عام

البدلية العقابية تحت المجهر – د. أنطون جرجس عبد المسيح

البدلية العقابية تحت المجهر - د. أنطون جرجس عبد المسيح

البدلية العقابية تحت المجهر – د. أنطون جرجس عبد المسيح

البدلية العقابية تحت المجهر - د. أنطون جرجس عبد المسيح
البدلية العقابية تحت المجهر – د. أنطون جرجس عبد المسيح

 

مفهوم البدلية العقابية

مفهوم البدلية العقابية في اللاهوت اللاتيني

ق. أوغسطينوس

سأبدأ أولاً بالقديس أوغسطينوس، والذي يعتبره الكثير من الباحثين أبو اللاهوت اللاتيني، حيث يتحدث ق. أوغسطينوس في إطار مفهوم ”البدلية العقابية“ من منظور قانونيّ عن المسيح كذبيحة كفارية لتسديد عقوبة الخطية كالتالي:

”لأن الله نفسه لم يكن علة الموت، بل أُصيب الخاطئ بالموت بالدينونة العادلة جدًا، تمامًا مثلما يوقع القاضي العقوبة على المذنب، ولكنها ليست عدالة القاضي، بل استحقاق الجريمة هو علة العقاب […] وبالتالي كما أن موتنا هو عقوبة الخطية، هكذا قد صار موت المسيح ذبيحةً لأجل الخطية“. [1]

ثم نرى ملمح الفدية عند ق. أوغسطينوس، وهو ملمح من ملامح ”البدلية العقابية“ بمنظورها القانوني، حيث يشير أوغسطينوس إلى تسليم الله للبشرية في سلطان إبليس بحسب عدله الإلهي كالتالي:

”قد أُسلِّم الجنس البشريّ إلى سلطان إبليس عن طريق العدل الإلهي بشكل ما، لأن خطية الإنسان الأول عبرت إلى كل الجنسين أصلاً [أي من الأصل] في ولادتهما عن طريق الزواج، ودِيّن أبوينا الأولين، وقُيّد نسلهما جميعًا، وهذا الأمر مسلم به أولاً […] ولكن لا ينبغي فهم طريقة تسليم الإنسان إلى سلطان إبليس، كما لو كان الله فعل ذلك، أمر بفعله، ولكنه فقط قد سمح به بعدلٍ“. [2]

يؤكد ق. أوغسطينوس على تعامل السيد المسيح مع إبليس أثناء عمله الكفاريّ، كما يؤمن بتقديم الفدية للشيطان، حيث يقول:

”لأن دم المسيح في هذا الفداء، قد أُعطي ثمنًا لأجلنا بموافقة إبليس، الذي لم يكن مستغنيًا، بل مقيدًا: لكي يطلقنا من قيوده، ما لم يكن إبليس نفسه متورطًا في شباك الخطايا، لذلك أُسلم إلى هلاك الموت الثاني الأبدي (رؤ21: 8)“. [3]

ويؤيد ذلك البروفيسور جون كيلي عندما يتحدث عن ملمح الفدية عند ق. أوغسطينوس كالتالي:

”يتحدث [أوغسطينوس] على سبيل المثال عن دم المسيح كثمن مدفوع من أجلنا للشيطان الذي قَبِله، ليس إلا لأنه وجد نفسه مقيدًا، ويتحدث أيضًا عن جسد المسيح كطُعم أصطاد به إبليس مثل الفأر في المصيدة [عظة263: 1]“. [4]

كما كرّر ق. أوغسطينوس فكرة تقديم الفدية للشيطان كقوله:

”والحال أن البشر كانوا أسرى تحت سلطان إبليس، وكانوا عبيدًا للشياطين، ولكنهم أُعتقوا من تلك العبودية. كان بوسعهم أن يُباعوا، لكن لا أن يُفتدوا. جاء الفادي ودفع الفدية؛ بذل دمه، وبثمنه اشترى العالم كله. إن كنتم تسألون: ماذا اشترى؟ أنظروا ماذا دفع؟ فما الذي يستحق أن يُدفع لأجله هذا الثمن؟“. [5]

ثم يتحدث ق. أوغسطينوس عن ملمح من ملامح ”البدلية العقابية“ وهو ملمح الغضب، ويشرح ماهية الغضب الإلهي على أنه صوت العدالة الإلهية وهو الحركة في الروح التي تعرف الشريعة الإلهية، وغضب الأرواح البارة الذي يقضي على الذنوب الكثيرة، وهي ظلمات النفس المنتهكة للشريعة الإلهية كالتالي:

”فيكون غضب الله مماثلاً لسخطه. لكن غضب الرب الإله، ينبغي ألا يُفهم بأنه صادر عن اضطراب الروح، إنه صوت العدالة الهادر في كل خليقة خاضعة لتكون في خدمته. لأن علينا أن نتذكر ما كتب سليمان ونؤمن به: «لكنك أيها السلطان القدير تحكم بالرفق وتدبرنا بإشفاق» (حك12: 18).

غضب الله، إذًا، هو تلك الحركة التي تختلج في روح تعرف شريعة الله، عندما ترى الخاطئ ينتهك تلك الشريعة؛ إنه غضب الأرواح البارة الذي يقضي مسبقًا على ذنوب كثيرة. وغضب الله هذا يمكن أن يقال عنه أيضًا إنه الظلمات التي تطبق على نفس كل مَن ينتهك شريعة الله“. [6]

ويتحدث أوغسطينوس في موضع آخر عن مفهوم جديد للغضب الإلهي كالتالي:

”فإن النبي يسمي «غضب الله» ذلك القصاص الذي يرشق الله به الشيطان، بانتزاعه منه مَن يمتلكهم“. [7]

ثم يعطي ق. أوغسطينوس مفهوم آخر عن ماهية الغضب الإلهي موضحًا الفرق بين السخط والغضب الإلهي كالتالي:

”تلك هي الدينونة التي ترهبها الكنيسة، التي تصرخ في هذا المزمور: «يارب لا توبخني بغضبك» (مز6: 2). والقديس بولس يتكلم أيضًا عن الغضب يوم الدينونة، فيقول: «تذخر لك غضبًا ليوم الغضب، ولقضاء الله العادل» (رو2: 5). في هذا اليوم لا يرغب في أن يقف متهمًا مَن يطلب الشفاء في هذه الحياة. «ولا تؤدبني بسخطك». كلمة ”تؤدبني“ أخف وطأةً من كلمة ”توبخني“، لأنها تؤدي إلى الإصلاح، فبدل أن نُتهم ونُدان، علينا أن نخشى الإدانة. غير أن السخط يبدو أشد من الغضب، ويمكن أن نعجب من أن التأديب، وهو الأخف، يترافق مع السخط، وهو الأشد.

أما أنا فأرى أن العبارتين تحملان المعنى نفسه، لأن اللفظة اليونانية Θυμός غضب في المقطع الأول، لها معنى لفظة  όργήسخط في المقطع الثاني. ولما رأت الترجمة اللاتينية أن تستعمل العبارتين أيضًا، بحثت عن كلمة مرادفة لـ ”غضب“ فوضعت سخط. من هنا التنوع في الترجمات. في هذه يأتي الغضب قبل السخط، وفي تلك بعده.

ومهما يكن من أمر، فإن هاتين الكلمتين تعبران عن حركة في النفس تبغي الانتقام، حركة لا نستطيع أن نعزوها إلى الله بالمعنى الذي نعزوها فيه لأنفسنا، من حيث أنه قيل: «لكنك أيها السلطان القدير تحكم بالرفق» (حك12: 18). وما كان بالرفق، يتعارض مع ما هو بالشدة. والله في حكمه لا ترقى إليه شدة، لكننا دعونا غضبه ذاك الشعور الذي سببته شرائعه عند خدامه. والحال، فإن النفس التي تتوسل في هذا المزمور تخشى أن تكون متهمة بسبب هذا الغضب، حتى أنها لا تريد التأديب الذي قد يصلحها أو يعلّمها“.[8]

يتحدث ق. أوغسطينوس أيضًا عن أن المسيح خلَّصنا من الغضب الإلهي بسبب الخطايا في سياق شرحه لقول بولس الرسول في (رو5: 8- 10) كالتالي:

”هؤلاء الذين دعاهم الله أولاً «خطاة»، ثم دعاهم بعد ذلك «أعداء الله»، الذين تحدث عنهم أولاً أنهم متبررون بدمه، ثم تحدث عنهم بعد ذلك كمصالحين بموت ابن الله، الذين تحدث عنهم أولاً كمخلَّصين به من الغضب، ثم تحدث عنهم بعد ذلك كمخلَّصين بحياته. وبالتالي لم نكن قبل هذا النعمة مجرد خطاةً، بل صرنا في هذه الخطايا أعداء الله“. [9]

ثم يستطرد ق. أوغسطينوس موضحًا ملمح الغضب وترضية المسيح للغضب الإلهي قائلاً:

”لكن ما المقصود بقوله: «قَدْ صُولِحْنَا مَعَ اللهِ بِمَوْتِ ابْنِهِ» (رو5: 10)؟ هل كان هذا بالحقيقة عندما غضب الله الآب علينا فرأى موت ابنه لأجلنا، فرضى عنا؟ وهل كذلك كان ابنه بالفعل راضيًا عنا جدًا، لأنه تنازل ليموت عنا، ولكن مازال الآب غاضبًا جدًا، لأنه بدون موت ابنه عنا، كان لن يرضى علينا؟ وماذا يقول أيضًا معلم الأمم نفسه في موضع آخر: «فَمَاذَا نَقُولُ لِهذَا؟ إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟ اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟» (رو8: 31، 32).

فأقول إن الآب بالفعل كان راضيًا عندما بذل ابنه، ولم يشفق عليه لأجلنا، فهل لا يبدو هذا الرأي معارضًا لذلك؟ لأنه في الرأي الأول: مات الابن لأجلنا، وتصالح الآب معنا بموته، وفي الرأي الآخر: لأن الآب أحبنا أولاً، فهو نفسه لم يشفق على ابنه لأجلنا. وهو بنفسه بذله إلى الموت لأجلنا.

ولكنني أرى أن الآب قد أحبنا أيضًا من قبل، لا قبل موت ابنه لأجلنا فقط، بل وقبل خلق العالم أيضًا، لأن الرسول نفسه يشهد قائلاً: «كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (أف1: 4). ولم يبذل الابن لأجلنا مكرهًا، ولا الآب نفسه لم يشفق عليه، لذلك قيل عنه أيضًا: «الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلا2: 20)، وبالتالي، يعمل الآب والابن وروحهما [الروح القدس] معًا كل الأمور بمساواة وانسجام، لذلك نحن متبررون بدم المسيح، وتصالحنا مع الله بموت ابنه“. [10]

ثم يتحدث كثيرًا ق. أوغسطينوس عن فكرة حمل المسيح لعقوبة الموت عن البشر، حيث يقول التالي:

”لقد سُفك دم الذي بلا خطية البتة لغفران خطايانا، لأنه عن استحقاق قيّد إبليس المذنبين بالخطية في حالة الموت، فأطلقهم عن استحقاق بواسطته [المسيح] كمذنب بلا خطية، حاملاً عقوبة الموت بدون استحقاق“. [11]

ويتجلى هنا بوضوح التعليم بالترضية وتسكين غضب الآب على البشرية عن طريق بذل ابنه عنا.

غريغوريوس الكبير

نتحول إلى غريغوريوس الكبير وهو أحد أهم أعلام اللاهوت اللاتيني في الغرب، يشرح مفهوم ”البدلية العقابية“ كالتالي:

”لأن مخلص الجنس البشري، مَن صار وسيطًا بين الله والإنسان في الجسد، بيد أنه ظهر وحده بارًا بين البشر، وبالرغم من أنه بلا خطية، ولكنه أُؤخذ مع ذلك إلى عقوبة الخطية، وقام بدور كل من الإنسان المذنب، والذي لم يخطئ، وظلّ الإله الذي لا يعذب؟ أعطى مثالاً للبراءة، واحتمل عقوبة الخطية.

وهكذا عن طريق الألم، أرضى كل من الواحد والآخر، بحيث أنه أدان خطية الإنسان عن طريق إلهام البر، وهدأ غضب القاضي باجتياز الموت، وبالتالي، بحسب العمل الذي دبّره بيده، يعطي البشر أمثلةً لكي ما يتبعوها، مقدمًا لله في ذاته تلك الأعمال؛ التي يمكن أن يتصالح بها مع البشر“ [12]

وبالتالي، نرى هنا أيضًا عند غريغوريوس الكبير مبدأ ترضية الله بموت المسيح مخلص البشرية وتهدئة غضب الله بعقاب المسيح عنا.

أنسلم الكانتربري

نتوقف قليلاً عند أنسلم رئيس أساقفة كانتربري للحديث عن مفهوم ”الترضية“ و ”البدلية العقابية“ عنده. حيث يتحدث أولاً عن ماهية الخطية كإهانة لله، وسلب لحقه في الإكرام، وحط من قدره كالتالي:

”فمَن لا يؤدي واجب الإكرام هذا لله، يكون قد سلب الله حقه، وحطّ من كرامته […] وكذلك مَن حطّ من كرامة صاحبه، فلا يكفي أن يرد له الإكرام الواجب، ينبغي عليه أيضًا التعويض الكافي عن طريق ترضيته عن الاهانة. ومن الملاحظ في هذا الشأن أن المغتصِب الذي يرد المال المغتصَب، ينبغي عليه أن يعطي شيئًا، لم يطالب به، لو لم يعتد على غيره في ماله. وبالتالي، ينبغي على كل مَن يفعل الخطية أن يرد لله الإكرام الواجب الذي سلبه. وهذا هو الإيفاء المطلوب من الخاطئ لله“. [13]

ثم يتحدث أنسلم عن عدم غفران الله للخطية من دون عقاب في موضع آخر كالتالي:

”لا يليق بالله أن يغفر خطية من دون عقاب عليها“. [14]

ثم يستطرد أنسلم في نفس السياق قائلاً:

”لا يوجد شيء ينبغي الحفاظ عليه عند الله أكثر من كرامة مقامه“ ثم يتساءل: ”أنسلم: هل يبدو لك إذا سمح الله بحدوث هذا النهب، ولم يسترد الشيء المنهوب، ولم يعاقب الناهب، أنه بذلك يحافظ على كرامته العالية المحافظة الحقيقية التي لا يشوبها أي شيء. بوزو: لا أستطيع قول ذلك. أنسلم: بناءً على ذلك، ينبغي أن يسترد الكرامة المهانة، أو يفرض العقاب، وإلا لن يسير كل من العدالة والقوة الإلهية في مسارهما، ولا يمكن تصور ذلك على الإطلاق“. [15]

ثم يشرح أنسلم بمثال كيفية إيفاء المسيح لهذا القصاص كالتالي:

”حيث كان من الصعب لأحد غيره أن يجد منفذًا من حكم القصاص. وكان ابنه الأمين والصادق هذا له مكانة عظيمة عند ذلك الأب، وهو يحب كثيرًا أولئك الأولاد المجرمين، فأراد بما له من القدرة أن يصالح كل الذين يثقون بمشورته مع الأب بعمل خدمة مرضية جدًا، لديه واجب أن يعملها في يوم محدد بحسب مشيئة الأب […] وحيث كان من الصعب على الذين يريدون الخلاص أن يحضروا جميعًا حينما أكمل المسيح ذلك الفداء، كانت قوته موته فعّالة بهذا القدر، حتى أن غير الموجودين في الزمان والمكان، يمكنهم استنتاج ذلك“.[16]

برنارد من كليرفو

ثم ننتقل إلى برنارد من كليرفو وهو أحد اللاهوتيين اللاتين المعروفين في العصر الوسيط، والمتأثرين بأنسلم متحدثًا عن مفهوم الخلاص بالدم ورافضًا لمفهوم بيير أبيلارد غريمه أن موت المسيح على الصليب هو ذبيحة حب من الله للإنسان كالتالي:

”لم يطالب الآب بدم الابن، ولكنه قَبِله مع ذلك عند تقديمه، غير متعطشًا للدم بل للخلاص؛ لأنّ الخلاص كان بالدم -الخلاص بالطبع، وليس كما يعتقد ويكتب ذاك الأحمق إنه الإعلان المجرد عن الحب. لأنه يلخص سلسلة الإهانات؛ التي يتقيأها بعدم تقوى وبدون حذر ضد الله، بالقول إن السبب الحقيقي من أجل ظهور الله في الجسد كان لتعليمنا، أو كما يقول أدناه؛ لإرشادنا من خلال كلمته ومثاله. لقد كان السبب الحقيقي من أجل آلامه وموته هو الإعلان أو التأكيد على محبته تجاهنا“. [17]

نرى هنا جليًا فكرة الخلاص بقبول الآب لدم الابن، ومعارضة مفهوم أبيلارد عن موت المسيح كذبيحة حب لنا.

ثم يتحدث برنارد من كليرفو في موضع آخر عن مفهوم ”الترضية“ كملمح من ملامح البدلية العقابية التالي:

”حيث قد تُنسَب ترضية الواحد للجميع، حتى لو حمل الواحد خطايا الجميع، وليس واحد أخطأ، وآخر صنع الترضية؛ لأنّ الرأس والجسد مسيح واحد. ولذلك صنع الرأس الترضية من أجل الأعضاء“. [18]

هيو من دير سان فيكتور

ننتقل إلى هيو من دير سان فيكتور أحد أعلام اللاهوت المدرسي وأحد المتأثرين بأنسلم الكانتربري، حيث يشرح مفهوم ”البدلية العقابية“ وتسديد المسيح الدين لله عن البشرية كالتالي:

”لقد أعطى الله بحرية للإنسان؛ ذاك الذي قد يدفعه الإنسان كدين لله، ولذا أعطى للإنسان هذا الإنسان (المسيح) الذي يستطيع أن يدفع للإنسان؛ الذي يُصنع به ما يستحق المجازاة. لم يكن مساويًا له، بل أعظم من الإنسان السابق. حيث يمكن إعطاء هذا الإنسان (المسيح) الأعظم من أجل الإنسان، لذا صار الله إنسانًا من أجل الإنسان.

وهكذا دفع المسيح بميلاده دين الإنسان للآب، وكفّر بموته عن ذنب الإنسان، وبالتالي، حيث أنه أجتاز من أجل الإنسان الموت؛ الذي لم يكن مدينًا به، لكي ما يهرب الإنسان بعدلٍ من خلال ذلك الموت من الموت؛ الذي كان مدينًا به. وهكذا لا يجد إبليس أي سبب للشكوى، بما أنّ السلطان على الإنسان لم يكن من حقه، واستحق الإنسان حريته“. [19]

ريشارد من دير سان فيكتور

ننتقل إلى ريشارد من سان فيكتور أحد اللاهوتيين الفيكتوريين المدرسيين في العصر الوسيط في أوروبا، حيث يتحدث عن ضرورة ”الترضية“ الكاملة من أجل استعادة الإنسان بالكامل كالتالي:

”لا يمكن استعادة الإنسان بشكل كامل بدون ترضية، بل من أجل الترضية الكاملة، اقتضت إنه ينبغي أن توجد بشرية عظيمة في الكفارة، مثلما قد كان هناك وقاحة وجرأة في الخطية“. [20]

كما يتحدث برنارد من سان فيكتور عن فكرة الإيفاء لله بالألم كالتالي:

”لأنه فيمَن تألم، قد يرى البشر ما ينبغي عليهم أن يوفوه لله، وفيمَن تمجّد، قد يفهمون أية مكافأة قد يتوقعونها منه، وبالتالي، إنه كمثال يكون هو الطريق، بوعد الحقيقة، وبمكافأة الحياة“. [21]

بيتر لومبارد

لنرى الآن بيتر لومبارد أسقف باريس في العصر الوسيط وصاحب كتاب ”الأحكام“؛ الذي كان يُعتبر كاتاشيزم الكنيسة اللاتينية في ذلك الوقت بأوروبا في العصر الوسيط، والذي تبارى اللاهوتيون في وضع الشروحات عليه، يتحدث عن عقوبات الكنيسة على التائبين إنه ينبغي أن تتضافر مع عقوبة المسيح كالتالي:

”العقوبة التي تفتقد بها الكنيسة التائبين عن الخطايا، لن تكفي ما لم تتشارك مع عقوبة المسيح“. [22]

توما الأكويني

ننتقل إلى توما الأكويني أهم لاهوتي مدرسي في العصور الوسطى؛ الذي حاول الجمع بين نظرية ”الترضية“ والنظرية ”الأخلاقية أو الأدبية“ كالتالي:

”بمحبته وطاعته في آلام المسيح، أظهر الله شيء ما أكثر مما كان مطلوبًا كمجازاة عن جميع آثام الجنس البشري: أولاً، بسبب عظم المحبة التي تألم بها، ثانيًا، من خلال استحقاق تلك الحياة التي قدمها كترضية، كونها حياة الله والإنسان، ثالثًا، بسبب شمولية الحب وعظم الآلام التي احتملها […] وبالتالي، لم تكن آلام المسيح كافية فقط، بل وترضية فائضة من أجل خطايا الجنس البشري“. [23]

ويستطر الأكويني أيضًا في نفس السياق موضّحًا فكرة الترضية أو الثمن أو الدين الذي دفعته آلام المسيح للإنسان قائلاً:

”لأنه من ثم كانت آلام المسيح ترضية فائضة من أجل خطية الإنسان، ودين العقوبة، وآلامه، كما لو كانت نوعًا من ثمن تحريرنا من كلا الدينين. لأن تلك الترضية عينها التي صنع بها الإنسان الترضية، سواء عن نفسه، أو عن الآخر، تُدعى نوعًا من الثمن، الذي يخلص نفسه أو الآخر من الخطية ومن العقاب“. [24]

كما يستمر الأكويني في إطار توضيح نظرية ”الترضية“ حيث يقول التالي:

”الرأس والأعضاء كما لو كانا شخصًا واحدًا سرائريًا، وهكذا تخص ترضية المسيح جميع المؤمنين، كما تخص أعضائه الخاصة“. [25]

ويتحدث توما الأكويني في موضع آخر عن آلام المسيح كاسترضاء لكرامة الله كأساس للمفهوم القضائي والقانونيّ للبدلية العقابية كالتالي:

”كل شيء صُنِعَ من أجل الكرامة التي تليق بالله بهدف استرضائه“. [26]

ويقول توما الأكويني أيضًا أن الله لا يغفر خطية بدون عقوبة في سياق مفهومه عن ”البدلية العقابية“ كالتالي:

”بيد أنه من الواضح أن قسوة وصرامة الله، الذي لا يرضى أن يغفر خطية بدون عقاب“.[27]

كما يتحدث توما الأكويني عن ملمح من ملامح ”البدلية العقابية“ وهو فكرة المصالحة بين الله والبشر من خلال إزالة الكراهية التي سبّبتها الخطية كالتالي:

”ولا ينبغي القول بأن آلام المسيح صالحتنا مع الله بمثل هذه الطريقة، التي بدأ بها أن يحبنا من جديد، بل لأنه عن طريق آلام المسيح، تم إزالة سبب الكراهية من خلال كل من إزالة الخطية، وإيفاء الدين المقبول جدًا“. [28]

جون دنس سكوتس

ثم نتحول الآن إلى جون دنس سكوتس أحد أهم اللاهوتيين المدرسيين، حيث يتحدث عن نظرية ”الاستحسان“ واستحقاق ترضية المسيح عنا لله الثالوث كالتالي:

”فإن سألت، إلى أي مدى استحقاق المسيح له قيمة كافية، إنه بدون شك لديه الاستحقاق إلى حد أنه كان مقبولاً من الله، بما أن الرضا الإلهي هو السبب الرئيسي والعلة الرئيسية لكل رضا. لأن كل شيء فيما عدا الله هو صالح، لأنه محبوب من الله، وليس العكس […] لذلك كان استحقاق المسيح لديه الاستحقاق الكافي، لكي ما يمكن أن وسوف يقبله الثالوث“. [29]

ويستطرد دانس سكوتس في نفس السياق حول نظرية ”الاستحسان“ لتقدمة المسيح قائلاً:

”كما أن كل شيء فيما عدا الله هو صالح، لأنه مرغوب من الله، وليس العكس، هكذا كان ذلك الاستحقاق حسنًا لكي ما يكون مقبولاً، وهكذا كان استحقاقًا، لأنه كان مقبولاً، وليس العكس، إنه كان مقبولاً، لأنه كان استحقاقًا حسنًا“. [30]

جون ويكليف

لنفحص أيضًا واحد من أهم إرهاصات الإصلاح البروتستانتي في أوروبا وهو أستاذ اللاهوت بأكسفورد جون ويكليف، حيث يتحدث عن مفهوم ”البدلية العقابية“ كالتالي:

”لن يسمح الله أبدًا بأي شر بلا عقوبة، لذلك وضع كل خطايانا وآثامنا على المسيح“. [31]

كما يتحدث ويكليف في نفس السياق من مفهومه للبدلية العقابية عن علاقة إرضاء عدل الله بمعاناة الله من عقوبة الخطية لأجلنا قائلاً:

”ينبغي كراهية الخطية كثيرًا جدًا، لأنها لا ترضي كثيرًا جدًا العدل الإلهي، فأنظر ألم ومعاناة الله من عقوبة الخطية لأجلك لكي يزيلها“. [32]

مفهوم البدلية العقابية في اللاهوت البروتستانتي

بعدما استعرضنا مفهوم ”البدلية العقابية“ عند بعض اللاهوتيين المدرسيين في العصر الوسيط في أوروبا ننتقل الآن لعرض مفهوم البدلية العقابية في اللاهوت البروتستانتي أو المصلح بصفة عامة، واللاهوت اللوثري بصفة خاصة من خلال عرض أفكار ومفاهيم أحد أهم شخصيتين ممثلتين لذلك اللاهوت اللوثري وهما: مارتن لوثر، وفيليب ميلانكتون.

مارتن لوثر

نبدأ أولاً بمارتن لوثر، حيث ترد أهم الإشارات إلى مفاهيم البدلية العقابية بأجلى صورها ومفهوم ترضية الله الآب بمعاقبة وموت المسيح في عظاته وشروحاته على رسالة بولس إلى أهل غلاطية، حيث يفسر لوثر آية (غلا٣ :١٣) ”اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ“ كالتالي:

”ولذلك صوره ناموس موسى العام بريئًا، بالرغم من أنه كان في شخصه الخاص، لأنه وجده (الناموس) وسط الخطاة واللصوص […] ولذلك حينما وجده الناموس وسط اللصوص، لعنه وقتله مثل لصٍ“. [33]

ثم يستطرد مارتن لوثر في شرح نفس الآية موضحًا عمل المسيح في حمل عقوبة الخطية قائلاً:

”قد وُضعت الخطية عليه (المسيح)، ويأتي الناموس ويقول: فليمت كل خاطئ. فلذلك إن كنت قد تذللت، أيها المسيح، كونك بديلاً، ومذنبًا، وحملت العقوبة، وحملت أيضًا الخطية واللعنة“. [34]

ثم يستمر لوثر أيضًا في شرح نفس الآية مفسرًا ماهية الإبدال العقابي الذي أتمه الله في المسيح بعد طغيان الناموس علينا قائلاً:

”وعندما رأى الآب الرحيم أن الناموس طغى علينا، ووُضعنا تحت اللعنة، ولا يوجد أي شيء يمكنه أن يحررنا منها، أرسل ابنه إلى العالم، ووضع عليه جميع خطايا كل البشر، وقال له: كن أنت، بطرس ذاك الناكر، وبولس ذاك المضطهد والمجدف والعنيف، وداود ذاك الزاني، وذاك الخاطئ الذي أكل من التفاحة في الفردوس، ذاك اللص على الصليب، باختصار، كن أنت شخص كل البشر، الذي قد صنع خطايا كل البشر، وبالتالي، فلتدرك أنت، كيف أنك تدفع وتصنع ترضية لأجلهم.

ثم يأتي الناموس ويقول: وجدت ذاك الخاطئ آخذًا عليه خطية جميع البشر، ولا أرى خطية أكثر من ذلك إلا فيه، لذا فليمت على الصليب. وهكذا يهاجمه الناموس ويقتله، وهذا مصنوع من أجل تطهير العالم كله من كل خطيئة، وصُنع الكفارة، وبالتالي أيضًا، هل تحرر من الموت، ومن كل أسقامه“. [35]

ويستمر مارتن لوثر شارحًا نفس الآية للوقوف على أفضل تصوّر للترضية التي صنعها المسيح لأجلنا نحن البشر كالتالي:

”وهذا ما رآه جميع الأنبياء، أن المسيح كان ينبغي أن يكون جميع البشر، أعتى لص، وقاتل، وزاني، وسارق، ومجدف، وملعون… إلخ

مما مَن لم يكن هناك أعتى منه في العالم أبدًا في أي وقت، ولأنه الآن لم يحمل شخصه، والآن ليس هو ابن الله، المولود من العذراء، بل خاطئ لديه ويحمل خطية بولس الذي كان مجدفًا ومضطهدًا وعنيفًا، وخطية بطرس الذي أنكر المسيح، وخطية داود الذي كان زانيًا وقاتلاً، والذي جعل الأمم يجدفون على اسم الرب، باختصار، الذي لديه ويحمل في جسده كل خطايا جميع البشر -وليس لأنه ارتكبها، بل لأنه أخذ على جسده الأشياء التي فعلناها من أجل عمل ترضية لأجلهم بدمه“. [36]

ويوضح لوثر أيضًا مفهوم ”البدلية العقابية“ وحمل المسيح لعنة الناموس عن الخليقة كلها في سياق شرحه لنفس الآية قائلاً:

”هذا هو بالحقيقة تصادم عجيب، حيث يتصادم الناموس هكذا ضد الخليقة مع خالقها، وضد كل حق، ويمارس على ابن الله كل طغيانه، الذي مارسه علينا، نحن أبناء الغضب. وبالتالي، لأن الناموس أخطأ بشكل مروع جدًا وبعدم تقوى شديدة ضد إلهه، فإنه يُستدعى من أجل اللعنة، ويُلعن […]

وبالتالي، الناموس، الذي لعن وقتل جميع البشر من قبل، عندما لم يكن لديه القدرة على الدفاع عن نفسه، أو تطهير نفسه، فهو بدوره قد لُعن وقُتل كذلك، لكي ما يفقد كل حقه، ليس فقط ضد المسيح، الذي أهانه وقتله هكذا بدون وجه حق بشكل جائر، بل ضد جميع المؤمنين به أيضًا“. [37]

نرى هنا بوضوح عند لوثر مفهوم ”البدلية العقابية“، حيث يعاقب الله في شخص المسيح كل الخطاة كبطرس وبولس وداود وجميع البشر الخطاة، كما نرى مفهوم تقديم الترضية لله بموت وعقاب المسيح لأجلنا.

فيليب ملانكتون

ننتقل الآن إلى فيليب ملانكتون سكرتير لوثر ومساعده وصديقه، وأحد أهم رجالات الاصلاح البروتستانتي عامةً، واللوثري خاصةً، حيث يتحدث في كتابه المعنون بـ ”اعتراف أوجسبرج“ عن التبرير والاستحقاق بالإيمان بموت المسيح، وغفران خطايا البشر جميعًا بترضية المسيح لله لأجلنا كالتالي:

”لا يمكن تبرير البشر أمام الله بقواهم، أو استحقاقاتهم، أو أعمالهم، بل يتم تبريرهم صراحةً من أجل المسيح بالإيمان، وحينما يعتقدون أنهم مقبلون على النعمة، وغُفِرَت خطيتهم من أجل المسيح، الذي بموته قد صنع ترضيةً من أجل خطايانا. وينسب الله هذا الإيمان من أجل البر أمامه“. [38]

ويتحدث ملانكتون في نفس الكتاب عن ملمح آخر من ملامح ”البدلية العقابية“ من منظور قانوني قضائي، وهو المصالحة بيننا مع الله بذبيحة المسيح من أجل غفران الذنب الأصلي والخطايا الفعلية، حيث يقول:

”لقد تألم حقًا، وصُلب، ومات، ودُفن، لكي ما يصالح الآب معنا، ولكي ما يكون ذبيحةً ليس فقط من أجل الذنب الأصلي، بل من أجل جميع الخطايا الفعلية للبشر أيضًا“. [39]

ثم يتحدث فيليب ملانكتون بوضوح جدًا عن مفهوم ”البدلية العقابية“ من منظور تجاريّ قانوني، وتسديد الدين عن الإنسان المدَان من أجل تبريره كالتالي:

”من أجل التبرير، وبحسب العرف القانوني، يشير هنا إلى تسديد دين المتهم، وإعلانه بارًا، ولكن على حساب بر الآخر، أي المسيح، حيث يتصل بر الآخر بنا عن طريق الإيمان“.[40]

ثم يتحدث ملانكتون عن ملمح من ملامح ”البدلية العقابية“ وهو ملح الغضب الإلهيّ على البشرية الخاطئة، كيفية إرضاء المسيح وتهدئته لغضب الله الواقع عليه لأجلنا كالتالي:

”وُضِعَت خطة الله العجيبة، فبالرغم من أنه عادل، وغاضب على الخطية بشكل رهيب، ولكنه على الأقل سوف يكون مستعدًا من أجل تهدئة واسترضاء غضبه الأكثر عدلاً، لأن ابنه صار يتوسل ويتضرع عنا، ولقد أنزل الغضب عليه، وصار كفارةً وذبيحةً لأجلنا“.[41]

كما يشرح فيليب ملانكتون مفهومه عن ”البدلية العقابية“ في دفاعه عن إيمان كنائس ساكسونيا؛ وكيف كانت ذبيحة المسيح من أجل إرضاء عدل الله وغضبه على الجنس البشري، ومن أجل المصالحة بينه وبين البشر كالتالي:

”ولكن ابن الله، يسوع المسيح ربنا، الذي هو صورة الآب الأزلي، صار وسيطًا، وشفيعًا، وفاديًا، ومبررًا، ومخلصًا. وبالتالي يتم تهدئة وإرضاء غضب الله فقط من خلال طاعته واستحقاقه […] ويُرى في تلك الذبيحة عدل الله، وغضبه ضد الخطية، وجزيل رحمته نحونا، والمحبة في الابن نحو الجنس البشري كله.

\مثل هذا هو قسوة عدله، حيث لا تتم المصالحة إلا بدفع العقوبة تمامًا. مثل هذا هو عظم غضبه، حيث لا يمكن تهدئة واسترضاء الآب الأزلي إلا باستعطاف وموت الابن. مثل هذه هي رحمته، حيث أُعطي الابن لأجلنا. مثل هذا الحب كان في الابن تجاهنا، حيث أنه صب جم غضبه الحقيقي على نفسه“. [42]

يستطرد ملانكتون أيضًا في نفس السياق وموضوع تهدئة وتسكين ذبيحة المسيح للغضب الإلهيّ الواقع على البشرية الخاطئة قائلاً:

”بالنسبة للقلب الذي يشعر حقًا بأن الله غاضب، ولا يستطيع أن يحب الله، ما لم يُستعلن إرضاؤه وتهدئته. بينما يخيفنا ويظهر أنه يطرحنا إلى موت أبدي، ولا تستطيع الطبيعة البشرية أن ترتقي بنفسها لكي تحب مَن هو غاضب، ويدين، ويُعاقب“. [43]

كما يعدِّد فيليب ملانكتون أيضًا هبات وعطايا الله على البشرية من خلال عمل المسيح الكفاري لأجلنا كالتالي:

”هبات وعطايا الله هي كالتالي: حمل الذنب والموت الأبدي، أي تهدئة واسترضاء عظم غضب الله“. [44]

ويعرّف فيليب ملانكتون ”الموت الأبدي“ بأنه:

”هو الشعور باستمرار غضب الله الرهيب والفائق الوصف“. [45]

كما يؤكّد فيليب ملانكتون على أن موت المسيح وليس طقوس الناموس هو الترضية الحقيقية لله من أجل خطايانا:

”لكي ما نعرف أن موت المسيح وليس طقوس الناموس هو الترضية أو الكفارة الحقيقية من أجل خطايانا“. [46]

ثم يشرح فيليب ملانكتون عمل المسيح على الصليب في إطار مفهومه عن ”البدلية العقابية“ بأنه:

”عمل مضمون للآخرين، أي مغفرة الذنب، والصفح عن العقاب الأبدي، وعمل المصالحة مع الله، وتهدئة غضب الله من أجل الآخرين، وصُنع ترضية من أجل الذنب والعقاب الأبدي“. [47]

جون كالفن

سأستعرض الآن مفهوم ”البدلية العقابية“ عند جون كالفن مؤسس الكنيسة الكالفنية، وأحد أهم الدعائم التي ترتكز عليها الكنيسة المشيخية المصلحة، ثم سأطرح الاعتراضات على نظرية ”البدلية العقابية“ في منظورها اللاتينيّ الغربيّ المدرسيّ والبروتستانتيّ في شرح عمل المسيح الخلاصيّ على الصليب.

يتحدث جون كالفن في كتابه ”مبادئ الإيمان المسيحي“ عن عمل المسيح في المصالحة بين الله والإنسان من خلال طاعة الله وإرضاء عدالة دينونة الله واحتماله قصاص الخطيئة، وتتجلى بذلك أوضح أشكال ”البدلية العقابية“ من تقديم جسد المسيح أي جسدنا ثمن لإرضاء دينونة الله، ودفع عقوبتنا في هذا الجسد، كالتالي:

”المطلب الثاني لمصالحتنا مع الله هو أن الإنسان الذي ضل بعصيانه، مطالب بإصلاح الوضع عن طريق طاعته، وإرضائه عدالة دينونة الله، واحتماله قصاص الخطيئة. لهذا السبب، جاء ربنا كإنسان حقيقي وأخذ طبيعة آدم واسمه، ليأخذ مكان آدم في طاعة الآب، ويقدم جسدنا ثمنًا لإرضاء دينونة الله العادلة، وليدفع في هذا الجسد ذاته العقوبة التي نستحقها نحن“. [48]

يتحدث جون كالفن عن إرضاء المسيح لغضب الله الآب العادل من خلال تقديم جسده ذبيحة لمحو ذنبنا كالتالي:

”أن طبيعتنا المشتركة مع المسيح هي الضمان لشركتنا مع ابن الله، وهو إذ لبس طبيعتنا هزم الموت والخطيئة معًا جاعلاً من هذا الانتصار والغلبة ملكًا لنا، وقدم الجسد الذي نال منا، ذبيحةً لكي يمحو ذنبنا من خلال كفارته وإرضائه غضب الله العادل“. [49]

يتحدث كالفن أيضًا عن ملمح الغضب في ”البدلية العقابية“ وترضية غضب الله بكفارة المسيح كالتالي:

”فيسوع كوسيط طاهر وبلا عيب، يريد من خلال قداسته أن يصالحنا مع الله. لكن تمنعنا لعنة العدالة الإلهية من الاقتراب منه، والله بصفته قاضيًا، غاضب علينا. لهذا السبب، لابد من إدخال الكفارة لكي ينال المسيح ككاهن رضا الله من نحونا ويسترضي غضبه. لهذا السبب – بغرض أن يتمم وظيفته- كان عليه أن يتقدم بذبيحة“. [50]

يستطرد كالفن أيضًا شارحًا ملمح العقوبة والغضب، وضرورة بحث الإنسان عن وسائل يسترضي بها غضب الله عليه، وأن الله لا يغفر الخطايا بدون عقاب وأنه على استعداد دائم للمعاقبة كالتالي:

”لا أحد يغوص في أعماق ذاته ويتأمل نفسه بجدية من دون أن يشعر بغضب الله عليه، وبأنه يعادي الله. ولهذا، يجب أن يسعى بجدية وراء طرق ووسائل يسترضي بها الله، وهذا يتطلب تكفيرًا عن الخطيئة. والضمانة المرجوة هي ضمانة غير عادية، فالخطأة واقعون تحت غضب الله ولعنته حتى يغفر ذنبهم. ولما كان الله قاضيًا عادلاً، فهو لا يسمح بكسر شريعته بدون عقاب، بل هو على أهبة الاستعداد للمعاقبة“. [51]

كما يتحدث جون كالفن عن ملمح اللعنة في ”البدلية العقابية“، وكيف تم محو اللعنة بالتكفير عن الإثم من خلال ذبيحة جسد المسيح، والتطهير بدمه، كالتالي:

”فالبشر كانوا تحت اللعنة إلى الوقت الذي تم فيه التكفير عن إثمهم من خلال الذبيحة (غل٣: ١٠، ١٣) لقد كانوا غرباء عن الله إلى الوقت الذي تصالحوا فيه معه من خلال جسد المسيح (كو١: ٢١- ٢٢) […] فلو لم يكن معلنًا بوضوح أن غضب الله وعقابه، والموت الأبدي هي من نصيبنا، لكان من النادر أن ندرك كم حياتنا تعيسة بدون رحمة الله […]

وبينما هو (الخاطئ) في هذه الحال، شفع المسيح له كمحام، واحتمل في جسده العقاب، الذي كانت دينونة الله العادلة تنذر بإنزاله بكل الخطاة، وطهره بدمه من كل الشرور التي جعلته مكروهًا عند الله، وهكذا نال من خلال كفارة المسيح رضا الله الآب، وقُبلت ذبيحة المسيح المقدمة لأجله. وهدأ المسيح غضب الله بشفاعته التي بها حلّ سلام الله على البشر“. [52]

يتحدث كالفن عن الثمن الذي دفعه المسيح بموته كدليل على إرضاء الله كالتالي:

”ولكي يأخذ عنا الدينونة، لم يكن كافيًا بالنسبة إليه أن يموت ميتة عادية، فلكي يدفع ثمن فدائنا كان لابد من اختيار نوع من الموت، يمكنه من خلاله أن يحررنا عن طريق أخذه عنا دينونتنا وحمله ذنبنا. […] لما كان في ذلك الموت دليل إرضاء لله“. [53]

يستطرد كالفن للحديث عن التبرير المجاني بذبيحة المسيح واسترضاءنا وتسكيننا لغضب الله من خلالها قائلاً:

”وهذا يعني أننا نحن الذين «بالطبيعة أبناء الغضب» (أف٢: ٣) ومبعدين عنه بسبب الخطيئة، قد نلنا من خلال ذبيحة المسيح التبرير المجاني، واسترضينا الله وسكنا غضبه“.[54]

يتحدث كالفن عن فكرة ”المبادلة العقابية“ بين المسيح وبيننا ليحمل عنا انتقام الله العادل كالتالي:

”وهكذا تمت تبرئتنا: فالذنب الذي جعلنا مدينين للقصاص نُقل إلى ابن الله (إش٥٣: ١٢)، ويجب أن نتذكر، فوق كل شيء، هذه المبادلة، لئلا نرتجف ونقلق كل حياتنا، كما لو أن انتقام الله العادل، الذي حمله ابن الله، مازال متسلطًا فوق رؤوسنا“. [55]

ثم يتحدث كالفن عن ذبيحة المسيح كذبيحة تكفيرية قدمها المسيح للآب في الموت، لكي يدمر الآب قوة الخطية بنقل لعنة الخطيئة إلى جسد المسيح كالتالي:

”فقد دمّر الآب قوة الخطيئة عندما نقل لعنة الخطيئة إلى جسد المسيح، من هنا معنى هذا القول: قُدم المسيح إلى الآب في الموت كذبيحة تكفيرية، بحيث إنه إذ أتم التكفير من خلال ذبيحته، يمكننا أن نكف عن الخوف من دينونة الله“. [56]

يتحدث كالفن أيضًا عن التبرير بدم المسيح المسفوك لأجلنا كالتالي:

”فنحن لا نقدر أن نؤمن بكل يقين أن المسيح هو فداؤنا، وفديتنا، والكفارة عنا، ما لم يكن قد قُدم كذبيحة […] ولذلك هناك إشارة إلى الدم في كل مرة يبحث الكتاب المقدس طريقة الفداء. لكن دم المسيح المسفوك لم يكن تكفيرًا فحسب، بل مغسلة أيضًا ليغسلنا من فسادنا“. [57]

يتحدث كالفن عن طريقة مصالحتنا مع الله الذي كان يبغضنا بسبب الخطية بطاعة وتكفير وعقاب المسيح عنا لنوال استحقاقات فداء المسيح كالتالي:

”إن المسيح بطاعته، نال لنا حقًا النعمة عن استحقاق مع أبيه. […] وأنا أسلم جدلاً بأنه في حال صنع المسيح تكفيرًا لخطايانا، إذ هو دفع العقاب الذي علينا، إذ هو سكن غضب الله بطاعته -باختصار إذ هو كإنسان بار تألم لأجل الأشرار- فهو اكتسب الخلاص لنا من خلال بره الذي هو مساوٍ لاستحقاقه. لكن كما يقول بولس: «قد صُولحِنا مع الله بموت ابنه» (رو٥: ١٠- ١١). لكن لا تحصل المصالحة إلا حيث تسبقها الإساءة. فيكون المعنى كالتالي: الله الذي كان يبغضنا بسبب الخطيئة، رضى عنا من خلال موت ابنه، وصار مؤيدًا لنا“. [58]

يتحدث كالفن عن دم المسيح كثمن إرضاء دينونة الله، والتبرير بالدم، وتسكين غضب الله كالتالي:

”فإن كانت نتيجة سفكه دمه هي عدم نسبة خطايانا إلينا، يكون أنه قد تم إرضاء دينونة الله من خلال هذا الثمن […] وهذا يظهر بسهولة أن نعمة المسيح تضعف قيمتها كثيرًا ما لم تمنح ذبيحته القوة على التكفير، وتسكين الغضب، وإرضاء الله […] فلو لم يصنع المسيح تكفيرًا عن خطايانا، لما كان قيل إنه أرضى الله عن طريق حمله العقاب الذي خضعنا له“.[59]

كما يتحدث كالفن عن مبدأ التعويض عن خطايانا بدفع الثمن لله أي دم المسيح كالتالي:

”فالله قدم ثمن الفداء في موت المسيح، ثم يدعونا إلى الالتجاء إلى دم المسيح [….] وهذه المقارنة لا تنطبق لو لم يكن هناك تعويض قد تم عن خطايانا بهذا الثمن [….] ما لم يُوضع عليه العقاب الذي نستحق، لهذا السبب يسمي الرسول الفداء بدم المسيح «غفران الخطايا» […] وقد أشار هناك إلى الجزاء أو التعويض الذي يعفينا من الذنب“ [60]

الاعتراضات على ”البدلية العقابية“ في شرح تدبير الخلاص

نستعرض الآن أهم الانتقادات الموجهة لنظرية ”الإبدال العقابي“ في شرح عمل المسيح على الصليب:

  1. نجد في ملمح الغضب في سياق ”الإبدال العقابي“، تحويل أقانيم الثالوث إلى الآب الغاضب والابن المغضوب عليه، الذي يسكِّن غضب الآب ويهدئ من غضبه، وهذا يعتبر فصل بين أقنومي الآب والابن في جوهر الثالوث الواحد، وهذه هي الهرطقة الآريوسية بعينها.

  2. لا نجد أي دور لأقنوم الروح القدس في عملية الترضية والتعويض والعقوبة ودفع الثمن، تلك الأمور التي قدمها الابن للآب، ولا وجود ولا حضور جلي لأقنوم الروح القدس في تلك الأمور، مما يؤدي إلى التقليل من شأن أقنومية الروح القدس، وهذه هي الهرطقة الأفنومية والمقدونية.

  3. إخضاع الله لقوانين وشروط ملزمة له في عملية قبول الثمن والتعويض، وضرورة قبول الترضية لأجلنا. وحاشا لله أن يخضع لمثل هذه القوانين والشروط. فالله غير المحدود، وخالق الكل، وواضع النواميس، كيف يمكن إخضاعه لقوانين ونواميس؟ حاشا.

  4. تقديم صور مشوَّهة وثنية صنمية عن الله تظهره أنه إله غاضب على البشر ويكرههم ويبغضهم بسبب خطاياهم رغم أنه لا توجد مثل هذه المشاعر والأهواء في جوهر الله، فهل الغضب صفة من صفات الجوهر الإلهي؟ وتُظهِر ”البدلية العقابية“ الله أنه يحتاج مَن يهدئه ويسكن غضبه، ويجعله يعود يحب البشر مرة أخرى بعدما أبغضهم بسبب خطاياهم!

  5. كيف يمكن نقل جميع ذنوب البشر إلى جسد المسيح، بالرغم من أنه القدوس بلا خطية، وشابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، بل بالحري أتخذ المسيح جسدًا مائتًا لكي يهبه الحياة الأبدية بحياته وموته وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين الآب، وليس بمجرد حمل الخطايا في جسده الطاهر من الخطية ليُعاقب بها في جسده لأجلنا كما يتحدث منظرو ”البدلية العقابية“.

  6. تلغي ”البدلية العقابية“ مفاعيل الأسرار الكنسية الخلاصية كالمعمودية والميرون والتناول، لأنه بحسب ”البدلية العقابية“ تم إيفاء الدين ودفع الثمن بموت المسيح، فما الحاجة لأن نموت مرة أخرى ونُدفن ونقوم في المعمودية بعدما مات المسيح عنا مرة واحدة، ولماذا نمارس القداسات ونكرر ذبيحة وصلب وعقاب المسيح مرات ومرات على المذابح، طالما تم العقاب والترضية والإيفاء، فلا حاجة لمثل هذه الطقوس في سياق نظرية ”البدلية العقابية“ ومفاهيمها وشروحاتها. البدلية العقابية باختصار تدحض وتلغي أسرار الكنيسة.

  7. تشرِّع وتكرِّس وتحرِّض ”البدلية العقابية“ على العنف والتعذيب والعقاب، فطالما الله يعاقب ابنه لأجل البشر، وينزل جام غضبه على الابن لأجلنا، وينزل العقاب عليه لأجلنا، فهذا خير مرشد ودليل لنا لتقليد الله ومحاكاته بإنزال العنف والعقاب والغضب على ابنائنا أيضًا. صور مشوَّهة ووثنية وعنيفة عن الله الصالح محب البشر.

  8. تؤدي البدلية العقابية إلى صراع الصفات داخل الجوهر الإلهي الواحد، ما بين محبته ورحمته، وعدله وقصاصه من البشر الخطاة العصاة، وهكذا تُحدِث ”البدلية العقابية“ انقسام وانفصام داخل الجوهر الإلهي بين صفتي العدل والرحمة، وإلى تقسيم الله إلى إله غاضب قاسي منتقم وكاره، وإله محب وصالح ورحيم ورؤوف، وهذه هي الهرطقة الغنوصية والمانوية عينها. وهذا لا يليق بالله، وحاشا أن يوجد داخل الجوهر الإلهي.

تصحيح مفاهيم خاطئة في تعليم البدلية العقابية: ملمح العداوة

أحد نتائج التعليم بالبدلية العقابية هو الادعاء بأنه كانت هناك خصومة بين الآب والبشرية المتمثلة في ناسوت المسيح المتألم على الصليب.

هذا يصوِّر أن اللاهوت قد كان في خصومة مع ناسوت المسيح في المسيح الواحد، طالما الآب كان في خصومة مع ناسوت المسيح الذي أتحد به لاهوت الكلمة في التجسد. وهذا للأسف أحد نتائج التعليم بالبدلية العقابية.

يرد ق. أثناسيوس على ذلك رافضًا ترك الآب للناسوت، أو أن هناك خصومة بين الآب وناسوت المسيح قائلاً:

”لذلك لا يمكن أن يُترك الرب من الآب، وهو كائن دائمًا في الآب قبل أن يتكلم وأثناء نطقه بهذه الصرخة“. [61]

يرد على ذلك ق. يوحنا ذهبي الفم داحضًا فكرة وجود عداوة بين الله والناسوت كالتالي:

”يقول: إيلي إيلي لما شبقتني (مت٢٧: ٤٦) حتى يروا أن السيد كان يكرم أباه حتى الرمق الأخير، وأنه لم يكن عدوًا لله“. [62]

يرد أيضًا ق. غريغوريوس اللاهوتي على ذلك رافضًا أية خصومة بين الآب وناسوت المسيح المتألم على الصليب:

”إنه لم يُترك، لم يتركه أبوه، ولا تركته ألوهته، كما ظن البعض، وكأنها تفارق مَن يتألم لخوفها من الموت – ومَن الذي أكرهه على الولادة الأرضية أولاً، أو على الارتفاع على الصليب“. [63]

كما يرد ق. كيرلس عمود الدين داحضًا التعليم بأن يكون هناك خصومة أو انفصال بين الآب وناسوت المسيح قائلاً:

”وقد أظهره الله الآب متجسدًا ومنظورًا وشبيهًا بنا للرسل القديسين، عندما صرخ قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا» (مت١٧: ٥) فهل انتبهت إذًا إلى أنه لم «يقل هذا الجسد»، بل «هذا هو ابني»، وذلك حتى لا نعتبره مجزئًا ومنفصلاً الواحد عن الآخر، بل هو -تدبيريًا- واحد بالاتحاد […] فالله الآب يشهد -بطريقة فريدة خاصة- على أن المتجسِّد الذي أخذ شكل العبد هو ابنه الحقيقي، وكيف لا يكون؟“. [64]

تصحيح مفاهيم خاطئة في تعليم البدلية العقابية: ملمح الغضب

في البداية، نصيحتي لكل دارس وقارئ لكتابات الآباء، ينبغي توخي الدقة قبل البدء في اتخاذ أي رؤية عن أي تعبير يستخدمه آباء الكنيسة في كتاباتهم، فينبغي أن نفهم السياق العام لفكر الأب، واتساق الفكرة المطروحة عنه في هذا السياق العام، بدون اقتطاع أو انتقاء لأفكار وألفاظ معينة لإثبات أفكار ومفاهيم معينة تتناقض مع سياق فكر الأب العام.

سوف نستعرض معًا مفهوم وماهية الغضب الإلهي من خلال تعاليم الكتاب المقدس وآباء الكنيسة الجامعة عن مفهوم الغضب الإلهي في الكتاب المقدس.

يواجه العلامة أوريجينوس الغنوسيين الهراطقة مفسرًا ما جاء ذكره في العهد القديم بشأن الله، الذي يحنق ويندم، أو يبدر منه شكل عاطفة بشرية فيقول:

”أما نحن فحينما ننظر إلى العهد القديم أو الجديد وهو يتكلم عن غضب الله، لا نأخذ بالحرف ما يرد فيه، بل نجدّ في إثر فهم روحيّ حتى نفكّر على مقتضى إدراك خليق بالله“.[65]

ويتحدث العلامة أوريجينوس عن ماهية غضب الله في موضع آخر قائلاً:

”وبالتالي يبدو أحيانًا أن الغضب يشير إلى تلك القوة التي تحكم وتضبط الذين ينفذون العقوبات ويفرضون الجزاءات التي تحكم الخطاة. أنا أتبنى الرأي بأن هذا هو معنى النص الذي يسجل أن غضب الله أهاج داود ليأمر يوآب ليقوم بتعداد الشعب […] كذلك أحيانًا وخزات الضمير تُسمى غضبًا، عندما نطهِّر «المنتقمين» و «المعاقبين»، […] كذلك محنة الضيق والتجربة تُسمى غضب الله، كما يقول أيوب «غضب الله في جسدي»“. [66]

وبالتالي، يستنكر العلامة أوريجينوس أن يكون في طبيعة الله غضب، حيث إن كان الرب قد نطق بمثل هذا التهديد ليس لأن الطبيعة الإلهية خاضعة للعواطف ولرذيلة الغضب، ولكن لكي تظهر محبة موسى للشعب، ولطف الله الذي لا نستطيع إن ندركه أو نفهمه نحو كل الخطاة. مكتوب أن الله يغضب ويهدد الشعب بالموت. على الإنسان أن يتعلم من ذلك أن له مكانًا عند الله، وأنه يحظى باعتبار كبير لدى الله. إذا كان الله لديه أسباب للسخط ضد الإنسان، فإن هذا الغضب يهدأ بواسطة ابتهالات الإنسان وتضرعاته، ويستطيع الإنسان أيضًا أن يحصل من الله على تغيير الأحكام التي سبق وأصدرها، حيث إن اللطف الذي يتبع الغضب يبين مكانة موسى لدى الله، ويعرفنا أن الطبيعة الإلهية لا تتفق مع رذيلة الغضب. [67]

كما يوضح الفيلسوف المسيحي لاكتانتيوس نقطة مهمة في مسألة الغضب الإلهي في سياق رده على الأبيقوريين منكري العناية الإلهية والتدبير الإلهي للخليقة، متبعين الفكر الأرسطي حول عدم اكتراث الله بالخليقة، بل هو يتحكم بها من خلال سلسلة من العلل الفاعلة، دون الدخول في علاقة شخصية وكيانية مع خليقته، كما جاء في المسيحية، حيث يقول:

”أول كل شيء، لم يقل أحد قط عن الله إنه يغضب فقط، ولا يتحرك بالرأفة، لأن هذا يتناقض مع فكرة عن الله تقول إنه يملك القوة ليؤذي ويمنع، لكنه لا يقدر على تقديم العون وفعل الخير. لذلك أية وسيلة وأي رجاء للخلاص أُعطِيَ للبشر إذا كان الله هو خالق الشرور فقط؟ […] لكن إن كان لا يمكن أن يوجد شيء بجوار الله، فمن العبث والحماقة أن نفكر أن القوة الإلهية، التي لا يوجد شيء أعظم منها، ولا أفضل منها، يمكن أن تؤذي، ولا يمكن أن تنفع. بالتالي لا يوجد مَنْ يجرؤ أن يقول هذا لأنه بلا معنى، ولا يمكن أن يُصدق بأي حالٍ من الأحوال“. [68]

كما يوضح الفيلسوف المسيحي لاكتانتيوس مفهوم الغضب الإلهي حيث هناك بعض الانفعالات التي لا توجد في الله، مثل الرغبة، والخوف، والطمع، والحزن، والحسد، فهو خالٍ تمامًا من كل هذه الانفعالات لأنها انفعالات الرذائل، لكن انفعالات الفضائل، أي الغضب تجاه الشر، والحب تجاه الخير، والشفقة على الذين في ضيقة، فلأنها تليق بقوته الإلهية، فهذه يختبرها الله كانفعالات خاصة به، وهي عادلة وصحيحة. [69]

كما يشرح ق. يوحنا ذهبي الفم ماهية غضب الله كالتالي:

”غضب الله ليس انفعالاً، وإلا كان يحق للإنسان أن ييأس لعدم قدرته على إطفاء لهيب غضب الله المشتعل بسبب أعماله (أي الإنسان) الشريرة. لكن الله بطبيعته خالٍ من الانفعال حتى إن عاقب وإن انتقم، فإنه لا يصنع ذلك حنقًا، بل عن اهتمام بنا فيه حنان وعفو عظيم. وهذا يدفعنا إلى أن تكون لنا شجاعة عظيمة صالحة، وأن نثق في قوة التوبة“.[70]

يؤكد ق. يوحنا ذهبي الفم أيضًا أن غضب الله يمكن أن يُستعلن مرات كثيرة هنا في الحياة الحاضرة، مثلما يحدث في المجاعات، والأمراض، والحروب، حيث يُعاقب الجميع، بشكل فرديّ وجماعيّ أيضًا. وهل في هذا ما يدعو للدهشة؟ إن العقاب فيما بعد سيكون أكبر وأشمل، فما يحدث الآن يهدف إلى التصحيح والتقويم، لكن فيما بعد يكون العقاب، الأمر الذي عرضه بولس الرسول قائلاً: ”ولكن إذ قد حُكِمَ علينا نُؤدَّب من الرب لكيلا نُدان“.

وإن كان بعض الناس الآن يعتقدون أن أمورًا كثيرة محزنة تحدث في الحياة، بسبب سلوك الناس السيء، وليس بسبب غضب الله. لكن في الدينونة الأخيرة سيكون عقاب الله علنيّ، عندما يأمر الديّان المخوف الجالس على عرشه، بطرح البعض في البحيرة المتقدة بالنار، والبعض إلى الظلمة الخارجية، وآخرين لعقوبات أخرى أشد وأصعب. [71]

كما يستنكر ق. يوحنا كاسيان محاولة البعض تبرير مرض الغضب البالغ الضرر الذي يلحق بالنفس، ملتجئين إلى طريقة مُنفّرة في تفسير الكتاب المقدس لهذا التبرير، كقولهم بأنه ليس من الضرر في شيء أن نغضب على اخوتنا الذين يخطئون، ما دام الله ذاته -على حد قولهم- قد ذُكِرَ عنه أنه يسخط ويغضب على أولئك الذين لم يعرفوه، أو عرفوه ثم رفضوه، غير مدركين أنهم إذ يريدون تلمس الأعذار لارتكاب خطية بالغة الأذية، ينسبون إلى العزة الإلهية، ومصدر كل نقاء إحدى وصمات الانفعال البشريّ.

لا يمكن -دون تجديف- تفسير تلك الأشياء حرفيًا عنه، وهو الذي أعلن، بنص الكتاب المقدس، أنه غير مرئيّ، لا يُعبّر عنه، غير مُدرَك، غير مفحوص، بسيط، غير مركب. إذًا، لا يمكن إسناد نزعة الغضب والسخط إلى تلك الطبيعة غير المتغيرة دون تجديف فظيع. حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المنزَّه عن كل انفعال أو شائبة. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديّان المنتقم عن كل الأشياء الظالمة التي تُرتكَب في هذا العالم.

وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها ينبغي أن نخشاه بكونه المجازي المخوف عن أعمالنا، وأنْ نخشى عمل إي شيء ضد إرادته. لأنَّ الطبيعة البشرية قد ألِفَّت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة. [72]

يشرح ق. باسيليوس الكبير ماهية الغضب الإلهيّ وما فيه من دلالة شفائية لعلاج الشر الذي يشبه المرض الذي استفحل ولا بد من استئصاله بجراحة، كالتالي:

”عندما يقول النبي: إنّ هناك غضب في سخط الله، كما لو كان الغضب هو نفسه السخط، إلا أنَّ الفارق كبير. السخط إذًا، هو قرار الله أنْ تُفرض بعض العقوبات القاسية على مَنْ يستحق العقاب. أما الغضب فهو الألم، والعقاب الذي يقضي به الديَّان العادل، بقدر الظلم الذي أرتُكِبَ.

هذا الذي أقوله سيصير مفهومًا بمثال واحد، فبعدما يحدّد الطبيب العضو المصاب بالالتهاب الصديديّ، يقرِّر ضرورة إجراء الجراحة للمريض. هذا ما يدعوه الكتاب “سخط”، فبعد قرار الطبيب بالتدخل الجراحيّ، تتحوّل قراراته إلى عمل، ويبدأ في استخدام المشرط إجراء الجراحة، فيثير الألم لدى الخاضع للجراحة، هذا ما يُسمى “غضب الله”“. [73]

يرى ق. غريغوريوس النزينزي أن الطبيعة الإلهية منزّهة عن الأهواء البشرية كالحسد والغضب، فهي الطبيعة الصالحة وحدها، والمطلقة السلطة. [74] كما يؤكد النزينزي في موضع آخر أن طبيعة الألوهة هي أسمى وفوق الأهواء وفوق الجسد. [75] ويرى النزينزي إنه كان لابد لنا في الكلام عن الألوهة من اللجوء إلى ألفاظنا الأرضية على الوجه المجازيّ. [76]

كما يشرح ق. غريغوريوس النزينزي حقيقة الانفعالات والأمور البشرية المنسوبة لله كالغضب والنوم والاستيقاظ والمشي والجلوس وغيرها في الكتاب المقدس قائلاً:

”لقد ورد في الكتابة الإلهية أنّ الله ينام، ويستيقظ، ويغضب، ويمشي، وأنه جالس على الكروبين. فهل أُخضِعَ لذلك كله في الحقيقة؟ هل بلغك يومًا أنّ لله جسمًا؟ إنها أشياء لا توجد إلا في المخيلة. وقد استعرنا ما لنا لندل بعض الدلالة على أمور الله. فبقولنا “ينام” نعبر عن أن الله يبتعد عنا، وكأنه يهملنا لأسباب يعرفها هو، إذ إنّ النوم يعني لدينا التوقف عن كل نشاط وكل عمل.

وبقولنا “يستيقظ” نشير إلى أنه عاد علينا بالخير، إذ أنّ الاستيقاظ هو النهوض من النوم، كما أنّ النظر إلى شخص ما هو عدم التحوّل عنه. وعندما يعاقبنا الله نتصوّر أنه غاضب، لأنّ العقوبة لدينا تصدر عن الغضب […] وخلاصة القول أنّ أعمال الله المختلفة قد عُبِّرَ لنا عنها بصورة مادية“. [77]

يحدِّد ق. كيرلس عمود الدين ما هو غضب الله، حيث يتحدث عن الحياة إنها الحياة الحقيقية في مجدٍ مع المسيح، أما ”غضب الله“ فهو عذابات الأشرار، حيث يقول:

”لكن إنْ كان من الممكن إدراك أنَّ غير المؤمن سوف يُحرم من الحياة في الجسد، لكنه بالتأكيد قد أضاف على الفور “بل يمكث عليه الموت” لكن حيث إنه يسميه “غضب الله”، فمن الجلي إنه يعقد مقارنة بين عقاب الأشرار وتنعمات القديسين، وأيضًا يصف تلك الحالة بكلمة “الحياة” التي هي الحياة الحقيقية في مجدٍ مع المسيح، أما عذابات الأشرار فيسميها “غضب الله”، وكثيرًا ما سُمِيَ ذلك العقاب في الكتاب المقدس إنه “غضب”..

وسوف أقتبس من شاهدين، بولس ويوحنا المعمدان: إذ يقول الأول للمهتدين بين الأمم “وكنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضًا” (أف2: 3)، ويقول الآخر للكتبة والفريسيين: “يا أولاد الأفاعي، مَنْ أراكم أنْ تهربوا من الغضب الآتي؟” (مت3: 7)“. [78]

يشير الأب يوحنا الدمشقيّ إلى كون الله صالحًا، فهو فيَّاض بكل صلاح، دون أن يخضع البتة لبُخل أو انفعال ما. فما أبعد البُخل عن الطبيعة الإلهية الصالحة وحدها والمنزهة عن الانفعال! [79]

كما يوضح الأب يوحنا الدمشقي سبب استخدام الكتاب المقدس للصفات الجسمانية عن الله موضحًا ماهية الغضب الإلهيّ كالتالي:

”ولما كنا نرى في الكتاب الإلهيّ الكثير من المقولات ترمز إلى الله بصورة جسمية أكثر منها روحية، فيجب أن نعلم، نحن البشر لابسي هذا الجسد الكثيف، أنه لا يمكننا أنْ نفهم أفعال اللاهوت الإلهية، السامية، اللامادية، ولا أن نعبر عنها إلا إذا استعملنا الصور والأمثال والرموز المختصة بنا.

وعليه كل ما يُقال في الله بصورة جسمية إنما يُقال بصورة رمزية، ومعناه أسمى من ذلك؛ لأنّ الله بسيط ولا شكل له […] ويُراد بغضبه وغيظه (الله)، بغضه للشر ونفوره منه، لأننا نحن أيضًا نبغض ما يضادُّ رأينا فنغضب […] إنّ كل ما يُقال في الله بطريقة جسمية يتضمن فكرة خفية ترشدنا مما فينا إلى ما يفوقنا“. [80]

كما يستنكر ق. كيرلس عمود الدين فكرة وراثة الغضب الإلهيّ من الآباء للأبناء بسبب خطايا الآباء، حيث إنهم لو كانوا حكماء، ألا يكون لائقًا بهم بالأحرى أنْ يعتنقوا الرأي الذي يقول: أن الله الذي هو مصدر البر ومصدر قوانيننا الأخلاقية لا يمكن أنْ يفعل شيئًا مخجلاً كهذا؛ لأنه حتى الناس يعاقبون العصاة بحسب القوانين، ولكنهم لا يوقعون هذه العقوبات على أولادهم، إلا لو كان هؤلاء الأولاد مشتركين مع آبائهم في الأفعال الشريرة. فذلك الذي وصف لنا قوانين كل عدل، كيف يمكن أنْ يُقال عنه أنه يوقّع عقوبات تعتبر مدانة عندنا بشدة (لأنها غير عادلة). [81]

ويناقش ق. كيرلس عمود الدين موضوع الانفعالات البشرية المنسوبة لله في الكتاب المقدس من الغضب والندم والسخط، ويعلل ذلك بأن السبب الحقيقيّ الذي جعل الكتاب المقدس يحدثنا عن الله بأقوال تخص الأعضاء الجسدية، هو ضعف عقلنا ولغتنا. بدون شك الأمور المتعلقة بالله هي أبعد من أنْ تُوصَف.

وبالتأكيد لا يمكننا أنْ ندرك الأمور الهامة عن الله، نحن الذين نحيا في أجساد مادية وسميكة، إلا فقط، إذا قَبِلنا أمثلة ونماذج تتناسب مع نوعية طبيعتنا. بمثل هذه الطريقة فقط، يكون لدينا المقدرة أنْ نرتفع نحو مفاهيم سامية عن الله. [82]

كما يتحدث ق. كيرلس الاسكندري عن إنذارات الله لأولئك الذين يُغضِبونه ويسببون له حزنًا، حيث يعلن الله لهم الأمور التي سوف تحدث لهم أحيانًا، ولكن بطرق ملائمة، على الأقل برسالة الملائكة إلى العقل البشريّ، وعندما يُعلِم بها أولئك، يذوبون خوفًا من الحزن، ويصير هذا الإعلان بالنسبة لهم بمثابة إنذارٍ كبداية للغضب والعقاب الذي يهدِّدهم.

ولأنه يستريح في الأنبياء القديسين، ففي مرات كثيرة يعلن لهم، ليس فقط الأمور المحزنة والأمور التي سوف يضايقون بها شخصًا لتجعله يجلس ويبكي، لكن أيضًا يذكر لهم الأمور المفرحة حقًا لرفاهية البعض، أمَّا الفُجَّار وأتباع المنجمين فيكشف لهم الأمور الشريرة التي سوف تحدث لهم.[83]

يؤكد ق. ديونيسيوس الأريوباغي أن الصور الإلهية التي نتخيلها عن الطبيعة الإلهية سواء أشكالها الإلهية، أو أجزائها، أو أعضائها، أو أماكنها الإلهية وعوالمها، أو غضبها، أو أسفها وحنقها، أو سُّكرها وثملها، أو قسمها، أو لعناتها، أو نومها ويقظتها، وكل الصور التشبيهية والتصورات المقدسة ما هي إلا صور استعارية ورمزية عن الطبيعة الإلهية تمثل تصوراتنا عن الله فيما يخص تلك الصفات البشرية، وهي مجرد تعبيرات مجازية وصور تشبيهية كمحاولة من الإنسان لفهم الله بتجسيده في صور بشرية. [84]

يتحدث ق. أوغسطينوس عن ماهية الغضب الإلهي من خلال عدة مفاهيم، قد تبدو بعض الأحيان متناقضة، لأنه أحيانًا ينسب الغضب لله، وفي أحيان أخرى للبشر، حيث يرى أنه صوت العدالة الإلهية وهو الحركة في الروح التي تعرف الشريعة الإلهية، وغضب الأرواح البارة الذي يقضي على الذنوب الكثيرة، وهي ظلمات النفس المنتهكة للشريعة الإلهية كالتالي:

”فيكون غضب الله مماثلاً لسخطه. لكن غضب الرب الإله، ينبغي ألا يُفهم بأنه صادر عن اضطراب الروح، إنه صوت العدالة الهادر في كل خليقة خاضعة لتكون في خدمته. لأن علينا أن نتذكر ما كتب سليمان ونؤمن به: «لكنك أيها السلطان القدير تحكم بالرفق وتدبرنا بإشفاق» (حك12: 18).

غضب الله، إذًا، هو تلك الحركة التي تختلج في روح تعرف شريعة الله، عندما ترى الخاطئ ينتهك تلك الشريعة؛ إنه غضب الأرواح البارة الذي يقضي مسبقًا على ذنوب كثيرة. وغضب الله هذا يمكن أن يقال عنه أيضًا إنه الظلمات التي تطبق على نفس كل مَن ينتهك شريعة الله“. [85]

ويتحدث ق. أوغسطينوس في موضع آخر عن مفهوم جديد للغضب الإلهي كالتالي:

”فإن النبي يسمي «غضب الله» ذلك القصاص الذي يرشق الله به الشيطان، بانتزاعه منه مَن يمتلكهم“. [86]

ثم يعطي ق. أوغسطينوس مفهوم آخر عن ماهية الغضب الإلهي موضحًا الفرق بين السخط والغضب الإلهي كالتالي:

”تلك هي الدينونة التي ترهبها الكنيسة، التي تصرخ في هذا المزمور: «يارب لا توبخني بغضبك» (مز6: 2). والقديس بولس يتكلم أيضًا عن الغضب يوم الدينونة، فيقول: «تذخر لك غضبًا ليوم الغضب، ولقضاء الله العادل» (رو2: 5). في هذا اليوم لا يرغب في أن يقف متهمًا مَن يطلب الشفاء في هذه الحياة. «ولا تؤدبني بسخطك». كلمة ”تؤدبني“ أخف وطأةً من كلمة ”توبخني“، لأنها تؤدي إلى الإصلاح، فبدل أن نُتهم ونُدان، علينا أن نخشى الإدانة. غير أن السخط يبدو أشد من الغضب، ويمكن أن نعجب من أن التأديب، وهو الأخف، يترافق مع السخط، وهو الأشد.

أما أنا فأرى أن العبارتين تحملان المعنى نفسه، لأن اللفظة اليونانية Θυμός غضب في المقطع الأول، لها معنى لفظة  όργήسخط في المقطع الثاني. ولما رأت الترجمة اللاتينية أن تستعمل العبارتين أيضًا، بحثت عن كلمة مرادفة لـ ”غضب“ فوضعت سخط. من هنا التنوع في الترجمات. في هذه يأتي الغضب قبل السخط، وفي تلك بعده.

ومهما يكن من أمر، فإن هاتين الكلمتين تعبران عن حركة في النفس تبغي الانتقام، حركة لا نستطيع أن نعزوها إلى الله بالمعنى الذي نعزوها فيه لأنفسنا، من حيث أنه قيل: «لكنك أيها السلطان القدير تحكم بالرفق» (حك12: 18). وما كان بالرفق، يتعارض مع ما هو بالشدة. والله في حكمه لا ترقى إليه شدة، لكننا دعونا غضبه ذاك الشعور الذي سببته شرائعه عند خدامه. والحال، فإن النفس التي تتوسل في هذا المزمور تخشى أن تكون متهمة بسبب هذا الغضب، حتى أنها لا تريد التأديب الذي قد يصلحها أو يعلّمها“.[87]

كما يرى ق. أوغسطينوس أن غضب الله لا يعني أي شيء آخر سوى العقاب العادل، وغضب الله ليس مثل غضب الإنسان اضطراب في الذهن، ولكن غضبه هو ما تحدث عنه الكتاب المقدس في موضع آخر قائلاً: ”لكنك أيها السلطان القدير تحكم بالرفق“ (حك12: 18). وبالتالي إن كان عقاب الله العادل قد قَبِلَ هذا الاسم، فماذا يكون الفهم الصحيح للمصالحة مع الله إلا نهاية هذا الغضب. [88]

ويشرح أيضًا ق. أوغسطينوس ماهية الغضب الإلهي في موضع آخر قائلاً:

”ولا يعني غضب الله اضطرابًا في فكره، بل إنه حكم يُعاقِب على الخطيئة. إن فكرته وتفكيره يبقيان السبب الثابت اللا متغير للتغييرات التي حدّدها لأنّ الله لا يندم كالإنسان على أعماله؛ وفي كل شيء قصده ثابت وعلمه المسبق أكيد؛ ولكن إن لم يستعمل الكتاب تلك التعابير فكيف يمكنه وهو يحرّض على التجاوب مع مصلحة الناس أجمعين أنْ يختلط بهم دون تكلف، فيبدّد الكبرياء، ويوقظ الإنسان من خموله وكسله، ويحفّزه على السعي والجّد ويغذي العلم؟“. [89]

ونلاحظ أن آباء الكنيسة يعتبرون الغضب المنسوب لله هو إسقاط على حالة الإنسان المبتعد والمنفصل عن شركة الله، فهو الغاضب والناقم وغير المكترث بالله، وليس الله الذي لا يريد هلاك الخاطئ، مثلما يرجع ويحيا، ويسعى في طلب الضال والهالك دائمًا ليخلصه ويعود به إلى الشركة معه.

تصحيح مفاهيم خاطئة في تعليم البدلية العقابية: ملمح العقوبة

سوف نورد بعض التفسيرات والشروحات الآبائية التي تفسِّر مفهوم العقوبة الإلهية في الكتاب المقدس، وكما فهمها آباء الكنيسة الجامعة كالتالي:

يتحدث العلامة أوريجينوس عن قيمة العقوبة التربوية من الله، وإنها لتقويم وتصحيح الخطاة، وليس المقصود إهلاكهم وفنائهم، حيث يرد على ادعاءات الغنوسيين بقسوة إله العهد القديم وبصلاح ورأفة إله العهد الجديد بحسب زعمهم الباطل بوجود إلهين في الكتاب المقدس بعهديه، يقول:

”ليتهم يخبرون عن فضيلة ففضيلة منكبين على فحص الكتب، فلا يسعوا إلى التملص بقولهم: إنّ الله الذي يجازي كل أحد بحسب أعماله يجازي على السوء بسوءٍ حنقًا منه على الأشرار؛ وإنه لا يبادر الذين أخطئوا وهم في احتياج إلى العناية بهم بأدوية ناجعة، بعلاجٍ يبدو أنه يحمل الألم إليهم في الآن الحاضر لأجل إصلاحهم.

فهم لم يقرأوا ما كُتِبَ عن رجاء الذين لقوا حتفهم في أثناء الطوفان، الرجاء الذي قال عنه بطرس في رسالته الأولى: لقد مات المسيح بحسب الجسد، ولكنه محيي بحسب الروح، وبهذا الروح مضى وبشّر الأرواح المضبوطة في السجن، تلك التي عصت قديمًا إذ كان حلم الله يتأنى، أيام كان نوح يبني الفلك الذي نجا فيه، بالماء، عدد يسير من الناس -ثمانية أنفس بالضبط.

وأنتم أيضًا يخلصكم اليوم بالعماد على النحو نفسه. ويا ليتهم يقولون لنا، في موضوع سدوم وعمورة، هل يعتقدون بصدور الأقوال النبوية عن الله، الذي نُقِلَ عنه أنه أمطر عليهم وابلاً من نار وكبريت! ماذا يقول حزقيال عن هاتين المدينتين؟ ستعود سدوم إلى قديم حالها. فإذ إنه اقتصّ من الذين استحقوا القصاص، ألم يفعل ذلك لمنفعتهم؟ فقد قال مخاطبًا بنت الكلدانيين: عندك حجر، فاقعدي عليه يُثبِك خيرًا. وفي شأن الذين سقطوا في البرية، ليصغي الزنادقة إلى ما جاء خبره في المزمور 77، منسوبًا بعنوانه إلى آساف: إذ كان يقتلهم كانوا يلتمسونه.

لم يق إنّ بعضًا منهم إذ قُتِلوا، كان آخرون يلتمسونه، بل إنّ الذين قُتِلوا قد لقوا حتفهم، بحيث إنهم كانوا يلتمسون الله عندما قضوا نحبهم. فهذا كله يُظهِر أنّ الله العادل والصالح، إله الناموس والأناجيل، إله واحد هو هو نفسه، وأنه يعمل الخير بعدلٍ، ويعاقب بصلاحٍ، إذ ليس الصلاح دون العدل، ولا العدل دون الصلاح، علامة منزلة الطبيعة الإلهية“. [90]

يستمر العلامة أوريجينوس بالرد على الغنوسيين وادعاءاتهم الفاسدة بإلهين في الكتاب المقدس في سياق تفسيره لشفاعة موسى وهارون أمام الله أثناء حادثة تمرد قورح وداثان وأبيرام وانتشار الوباء بين العبرانيين (عد16: 46). حيث يُذكِّر العلامة أوريجينوس بلطف الله الذي تمتع به تلاميذ المسيح، لكيلا يتزعزع أحد بتأثير الهراطقة فهم يقولون إنّ رب الشريعة ليس محبًا لكنه عادل، وإن شريعة موسى لا تُعلِّم المحبة بل العدل.

فلينظروا هؤلاء المحاربون لله، والمحاربون للشريعة كيف أنّ موسى نفسه وهارون هذان الرجلان في العهد القديم قد خضعا مقدمًا لتعاليم الإنجيل. موسى “أحب أعداءه وصلى لأجل مضطهديه”. هذا ما علّمته بكل دقة تعاليم المسيح في الأناجيل. لنتعلم حقًا كيف سجدا ووجههما للأرض، وصليا لأجل الثائرين الذين أرادوا أنْ يقتلوهما. إذًا، نجد قوة الإنجيل في الشريعة، ولا تُفهم الأناجيل إلا على أساس الشريعة. [91]

كما أن هناك مغالطة كبيرة جدًا تقول إن أوريجينوس هو الوحيد الذي تحدث عن العقوبات التأديبية الشفائية وهذا عكس ما سنرى من كتابات أباء الكنيسة كالتالي:

يرى ق. كيرلس الأورشليمي إن الخطية هي شر مرعب للغاية، لكنها ليست بالمرض المستعصي شفائه، هي مرعبة لمَّنْ يلتصق بها، لكن مَنْ يتركها بالتوبة يُشفى منها بسهولة. [92]

ثم يؤكد ق. كيرلس الأورشليمي على عظم محبة الله للبشر، وترفقه وطول أناته الشديدة عليهم من أجل توبتهم، ويُعدِّد أمثلة رحمة ورأفة الله بالخطاة، وتعامله معهم كما يتعامل الطبيب الماهر مع مرضاه، فيذكر طول أناته على جبابرة الأرض الخطاة خمسمائة عامًا يهدّدهم بالطوفان لكي يهبهم مهلة للتوبة، فلو أنهم تابوا لما أخفقوا في التمتع بمحبة الله المترفقة.

ونفس الشيء صنعه الله مع راحاب الزانية الوثنية، ومع هارون عندما أخطأ في حق أخيه موسى، وترفقه بداود الساقط، ورحمته بسليمان وآخاب ملك السامرة، ويربعام الملك عابد الأوثان، ومع منسى الملك الشرير، ومع حزقيا الملك، ومع نبوخذ نصر الملك وغيرهم الكثيرين. [93]

كما يواجه ق. كيرلس الأورشليميّ هرطقة الغنوسيين القائلين بإلهين في الكتاب المقدس، واحد للعهد القديم والآخر للعهد الجديد، أنَّ الأسفار المقدسة وتعاليم الحق تعرفنا بإله واحد وحده، مدبر كل الأمور بقدرته، يتحمل كثيرًا بإرادته. إنه صاحب سلطان على الوثنيين، وبطول أناته يحتملهم. له سلطان على الهراطقة الذين لا يقيمونه عليهم إلهًا، وبطول أناته يحتملهم.

له سلطان على الشياطين وبطول أناته يحتملهم، ليس لأنه محتاج إلى سلطان كمَّن هو ضعيف، لقد سمح للشياطين أن تعيش لغرضين: لكي تخزي نفسها بنفسها بالأكثر في حربها، ولكي يتكلل البشر بالنصرة. يا لعناية الله الحكيمة! التي تستخدم نية الشرير كأساس لخلاص المؤمنين! لا شيء يفلت من سلطان الله الذي يحكم الكل وبطول أناته يحتمل حتى المجرمين واللصوص والزناة محدّدَا وقتًا معينًا لمجازاة كل أحد، لكن إنْ أصّر مَن يحذّرهم على عدم التوبة من القلب ينالون دينونة عظيمة. [94]

يوضّح ق. غريغوريوس النيسي مفهوم العقوبات الإلهية في سياق تفسيره للضربات العشرة التي حلت بالمصريين إنه يجب ألا نستنتج أنَّ هذه الضربات التي حلت بمَّن يستحقونها جاءت مباشرةً من الله، بل يجب أن نلاحظ أنّ كل إنسان يجلب على نفسه الضربات بإرادته الحرة بسبب ميوله..

ويخاطب بولس الرسول مذلة هذا الشخص، قائلاً: “ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذي يجازي كل واحد حسب أعماله” (رو2: 5)، ويؤكد أيضًا أننا عندما نقول أنّ الانتقام المباشر يحل من الله على مَّن يسيئون استخدام إرادتهم الحرة، فمِن المنطقيّ أنْ نلاحظ أنّ أصل هذه المعاناة وسببها هو في أنفسنا، حيث لا يمكن أنْ يحلّ بنا شر إلا باختيارنا الحر. [95]

ينتقد ق. كيرلس عمود الدين القدرية والجبرية وإنزال العقوبات من قِبل الله في سياق حديثه عن ادعاء الشعراء الوثنيين الذين ينسبون المتاعب والشرور والانفعالات لآلهتهم الوثنية، حيث يقول هوميروس في أشعاره إن الإله ”ذياس“ يتحدث مع آلهة أخرى عن زنى ”إيجيستوس“، وعن الجزاء الذي يستحقه. ويا للأسف، كيف يتهم البشر الزائلون الآلهة باتهامات ثقيلة، ويقولون إن الشرور تأتي من الآلهة، وهكذا فإن أولئك يتألمون بعصيانهم، وليس من القَدَرَ.

فلأي سبب ينسب البعض للآلهة متاعبهم، ولا ينسبونها إلى أخطائهم التي تسبب لهم النكبات؟ فإذا اختار المرء أنْ يعيش حياة مستقيمة، وتكون حياته مملوءة بالحكمة واللياقة، فإن عليه أن يسلك بثباتٍ متخطيًا الصعاب، وذلك بناءً على قراره الصحيح والمشورة المستقيمة، ولا يترك نفسه أسيرةً للأعمال الشريرة. لأن في مقدورنا أن نرى الاتجاهين، أقصد الخير والشرير.

والذين يقدِّرون الطريق الصحيح سوف يصلون إلى جمال الفضيلة، أما الذين يحبسون أنفسهم في الشر ويفضِّلون الظلم، هؤلاء يفسدون الحياة نفسها، ويكونون هم سبب هلاكٍ لأنفسهم. [96]

يتحدث ق. كيرلس عمود الدين أيضًا في سياق تفسيره لشريعة القتل في الناموس الموسويّ عن مفهوم العقوبة الإلهية الممزوجة بالمحبة، حيث إذا حدث وقتل شخص أحد عن غير عمد، فإن الناموس يحاكمه بعقوبة الهروب المستمر، إذ يمزج الله هنا العقوبة بمحبته للبشر؛ حيث لا يجعل عقوبة الجريمة التي هي عن غير قصد، في نفس مستوى جرائم العمد، لذلك أمر الناموس أن تُحدَّد ثلاثة مدن اسماها مدن الملجأ لكي يلجأ إليها الذين يرتكبون أخطاءً غير مقصودة.

ويعقد مقارنة بين تلك الشريعة وبين الخطاة الذين أُسِروا بخطاياهم، كأنهم قاتلون لأنفسهم، بالرغم من أنهم انجرفوا إلى هذا الوضع السيء دون إرادتهم، وصاروا مخالفين لله، كما يقول الكتاب: ”لأنَّ تصوّر قلب الإنسان شرير منذ حداثته“ (تك8: 21). فكما ساد ناموس الشهوة الجسدية غير الملجمة على أعضاء الجسد، هكذا تُعاقب نفس الإنسان التعيسة، بالهرب من العالم ومن الجسد في منفى، كما لو كان في مدينةٍ بعيدةٍ.

وهذا يشير إلى أقسام الأرض السفلى، أي الهاوية التي تنزل إليها النفس بالموت، كما حدث قديمًا، وقضت النفوس أزمنةً هناك، ولكن عندما جاء رئيس الكهنة المسيح ومات من أجل الجميع، ونزل إلى الجحيم، فتح أبوابه، وحرّر النفوس من القيود. [97]

كما يرى ق. كيرلس ضلال عبادة الأوثان عند اليونانيين الذين يختارون الأشجار التي تحمل فروعًا جيدة، وكل غابة كثيفة الظلال ليبنوا فيها هياكل من أجل تقديم ذبائح للشياطين فيها، ويرتّبون بعض المتع العالمية التي تشغل الذهن بسبب الضعف؛ الذي هو المرض الطبيعيّ للمزيفين، الذي يحتاج للعلاج. [98]

يوضّح القديس إيسيذوروس الفرمي مفهوم العقوبة الإلهية، ويرى أنَّ تقويم وتصحيح الخطايا الذي يقوم به الله لأجل تحسيننا، لا يجب أنْ نسميه غضبًا ولا سخطًا، بل بالحري نُصحًا وموعظةً. لكن لو اعتبره البعض غضبًا، قاصدين بذلك الإعلان عن محبة الله للبشر، فذلك لأنهم يؤمنون بأنَّ الله يتنازل إلى مستوى الأهواء والعواطف بسبب البشر، وصار إنسانًا لأجلهم. [99]

ويؤكد ق. إيسيذوروس أيضًا على نفس المفهوم الشفائيّ والتربويّ عن العقوبة الإلهية في موضع آخر، حيث يرى أن الطبيعة الإلهية وغير الدنسة قد أعطتنا كل أمثلة العقوبات مكتوبةً؛ حيث فُرِضَت عن حقٍ للخطايا، حتى بالخوف من الجحيم ذاته، نتجنب الشركة في الأعمال الخاطئة. إذًا، إنْ خاف أحد التأديبات، ليته يحافظ على احترام العقائد. [100]

كما يناقش ق. باسيليوس موضوع الدينونة الإلهية والعقاب، ويفسرها وكأنه يتحدث بلسان حال أيامنا الحاضرة كالتالي:

”الحديث عن الدينونة تكرر في مواضع كثيرة من الكتاب المقدس، باعتباره أمر ملزم، وقادر أن يحفظ أولئك الذين آمنوا بالله في المسيح يسوع في تعليم التقوى. ولأن الكلام عن الدينونة قد كُتب بطرق مختلفة، فمن الواضح أنه أحدث التباسًا لدى أولئك الذين لا يميزون المعنى بدقة. […]

ولكن من الواضح أن كلمة “أدان” نتقابل معها في الكتاب المقدس، تارة بمعنى “أُجرب”، وتارة أخرى بمعنى “أحكم على نفسي” […] وقيل أيضًا إن الرب سيدين أو سيجازي كل إنسان، أو يحاسب كل إنسان، أي عندما يفحص الله كل إنسان، سيضع ذلك الإنسان نفسه في مواجهة الدينونة أو القضاء، وسيضع الله مقابل وصاياه أعمال أولئك الذين أخطأوا.

وسيبين في دفاعه أن كل ما كان منوط به عمله لأجل خلاص جميع المدانين، فهذا قد عمله وتممه، حتى يقتنع ويثق الخطاة أنهم مذنبين، بسبب ما ارتكبوه من خطايا، وبعدما يقبلون بالقضاء الإلهي، سيقبلون العقوبة المفروضة عليهم بإرادتهم“. [101]

ويستطرد ق. باسيليوس الكبير في نفس السياق موضحًا معنى العقوبة الإلهية كالتالي:

”فالمجاعات والسيول هي نكبات مشتركة تأتي على المدن والأمم لكي توقف وتحجّم فعل الشر المتفاقم. إذًا مثلما نصف الطبيب دائمًا بأنه محسن وكريم حتى لو تسبب في إيلام الجسد أو النفس (لأنه يحارب المرض وليس المريض) هكذا الله هو صالح يدبر الخلاص من خلال محصلة بعض الإجراءات“. [102]

كما يشرح ق. غريغوريوس اللاهوتي النزينزي معنى العقاب والدينونة الإلهية كظلمة وعمى روحيين وانفصال عن التنعم بمعاينة الله كالتالي:

”فآمن أنت يا هذا بالقيامة والدينونة والمجازاة العادلة من عند الله. وافهم هذه المجازاة على أنها نور للمطهرين في أذهانهم أعني أنهم سيرون الله وسيعرفونه كل واحد على قدر الطهارة التي هو فيها، وهو ما نسميه “الملكوت السماوي”. وافهم أيضًا أن العقاب إنما هو ظلمة للذين عموا وضلوا عن جادة الحق والصواب. أي تغرب عن الله هو بنسبة ما عندنا هنا من العمى“. [103]

كما ينقل ق. يوحنا كاسيان رأي الأب ثيؤدور عن مفهوم العقوبة الإلهية كعقوبة تأديبية شفائية كالتالي:

”اعتاد الكتاب المقدس أن يستخدم بعض التعبيرات في غير معناها الأصلي. فيستخدم كلمة “الشرور” عن “الأحزان والضيقات” ليس لأنها شر، أو طبيعتها شريرة، بل لأن مَن تحل بهم هذه الأمور لأجل صالحهم يعتبرونها شرًا. فحينما يتحدث الحكم الإلهي مع البشر، يتكلم معهم حسب لغتهم ومشاعرهم البشرية. فالطبيب يقوم بقطع أو كي الذين يعانون من القروح لأجل سلامة صحتهم، ومع هذا يراه مَن لا يقدرون على احتماله أنه شر. والمنخاس أو السوط يكون مفيدًا للحصان الجموح.

والتأديب يُعتبر مرًا بالنسبة للمؤدبين، إذ يقول الرسول: “ولكن كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن، وأما أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر السلام” (عب12: 11)، “الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله فأي ابن لا يؤدبه أبوه؟!” (عب12: 6، 7)“. [104]

تصحيح مفاهيم خاطئة في تعليم البدلية العقابية: ملمح الفدية

لقد استخدم السيد المسيح تعبير ”فدية“ عن نفسه، حيث يقول: ”كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ“ (مت20: 28).

كما استخدمه بولس الرسول عن المسيح ليوضح عمل الفداء الذي قام به المسيح كالتالي: ”الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ، الشَّهَادَةُ فِي أَوْقَاتِهَا الْخَاصَّةِ“ (1تي2: 6).

ولكن يتتبع البروفيسور هاستنجس راشدال Rushdall فكرة الفدية وأصولها في العهد القديم ويقول التالي:

”نجد تعبير الفدية في [الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلاَ يُعْطِيَ اللهَ كَفَّارَةً عَنْهُ] . (المزامير7:49) وفي [إِنْ وُجِدَ عِنْدَهُ مُرْسَلٌ، وَسِيطٌ وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ لِيُعْلِنَ لِلإِنْسَانِ اسْتِقَامَتَهُ، يَتَرَاَءَفُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: أُطْلِقُهُ عَنِ الْهُبُوطِ إِلَى الْحُفْرَةِ، قَدْ وَجَدْتُ فِدْيَةً].  (أيوب24-23:33) وفي [ «مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟ تَخْتَفِي النَّدَامَةُ عَنْ عَيْنَيَّ»]. (هوشع14:13). كما يأتي تعبير λύτρον في النص السبعيني بصيغة الجمع τά λύτρα ١٧ مرة من أصل ٢٠ مرة، وتعادل الكلمات العبرية التالية:

١. فدية kopher (الأصل kaphar, kipper) كما في (خر٢١: ٣٠، ٣٠: ١٢) حيث يتم شرحها عادةً في اللغة العربية بمعنى ‘غطاء’ أو عطية استرضائية، ولكن المعنى الأصلي على الأرجح أكثر موجود في اللغتين البابلية والآشورية. حيث استخدام فعل “تسديد الدين” من خلال فعل طقسي تعبدي، وكذلك في اللغة السريانية “تسديد الدين”.

كما يشير درايفر Driver (Art. Expiation in Encycl. Of Religion & ethics) إلى أنه فكرة ‘التطهير’ في اللغة العبرية صاحبت الكلمة مبكرًا، لذلك الفكرة هي عن التطهير بالحري وليس عن ‘الاسترضاء’. ولا يكون الله أبدًا موضوع أو هدف ‘kipper’ أو ίλάσκομαι كما في النص السبعيني، لأنها حالة ثابتة عند الكُتاب الوثنيين.

٢. فداء g’ullah (الأصل ga’al أي “إزالة المطالبة بالدعوى” وكذلك “تبرئة” أو “استرداد”) وهو فعل أو حق الاسترداد، والخلاص والتعويض من أجل حقل أو عبد كما في (لا٢٥: ٢٤)، والتسديد مصنوع من أجل الخلاص أو تسديد الدين كما في  (لا٢٥: ٢٦، ٥١).

٣.فدية pidhyon, p’dhuyium (الأصل padhah) كما في (خر٢١: ٣٠) و (عد٣: ٤٨، ٥١) عن الثمن المدفوع كفدية.

٤.الربح أو الثمن أو المهر m’hir (فعل غير مستخدم) كما في (إش٤٥: ١٣)، وإن استخدمه ربنا، فالمعنى المحتمل أكثر يبدو أنه kopher أي كفارة بالشكل الآرامي. وإن كانت الكلمة تعود إلى البشير أو إلى التقليد، فلا نحتاج للاعتقاد بالمقابل الآرامي. يمكن تخليص فكرة λύτρον بسهولة من الفكرة العامة للفداء άπολύτρωσις. حيث قد أفتدى الله إسرائيل أي اشتراه، وهكذا جعله خاصته، وهي فكرة منتشرة في العهد القديم، وتحولت في العهد الجديد إلى إسرائيل الروحي كما في (أف١: ١٤؛ أع٢٠: ٢٨).

وبالتالي، لا تحتاج الفكرة لإعطاء إجابة على سؤال لمَن دُفعت الفدية؟ ولا حتى إجابة محددة بعينها على سؤال مما تم خلاص شعب الله: الفكرة الرئيسية هي أنهم تم شرائهم لله، أي للملكوت، والخلاص، والسعادة الأبدية. ولا توجد كلمة λύτρον عند ق. بولس، بالرغم من أن لدينا كلمة άπολύτρωσις عدة مرات، والفكرة موجودة في (١كو٦: ٢٠، ٧: ٢٣): “اشتريتم بثمن”.

الكلمة التي قالها المسيح عن نفسه كفدية موجودة في (١تي٢: ٦)، حيث القراءة الصحيحة هي άντίλυτρον. يعلق M. Riviére في كتابه (Le Dogme de la Rédemption, p. 49) أنه “في العهد الجديد – وعادةً أكثر عند الآباء أيضًا- نجد فقط حرف الجر άντί عند تسميتها بكلمة ‘فدية’.

حيث أنه من الملاحظ إنه يُقال أحيانًا عن الله أنه ‘فدية’ λυτροϋν لشعبه بمعنى ‘يحرر’ أو ‘يخلص’ في آيات لا يوجد بها أي نوع من دفع الثمن أو المقابل كما في (خر٦: ٦) ga’al و (تث٢١: ٨) padhah وكذلك في (إر١٨: ٢٣؛ مز٧٨: ٣٨)، حيث تستخدم كلمة kipper عن فعل الله، وسوف تمثل كلمة “يطهّر بعيدًا” الفكرة، حيث يترجم درايفر Driver الكلمة ‘يطهر’، بينما تقترب الفكرة عند ليرت Leart من pardon أي الغفران أو الصفح.

الفكرة الرئيسية المفترضة من تعبير ‘فدية’ هي فكرة الثمن المدفوع من أجل تأمين المنافع للآخر- أو على وجه التحديد، الثمن المدفوع لتأمين الحياة أو الحرية“. [105]

أما عن مفهوم الفدية عند الآباء ينقسم الآباء فيه إلى ٣ آراء:

الرأي الأول

يقول بأن الفدية قدمها الابن إلى الآب ونجد هذا الرأي عند كل من التالي:

حيث يقول ق. أثناسيوس عن تقديم الابن الفدية للآب:

”وعندما أراد الآب أن تُقدم الفدية لأجل الجميع، وأن تُعطى النعمة الكل، عندئذ مثلما أرتدى هارون الجبة أخذ الكلمة جسدًا من الأرض متخذًا له من مريم الجسد كما من أرض بكر حتى إذ يكون له – كرئيس كهنة – شيء يقدمه، فهو يقدم ذاته للآب ويطهرنا جميعًا من الخطايا بدم نفسه ويقيمنا من بين الأموات“. [106]

ويتفق مع هذا الرأي أيضًا ق. كيرلس الأورشليمي حيث يقول التالي:

”وإذ كان فينحاس عندما زادت غيرته ذبح فاعل الشر، فرد سخط الرب، فهل يسوع الذي لم يذبح غيره، بل بذل نفسه فدية ليرد السخط الذي كان من جهة الجنس البشري؟“. [107]

الرأي الثاني

يقول بأن الفدية قدمها المسيح للشيطان وهذا يقول به مجموعة من الآباء كالتالي:

حيث يقول ق. إيرينيؤس في موضوع تقديم الفدية للشيطان التالي:

”وهو الذي فدانا بطريقة تناسب العقل، أعطى نفسه كفدية لأولئك الذين واقعوا في الأسر.

وحيث أن الارتداد (إبليس) طغى علينا ظلمًا، رغم أننا بالطبيعة ملك الإله كلي القدرة، فإن الارتداد (إبليس) جعلنا غرباء عن الله ضد الطبيعة، إذ جعلنا تلاميذه، فإن كلمة الله القوي في كل شيء، وليس ناقصًا من جهة عدله قام ضد ذلك الارتداد بطريقة عادلة، وأفتدى خاصته منه لا بوسائل عنيفة، مثلما تسلط الارتداد علينا في البداية، حينما انتزع بدون شبع ما لم يكن له، بل عن طريق الإقناع كما يليق بإله المشورة، الذي لا يتعامل بوسائل عنيفة ليحصل على ما يريد..

حتى أنه لا تنتهك العدالة من ناحية، ولا يهلك صنعة يدي الله من ناحية أخرى، وحيث إن الرب قد فدانا بدمه هكذا، باذلاً نفسه عن نفوسنا وجسده عن أجسادنا“. [108]

حيث يستعرض العلامة أوريجينوس موضوع تقديم الفدية للشيطان كالتالي:

”فإذا كنا قد اُشترينا بثمن، كما يؤكد بولس الرسول، فبلا شك فإننا اُشتُرينا من شخص كنا عبيدًا له، وقد طالب أيضًا بالثمن الذي أراده، كي ما يحرر من سلطانه مَن هم في قبضته. الآن كان إبليس هو مَن يمسكنا، الذي أُخِذنا له بسبّب خطايانا. لذلك فقد طالب بدم المسيح كثمن له. وبالتالي متى قُدم دم المسيح الذي كان ثمينًا جدًا، بحيث يكفي وحده لفداء الكل“. [109]

كذلك نجد أن ق. باسيليوس الكبير يتحدّث عن تقديم الفدية للشيطان كالتالي:

”فطهّرنا بالماء وقدسنا بالروح القدس وبذل نفسه فديةً للموت الذي كان مستوليًا (إبليس مَن له سلطان الموت بحسب عب ٢) علينا ارقاءً تحت الخطية، وانحدر بالصليب إلى الجحيم ليمتلئ الكل منه، فحلّ أوجاع الموت وقام في اليوم الثالث“. [110]

نجد أيضًا ق. غريغوريوس النيسي يتحدّث عن تقديم الفدية للشيطان كالتالي:

”وبالتالي نظر العدو هذه القوة فيه (أي في المسيح) ورأى فيه أيضًا الفرصة من أجل التقدم، وفي المبادلة بحسب قيمة ما يحتويه، ولهذا السبب أختاره (أي إبليس) كفدية لهؤلاء القابعين في سجن الموت“. [111]

كما يؤيد ق. أوغسطينوس فكرة دفع الفدية للشيطان، حيث يقول التالي:

”لأن دم المسيح في هذا الفداء، قد أُعطي ثمنًا لأجلنا بموافقة وقبول إبليس الذي لم يكن مُستغنيًا، بل مُقيدًا لكي ما يطلقنا من قيوده“. [112]

ويقول ق. أوغسطينوس في موضع آخر في نفس السياق:

”لأن ثمننا الذي عرضه عليه على صليبه يشبّه مصيدة فأر، وكطُعم موضوع عليها بدمه“.[113]

ولقد كان مِن مؤيدي تقديم الفدية للشيطان من الآباء اللاتين أيضًا ق. أمبروسيوس وق. جيروم.

ويؤيد البابا ليو (لاون) الكبير فكرة تقديم الفدية للشيطان كالتالي:

”أصر اللص عديم الضمير والسارق الجشع على الهجوم عليه (أي المسيح) ، مَن ليس له فيه شيء يخصه، وتخطى بتنفيذ الحكم العام على الخطية الأصلية القيد الذي أوثقه (أي إبليس) به، وطالب بمعاقبة الإثم ممَن لم يجد فيه أي ذنب، وبالتالي، تم إبطال المواعيد المؤذية للصك المميت، وتم إلغاء الدين كله من خلال ظلم الثمن الفاحش“. [114]

ويؤيد البابا غريغوريوس الكبير نفس الفكرة قائلاً:

”خدعه الرب مثل عصفور، عندما أظهر أمامه في الآلام ابنه الوحيد كطُعم، ولكنه أخفى حبل المشنقة“. [115]

الرأي الثالث

يرفض فكرة تقديم المسيح الفدية لإبليس، ويعتبر الفدية هي القضاء على الفساد والموت والالتفاف عليهما، وهذا نجده عند كلٌّ من:

حيث يناقش ق. غريغوريوس اللاهوتي موضوع الفدية رافضًا تقديم الفدية للشيطان كالتالي:

”والآن إن لم تكن الفدية لأجل مَن كان تحت العبودية، فإني أتساءل: لمَن قُدِّمت؟ ولأيّ سبب؟ إذا قُدمت للشرير، فليُبعد عني مثل هذا التجديف! إن كان اللص يأخذ فدية لا من الله فقط، بل الله نفسه، ويأخذ أجرًا عظيمًا لاستبداده بالبشر حسب رغبته“. [116]

كما يرفض ق. غريغوريوس في نفس العظة تقديم الفدية للآب أيضًا، حيث يقول التالي:

”أما إذا كان قد دفع للآب، فأنا اتساءل أولاً: كيف؟ لأن الآب لم يمسكنا كرهينة. لماذا سُر الآب بدم ابنه الوحيد، وهو الذي لم يقبل إسحق حين قدمه إبراهيم ذبيحة محرقة كاملة، بل بدّل الذبيحة بكبش؟ أليس الأمر واضحًا، أن الآب قد قبِل الذبيحة ليس لأنه طلبها أو كان في احتياج لها، ولكن لأجل تدبيره: لأن الإنسان لابد أن يُقدس بإنسانية الله؛ والله نفسه يجب أن يخلصنا بأن يغلب المستبد بقوته هو، وأن يردنا إليه بواسطة الابن الذي يفعل هذا كله لمجد الله الذي أطاعه في كل شيء“. [117]

ونجد هنا النزينزي يؤكد فكرة تقديس البشرية بإنسانية المسيح وانتصار المسيح على إبليس بقوة قيامته ونصرته على مَن بيده سلطان الموت أيّ إبليس.

كما يرفض ق. كيرلس الاسكندري أيضًا تقديم المسيح الفدية لإبليس وللآب، ويؤكد على تقديم الفدية لنا، حيث يقول التالي:

”لقد أعطانا حقًا عطية ثمينة، جسده لأجل جسدنا ونفسه فديةً لأجل نفوسنا، ورغم ذلك قام إذ إنه كإله بطبيعته هو الحياة ذاتها“. [118]

ويؤكد ق. كيرلس هنا على نفس مفهوم الفدية عند ق. غريغوريوس اللاهوتي، حيث يعطينا المخلِّص نحن البشر الحياة والنصرة على الفساد والموت بموته وقيامته.

يرفض الأب يوحنا الدمشقي أيضًا تقديم المسيح الفدية للشيطان؛ حيث يقول عن المسيح التالي:

”إنه قدم ذاته فديةً عنا، وبذلك يحلنا من الحكم علينا ولكن حاشا أن يكون دم الرب قد تقرّب للطاغية (إبليس)“. [119]

وهكذا يؤكد الأب يوحنا الدمشقي أيضًا على أن الفدية هي حل قيود الإنسان من حكم الموت والفساد الذي جلبه على ذاته بالعصيان والخطية.

هل هناك بدلية عقابية في تعليم القديس أثناسيوس؟

للإجابة على هذا السؤال الهام جدًا، سوف أستعرض آراء أربعة من أهم الباحثين في تاريخ العقيدة حول آرائهم وملاحظاتهم على تعليم السوتيرلوجي عند القديس أثناسيوس كالتالي:

يتحدّث البروفيسور جون كيلي Kelly (لاهوتي بروتستانتي) عن تعليم ق. أثناسيوس الخلاصي التالي:

”لم يشفنا المسيح فقط، بل حمل العبء الثقيل لضعفنا وخطايانا. المظهر الخارجي للتعليم هو أحد تعليم البدلية، ولكن ما يحاول أثناسيوس إبرازه لم يكن أكثر من أن ذبيحة واحدة كانت بديلة عن الأخرى، حيث «استُنفذ موت الجميع في جسد الرب» (تجسد الكلمة : ٢٠).

بكلمات أخرى، إنه بسبب الاتحاد بين جسده وجسدنا، كان موته وانتصاره بالأساس لنا (أي موتنا وانتصارنا). تمامًا كما ورثنا الموت من خلال ارتباطنا بآدم الأول، هكذا نهزم الموت ونرث الحياة من خلال ارتباطنا بـ «الإنسان من السماء» (ضد الآريوسيين ١: ٤٤: ٢، ٦١؛ ٢: ٦٧)“. [120]

وهذه هي البدلية التي يقصدها أثناسيوس مبادلة الموت بالحياة والفساد بعدم الفساد والظلمة بالنور والخطية بالقداسة… وهكذا.

يقول البروفيسور لورانس جرينستيد  Grensted(لاهوتي بروتستانتي) مقارنًا بين تعليم أثناسيوس السوتيرلوجي وتعليم البدلية العقابية التالي:

”لا يوجد مبرر للادعاء بأن أثناسيوس هو أصل وبادرة النظريات العقابية اللاحقة. لا توجد إشارة إنه يعتبر الموت في أي موضع كمعاناة عقابية، ويظل قليلاً ما يعتبر موت المسيح كعقاب نيابي. لم يستخدم بالفعل عبارات «تألم نيابةً عن الكل» و «الموت نيابةً عن الكل» ولكن ينبغي تفسير تلك العبارات بحسب فهمه القوي لوحدة الجنس البشري في الكلمة المتجسد «بالنظر إلى موت الجميع فيه»“. [121]

يشرح البروفيسور هستنجس راشدال Rashdal (لاهوتي بروتستانتي) تعليم القديس أثناسيوس الخلاصي ويقارن بينه وبين تعليم ”البدلية العقابية“ كالتالي:

”هذا هو التعليم المحدد للذبيحة النيابية، ولكنه مع ذلك، لم يكن بكلمات واضحة تعليم العقاب النيابي. يبدو أن الفكرة هي كذلك، إنه بموت مثل هذه الذبيحة، تم إيفاء دين الموت -الذي جلبته خطية آدم- واستُوفي في حالة الجميع الذين يشتركون في ذلك الناسوت، الذي اتحد الكلمة به في حالة الجسد الواحد.

حيث أنه بأكثر وضوحًا من عند إيرينيؤس، لم يمثّل موت المسيح مجرد معادل، بل متطابق ومنسجم حقًا بموت الجميع (تجسد الكلمة ٢٠: ٤، ٥): مات الجميع بالفعل حرفيًا في موت الواحد. بالرغم من ذلك، لم يكن التركيز على فعل الذبيحة المتعلق بالماضي، بل على آثار التجديد التابعة، والتابعة من القيامة أكثر من الموت. […] هذا هو خط التفكير الذي قابلناه بالفعل عند إيرينيؤس، ولكنه أكثر تطورًا وتنظيمًا بكثير عند أثناسيوس. يحاول (أثناسيوس) توضيح أن قابلية الفساد ليست عقوبة جزائية تعسفية فرضها الله، بل نتيجة طبيعية وحتمية للخطية“. [122]

كما يقرّر البروفيسور ستيفنز هولمز Stephens R. Holmes المحاضر الكبير للاهوت النظامي في جامعة ق. أندراوس باسكتلندا (لاهوتي بروتستانتي) حقيقة واضحة أثناء تأصيله لعقيدة ”البدلية العقابية“ من الكتاب المقدس، والأدب المسيحي الآبائي في مختلف العصور المسيحية، وهي أن ”البدلية العقابية“ ليست فكرة أصيلة في اللاهوت الأرثوذكسي الشرقي، بل هي فكرة بروتستانتية بامتياز نشأت مع رجالات حركة الإصلاح، وبالأخص عند جون كالفن، حيث يقول التالي:

”أقترح فوق تلك الاقتراحات الكثيرة من أجل ايجاد تعليم واضح عن البدلية العقابية في حدث الكتاب المقدس عن طريق اتخاذ صورة تُقرأ بصورة أكثر طبيعيةً وبشكل مختلف، وترجمتها إلى أشكال وأنواع البدلية العقابية وصورتها، وذلك الاتجاه مرئي أيضًا في أغلب المحاولات من أجل ايجاد البدلية العقابية عند آباء الكنيسة، حيث هناك فقرات عرضية تنشر بالطبع المجاز القانوني، ولكن لا يوجد وعي أن ذلك هو تعليم متطور عن الكنيسة الأولى، ولا يوجد دليل أنه علامة مميزة مفترضة للأرثوذكسية.

ويستمر هذا الموقف خلال فترة العصر الوسيط، وأول تفسير متكامل ومتطور بالفعل للبدلية العقابية أستطيع ايجاده في التاريخ هو في كتاب «المبادئ» لكالفن (١٥٣٦- ١٥٥٩م). لقد طوّر لوثر بالطبع أفكار مشابهة قبل عقدين من الزمن، وتوجد بدون شك إرهاصات مهمة بين كُتاب العصور الوسطى في القرن ١٥، ولكن يقدم كالفن التعليم عن البدلية العقابية بشكل مفصَّل وناضج. لقد تحدث الكُتاب الأوائل عن أمور قد تُفهم بمُصطلحات البدلية العقابية، ولكنهم لم يعلّموا أبدًا بالفكرة بشكل مباشر“. [123]

السوتيرلوجي عند الآباء الرسوليين

     أثناء القرنين الميلاديين الأولين بعد المسيح، لم يتم عمل أي محاولة أو تم عمل محاولة بسيطة من أجل التقدم فيما وراء أو من أجل شرح أقوال العهد الجديد، ولم تكن في النظرية، بل في الحياة بأنَّ الحقيقة الحية المقبولة نفسها للبشر، ولذا فإنه من الطبيعيّ أن تتميّز الأيام المبكرة جدًا للكنيسة بالتأكيد على الكفارة والفداء كحقيقة، ولم يكن هناك تأكيد على نظرية، وتم التعامل مع الموضوع بالأساس في شكل ليتورجيّ تعبديّ، وتم استخدام لغة العهد الجديد بحرية وبدون تعليق.

تتكر تعبيرات مثل ”ذبيحة“ و ”كفارة“ و ”فداء“ مرارًا وتكرارًا، ولكن دون بذل مجهودٍ واعٍ أبدًا لاستنباط إلى ما يشيروا؟ وكان هناك شعور بأنهم كافون لكي يظلوا مُعبَّرين عن الخبرة المسيحية للصليب، حيث لم يبدأ عصر الشكوك والتساؤلات إلى الآن.

     بالرغم من ذلك، يمكن تتبع آثار ميول محدّدة للفكر أثناء تلك الفترة، حيث توجد عادةً اللغة التعبدية بوضوحٍ جدًا، ويمكن على الأقل ملاحظة استمرار الجوانب المتنوعة لفكر العهد الجديد في الكنيسة الأولى بدرجاتٍ متفاوتةٍ جدًا. الأقوال الأوضح التي قد كانت محفوظة هي بالأساس مبنية على خطوط وسياقات الإنجيل الرابع بتشديده على إعلان محبة الله وبلغته الذبائحية العرضية.

لم يكن هناك تعميم بعيد يميّز الفترة كلها، وخاصةً في سنواتها المبكرة جدًا، على نفس النهج اليوحنايّ، يقترب مع ذلك قلة من الكُتَّاب من روح وبصيرة ق. يوحنا نفسه، بينما يبقى اللاهوت البولسيّ بالأخص في جانبه العقابيّ والقانونيّ غير متطوّر تمامًا. ولكن تجد لغته الأكثر المستيكية أصداءً واسعةً على الرغم من ذلك، ويمكن القول في العموم أنّ فكر تلك الفترة له منحيين أساسيين هما:

  1. يوجد العديد من الأقوال على طول خطوط وسياقات النظرية الأخلاقية أو الأدبية، ويوجد عند كُتَّاب كثيرين تشديد مميّز وواضح على محبة الله، كما ظهرت بشكلٍ أكثر خصوصيةً في الصليب، والتأثير الذي تُحدِثه في قلوبنا هو روح متغيرة أي ”نعمة التوبة“. [124]

  2. جنبًا إلى جنب مع تلك المعالجة الأكثر أخلاقيةً ووجدانيةً لحقيقة الصليب، يمكننا رصد عدد من الأقوال تعالج الفداء بالحري كموضوع للمعرفة مُعلَن في حياة الكلمة المتجسّد، وهنا نجد أيضًا إنّ معالجة الفداء على النهج اليوحنايّ جدًا، وتأثير الفقرات الافتتاحية لكل من إنجيل يوحنا ورسالة يوحنا الأولى واضح جدًا.

    يبدو أنّ هذا التأكيد على الخلاص من خلال المعرفة الإلهية المعلَنة هو الاتجاه الذهنيّ الأكثر نموذجيةً في القرن الثاني الميلاديّ، ويبدأ الآن عصر الهرطقة، ولكن الاعتقاد بأنَّ الفداء يمكن الحصول عليه من خلال المعرفة، وأنّ تلك المعرفة هي في المسيح يسوع، هو أساس شائع للمفكّرين من كل نوع. يُعتبر هذا الاعتقاد هو إدانة أساسية للهرطقة الغنوسية، حيث من المستبعد جدًا إمكانية تسمية ذلك الخليط الغريب من الأفكار مسيحيةً على الإطلاق. [125]

القديس كليمندس الروماني

     يجعل ق. كليمندس الروماني أساس الفداء هو محبة الله لنا ومحبة الرب يسوع لنا أيضًا، تلك المحبة التي توحّدنا مع الله، ولا يمكن إرضاء الله بدونها، حيث يقول التالي:

”المحبة توحّدنا بالله […] بالمحبة أكمل كل مختاري الله جهادهم، وبدون محبة ليس شيء مرضيًا أمام الله، بالمحبة قَبِلَنا السيد إليه. وبسبب المحبة، التي في ربنا يسوع المسيح نحونا، سفك دمه بإرادة الله لأجلنا، وبذل جسده عن أجسادنا ونفسه عن نفوسنا“. [126]

     ويستطرد أيضًا مؤكدًا على نعمة التوبة كبركة من بركات خلاص المسيح التي وهبها للعالم أجمع كالتالي:

”لنثبّت أنظارنا على دم المسيح، ولندرك كم هو ثمين في عيني أبيه؛ إذ أُريقَ من أجل خلاصنا، ووَهَبَ العالم كله نعمة التوبة“. [127]

     ونرى ق. كليمندس يتحدث عن رمزية خيط راحاب القرمزيّ إلى دم المسيح الذي يفدي المؤمنين به والمتوكلين عليه كالتالي:

”ثم أعطياها علامة، وهي أن تدلي خارج منزلها خيطًا قرمزيًا، كإعلان عن أن دم المسيح الذي سيكون فداءً لكل الذين يؤمنون بالله ويضعون رجاءهم عليه“. [128]

     ثم يستخدم ق. كليمندس نص (إش53) بحسب الترجمة السبعينية للإشارة إلى موت وفداء المسيح في مواجهة الهرطقة الدوستية التي نّادت بأنّ المسيح أخذ جسدًا خياليًا غير حقيقيّ، فيؤكد على حقيقة ناسوت المسيح وصلبه، كما يؤكد على الجانب الشفائيّ لموت المسيح على الصليب كالتالي:

”يارب مَن صدق خبرنا؟ ولمَن استُعلنت ذراع الرب؟ فقد أخبرنا في حضرته، وهو مثل طفل صغير، مثل نبتة في أرضٍ يابسةٍ، لا صورة له ولا مجد، فقد نظرنا إليه فلم يكن له منظر ولا جمال، فهيئته بلا كرامة، ولا قيمة لها لدى الناس، يعرف أن يتحمل الألم والمرض والمعاناة، لأنه أدار وجهه وأُهين، ولم يعيروه اعتبار.

فهذا حمل خطايانا، وتألم لأجلنا، ونحن حسبناه يعاني من الألم والضرب والمذلة. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبجرحه شُفينا. كلنا كغنم ضللنا. والإنسان يضل في طريقه، سلّمه الرب لأجل خطايانا، وهو بسبب المعاناة لم يفتح فاه، كشاةٍ تُساق إلى الذبح، وكحملٍ صامتٍ أمام جازيه فلم يفتح فاه. وفي وقت إهانته وإذلاله نُزِعَ عقابه […] أما الرب فسُرَّ بأنْ يطهّره بالحزن“. [129]

    كما يؤكد ق. كليمندس على تأديب الله الشفائيّ وليس المهلك، لأن الله أب صالح يؤدّبنا من أجل اختبار رحمته من خلال تأديبه المقدس، ويستشهد بـ (مز118: 8) لإثبات ذلك كالتالي:

”فلنلتمس الرحمة نحن أيضًا للمذنبين بأية خطية كي إذا عاملناهم بالرقة وبالوداعة، يخضعوا لا لنا بل لإرادة الله، وبهذا سيكون تذكُّرهم بالرفق مثمرًا وكاملاً لدى الله والقديسين، فلنقبل أيها الأحباء التأديب، ولا يجب أن ْ يضجر أحد بسببه؛ فإن النصائح التي ننبّه بها بعضنا البعض جيدة ونافعة جدًا، لأنها توحّدنا بإرادة الله، فإنه لهذا تقول الكلمة المقدسة: تأديبًا أدَّبني الرب وإلى الموت لم يسلّمني […]

وهكذا ترون أيها الأحباء كم هي عظيمة الحماية المكفولة للذين يؤدّبهم الرب، لأنّ الرب أب صالح يؤدّبنا لكي نختبر رحمته بواسطة تأديبه المقدّس“. [130]

   لم يشرح ق. كليمندس الروماني كيف يتم إحداث هذا التحوّل، مقتنعًا في ذاته بالتشديد على سفك دم المسيح كوسيلة اتخذتها محبة الله نحو تلك النهاية، ولا يوجد تركيز على التمييز الغريب بين تقدمة جسد المسيح وتقدمة حياته، بالرغم من إنه يوحي بشكل مدهش بالنظرية الأخيرة المفترضة عن تشكيل وبناء قيامة الجسد من خلال شركة جسد المسيح في الإفخارستيا. [131]

الرسالة إلى ديوجنيتوس

     يقول كاتب الرسالة إلى ديوجنيتوس في شرح عقيدة الفداء، موضّحًا دافع الله لكي يقوم بهذا السر العظيم وهو محبته للبشر، ويعدّد بركات هذا السر والتدبير العظيم من حياة البر وعدم الفساد وعدم الموت، ويصفه بأنه مبادلة خلاصية شفائية من أجل تبرير العصاة والخطاة الكثيرين التالي:

”هل تظن حقًا، كما يمكن أن يفكّر أحد الأشخاص، [أنّ الله أرسل الابن] لكي يفرض سلطانه عليهم بالطغيان، والرعب، والإرهاب؟ بالتأكيد لا. ولكن ابنه الذي هو أيضًا ملكًا، أرسله كإنسان من أجل الناس. أرسله لكي يخلّص ويقنع، وليس لكي يجبر، لأنّ الإجبار والإكراه لا يليقان بالله. أرسله ليدعونا، وليس ليعذبنا، أرسله محبًا وليس ديّانًا […]

لأنه بالحقيقة مَن مِن البشر كان يعرف في الماضي مَن هو الله قبل مجيئه؟ […] لأنه هو رب وخالق الجميع، هو الذي جبل الكل، وجعل لهم حدودًا، كلاً حسب النظام المحدّد له، وهو ليس فقط محبًا للبشر، بل أيضًا طويل الأناة، وهو كان هكذا دائمًا، ولا يزال هكذا، وسيكون، وهو خير وصالح وغير غضوب، وهو الوحيد الصالح الحقيقيّ. له تدبير عظيم يفوق الوصف، تشارك فيه مع ابنه الوحيد […] ولكن حينما وصل شرنا أقصاه، وأصبح واضحًا بالكلية أنّ الأجرة المتوقعة لذلك هي العقاب والموت، جاء بعد ذلك الوقت المعيّن من قِبل الله، لإظهار صلاحه وقوته.

يا لعطف الله ومحبته الفائقين نحو البشر، فهو لم يكرهنا، ولم يطردنا من أمامه، ولم يذكر خطايانا، بل أظهر نحونا طول أناته، واحتملنا! وحيث إنه جزيل الرحمة، فقد رفع هو بنفسه ثقل خطايانا. قَبِلَ وقدّم ابنه الذاتيّ فديةً لأجلنا، القدوس من أجل العصاة، والذي بلا لوم من أجل الأشرار، والبار من أجل الأثمة، وغير الفاسد من أجل الفاسدين، وغير المائت من أجل المائتين.

فأي شيء آخر كان يمكن أنْ يستر خطايانا سوى بره؟ وفي أي شخص آخر كان يمكن تبريرنا نحن الأشرار وعديمي التقوى غير ابن الله الوحيد؟ ما أحلى هذه المبادلة! يا لهذا العمل الخلاّق الذي يفوق الفحص! يا للنعم غير المتوقعة! إنّ شر الكثيرين قد مُحِيَ بواسطة بار واحد، وبر واحد يبرّر عصاة كثيرين“. [132]

القديس أغناطيوس الأنطاكي

يُعتبر ق. أغناطيوس الروحانيّ الأقرب من جميع الكُتَّاب المسيحيين الأوائل إلى ق. يوحنا، وتبين رسائله إلى الكنائس التي مر عليها في طريقه نحو الاستشهاد، كيف قد نفذت خبرة الآلام المسيح بعمقٍ إلى نفسه، وتلك الخبرة بالنسبة له هي محور الإيمان عينه، وكان هدفه من الكتابة هو مواجهة أولئك الذين يهاجمون الحقيقة التاريخية لناسوت المسيح (الدوستية)، ولذا يضع أقصى تأكيد على حقيقة صليب المسيح، كالتالي:

”صمّوا آذانكم إذا تكلم أحد معكم، دون [أن يكون مؤمنًا بـ] يسوع المسيح الذي من نسل داود، الذي وُلِدَ حقًا من مريم، وأكل، وشرب حقًا، وتألم في عهد بونتيوس بيلاطس البنطيّ، وصُلِبَ حقًا ومات، وقد رآه السمائيون والأرضيون والذين تحت الأرض أيضًا.

\الذي قام حقًا من بين الأموات، وقد أقامه أبوه، وعلى مثاله سيقيمنا هو أيضًا هكذا بواسطة المسيح يسوع، نحن المؤمنين به، الذي ليس لنا حياة حقيقة بعيدًا عنه. فإن كانت آلامه آلام خيالية [وغير حقيقية]، مثلما يزعم بعض الملحدين الذين هم غير المؤمنين، والذين وجودهم هم أنفسهم غير حقيقيّ، فلماذا أنا مقيّد؟ ولماذا أشتاق للقاء الوحوش؟ [إن كان الأمر كذلك] فأنا إذًا أُسلِّمُ نفسي إلى الموت عبثًا، ولعل كلامي عن الرب كذبًا؟!“. [133]

ويؤكد أيضًا ق. أغناطيوس على أنه بالإيمان والمحبة يستطيع المرء أن يدرك تلك الحقيقة العظيمة، ولكن الأيمان والمحبة ليسا شيئين معطيين من جانب الإنسان، لأنهما هما نفسيهما معتمدان على الصليب، ويصلا إلينا عن طريق وسيط هو الإفخارستيا، التي نصل من خلالها إلى الاتحاد السريّ بآلام المسيح، حيث يقول:

”جدّدوا أنفسكم بالإيمان الذي هو جسد الرب، والمحبة التي هي دم يسوع المسيح“.[134]

كما يوضح ق. أغناطيوس نفس الحقيقة في موضع آخر قائلاً:

”الطعام الذي أشتهيه هو خبز الله، الذي هو جسد يسوع المسيح الذي من نسل داود، والشراب الذي أشتهيه هو دمه، الذي هو الحب غير الفاسد“. [135]

وبالتالي آلام المسيح ليست حقيقة في الماضي فقط، بل شيء مصنوع في قلب المؤمن عينه من خلال الاتحاد بالله، حيث يقول ق. أغناطيوس التالي:

”إن روحي تُحسب لا شيء لأجل الصليب، الذي هو عثرة لغير المؤمنين، أما لنا نحن فهو خلاص وحياة أبدية […] حينئذ انحل كل سحر، تحطّمت كل قيود الشر، وانقشع الجهل، ودُكت الإمبراطورية القديمة، حين ظهر الله متأنسًا لإعادة تجديد الحياة الأبدية، وما رسمه الله بدأ يتحقّق من هنا. كل شيء قد تزعزع من مكانه، لأنّ زوال الموت بدأ يتحقّق“. [136]

ويقول ق. أغناطيوس في موضع آخر:

”احرصوا أنْ تشتركوا في افخارستيا واحدة، لأنه يوجد جسد واحد لربنا يسوع المسيح، وكأس واحدة توحّدنا بدمه، ومذبح واحد“. [137]

وهذا كله مبني على تأثير سياقات النظرية الأخلاقية للكفارة، حينما يشعر أغناطيوس بجاذبية محبة الله تجاه القلب حيث يدعونا، ولكن ذلك ليس كل شيء، بل الإجابة إنّ تلك الجاذبية هي عمل الصليب أيضًا، وفي الآلام، يكون المسيحيون متحدين ومختارين، ويجدون في الآلام سلامهم، وفي المحبة التي يجعلون بها الآلام آلامه الخاصة، وتدور فكرة كل تلك الفقرات المقتبسة أعلاه حول محبة الله نفسه، وهذا ما يؤكده قائلاً:

”أنا أبحث عن ذاك الذي مات من أجلنا، وأريد ذاك الذي قام من الموت لأجلنا […] اتركوني أقتدي بآلام إلهي. إن كان أحدكم يقتني الله في داخله، فليفهم ما أريده، وليتعاطف معي شاعرًا بما في داخلي“. [138]

رسالة برنابا

تدور الفكرة كلها في رسالة برنابا حول أنّ العهد القديم لم يعد يخص اليهود، بل يخص المسيحيون فقط، نظرًا لأنّ كل رموز ونبوات العهد القديم قد تحقّقت كلها في المسيح، ونجد كاتب رسالة برنابا يستخدم طرق التفسير الأليجوريّ (الرمزيّ) الإسكندريّ لحياة وموت المسيح. يبدو من الطبيعيّ أنّ رسالة برنابا تشير إلى الصليب ونظريات شرحه اعتمادًا على سياقات العهد القديم عن فكرة الذبيحة. كما يعد التأكيد على الحياة الجديدة في المسيح سمة واضحة لفكر الكاتب.

فنرى كاتب رسالة برنابا يتحدث عن الجانب الشفائيّ لآلام وموت المسيح على الصليب بالرجوع إلى نبوات العبد المتألم في (إش53) بحسب الترجمة السبعينية ليؤكد على ذلك الجانب الخلاصيّ كالتالي:

”لأنه حقًا لأجل هذا الهدف، قد تحمّل الرب أن يُسلَّم جسده للموت، لكي نصير نحن أطهارًا بمغفرة خطايانا من خلال رش دمه، لأنّ هذا هو ما قد كُتِبَ عنه لإسرائيل ولنا، حيث يقول الكتاب ما يلي: «وهو مجروح لأجل آثامنا، وتألم لأجل خطايانا، وبجرحه نلنا الشفاء. كخروف يُساق إلى الذبح وكحمل صامت أمام مَن يجزه»“. [139]

ويتحدث كاتب رسالة برنابا في نفس السياق عن غاية التجسّد والفداء ألا وهي سحق الموت والبرهنة على حقيقة قيامة الأموات، لذا ظهر بنفسه في الجسد وخضع بإرادته للآلام. [140] كما يعلن عن دافع الله للفداء وهو حب الله الفائق لليهود أعدائه. [141]

ويتساءل لو لم يكن الله قد جاء في الجسد، كيف كان سينجو البشر عندما ينظرون إليه؟ ويؤكد أنّ آلامه كانت بإرادته في أن يتألم كذلك، لأنه كان من الضروري أنْ يتألم على خشبة بحسب النبوات (مز22: 20س، مز118: 120س، إش50: 6- 9). [142] يوضّح أيضًا أنّ سبب استعلان الرب في الجسد كان من أجل تجديدنا مرة أخرى بغفران الخطايا، ولكي ما يجعلنا أناسًا من نموذج آخر، فأصبح لنا بالتالي روح الأطفال الصغار؛ كما كان ينبغي أنْ يصير لنا إذ قد أعاد خلقتنا من جديد. [143]

كما يشير إلى الحية النحاسية التي أمر الله موسى أن يصنعها لأجل شفاء الشعب من في القديم من لدغات الأفاعي في البرية، إنها مثال للصليب الذي سيتألم عليه. ويتحدث عن أن يسوع ينبغي أنْ يتألم لكي ما يعطي الحياة بهذه الآلام المحيية. [144] كما يؤكد على أنّ ابن الله، بالرغم من أنه هو الرب والديان للأحياء والأموات، قد جاز الآلام، حتى يمكن أنْ نُعطَى حياةً بآلامه. إذًا، فلنؤمن أنّ ابن الله لم يكن ليتألم إلا من أجلنا. [145]

الراعي هرماس

     يشير واضع كتاب ”الراعي هرماس“ إلى بعد من أبعاد عقيدة الفداء وهو تطهير خطايا البشر كلهم من خلال الابن المتجسّد، ومعاناته واحتماله الكثير من الأتعاب لكي ما يريهم طرق الحياة، واتباع الوصية الإلهية، كما اتخذ الابن جسدًا وطهّره لكي ما يحل ويسكن الروح القدس فيه، كالتالي:

”وسلّمهم لابنه، والابن أقام الملائكة عليهم لحمايتهم جميعًا، وهو بنفسه طهّر خطاياهم، وقد عانى كثيرًا، واحتمل أتعاب كثيرة، لأنه لا يستطيع أحد أن يعزق الأرض دون تعب أو مشقة. ولما طهّر خطايا شعبه بنفسه، أراهم طرق الحياة، وأعطاهم الوصية التي أخذها من أبيه […] وهكذا اتخذ من الابن، والملائكة الممجّدين مُشيرين، لينال هذا الجسد الذي قد خدم الروح بلا لوم مكانًا لسكناه وراحته، وينال مكافأة خدمته. لأنّ كل جسد يوجد بلا دنس ولا لوم أثناء سُكنى الروح القدس فيه، سوف يُكافأ“. [146]

لا يوجد هنا تلميح مباشر جدًا إلى موت المسيح، بل بالحري إلى كل الآلام والأتعاب لحياته المتجسّدة التي يُنسَب لها تطهير الخطايا، ويبين هذا التشديد على حياة المسيح أكثر من موت المسيح تأثير النزعة اليوحناية.

السوتيرلوجي عند الآباء المدافعين

القديس يوستينوس الشهيد

يتبنى يوستينوس الشهيد تمامًا تلك الحالة العامة نفسها الموجودة عند الآباء الرسوليين مع الاهتمام بتحقيق نبوة العهد القديم في صليب المسيح، وهناك أجزاء كبيرة من حواره مع تريفون اليهوديّ، الكتاب الذي كتبه خصيصًا من أجل القُراء اليهود، والمخصّص لأجل شرح تلك الفكرة أكثر من السياقات الموجودة عند كاتب رسالة برنابا. [147]

حيث يؤكد أن كل مَن فهم معنى كلمات الأنبياء بأنه سوف يُصلب يؤكد على الفور أنه هو المسيح ولا آخر سواه. [148] يشدّد ق. يوستينوس على اشتراك المسيح في آلامنا لكي ما يشفينا عن طريقها من مرض الخطية، حيث يقول:

”فكل واحد من هؤلاء من خلال اشتراكه في بذرة اللوغوس الإلهيّ وما يتعلق به تكلم حسنًا جدًا. […] فالكلمة صار إنسانًا لأجلنا، وشاركنا آلامنا لكي يشفينا“. [149]

كما يؤكد ق. يوستينوس على أنّ الصليب كان بدافع من إلحاح الشياطين على اليهود، وتوجد إشارة هنا إلى فكرة انتصار المسيح على الشيطان (خريستوس فيكتور)، حيث يقول التالي:

”الكلمة الذي ظهر في وقت ما في شكل نار وفي وقت آخر في هيئة غير جسدانية [مثل ملاك]، والآن بعد أنْ صار إنسانًا بإرادة الله لأجل بني البشر، تحمل الآلام على أيدي اليهود المتعصبين المدفوعين من الشياطين“. [150]

ويعالج ق. يوستينوس موضوع الفداء والكفارة معالجة كاملة في الحوار مع تريفون اليهوديّ بالربط مع (غلا3: 13) كالتالي:

”كما أنّ الله أمر بعمل علامة على شكل الحية النحاسية، ومع هذا كان بغير ملامة [بالرغم من أنّ الحية هي تمثال منحوت]، كذلك في الناموس وُضِعَت لعنة على كل مَن يُصلَب من الناس، ولم تُوضع هذه العنة على مسيح الرب؛ إذ هو الذي به ينال الخلاص كل مَن عمل أعمالاً تستوجب اللعنة، فالجنس البشريّ كله واقع تحت لعنة […]

وإن كان الآب أراد مسيحه أنْ يأخذ على نفسه لعنة الجنس البشريّ كله عالمًا أنه سيقيمه ثانيةً بعد صلبه وموته، فلماذا تتهمون مَن احتمل هذه الآلام حسب إرادة الآب بأنه إنسان ملعون، بدلاً من أنْ تحزنوا على خطاياكم؟ وعلى الرغم من أنه تألم من أجل البشر وفقًا لمشيئة الآب ذاته إلا أنّ تسبُبكم في آلامه لم يكن طاعةً لمشيئة الله […]

إنّ ما قيل في الناموس إنه «ملعون كل مَن عُلِّقَ على خشبة» يقوي رجاءنا القائم على المسيح المصلوب ليس لأنّ المصلوب ملعون من الله، بل لأنّ الله سبق وأخبرنا بما كنتم ستفعلونه أنتم أيها اليهود […]“. [151]

قد تدفع أحيانًا الفقرة السابقة في الاعتقاد بأنّ يوستينوس قد وضع نظرية البدلية العقابية اللاحقة في شرح عقيدة الكفارة، ولكن في الحقيقة تثبت تلك الفقرة العكس تمامًا، لأنّ يوستينوس كان حريصًا جدًا في توضيح أنّ اللعنة التي وقعت على المسيح لم تكن بأي معنى لعنة الله.

لقد جاءت تلك اللعنة من اليهود وليس من الله، ولم يُرِد الله فقط بل والمسيح نفسه أيضًا أن يجوز تلك اللعنة، اللعنة بسبب الجميع، لكي ما يمكن من خلال الإيمان به أن يتخلص الجميع من اللعنة التي كانت بالنسبة لهم دينًا. وهناك بعض التداخل في الفكر بين اللعنة التي وضعها الناموس، واللعنة التي تورّط اليهود فيها بالتعامل مع المسيحيين. [152]

كما يؤكد ق. يوستينوس أنّ القيامة من الأموات هي الانتصار الحقيقيّ على الموت، حيث يقول:

”ولكن الآن في عهد حكمكم وُلِدَ من عذراء كإنسان كما ذكرنا قبلاً بتدبير من الله الآب من أجل خلاص كل مَن يؤمن به، وقد احتمل الهوان والآلام لكي بموته وقيامته يهزم الموت“. [153]

ومثله مثل الكُتَّاب الآخرين في عصره، لم يقدّم يوستينوس تفسيرًا للوسيلة التي يؤثر بها ذلك الانتصار على المؤمن، بل تبين لغته إنّ ذلك يصير متاحًا للإنسان من خلال الإيمان.

العلامة كليمندس السكندري

لقد كان العلامة كليمندس السكندري مهتمًا بالأساس بالأمور والنواحي الأخلاقية، وأشار إشارات بسيطة وقليلة إلى المعنى الخاص بالصليب، كما يستخدم نبوات العهد القديم ورموزها بشكلٍ مقارنٍ قليلاً، وذلك كان طبيعيًا في كتاباته الموجهة للقُراء الوثنيين، ويستعين عادةً بفقرات مقتبسة مباشرةً من العهد الجديد مثل: ”افْتُدِينَا بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ“ (1بط1: 19). كما يُعتبر لقب ”حمل الله“ هو اللقب الذبائحيّ الوحيد الذي يطلقه كليمندس على المسيح (المربي3: 2).

كما يرى غالبًا أكثر الصليب بالارتباط بنظرته العامة كأعظم شهادة لها جاذبية أدبية وأخلاقية تجاه قلوب البشر، ويلهم أتباع المسيح بالتألُّم مثلما تألم هو نفسه، وهناك فقرة جديرة بالانتباه ترتبط بوضوح بفكرة الذبيحة الحية التي تمارس تأثيرًا تطهيريًا معجزيًا بمعزل تمامًا عن أي شك من بداوة المستقبلين لتلك النعمة، مثل تلك الذبائح المعروفة جيدًا في مصر، حيث يقول:

”لذلك، الرب وحده، هو الذى «شرب الكأس» من أجل تنقية البشر الذين تآمروا ضده ولم يؤمنوا به. محاكاةً له، قاس الرسل من أجل الكنائس التي أسّسوها، لكي ما يكونوا في الواقع غنوسيين، وكاملين“. [154]

كما يشير في موضع آخر إلى المصالحة والكفارة مقتبسًا من العهد الجديد بدون تعليق كالتالي:

”فهو كفارة لأجل خطايانا -كما يقول يوحنا- شافي كل من جسدنا ونفسنا“. [155]

ويتم عمل هذا الشفاء من خلال غرس الحياة الجديدة بالصليب، كما يقول كالتالي:

”صلب [المسيح] الموت من أجل الحياة، وقاد الإنسان بعيدًا عن الهلاك، ورفعه إلى السماوات“. [156]

يؤكد كليمندس بوضوح على أن آلام المسيح لم تكن بسبب مشيئة الآب كالتالي:

”لم يتألم الرب بواسطة مشيئة الآب“. [157]

وفكر العلامة كليمندس أقل وضوحًا من فكر يوستينوس الذي عرّف أنّ مشيئة الله هي السبب الأساسيّ لآلام المسيح. ونجد فكرة الانتصار على الشيطان موجودة عند كليمندس السكندريّ في الفقرة البلاغية التالية، التي سوف توضّح جيدًا فكر كليمندس المفضّل عن الخلاص، حيث يقول:

”الإنسان، الذي قد تجرّد من بساطته، وُجِدَ مقيّدًا بالخطية، ثم أراد الرب أن يحرّره من قيوده، فألبس نفسه بالجسد -يا له من سر إلهيّ!- هزم الحية، واستعبد الموت المستبد، والأكثر عجبًا من الكل، الإنسان الذي قد خدعته اللذة مقيّدًا سريعًا بالفساد، حُلَّت قيود يديه، وأُطلِقَ حرًا. يا لها من معجزة غامضة! أتضع الرب، وارتفع الإنسان، وذاك الذي سقط من الفردوس نال شيئًا أعظم كمكافأة، نال حتى السماء عينها“. [158]

ويعلّق البروفيسور أوكسينهام Oxenham على تلك الكلمات إنها تبدو أول إشارة إلى الاعتقاد بأنّ الإنسان حصل من خلال التجسّد والكفارة على أكثر مما قد فقده بالسقوط عند كليمندس السكندريّ. [159]

كما يعلق أيضًا البروفيسور هاستنجس راشدال Hastings Rashdall على فكر العلامة كليمندس عن الكفارة قائلاً: كل ما قد قيل عن اتجاه الكُتَّاب الأوائل نحو موت المسيح، وتدبير الخلاص يحمله كليمندس أيضًا. نقابل من حين لآخر بل نادرًا نفس الاقتباسات من (إش53) -كما في (المتفرقات2: 15: 64) – والأنبياء الآخرين، ونجد نفس العبارات العامة عن الخلاص بدم المسيح، أو عن موته كتقدمةٍ، أو كفارةٍ، أو فديةٍ، وهناك أيضًا نفس الشروحات والتفسيرات الأخلاقية والذاتية. [160]

يتحدث كليمندس أيضًا عن أنه (المسيح) قد أراد أن يكون أخًا، وإنه كان صالحًا جدًا حتى أنه مات لأجلنا. [161] ويتحدث عن المسيح بأنه وضع لأجلنا الحياة التي تساوي في قيمتها العالم كله. ومعنى ذلك أنه يطلب منا أن نصير نفس الذبيحة من أجل بعضنا البعض. [162]

ويتحدث عن أن المسيح حلَّ الإنسان من قيوده، وقتل الحية عن طريق ارتداء الجسد البشريّ، [163] وهي لغة مجازية أو استعارية، حيث تشير الحية إلى اللذة، والتعويل كله كثيرًا جدًا على عمل اللوغوس الخلاصيّ في إرشاد وشفاء النفوس بوسائل الثواب والعقاب، والتعويل على حياة وشخص وتعليم ومثال اللوغوس في حياته المتجسّدة عن أي تأثير لموته، لدرجة أنه يفسّر دم المسيح بمعنى المعرفة.

ويرى البروفيسور راشدال أن تأثير ق. بولس على العلامة كليمندس ضئيل جدًا، ويفسر قصة السقوط تفسيرًا مجازيًا رمزيًا، وفكرة الخطية الأصلية غائبة غالبًا. حيث أن تاريخ الجنس البشريّ قبل مجيء المسيح بالنسبة له هو بالحري صعود تدريجيّ من حالة الجهل، وبناءً عليها حالة الإثم، إلى معرفة أعلى فأعلى. [164]

 

[1] الثالوث 4: 12: 15.

[2] أوغسطينوس (قديس)، الثالوث، ترجمة: د. أنطون جرجس، تقديم: الأنبا أنجيلوس الأسقف العام، 13: 12: 16، ص532، 533.

[3] المرجع السابق، 13: 15: 19، ص538- 540.

[4] Kelly, J. N. D., Early Christian Doctrines, (London: Adam & Charles Black), Fourth Edition, Copyright 1968, p.391.

[5] أوغسطينوس (قديس)، عظات على المزامير ج4، ترجمة: سعد الله جحا، (لبنان: دار المشرق)، طبعة 2014، ص 320.

[6] أوغسطينوس (قديس)، عظات في المزامير ج1، ترجمة: سعد الله جحا، (لبنان: دار المشرق)، 2: 4، ص14.

[7] المرجع السابق، 7: 5، ص67.

[8] المرجع السابق، 6: 3، ص 51، 52.

[9] أوغسطينوس (قديس)، الثالوث، ترجمة: د. أنطون جرجس، تقديم: الأنبا أنجيلوس الأسقف العام، 13: 10: 14، ص530.

[10] المرجع السابق، 13: 11: 15، ص531.

[11] المرجع السابق، 13: 15: 19، ص 538.

[12] الأخلاق، تفسير سفر أيوب 9: 39.

[13] لماذا تجسد الله؟ 1: 10.

[14] المرجع السابق 1: 11.

[15] المرجع السابق 1: 12.

[16] المرجع السابق 2: 15.

[17] الرسالة 190 إلى البابا إينوسنت الثاني 190: 8.

[18] المرجع السابق : 6.

[19] حوار حول الأسرار : 4.

[20] الحديث عن التجسد : ٨.

[21] الخلاصة ٣: ١: ٤-٧.

[22] الأحكام ٣: ١٨: ٢.

[23] الخلاصة ضد الأمم ٣: ٤٨.

[24] المرجع السابق.

[25] المرجع السابق.

[26] المرجع السابق.

[27] المرجع السابق: ٤٧.

[28] المرجع السابق: ٤٩.

[29] الخلاصة ٣: ١: ٣.

[30] المرجع السابق.

[31] شرح آلام الرب: ٣.

[32] المرجع السابق.

[33] Luther, Martin, Commentary on Galatians (1535) on (Gal 3: 13).

[34] Ibid.

[35] Ibid.

[36] Ibid.

[37] Ibid.

[38] Augsburg confession, Art. 4.

[39] Augsburg confession, 3.

[40] Apology of Confession of Augsburg. P. 125, ap. Hagenbach, op. cit 3, 112.

[41] Declamatio, C. R., 11, p. 779, ap. Ritschl, op. cit. P. 202.

[42] Confessio. Ecclesia. Sax., 1550, in Melanchton’s Corpus Doctrinae Christianae, Leipzig, 1560.

[43] Apology. Conf. Aug. P. 71.

[44] Loci Praeripui. Theologici., p. 603.

[45] Ibid.

[46] Ibid, De Sacrificio, p. 572.

[47] Ibid, p. 571.

[48] مبادئ الإيمان المسيحي ٢: ١٢: ٣.

[49] المرجع السابق ٢: ١٢: ٣.

[50] المرجع السابق ٢: ١٥: ٦.

[51] المرجع السابق ٢: ١٦: ١.

[52] المرجع السابق ٢: ١٦: ٢.

[53] المرجع السابق ٢: ١٦: ٥.

[54] المرجع السابق ٢: ١٧: ٢.

[55] المرجع السابق ٢: ١٦: ٥.

[56] المرجع السابق ٢: ١٦: ٦.

[57] المرجع السابق.

[58] المرجع السابق ٢: ١٧: ٣.

[59] المرجع السابق ٢: ١٧: ٤.

[60] المرجع السابق ٢: ١٧: ٥.

[61] ضد الآريوسيين ٣: ٢٩: ٥٦.

[62] عظة على انجيل متى ٨٨: ١.

[63] الخطبة اللاهوتية الرابعة ٣٠: ٥.

[64] حوار حول تأنس الابن الوحيد: ٨.

[65] في المبادئ 2: 4: 4.

[66] تفسير رومية 1: 16: 3.

[67] عظات على سفر العدد 8: 1.

[68] الغضب الإلهي: 3.

[69] المرجع السابق، 16.

[70] رسالة بعنوان “ستعود بقوة أعظم” إلى ثيؤدور.

[71] تفسير رومية 4: 1.

[72] المؤسسات 8: 4.

[73] عظات على المزامير5: 4.

[74] خطاب 28: 11.

[75] خطاب 29: 18.

[76] خطاب30: 7.

[77] خطاب30: 22.

[78] تفسير إنجيل يوحنا 2: 3: 4.

[79] المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي 1: 1.

[80] المرجع السابق 11: 11.

[81] شرح إنجيل يوحنا 6: 1.

[82] ضد الذين يتصورون أن لله هيئة بشرية: 1.

[83] السجود والعبادة بالروح والحق : 6.

[84] اللاهوت الباطني: 3.

[85] عظات في المزامير 2: 4.

[86] المرجع السابق 7: 5.

[87] المرجع السابق 6: 3.

[88] الثالوث 13: 16: 21.

[89] مدينة الله 15: 25.

[90] في المبادئ 2: 5: 3.

[91] عظات على سفر العدد 9: 4.

[92] مقالات الموعوظين 2: 1.

[93] المرجع السابق 2: 6- 20.

[94] المرجع السابق 8: 4، 5.

[95] حياة موسى 2: 85- 88.

[96] السجود والعبادة بالروح والحق: المقالة 6.

[97] المرجع السابق: المقالة 10.

[98] المرجع السابق: المقالة 10.

[99] رسالة إلى سلوانس 344.

[100] رسالة إلى الدياكون إيسيذوروس 467.

[101] عظات على المزامير 2: 4.

[102] عظة الله ليس علة الشر.

[103] عظة المعمودية والمعمدون.

[104] المناظرات 6: 6.

[105] Hastings, Rashdull, Idea of atonement in Christian theology, (London: MACMILLAN & CO., 1919), P. 32& 33 n. 3.

[106] ضد الآريوسيين ١: ١١: ٤١.

[107] العظات للموعوظين ١٣: ٣.

[108] ضد الهرطقات ٥: ١: ١.

[109] تفسير رومية ٢: ١٣: ٢٩.

[110] ليتورجية ق. باسيليوس بحسب الطقس البيزنطيّ/ الافخولجي الكبير ص ١٤٢.

[111] العظة التعليمية الكبرى: ٢٣.

[112] الثالوث ١٣: ١٥: ١٩.

[113] عظة١٣٠: ٢، عظة ١٣٤: ٦.

[114] عظة ٢٢: ٣، ٤.

[115] الأخلاق ٣٣: ١٥ على (أي ٤٠: ٢٤).

[116] العظة الفصحية الثانية رقم ٤٥.

[117] المرجع السابق.

[118] حوار حول تأنس الابن الوحيد: ٧.

[119] المائة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي ٣: ٧١: ٢٧.

[120] Kelly, J. N. D., Early christian doctrines, (London: Adam & Charles Black, 1968), 4th edit., p. 380.

[121] Grensted, L. W., A short History of The Doctrine of Atonement, (London & New York: Manchester University Press, 1920), p. 380.

[122] Rashdal, Hastings, The Idea of Atonement in Christian Theology, (London: MACMILLAN & CO., 1919), Lect 4, p. 296.

[123] Holmes, R. Stephens, T & T Clark Companion to Atonement, Edit. By Andrews J. Johnson, (BLOOMSBURY: T & T CLARK, 2017), p. 306, 307.

[124] Grensted, L. W., A Short History of The Doctrine of The Atonement, (London & New York: Manchester At The University Press, 1920), p 11, 12.

[125] Ibid, p 19.

[126] الآباء الرسوليون، ترجمة: مجموعة من المترجمين، (القاهرة: باناريون للتراث الآبائي)، رسالة كليمندس الروماني إلى أهل كورنثوس، 1: 49، ص 130.

[127] المرجع السابق، 1: 7، ص 94.

[128] المرجع السابق، 1: 12، ص 98.

[129] المرجع السابق، 1: 16، ص101.

[130] المرجع السابق، 1: 56، ص 135، 136.

[131] يميز هذا الرأي الكُتاب حتى نهاية القرن الثاني، بالرغم من أنهم يعبرون عن أنفسهم بأكثر تشويش، يمكن الرجوع بالأخص إلى (ترتليان، عن قيامة الجسد : 8، إيرينيؤس، ضد الهرطقات 5: 2: 2). كما يعطي J. F. Bethune Barker ملخص ممتاز عن ذلك في مدخله إلى التاريخ المبكر للعقيدة المسيحية، ص397، ويمكن الرجوع إلى A. V. Harnack تاريخ العقيدة مج2، ص 145.

[132] المرجع السابق، الرسالة إلى ديوجنيتوس، 7- 9، ص 434- 437.

[133] المرجع السابق، الرسالة إلى كنيسة تراليا: 9، ص344، والرسالة إلى كنيسة سميرنا: 1، ص362.

[134] المرجع السابق، الرسالة إلى كنيسة تراليا: 8، ص343.

[135] المرجع السابق، الرسالة إلى كنيسة روما: 7، ص352.

[136] المرجع السابق، الرسالة إلى أفسس: 18، 19، ص328، 329.

[137] المرجع السابق، الرسالة إلى كنيسة فيلادلفيا: 4، ص355.

[138] المرجع السابق، الرسالة إلى كنيسة روما: 6، ص351.

[139] المرجع السابق، رسالة برنابا، 5: 1، 2، ص44.

[140] المرجع السابق، 5: 6، ص45.

[141] المرجع السابق، 5: 8، ص45.

[142] المرجع السابق، 5: 10- 14، ص45، 46.

[143] المرجع السابق، 6: 9- 15، ص47، 48.

[144] المرجع السابق، 12: 1- 7، ص60، 61.

[145] المرجع السابق، 7: 2، ص49.

[146] المرجع السابق، الراعي هرماس، المثل الخامس: 2-3، 7، ص250، 251.

[147] Grensted, L. W., A Short History of The Doctrine of The Atonement, (London & New York: Manchester At The University Press, 1920), p 24.

[148] يوستينوس الفيلسوف والشهيد (القديس)، الدفاعان والحوار مع تريفون ونصوص أخرى، ترجمة: أ. آمال فؤاد، مراجعة: د. جوزيف موريس، (القاهرة: باناريون للتراث الآبائي)، الحوار مع تريفون: 89، ص256.

[149] المرجع السابق، الدفاع الثاني: 13، ص120.

[150] المرجع السابق، الدفاع الأول: 63، ص91.

[151] المرجع السابق، الحوار مع تريفون: 94- 96، ص261- 263.

[152]Grensted, L. W., A Short History of The Doctrine of The Atonement, (London & New York: Manchester At The University Press, 1920), p. 26.

[153] يوستينوس الفيلسوف والشهيد (القديس)، الدفاعان والحوار مع تريفون ونصوص أخرى، ترجمة: أ. آمال فؤاد، مراجعة: د. جوزيف موريس، (القاهرة: باناريون للتراث الآبائي)، الدفاع الأول: 63، ص91، 92.

[154] كليمندس السكندري (العلامة)، المتفرقات (نسخة إليكترونية)، ترجمة: أ. د. بولا ساويروس، (القاهرة: موقع الكنوز القبطية)، 4: 9: 8، ص 696.

[155] Paed. 3: 12; cf.1 John 2: 2.

[156] Protrept. : 2.

[157] Strom. 4: 12.

[158] Protrept.: 2.

[159] Oxenham, The Catholic Doctrine of the Atonement. (1881 ed.), p. 123.

[160] Rashdall, Hastings, The Idea of Atonement, (London: Macmillan & Co., 1919), p. 222.

[161] Paed. 1: 9: 85.

[162] Protrept. 11: 3.

[163] Protrept. 10: 95.

[164] Rashdall, Hastings, The Idea of Atonement, (London: Macmillan & Co., 1919), p. 223, 224.

 

البدلية العقابية تحت المجهر – د. أنطون جرجس عبد المسيح