هل الله يعاقب البشر بالموت؟ – د. أنطون جرجس عبد المسيح
هل الله يعاقب البشر بالموت؟
سنحاول في هذا المقال الرد على سؤال غاية في الأهمية، وهو هل الله يعاقب البشر بالموت؟ سوف نستعين في هذت المقال بآيات من الكتاب المقدس للوقوف على أفضل تصور عن هذا الموضوع الشائك. كما سوف أستعين أيضًا بكتابات آباء الكنيسة الجامعة للرد على هذا السؤال المهم جدًا.
الكتاب المقدس
يشير الكتاب المقدس في إشارات عديدة إلى أن إبليس هو الذي كان قتالاً للناس منذ البدء، وليس الله هو الذي يعاقب البشر بالموت. حيث يؤكد الكتاب المقدس على أن الشر هو الذي يميت الشرير، وليس الله قائلاً: ”الشَّرُّ يُمِيتُ الشِّرِّيرَ، وَمُبْغِضُو الصِّدِّيقِ يُعَاقَبُونَ“ (مز 34: 21).
وهكذا نرى في قصة طوبيا أن الشيطان هو الذي كان يقتل أزواج سارة، لذا نجد طوبيا يتحدث عن أن الشيطان هو الذي قتل أزواج سارة السبعة قائلاً: ”فأجاب طوبيا وقال: إني سمعت أنه قد عُقِدَ لها على سبعة أزواج فماتوا، وقد سمعت أيضًا أن الشيطان قتلهم“ (طو 6: 14). فالشيطان إذًا هو الذي يقتل البشر وليس الله.
كما يتحدث السيد المسيح له كل المجد عن أن الشيطان كان قتالاً للناس، ويميت البشر منذ البدء، وليس الله كالتالي: ”أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَق. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ“ (يو 8: 44).
ويؤكد بولس الرسول أن إبليس هو مَن له سلطان الموت، أي القدرة على إماتة البشر، وليس الله هو الذي يعاقب البشر بالموت كالتالي: ”فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ“ (عب 2: 14).
ويشبه بطرس الرسول إبليس خصم البشر بأنه كأسد زائر يلتمس مَن يبتلعه ويميته، وليس الله هو الذي يميت البشر كالتالي: ”اُصْحُوا وَاسْهَرُوا. لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ“ (1بط 5: 8).
ويتحدث بولس الرسول عن تسليم الخاطئ إلى الشيطان لهلاك الجسد مؤكدًا على أن الموت والهلاك من الشيطان، وليسا عقوبةً من الله للبشر كالتالي: ”أَنْ يُسَلَّمَ مِثْلُ هذَا لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ“ (1كو 5: 5).
ولكن قد يتحجج البعض ويقول إن الكتاب يذكر عن الله أنه يحيي ويميت كالتالي: ”الرَّبُّ يُمِيتُ وَيُحْيِي. يُهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ وَيُصْعِدُ“ (1صم 2: 6)، فنرد أن الكتاب ذكر أيضًا أن الله هو خالق الظلمة وخالق الشر كالتالي: ”أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ“ (إش 45: 6، 7). فنتساءل هل الله هو خالق الظلمة والشر أيضًا مثلما يميت؟ بالطبع لا، ولكن الكتاب المقدس كان يهتم بالإعلان عن وحدانية الألوهة في وسط الشعوب التي تؤمن بمذهب تعدد الآلهة، ويجعلون لكل شيء إله، إله للنور، وإله للظلام، وإله الخير، وإله الشر، وإله الموت… إلخ. وكانت هناك الشعوب التي تؤمن بمذهب ثنائية الألوهة كالزرادشتية والغنوسية والمانوية، حيث يرون أن هناك إلهان: إله الخير وإله الشر، النور والظلمة، الحياة والموت، وهكذا. لذا كان يحارب الكتاب المقدس هذه المذاهب المنحرفة عن الألوهة بنسب كل الأشياء إلى الإله الواحد الوحيد، حتى لو كان الله ليس هو خالق الظلمة، أو الشر، أو الموت، بل الله صالح وهو خالق النور والخير والحياة، وبالتالي، لا بد أن ننتبه إلى حديث الكتاب المقدس عن وحدانية الألوهة للتأكيد على وجود كل الأشياء في دائرة سيطرة الله وتدبيره وعنايته بالخليقة كلها، فلا يحدث شيء خارج سيطرة الله الواحد الوحيد.
ونتنقل الآن إلى آباء الكنيسة المعلمين الذين يؤكدون على حقيقة مهمة جدًا، ألا وهي أن الموت دخل إلى العالم بحسد إبليس وبخطية الإنسان، متبعين الكتاب المقدس في ذلك. ولم يكن الموت عقوبة من الله للبشر، بل يؤكدون على أمر غريب جدًا، ألا وهو أن الموت كان لصالح الإنسان حتى لا يظل الإنسان يُمارِس الشر والخطية إلى الأبد، وبالتالي، تأبيد الشر والخطية واستمرارهما إلى الأبد. لأنه إذا كانت العقوبة القانونية في حالة العقوبات البشرية القضائية العادية مثل عقوبة السجن على سبيل المثال، تُعتبر سلبًا لحرية الشخص المعاقب، وعقوبة الإعدام هي سلب لحياة الشخص المعاقب، وبالتالي، تُعتبر العقوبة البشرية القانونية شرًا بالنسبة للشخص المعاقب، وليس خيرًا أو في مصلحته. وهكذا، لو كانت العقوبة الإلهية -بحسب المنادين بالعقوبة القانونية- هي عقوبة قانونية أو جزائية أو انتقامية من الله للبشرية، فسوف تكون العقوبة هي شر بالنسبة للكائن المعاقب، وليست لصالحه، لأنها سوف تؤدي إلى هلاك الشخص المعاقب وموته.
ولكن يرى آباء الكنيسة على العكس من ذلك، أن الموت الذي دخل إلى العالم بعد السقوط كان في مصلحة البشرية، وليس شرًا للإنسان، وبالتالي، لم يكن الموت عقوبة قانونية من الله للبشرية، بل كان الموت في مصلحة البشرية من أجل الحفاظ عليها من البقاء في الشر والخطية إلى الأبد.
ق. إيرينيؤس أسقف ليون
حيث يؤكد ق. إيرينيؤس على أن الموت كان لصالح الإنسان، وليس عقوبة من الله للإنسان، حتى لا يستمر الإنسان خاطئًا إلى الأبد كالتالي:
”لذلك أيضًا، طرد الله الإنسان من الفردوس، ونقله بعيدًا عن شجرة الحياة، ليس لأنه يحسده على شجرة الحياة، كما يزعم البعض، بل لأنه أشفق عليه، ولم يرغب له أن يستمر خاطئًا إلى الأبد، ولا تكون الخطية، التي أحاطت به خالدةً، ولا يكون الشر غير متناهٍ، وعديم العلاج. ولكنه وضع حدًا لخطيئته بأن أدخل الموت، وهكذا أوقف الخطية، بأن وضع لها نهاية بانحلال الجسد، الذي يحدث في داخل الأرض، حتى أن الإنسان، إذ يكف عن الحياة في الخطية، ويموت عنها، ويبدأ أن يحيا لله“[1].
ق. ميثوديوس الأوليمبي
كما يؤكد ق. ميثوديوس الأسقف والشهيد على حقيقة أن الله وضع نهاية للخطية بالموت، وليس أن الموت عقوبة من الله للبشر كالتالي:
”والآن، كانت خيمتنا في الأول مزودةً بحالة سامية ثابتة؛ لكن تحولت بواسطة التعدي، وانحنت إلى الأرض. ولكن الله وضع نهاية للخطية بالموت، خشية فناء الإنسان من أن يعيش خاطئًا، وتعيش الخطية فيه، فيكون معرضًا للعنة الأبدية“[2].
نوفاتيانوس الأفريقي
يرى نوفاتيانوس الأفريقي – وهو أحد الآباء اللاتين- أن العقوبات الإلهية هي عقوبات شفائية، ولا تنبع في الله من رذيلة أو ضعف، بل لإرجاع البشر إلى المسار الصحيح كالتالي:
”كذلك حقيقة أن الله يغضب لا تنبع من أي رذيلة فيه. وإنما يتصرف هكذا لمنفعتنا. فهو رحيم حتى عندما يهدد، لأنه بهذه التهديدات يُرجِع البشر إلى المسار الصحيح. فالخوف أمر ضروري لمن يفتقدون إلى الحافز إلى الحياة الصالحة، حتى أن الرافضين للعقل يتحركون على الأقل بدافع الخوف. ولذلك، فكل هذه المواضع عن الغضب والكراهية وما شابه ذلك من جانب الله، قد أُعلِنت، كما يتبيَّن من حقيقة الأمر، لشفائنا، وهي تنبع عن قصد متعمد، وليس من رذيلة أو من ضعف“[3].
ق. أثناسيوس الرسولي
بينما يشير ق. أثناسيوس إلى أن الله أعلن حكم الموت بسبب التعدي، حتى لا تصير النتيجة مرعبة وغير لائقة، ألا وهي تأبيد الشر والخطية كالتالي:
”لأن الموت أيضًا، وكما قُلت سابقًا، صارت له سيادة شرعية علينا (بسبب التعدي)، ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، وكان من المستحيل التهرُّب من حكم الناموس، لأن الله هو الذي وضعه بسبب التعدي، فلو حدث هذا لأصبحت النتيجة مرعبة حقًا وغير لائقة في نفس الوقت“[4].
ق. غريغوريوس اللاهوتي
يؤكد ق. غريغوريوس أن الموت كان في مصلحة الإنسان حتى لا يصير الشر خالدًا، فكيف يكون الموت عقوبة جزائية إنتقامية من الله على البشرية، ويكون في مصلحة البشرية في نفس الوقت لكي يمنع تأبيد الشر؟ حيث يقول ق. غريغوريوس التالي:
”وأول نتيجة [لهذا السقوط] أن أدركه الخجل والخزي، واختفى عن الله، وربح [الإنسان الأول] الموت، وقطع الخطيئة، لئلا يصير الشر خالدًا، وهكذا يبيت العقاب إحسانًا بالبشر، لأني هكذا أؤمن بأن الله يجازي“[5].
ق. باسيليوس الكبير
وهذا ما يؤكده ق. باسيليوس أيضًا، أن الله لم يخلق الموت، بل جلب الإنسان الموت عليه بإرادته الشريرة، وهكذا لم يوقف الله الموت حتى لا يظل المرض أي الخطية إلى الأبد بلا نهاية كالتالي:
”لأن أجرة الخطيئة هي موت (رو 6: 23) أي كل مَن يبتعد عن الحياة، يقترب من الموت، لأن الله هو الحياة، وغياب الحياة هو موت. هكذا جلب آدم الموت على نفسه، وصنعه بابتعاده عن الله وفق المكتوب في المزمور: ’لأنه هوذا البعداء عنك يبيدون‘ (مز 73: 27). هكذا ليس الله هو الذي خلق الموت، لكن نحن الذين جلبناه على أنفسنا بالإرادة الشريرة. لكن الله لم يُوقِف الانحلال الذي يحمله الموت حتى لا يظل المرض بدون نهاية“[6].
ق. غريغوريوس النيسي
ويشير ق. غريغوريوس النيسي في نفس سياق الآباء السابقين إلى دخول الموت إلى العالم، حتى لا يظل الشر مؤبدًا في البشر كالتالي:
”ولكن لأن كل جلد ينفصل عن الحيوان هو شيء ميت، أعتقد أن شافي شرنا ببصيرته، قد كسا بعد ذلك البشر بهذه القوة نحو الموت، التي هي خاصية الطبيعة غير العاقلة، حتى لا يبقى الشر بعد ذلك في البشر إلى الأبد. لأن الأقمصة هي شيء يُوضَع خارجنا مقدمًا خدمة مؤقتة لأجسادنا، وليست متأصلة في طبيعة الإنسان“[7].
ق. كيرلس الإسكندري
يرى ق. كيرلس أن وجود الموت الجسدي كان في مصلحة الإنسان حتى لا يصل الإنسان إلى مرحلة الدمار الكامل كالتالي:
”هكذا حُكِمَ على الإنسان بالموت والفساد، لأن الله رأى أن هذا الحكم هو لصالحه. بمعنى أنه طالما مال الإنسان مرةً للخطيئة، وأصاب طبيعته مرض الميل للشر، مثل الأرواح النجسة، وانعطف نحو الشر. فحسنًا، بطريقة مفيدة، وُجِدَ الموت الجسدي الذي لم يؤد بالإنسان إلى الدمار الكامل“[8].
وهكذا، نستنتج مما سبق، أن الله لا يُعاقِب البشر بالموت، بل الموت دخل إلى العالم بحسد إبليس، ونتيجة خطية الإنسان لصالح الإنسان وخيره، وذلك لإنقاذه من البقاء في الشر والخطية إلى الأبد. لأنه لو الموت له أصل إلهي في الله، لصار الموت سرمديًا أي أزليًا وأبديًا، وهذه هي الثنائية الغنوسية والمانوية، التي تجعل من الموت كيانًا موازيًا لله، طالما أن الله يُعاقِب البشر بالموت، فمعنى ذلك أن فعل الإماتة أو إنزال الموت كعقوبة له أصل أزلي في الله، فيكون الموت أزلي أبدي، وبالتالي، معنى ذلك تأليه الموت والعدم، وهذه هي الهرطقة الغنوسية والمانوية عينها التي تجعل من الشر والموت والظلام إلهًا في مقابل إله الخير والحياة والنور.
[1] إيرينيؤس (قديس)، ضد الهرطقات ج2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2019)، 3: 23: 6، ص 115، 116.
[2] ميثوديوس الأوليمبي (قديس)، وليمة العشر عذارى، ترجمة: الراهب القمص تيموثاوس المحرقي، (القاهرة، 2009)، 9: 2، ص 201.
[3] نوفاتيانوس، عن الثالوث، ترجمة: عادل ذكري، (القاهرة: رسالتنا للنشر والتوزيع، 2022)، 5: 1، ص 37.
[4] أثناسيوس (قديس)، تجسد الكلمة، ترجمة: د. جوزيف موريس فلتس، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2003)، 6: 2، ص 15.
[5] غريغوريوس اللاهوتي (قديس)، عظات القيامة، ترجمة: القس لوقا يوسف، (القاهرة: المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي، 2015)، العظة الفصحية الثانية 45: 8، ص 25.
[6] باسيليوس الكبير (قديس)، الله ليس مسببًا للشرور، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة، 2012)، ص 34.
[7] غريغوريوس النيسي (قديس)، تعليم الموعوظين، ترجمة: د. جورج فرج، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2022)، 8: 4، ص 140.
[8] كيرلس الإسكندري (قديس)، الجلافيرا على سفر التكوين، ترجمة: د. جورج عوض، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2018)، المقالة الأولى، ص 114، 115.