل القياس عندما أراد الله أن يحكم على قلب سليمان, لأنَّ قلب داود كان كاملاً في نظر الله. لم يسقط داود أبدًا في عبادة آلهة أخرى كما فعل سليمان وملوك العبرانيِّين. ولكن ما الذي يجعل القلب كاملاً؟ كان قلب داود قلبًا ذا هدفٍ واحد فقط, وهو أن يعرف الله ويحبه ويخدمه. يقول داود: «واحدة من الرب سألتُ وإيَّاها ألتمس: أنْ أسكن في بيت الرب كلَّ أيَّام حياتي» (مز27: 4).

هذا هو القلب ذو الرَّأي الواحد. لم يكن داود كاملاً بمعنى أنَّه لم يخطئ أبدًا لأنَّه أخطأ بالفعل؛ لكن بمعنى أنَّ قلبه كان في مكانه السَّليم, كان مكرَّسًا بالكليَّة لله. لم يكن هناك شيء مهم لداود مثل علاقته بالله. طَلَبَ داود ملكوت الله وبرَّه أولاً, وهذا هو نوع الوحدانيَّة التي يتطلَّبها الله منَّا. عندما وضع داود الله أولاً قبل كل شيء آخَر في الحياة, أصبح هذا النوع من الأشخاص الذين يمكن أن يستخدمهم الله, واستخدم الله داود بالفعل وبقوَّة.

مثال آخَر: الملك سليمان

وكمثال آخر, الملك سليمان. عندما تبوَّأ سليمان العرش خلفًا لأبيه داود, ظهر الله له في حلم وعرض عليه أن يعطيه أي شيء يتمنَّاه: العُمر الطويل, الغنى, النّصرة في الحروب؛ لكن الملك سليمان الفتى الغض لم يختر شيئًا من كل هذا, بل طرحه كله جانبًا, بل طلب من الله ذهنًا حكيمًا يحكم به شعبه بشكلٍ سليم. هذا الاختيار أبهج الله جدًّا حتى إنَّه منح سليمان, ليس الحكمة فقط, ولكن هبات أخرى أيضًا؛ ولأنَّ سليمان طلب أفضل شيء, فإنَّ الله أزاد له كل شيء أيضًا: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

مثال ثالث: جاك إيكيرد

رأينا داود وسليمان مَثَلَيْن, وها نحن نضيف مَثَلاً ثالثًا وهو “جاك إيكيرد Jack Eckerd”. بعدما أسَّس جاك سلسلة من الصيدليات ومؤسَّسات الأدوية, فإنَّه صار مسيحيًّا. حدث فيما كان يتفقَّد جاك إحدى صيدليَّاته أن رأى على أحد الأرفف مجموعة من مجلات تحوي صُوَرًا عارية. ورغم أنَّ جاك كان قد كبر في السِّن, إلاَّ أنَّه استدعى أحد المديرين وطلب منه أن يرفع هذه المجلات. اعترضت إدارة الصيدليَّة على هذا القرار بالقول إنَّ الزبائن يستمتعون بقراءة هذا المجلات والتطلُّع إلى الصُّوَر الهابطة, بل وبعضهم يطلبون شراءها بالإضافة إلى الأدوية, وبالتالي كانت هذه المجلات تُدرُّ أرباحًا طائلة. اعترض جاك صاحب سلسلة الصَّيدليَّات وفضَّل الخسارة عن أن تُعرَض هذه المجلات في الصيدليَّات. وتمَّ تنفيذ القرار حيث أُزيلت تلك المجلات من الـ 1700 فرعًا التي تتبعه. ومنذ تلك اللحظة, أخذ جاك حملة هادئة ليشجِّع المحلات الأخرى لتتبع نهجه. وضع جاك ملكوت الله وبرَّه أولاً في حياته, وعندما فعل هذا, كان عليه أن يفعل نفس الشيء في تجارته, في خضوعٍ لله ولإرادته. وضع جاك الله في قمَّة أولويَّات حياته, ولم يكن هذا قرارًا عشوائيًّا أو سهلاً, ولكنَّه صمَّم أن يُنجزه: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

ما الذي يأتي على

قمَّة العشرة الأمور في حياتك؟

الحياة هي مسألة أولويَّات, وتتحدَّد نوعيَّة حياتنا وجودتها على الأشياء التي نعطيها المكانة الأولى في حياتنا. ما الشيء الذي يشغل المكانة الأولى في حياتك؟ ما الذي يأتي على قمَّة العشرة الاهتمامات الأُوَل Top Ten في حياتك؟ ما الذي يأتي أولاً؟ ما الذي تجاهد لتبلغه أو تحصل عليه؟ ما الذي يحكُم محبَّتك ويسود على قلبك؟ ما الذي يجعلك تذهب أو تجيء؟ هل يمكنك أن تقول بصدق وبشجاعة إنَّه لا يمكن لشيء أن يسبق المسيح في حياتك؟

يمكن أن تُدمَّر حياة أكثر الناس نجاحًا بسبب حقيقة واحدة بسيطة جدًّا وهي أنَّ هذا الشَّخص لم يتمكَّن من ترتيب أولويَّاته بالشَّكل السليم. يقول بولس الرسول: «يسوع رب» (في2: 11). كانت هذه هي أولويَّة بولس الرسول المطلقة, رقم: “واحد”. والسؤال الآن: هل يسوع ربٌّ لي؟ هل يسوع بالحق ربٌّ لك؟ قال أحد الأشخاص: “كُن حذرًا فيما تسعى إليه في الحياة, فقد يحدث أن تحصل عليه بالفعل”, ولكن يبقى السؤال الآن: “هل سيمكنك أن تحيا بهذا الشيء بعد أن تحصل عليه؟ هل سيرضيك؟ أم سوف يصيبك بالاستنـزاف, وفي النهاية يُدمِّرك؟

ألا تتَّفق معي أنَّ كثيرين منَّا يضيعون حياتهم بحثًا عن: “هذه الأمور كلها”, وينتهي بهم الأمر بأنَّهم يخسرون ما هو ثمين جدًّا. أما كان ميشيل نوفاك Michael Novak على حق عندما قال: “ما بعد طعم اللَّذة هو الملل”. والكتاب المقدَّس هو أكثر واقعيَّة وصدقًا عندما قال إنَّ ثمرة الخطيَّة هي عبوديَّة وموت. لقد أنقذنا الله من أن نتوقَّف عند أقل هدف في الحياة يعوقنا من أن نعرف شخصه في المسيح, وأن نذوق ونختبر قوَّة قيامة ابنه. «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم»

مدَّة حياة واقعيَّة

وقتٌ ينقضي في النوم                23 عامًا       32.9%

وقتٌ ينقضي في العمل                16 عامًا      22.8%

وقتُ ينقضي في مشاهدة التلفاز      8 أعوام      11.9%

وقتٌ ينقضي في الأكل                6 أعوام        8.6%  

وقتٌ ينقضي في السَّفَر                6 أعوام        8.6%

وقتٌ ينقضي في الملاهي               4.5 عامًا      6.5%

وقتٌ ينقضي في المرض                4 أعوام         5.7%

وقتٌ ينقضي في الملابس ومتعلِّقاتها    عامان          2.8%

وقتٌ ينقضي في الأمور الدينيَّة         نصف عام     0.7%

الإجمالي                                 70 عامًا        100%

عندما تبلغ حياتك نهايتها, ما نوع القصَّة التي سترويها حياتك؟ هل سيظهر أنَّك رتَّبتَ أولويَّاتك بشكلٍ سليم؟ بمعنى أنَّك طلبتَ أولاً ملكوت الله وبرَّه؟ ألن تكون حكيمًا الآن إذا سعيتَ لتغيير الأسلوب الذي تقضي به وقتك وحياتك ومواردك؟ مَن سوى الله يكون رقم: “واحد”؟, فهو الألف والياء, البداية والنهاية, من ثمَّ فهو جدير ليأخذ المكانة الأولى في الحياة. ألم يسبقنا الرب يسوع نفسه عندما قدَّم حياته أولاً لأجلنا على الصليب؟ أَمَا ينبغي أن نضعه في المكانة الأولى في حياتنا؟ يقول القدِّيس بولس: «أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع» (في3: 14). «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم». إذا لم يكن الله على قمَّة سلَّم أولويَّات حياتك, فلا تتوانَ عن التحرُّك إلى أعلى ليصير الله على قمَّة السلَّم. وَصَفَ السيِّد المسيح القيمة التي لا تُقدَّر لملكوته عندما قال: «أيضًا يشبه ملكوت السماوات كنـزًا مُخفَى في حقل, فوجده إنسانٌ فأخفاه. ومِن فرحه مضى وباع كلَّ ما كان له واشترى ذلك الحقل. أيضًا يُشبه ملكوت السماوات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة, فلمَّا وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثَّمن, مضى وباع كلَّ ما كان له واشتراها» (مت23: 44-46). الكنـز غالٍ جدًّا لدرجة أنَّه يستحق أن تكون له الأولويَّة في الحياة, والكارثة العظمى أن تخسره, لذلك: «اطلب أولاً ملكوت الله وبرَّه» وسوف تفوز بالكنـز المخفى في الحقل, واللؤلؤة الكثيرة الثَّمن.

جَعْل الله الأوَّل في حياتنا

هل أجعل لله وللكنيسة الأولويَّة في حياتي؟ في وقتي ومواهبي وممتلكاتي؟ هناك دفتران يخبران عن الإجابة, الأول دفتر المواعيد, والثاني دفتر الشِّيكات. الدَّفتر الأوَّل يوضِّح ماذا نفعل بوقتنا, والدَّفتر الآخَر يوضِّح ماذا نفعل بالمال الذي نملكه. وهذان الشَّيئان هما أكثر الموارد قيمة. كيف يظهر أنَّني أجعل لله الأولويَّة في حياتي من دفتر المواعيد (الأجندة)؟ ودفتر الشِّيكات؟عندما أخطِّط للتصرُّف في مالي, كيف سأخطِّط نصيب الرب والكنيسة في تقدماتي؟ إنْ كان الله هو الأول, فسيظهر هذا في تقدمات وقتي ومواهبي وممتلكاتي. الإله الحقيقي هو ذاك الذي أضعه في المرتبة الأولى في الحياة. كل حياة الإنسان مرسومة أن تكون لتمجيد الله, وعندما نستخدم مواردنا لتمجيده, فإنَّ صوت تمجيد الله يصبح أكثر عذوبة وقبولاً لديه.

إنْ كان الرب يسوع هو إلهي الذي أحبَّني وأسلم نفسه لأجلي, عندئذٍ لن يوجد شيءٌ غالٍ عليه لنضحي به من أجله, فهو يأتي دائمًا رقم: “واحد”. اذكر أبانا إبراهيم الذي لم يكن غاليًا عليه أن يُقدِّم: “ابنه وحيده الذي يحبُّه مُحرَقَة طاعة لله” (تك28).

اجعل ليوم الرب الأولويَّة

يوم الأحد هو يوم الرب. هو رمزٌ لإعلان أنَّ الله يملك على جزء من وقتنا وحياتنا وأنفسنا. نحن نعترف في هذا اليوم أنَّ الوقت كلَّه هو من الله. عند نهاية كل يوم, نمضي إلى المكان الذي يخصُّنا, أي إلى منـزلنا حيث هناك أحبَّاؤنا: الزوجة والأولاد. وهكذا بالمثل نذهب يوم الأحد إلى المكان الذي ننتمي إليه الذي هو الله. يُقدِّم لنا يوم الأحد فرصة لنتعرَّف على هويَّتنا, أنَّنا أبناء الآب السماوي, وفيه نعرف مَن نحن, لأنَّنا سنعرف ونتعرَّف على مَن سنذهب إليه لنكون كل حين معه.

يُقدِّم لنا يوم الأحد فرصة رائعة نستجيب فيها لحبِّ الله لنا, فباقي الكائنات غير الحيَّة لا يمكنها أن تستجيب لمحبَّة الله. نحن في كامل حريَّتنا أن نتقبَّل حبَّه, وأن نبادله حبًّا بحبٍّ لأنَّه أحبَّنا أولاً. نحن نمجِّده ونُسبِّحه نيابة عن الخليقة كلها وباسمها. هذا ما نفعله في ليتورجيَّة يوم الأحد.

يوم الرب جوهرة مقدَّسة وثمينة على أجندة أيَّام الأسبوع, حيث يُذكِّرنا كل يوم أحد أنَّ الإنسان لا يحيا بالخبز وحده بل بكل كلمة تخرج من فم الله. نحتاج أن نتذكَّر في نهاية كل أسبوع أنَّنا لسنا متجوِّلين وحدنا في هذا العالم, ولكن الله موجودٌ معنا يُقدِّم لنا نفسه كل أسبوع في سرِّ الإفخارستيَّا كخبز سمائي, خبز الحياة.

يأتي يوم الأحد ليُذكِّرنا كل أسبوع أنَّه يوجد ما هو أكثر لحياتنا من الروتين المتكرِّر لكل يوم. يُذكِّرنا كل يوم أحد أنَّه يوجد داخلنا شيء مُقدَّسٌ فينا يظل جائعًا حتى بعد أن نطعم أجسادنا؛ شيء ليس مجرَّد الحياة, ولكنَّه يبحث عن معنى وهدفٍ للحياة.

كيف يمكننا أن نبني علاقة شخصيَّة قويَّة مع شخص إذا كنَّا لا نُخصِّص له الوقت والتَّفكير والانتباه؟ هل نتخيَّل أنَّه يمكن أن نبني علاقة قويَّة وحميمة مع الله, ونجعله مركز حياتنا, ونعرف إرادته وننال عطاياه دون أن نعطيه الوقت الكافي خاصَّة في يومه كل أسبوع؟

تكلَّم ت. إس. إليوت T. S. Eliot حديثًا ساخرًا عن الذين يعملون بجد طوال الأسبوع, أو يقضون كل الأسبوع في مرح دون الاهتمام بيوم الرب فقال:

”هُم قوم مهذَّبون, لكن بلا إله,

وثنهم هو طريق الأسفلت,

والآلاف من كُوَر الجولف الضائعة“.

بالتأكيد, هؤلاء الناس الذين لا يقدِّسون يوم الأحد, سيفقدون كل شيء؛ لأنَّهم يفقدون الله. أمَّا هؤلاء الذين يعرفون سرَّ الأحد, فإنَّهم يجدون أنَّ الحياة تستحق أن تُعاش, والموت لا يكون سوى إعلان لبدء حياة جديدة مع المسيح, في سبت أبدي فيه راحة أبديَّة لشعب الله.

الإنسان الذي يتاجر في يوم الرب من أجل عطلة نهاية أسبوع فارغة وجوفاء, إنَّما قد حصل على صفقة سيِّئة جدًّا. في سعيه لملء حياته بالمتعة أو بالعمل, فقد فرَّغ اليوم من معناه. في عالم بدون الله يمكن أن يكون وقت الفراغ جحيمًا.

حدث أن ذهبت امرأة إلى السوبر ماركت يوم الأحد, ليس إلاَّ لتشتري كرتونة سجاير وهي تقول: “ليس من شيء أعمله سوى التدخين”.

وعلى النقيض من ذلك, نجد امرأة مسيحيَّة تقيَّة بسيطة تصف يوم الأحد فتقول: “أنا أحمل أعباء كثيرة لا يعرف أحد عنها شيئًا… أقوم بأعمال شاقَّة طوال الأسبوع, وطبيعة عملي تسبِّب لي إحباطًا. يوم الأحد أذهب إلى الكنيسة لكي أعطي الله فرصة ليتحدَّث إليَّ. هناك أملأ أوعيتي الفارغة بالرجاء والإيمان والمحبَّة, ثمَّ يرسلني الله مرَّة أخرى إلى العمل بالقوَّة التي أحتاجها لأحمل أعبائي”.

بدون الله, يصبح يوم الأحد هو اليوم الذي نشعر فيه بالألم والفراغ الداخلي, وليس اليوم الذي نفرح ونبتهج فيه بالخلاص.

ومع الله, يصبح يوم الأحد ـ الذي هو يوم الرب ـ يصبح مثل اليوم الذي خلقه الله ليكون عليه, اليوم الذي فيه تمتلئ أوعيتنا الفارغة بالمحبَّة والرجاء والصبر, ويتحقَّق فيه وعد الله: «إليه نأتي, وعنده نصنع منـزلاً» (يو14: 23).

عندما نشترك في الليتورجيا الإلهيَّة المقدَّسة كل يوم أحد, فنحن نذوق ونختبر ملكوت الله. يوم الرب في الأساس هو يوم الملكوت. نجعل لله أولويَّة حياتنا في هذا اليوم, بأن نطلب ملكوته ونُشارِك فيه من خلال سرِّ الإفخارستيَّا المقدَّس.

بعض النصائح العمليَّة

لمساعدتنا في جعل الأولويَّة لوجود الله في حياتنا

إليك مجموعة من النصائح العمليَّة التي تجعل لله الوجود الأوَّل في حياتنا:

(1) اِجعل لحضور الله الأولويَّة في حياتك بتخصيص أيقونة للعائلة ومكان مُخصَّص للصلاة في منـزلك.

(2) صلِّ صلاة يسوع دائمًا أثناء النهار والليل. صلاة يسوع هي الطريقة التي بواسطتها تتدرَّب لكي تجعل لله الأولويَّة في حياتك, لكي تكون واعيًا أنَّك دائم الوجود في حضرته.

(3) اطلب من أب اعترافك أن يساعدك بوضع قانون يومي شخصي للصلاة.

(4) اقرأ كلمة الله كل يوم. خذ من الله وعدًا أو آية وكرِّرها على مدى اليوم.

(5) اجعل لمشيئة الله الأولويَّة في حياتك. تُقاس درجة النمو في الحريَّة الحقَّة بمقدار جعل أن يكون لله الأولويَّة في حياتك. الشَّخص الأكثر حريَّة هو الشَّخص الأكثر خضوعًا لله في المسيح. كان السيِّد المسيح هو الأكثر حريَّة الذي عاش على الأرض, لأنَّه جعل إرادة الله هي الأولى: «لتكن مشيئتك, كما في السماء كذلك على الأرض» (مت6: 10).

(6) ذكِّر نفسك دائمًا بأنَّك سوف تنتقل مِن هذا العالم وتظهر أمام الله. يقول آباء الكنيسة: ”إذا نسينا الموت الجسدي, سوف نموت روحيًّا“.

(7) انتبه بإخلاص ليوم الرب عن طريق الذِّهاب إلى الكنيسة والتناول وحضور الاجتماعات الروحيَّة.

(8) استعد للتناول, وذلك بتلاوة الصلوات التي تُتلى قبل التناول وبعده.

(9) اقرأ كتابًا روحيًّا بانتظام, هذا يساعدك في نموِّك الرُّوحي.

(10) انضم لمجموعة تدرس الكتاب المقدَّس.

(11) استغل كل عام موسم الصوم الكبير في فحص ذاتك روحيًّا, وحقِّق فيه إنجازات شارك بها أب اعترافك.

اِجعل لله الأولويَّة في وقتك ومواهبك وممتلكاتك. فالمال على سبيل المثال يصبح شيئًا مقدَّسًا عندما يُقدَّم لله, وهو يُترجَم بالرُّوح القُدُس إلى أعمال رحمة تُمجِّد الثالوث القدُّوس.

هذه بعض النصائح التي يمكن عن طريقها جعل حضور الله في حياتك واقعيًّا. من المهم جدًّا أن تُقرِّر ما هي أولويَّاتك, وتقضي وقتًا في الانتباه إليها. إذا لم نفعل ذلك, ستدخل أمور كثيرة وتأخذ موضع الصَّدارة؛ ولن يصبح الله مُهمًّا في حياتنا, ويفقد أولويَّته القصوى. «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه, وهذه كلُّها تُزاد لكم».

افتح الباب

نقرأ في إنجيل القدِّيس يوحنا قوله: «والكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا, ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقًّا» (يو1: 14). هذا الكلمة الذي صار إنسانًا هو الله الذي غطَّى السارافيم وجوههم بأجنحتهم كما رآهم في الرُّؤيا إشعياء, وسمعهم يهتفون وهو مرتعد وخائف قائلين: «قدوس, قدُّوس, قدُّوس ربُّ الجنود!» (إش6: 3). الملائكة لا تجسر أن تنظر إليه, إنَّها عظمة الله التي لا يقدر الإنسان بسببها أن يرى الله ويعيش. الله الكلمة, والابن الوحيد الذي لا يُدنَى منه اقترب جدًّا منَّا لدرجة أنَّه يقول: «هأنذا واقفٌ على الباب وأقرع. إنْ سمع أحدٌ صوتي وفَتَح الباب, أدخل إليه وأتعشَّى معه وهو معي» (رؤ3: 20). الله العظيم الذي لا يحويه الفضاء الخارجي يريد أن يصنع منـزله في الغرفة الداخليَّة لقلبك وقلبي.

قال العلاَّمة أوريجانوس:

[كل كائن حي روحي هو بالطبيعة هيكلٌ لله, وخُلِق ليستقبل في داخله مجد الله].

عندما نفتح الباب لنستقبل السيِّد المسيح, فنحن نَدَع مجد الله يدخل ويجعلنا هياكل حيَّة لمجده.

قال الأب جورج فلوروفسكي Fr. George Florovsky:

”يقرع الله دائمًا على باب قلب الإنسان, ولكن الإنسان وحده هو الذي يمكنه أن يفتح إن شاء“.

لا يقرع المسيح مرَّة واحدة ولكن باستمرار. المسيح يقرع على الباب طالبًا الدخول كما لو كان لا يوجد أي مكان آخَر له في الكون. الكون كله موطئ قدميه, ومع ذلك, نجده يقرع على الباب طالبًا دخول قلبك وقلبي, لأنَّه مِن كلِّ الأماكن في هذا الكون, قلبنا هو المكان الذي يريده بشدَّة أن يصبح منـزله. هذا هو المكان الذي يريد أنْ يُقيم فيه, ليقضي الوقت معك, يُحبُّك ويضمُّك إلى صدره ليمنحكَ الحياة الأبديَّة.

لكلِّ شخص منَّا, بغضِّ النَّظر عن شعوره أنَّه محبوبٌ أم لا, يأتي السيِّد المسيح ويقول كما قال لزكا: «أسرع وانـزل, لأنَّه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك» (لو19: 5). وكما نادى على زكا باسمه شخصيًّا, هكذا ينادينا شخصيًّا كل واحد باسمه: «هأنذا واقفٌ على الباب وأقرع. إنْ سمع أحدٌ صوتي وفَتَح الباب, أدخل إليه وأتعشَّى معه وهو معي». إذا سمعتَ صوته وفتحتَ الباب, سوف يدخل السيِّد المسيح حياتك ويرافقك الآن وفي الأبديَّة. عندما نفتح الباب فسيدخل. إنْ وجد نفوسنا سوداء بالخطيَّة, فسيجعلها أبيض من الثلج. إنْ وجدنا عراة, فسيكسونا بثوب برِّه بالاتِّحاد به. إنْ وجدنا عِطاشًا وجائعين, فسيرتِّب أمامنا المائدة المسيانيَّة الزاخرة بالمن السَّماوي. وإنْ وجدنا في زريبة قذرة, فسيحوِّلها إلى هيكلٍ مقدَّسٍ: «أَمَا تعلمون أنَّكم هيكل الله, وروح الله يسكن فيكم؟» (1كو3: 16).

الله جعل نفوسنا قصرًا له, هيكلاً مقدَّسًا. لذلك, عندما تسمع طرق الباب, افتح الباب, لأنَّ العريس يدعوك إلى مائدة العُرس العظيم, مائدة الاحتفال بإتمام الاتِّحاد بين المسيح ونفسك. يوجد مكان في انتظارك على مائدة الرب, مكان بجوار السيِّد, مكان تركه مُعظمنا خاليًا فترة طويلة.

يقول القدِّيس يوحنا ذهبي الفم:

[الفردوس على عتبة بيتك].

افتح الباب واجعله يدخل! الزمن في نظر الله هو: “الفترة الفاصلة للانتظار بين طَرْق السيِّد على الباب, واللحظة التي نفتح فيها الباب واسعًا أمامه”. الأولويَّة رقم: “واحد” هي أن تفتح ذهنك وقلبك ليسوع, ليكون هو الرب والسيِّد.

   ¶ صــلاة ¶

”عزيزي يسوع الغالي,

لا تكفيني الأيَّام كلُّها لأستطيع أن أشكرك,

على تركك للسماء لتأتي وتبحث عنِّي.

فأنا أعرف أنَّك تقتفي خطواتي وتتبعني,

لأنَّك تُحبُّني وتريد أن تهبني السماء.

هذا شرفٌ لا أستحقُّه,

فأنا أعرف أنَّك لستَ قاطنًا في القلعة أعلى قمَّة الجبل,

بل أنتَ واقف خارج باب نفسي,

تنتظرني أن أفتح لك لتدخل إليَّ, وأفتح الباب لحضورك.

تعالَ يا ربِّي يسوع تعالَ! واجعل ملكوتك حقيقيًّا فيَّ.

تعشَّ معي وأنا معك. لك كل المجد إلى الأبد.

آمين“.

 

هل الله هو الأول في حياتك؟ ج3 – الأب أنتوني م. كونيارس