خلق الإنسان على صورة الله ومثاله – ق. غريغوريوس النيسى – د. سعيد حكيم يعقوب
خلق الإنسان
على صورة الله ومثاله
معنى الصورة والمثال[1]:
لا توجد طريقة أخرى أمام الذين يرغبون في فهم جمال وجوههم المخلوقة من الله بشكل جيد، والتي بها يتطلعون إلى صورتهم، سوى مرآه نقية جدًا، يتلامسون فيها مع صورة وجوههم، ويرون فيها بوضوح شكلاً يعكس أيقونتهم التي تشبههم تمامًا. ونحن إذ ننظر بالتدقيق كما في مرآه إلى الأشعة الإلهية التى للشمس العقلية، ندرك بكل وضوح الملامح العامة والشكل والصورة التي لطبيعتنا ” بحسب الصورة والمثال” لأنه بالحقيقة، على الأقل كما أتصور أنا، أن خلق الإنسان هو شئ مرهوب ويصعب تفسيره ويحمل داخله الكثير من أسرار الله الخفية. وتمامًا كما أن طبيعة العين تدرك بسهولة تلك الأشياء التي توجد خارجها، إلاّ أنها لا يُمكنها أن تدرك ذاتها، هكذا بالنسبة لعين الذهن الإنسانية، فإن مسألة خلقتنا هو أمر يصعب رؤيته ويصعب إدراكه.
الحقيقة إن الخالق بعدما أتم خلق العالم العاقل للقوات غير المرئية، ثم خلق العالم المادى المرئى قال عندئذٍ ” ونعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا“[2]. لقد خلق الله حينئذٍ كائنًا حيًا، كما من عالم مختلط يتشكل من أمرين، فهو مكوّن من نفس غير جسدانية وغير مائتة وغير فاسدة، ومن جسد مادى ومرئى من أربعة عناصر[3]. وبعد أن تم ذلك، يقول الكتاب أيضًا ” فخلق الله الإنسان على صورته“[4]. وعندما يقول إن الله خلق فهو يقصد الآب والابن والروح والقدس.
لقد عبّر المفسرون فيما يتعلق بهذا الموضوع ـ عن آراء كثيرة ومختلفة ـ قال البعض: إن عبارة “بحسب الصورة والمثال” تُشير إلى قدرة الإنسان على أن يسود وأن يتسلط، وقد اعتبر البعض أن هذا يتعلق بالنفس العاقلة غير المرئية، والبعض الآخر يربطه بالإنسان غير الفاسد وغير الخاطئ عندما خُلق آدم، والبعض اعتبر أن ” بحسب الصورة والمثال ” يمثل نبوءة عن المعمودية. وآخر الكل كما للسقط، بدا لى أنا أيضًا أنه أمر حسن أن أعبّر عن بعض الأفكار التي تخص هذا الموضوع، وقبل كل شئ رأيت أنه من الأهمية بمكان أن نفحص هذا الأمر بالتساؤل عن: لماذا لم ينسب الله عبارة “بحسب الصورة والمثال” للكائنات العاقلة غير المرئية وللسمائيين، والملائكة الذين هم بالقرب منه؟ لأن هؤلاء هم بالحقيقة أكثر قدرة من الإنسان، ولديهم القوة أن يسودوا ويتسلطوا على الأرض كلها وعلى الإنسان نفسه. وعلى نفس السياق فإن غير الفانى، وغير المرئي، والطاهر أو النقي، وكل ما يمكن أن تمتدحه في آدم، يوجد وبدرجة فائقة بين الصفوف السمائية غير الجسدانية.
إذًا يُشار بعبارة “بحسب الصورة والمثال” إلى شئ عميق. بمعنى أن الإنسان ليس لديه صورة واحدة ومثالاً واحد لله، بل لديه صورة ثانية وثالثة، ومثالاً ثانيًا وثالثًا، كما لو كانت هناك مرآه عاكسة لملامح شكلية، ومن المؤكد أنها ليست صورة طبيعية أو جوهرية لسر الأقانيم الإلهية الثلاثة. وليس هذا فقط بل إنها تعطى مثالاً واضحًا لتأنس الأقنوم الثانى في الثالوث القدوس، الله الكلمة. ولكن من الأفضل أن نرجع إلى بداية الأمر ونبحث أولاً، ترى لماذا لم يخلق الله أجدادنا الأوائل أقصد آدم وحواء والابن الذي أنجباه بنفس الطريقة التي بها خلق الكائنات العاقلة، أى الملائكة، ليكونوا مساويين الكائنات الروحانية؟ فالله قد أحضر آدم إلى الوجود بدون إنسان، بدون أب وولادة ـ بينما الإنسان الثانى بعده، أى ابنه، أحضره إلى الوجود بالولادة. أيضًا حواء قد أتت إلى الوجود، لا بالولادة، ولا بسبب الإنسان بل أتت بانبثاق غير موصوف، من آدم بدون ولادة. ترى، هل حدثت هذه البدايات الثلاث للمخلوقات الأولى (آدم ـ حواء ـ الابن)، الكيانات المتساوية في الجوهر، كما يتصور ميثوديوس لكى تعطى صورة شكلية (وليست جوهرية) للثالوث القدوس الواحد في الجوهر؟ فآدم الذي أتى بدون أن تكون هناك علة لوجوده ولا بولادة هو نموذج وصورة لله الآب ضابط الكل الذي لا توجد علة سابقة لوجوده، بل هو علة كل الموجودات. الابن أيضًا الذي ولد من آدم وحواء، يرسم صورة للابن كلمة الله المولود. وحواء التي أتت من الانبثاق، ترمز إلى انبثاق أقنوم الروح القدس. ولهذا لم ينفخ الله فيها نسمة حياة، لأنها هى نموذج لنسمة الحياة التي للروح القدس لأنه بواسطة الروح القدس صار لها أن تستقبل الله في حياتها والذي هو النسمة الحقيقية وحياة الجميع.
هكذا نستطيع أن نرى وأن نندهش أن آدم غير المولود، ليس له شبيه بين البشر، فهو غير مولود، وهكذا الحال بالنسبة لحواء المنبثقة، حتى أنهما يشكلان مثالين حقيقيين للآب غير المولود والروح القدس المنبثق. أما الابن الذي أنجباه فهو شبيه بكل البشر، الذين هم أبناء وأتوا من ولادة فهم أخوة له ومساويين له. وهذا الابن يُشكّل صورة ومثالاً ونموذجًا للمسيح، الابن المولود، الذي صار بكرًا بين اخوة كثيرين[5]، بدون وساطة رجل. فلو أن الأمر ليس هكذا، وأن عبارة “بحسب الصورة” لم تُفهم وفقًا لهذا الشرح، فلماذا لم يصبح أجدادنا الأوائل اثنين أو أكثر من ثلاثة كيانات، ولماذا هم مختلفون في الصفات الخاصة بكياناتهم وأقصد غير المولود، المولود، والمنبثق، بل هم فقط ثلاث كيانات أو أقانيم؟ وبناء على ذلك فإن تعبير “بحسب الصورة والمثال” يتخذ شكل صورة الثالوث، ثلاثة أقانيم في وحدة. وبالتالى ينبغي أن تفهم الآن أيضًا، معنى الوحدة في ثالوث.
افهم ذاتك لتفهم الله:
ولكن كيف يمكنك أن تميز هذا بشكل صحيح. اسمع أحد الحكماء الذي ينصحك ويقول لك ” إن أردت أن تفهم الله، ينبغي أولاً أن تفهم ذاتك، من خلال تكوينك، من خلال خلقتك، من خلال عالمك الداخلي. انسحب وادخل إلى داخل نفسك، انظر داخل نفسك كما في مرآه، ميّز خلقتها، وسترى أنك مخلوق على صورة الله ومثاله”. إن جوهر نفسك العاقل وغير المائت هو أمر مجهول الاسم وغير معروف، وهو مخلوق بحسب صورة ومثال الله غير المدرك وغير المائت. لأنه لا يوجد أى إنسان من الذين ولدوا عبر العصور، قد أدرك الجوهر العاقل لله أو للنفس. النفس تعطى حياة، تؤلف وترعى طبيعة الجسد رباعية التركيب، صورة لله، ذاك الذي يتعهد خليقته المكونة هنا من أربعة عناصر والتي هى سمائية أيضًا. ولهذا فإننا لا نستطيع أن نعرف حتى المكان الذي يسكن فيه الله، لكننا نؤمن فقط أنه موجود في كل مكان. ولا نعرف أيضًا المكان الذي تسكن فيه النفس في الجسد، نعرف فقط أن النفس توجد وتعمل في كل الجسد.
النفس أيضًا تملك شيئًا آخر باعتبارها صورة الله، وأعنى أن جوهرها مختلف عن طبيعة الكون كله. والأكثر غرابة من كل شئ، والتي تحمله خلقتنا على صورة الله، أنه لا جوهر النفس، كما أن ماهيتها والكيفية التي بها تأتى إلى الوجود، تعد أمورًا لا يمكن للذهن الإنسانى أن يفهمها. ولهذا فكل مَن ادّعوا خطئًا أنهم قد فهموا، فهؤلاء قد تعثروا جدًا. لقد قال البعض إن النفوس تأتى إلى الأجساد من السماء، وآخرون يرون أن النفوس تأتى إلى الوجود إذ أن الله يخلقها مع الجسد. البعض قال أيضًا بأن الإنسان الذي خُلق على صورة الخالق، أصبح سببًا لولادة الجسد والنفس في ذات الوقت. البعض يدّعون أن النفس تولد من خلال التعاون المشترك للطرفين، الرجل والمرأة، كما يحدث عند احتكاك الحديد والحجر، فإن هذا الاحتكاك يوّلد الشعلة. البعض أيضًا يُعلّم بأنه في اللحظة ذاتها التي يُحمل فيها بالجسد تأخذ النفس وجودًا. البعض الآخر يرجح أن اليوم الأربعين من الحمل هو اليوم الذي يؤتى فيه بالنفس كما يتصورون، باعتبار أن ذلك يعتبر قانون لهذا التكوين. ويتخيل البعض الآخر أن النفس هى واحدة في الجوهر مع الملائكة، وآخرون قالوا إنها أقل من الملائكة، بينما يرى غيرهم أنها تهيم في الهواء، والبعض قال إنها تتحرك في الكون كحقيقة إلهية. ومن أجل هذا، على الرغم من أنها تتحد بالجسد، وهى مخلوقة على صورة الله، وتُحيّي الجسد، إلاّ أنها تبقى خارج تأثير الشهوات الجسدية وأضرار الجسد المختلفة، ولا نستطيع أن نراها، ولا أن نفسرها ولا أن نفهم طبيعتها ونوعها وهيكلها وشكلها ونوعيتها وكمها ووجودها ومما تتألف وجمالها.
ولذلك يقول ميثوديوس في وليمته[6] إن النفس لها جمال فائق لا يوصف، ولهذا السبب يبدو أن الأرواح المضادة تحسدها، لأنها أخذت شكلاً أسمى من الكائنات العاقلة ذاتها. أما عدم الفهم وعدم الوضوح والغموض الخاص بالنفس لا يشار إليه إلاّ لأنها تعتبر بالحقيقة، وعلى سبيل الحصر، صورة فقط لله غير المدرك. ولهذا ولأننا نجهل كل الأمور الخاصة بها، فإننا نتحقق ونتأكد من وجودها من خلال أعمالها فقط داخل الجسد. مثلما نتأكد من وجود الله من خلال أعماله داخل الكون المرئى. لنأتِ إلى النقطة الأساسية لموضوع الخلق “بحسب الصورة والمثال”، لكى نُبيّن، كما وعدنا، فرادة الثالوث الإلهى.
وما هى النقطة الأساسية؟ من الواضح أنها النفس أيضًا، وكلمتها العاقلة، التي دعاها الرسول بولس، روحًا، عندما يعطينا وصية أن نكون مقدسين في النفس والجسد والروح[7]. النفس أيضًا غير مولودة ولا علّة لها، وهى مثال لله الآب غير المولود والذي لا يوجد علّة لوجوده. إلاّ أن كلمة النفس العاقلة ليست بدون ولادة، بل تولد من النفس بطريقة لا يُعبّر عنها وغير منظورة ولا تُفسر، وليست لها علاقة بالألم أو الشهوة. بينما الفكر له علّة أو سبب وهو ليس بدون ولادة، ولكنه ينبثق، يدرك كل شئ ويفحص كل شئ ويتلامس معه بشكل غير مرئى، على مثال الروح كلّى القداسة، والذي ينبثق أيضًا والذي قيل عنه “ الروح يفحص كل شئ حتى أعماق الله“[8]. النفس حين توجد داخل الجسد فهى لا تعتبر منبثقة، لأنها إذا كانت منبثقة، لكنا قد متنا كل ساعة. وكلمتنا لا توجد بدون ولادة، لأنه إذا حدث عكس ذلك سنكون مثل الحيوانات غير العاقلة. والأكثر دهشة من هذه الأمور التي تثير الدهشة أننا لدينا نفسًا بسيطة، وعقلاً واحد غير مركب، أما كلمتنا فهى مزدوجة في ذاتها ومحفوظة كواحدة غير مُنقسمة. فالكلمة تولد داخل القلب ولادة غير مدركة، غير متجسدة، وتبقى مجهولة داخلنا. وبعد ذلك تولد ولادة جسدية من خلال الشفاه، وحينئذٍ تصير معروفة للجميع. ولكنها لا تنفصل عن النفس التي ولدتها، حتى أننا نستطيع أن ندرك بكل وضوح الميلادين اللذين لكلمة الله من خلال الميلادين الذي لكلمتنا “بحسب الصورة والمثال”.
حقًا لقد ولد من الآب قبل كل الدهور، بصورة غير مرئية، لا تُشرح وغير مدركة. وكان غير معروف، كما لو كان داخل الآب إلى أن ولد جسديًا من العذراء القديسة بدون فساد، بدون رجل، وظهر في العالم، دون أن ينفصل عن جوهر الآب الذي ولده. وبناء على ذلك ترى أن فرادة جوهر نفوسنا غير المائتة والعاقلة تحمل صورة لها ثلاث خواص أقنومية، عدم ولادة النفس، ولادة الكلمة، وانبثاق الروح، أى الفكر. وأتشجع وأتجرأ بأن أقول إنه بحسب هذه النظرية الثالوثية غير المرئية للنفس، قال الرسول بولس إن الإنسان خلق بحسب صورة الله غير المرئى. فإن لم يكن هذا حقيقيًا، فلماذا لم تُخلق النفس إذًا من الله ولها قسمان أو أربعة أقسام، بل لها ثلاثة أقسام فقط، والتي لا تختلط فيما بينها وفقًا لصورة الثالوث القدوس المحيي الواحد في الجوهر، حتى أنه لو كان مسموحًا أن أقول إن داخل الإنسان وبالأحرى الإنسان البار يسكن، بصورة شكلية وليس جوهريًا، كل ملء الألوهة التي تحدد بصورة غير مُعلنة الله الثالوث؟ ولهذا فإن حكماء العالم قد حددوا، من منظور آخر، أن النفس تتكون من ثلاثة أقسام، مُعلمين كيف أنها تحمل الرغبة، الفكر، الإحساس، حتى أنه عندما تتحد الرغبة في محبة الله بالفكر يمكن أن تستقبل في داخلها المعرفة والحكمة التي تأتى من الله، وبإحساسها تقاوم الأرواح الشريرة الخبيثة، مُبينين أيضًا من خلال هذه الأمور الثلاث، معنى “بحسب صورة الله”. لأن الله الثالوث يحكم ويضبط ثلاثة أقسام بثلاثة طرق أى السماويات، والأرضيات، وما تحت الأرض، من خلال قدرته الخالقة، وعنايته، وسلطانه العادل. وكل ما يعمله الله، فإنه يعمله وفقًا لإحدى هذه الطرق الثلاث، إما أنه يخلق، أو أنه يعتنى، أو يُهذب. وصورة الله الخالق هى في الرغبة. لأن الرغبة تقود إلى العمل، أما عنايته فرمزها في القوة الفكرية للنفس. الاحساس أيضًا هو مطابق للتهذيب. وربما الخاصية المميزة للنفس هى في الرغبة. لأن الأطفال حتى قبل أن يتكلموا، باعتبارهم نفوس، نجدهم يشتهون على الفور أن يرضعوا وأن يناموا. أيضًا القدرة الفكرية من الواضح انها خاصية العقل، بينما الاحساس يرافق العقل، وكل من يغضب بالمخالفة للطبيعة يثير فيه اضطرابًا.
طبيعة النفس العاقلة:
إذًا فإن أراد أحد أن يعرف كيف خُلِقَ الإنسان بحسب “صورة الله ومثاله”، فليأتِ إلى هذه الأمور غير المطروقة، والمعانى المشابهة لها، وليبحث في تكوين طبيعة نفسه العاقلة. وليكن هدفه أن يعرف أقسامها بالتدقيق، وأقسام أقسامها، كلماتها، طرقها، وحداتها، تميّزاتها، تفرّدها، وحدتها، ثالوثيتها، كيف أنها واحدة وتعتبر ثلاثة أقسام، وحدة في ثلاثة، بحسب صورة الله ومثاله، ويُعترف بها كثلاثة أقسام في وحدة. وأنها من المؤكد واحدة في الجوهر، لكن ليست واحدة من جهة أقسامها الثلاثة، وذاك الذي قال “أصلي بالروح وأصلي بالذهن أيضًا. أرتل بالروح وأرتل بالذهن أيضًا قد جعل هذا الأمر واضحًا جليًا “[9]. أيضًا بعض الناس يكلموننا بشكل واضح جدًا عن هذا الثالوث الذي يُستعلن فينا ويُعطى مثالاً لصورة الله، وهؤلاء تكون لهم نفس. ولكنهم يكونون ـ بسبب ما ـ بلا عقل ولا كلمة. أيضًا البعض ممن يحملون نفسًا وكلمة، قد تجدهم فقراء في العقل تمامًا. أيضًا البعض لديهم عقلاً ونفسًا، ولكنهم محرومين من الكلمة. ولهذا فإن الرضيع، الذي يولد من داخل جو مظلم، ويأتى إلى النور، يُظهر على الفور أنه يحمل نفسًا هى مثال لله الآب والتي لها قوة عاقلة، تحمل أيضًا داخلها الكلمة والعقل. الآن يتقدم هذا الرضيع ، حيث ينمو الجسد ويكتمل، فيظهر الكلام بعد ذلك، والكلام لا يظهر بشكل كامل ومفاجئ، بل أنه يتلعثم أولاً، مُعلنًا عن حضور ذهنى، عندما ينمو الرضيع ويظهر كرجل كامل، وهذا يشير إلى الكلمة حين تجسد.
لكن فيما تساهم هذه الأمور بالنسبة للبحث الذي نُباشره عن خلق الإنسان؟ بالطبع يمكن أن تساهم جدًا، آه أيها الإنسان، إننا بهذه الأمور نعرف طريقة استعلان الله وظهوره في العالم، عندما أخذ جسدًا، هكذا أدركت طبيعتنا سر الثالوث حينما استعلن في الحين المناسب. حقًا لقد حُمل بالإنسان من بذرة الشرير، كما لو كان في بطن الخداع، جالسًا في الظلمات وفي ظلال الموت. ثم تقدم بعد ذلك في نور المعرفة الإلهية، في البداية كطفل، تعهده الناموس، إذ أنه يحمل نفسًا، مدركًا أن الله الآب يحتوى الكلمة كأقنوم، والروح القدس أيضًا، كما هو الوضع بالنسبة للنفس. ولأن الإنسان بسبب ضعفه الشديد وطفولته المعرفية، لم يكن قادرًا على إظهار الكلمة والفكر، ولكى لا ينزلق إلى عبادة الآلهة المتعددة، فإن طبيعتنا المادية أو العالمية قد اكتسبت بمرور الزمن حكمة، مثلما يحدث مع الطفل الذي يكبر، كما لو كان قد تعلّم من نفس ما أن تكون له معرفة عن الله الآب ولكنها معرفة غير مُعلنة، مثلما يحدث في البداية من تلعثم غير واضح في الكلام، ثم يكتسب خبرة من خلال التعاليم النبوية، ثم إدراك ومعرفة كلمة الآب كأقنوم.
وبعد هذه الأمور المتلعثمة، وأقصد التعبيرات الموسوية والنبوية التي تحمل ألغازًا، وبعدما خرج كلمة الله بصوت مسموع وناطق من الأحشاء البتولية، كما تخرج الكلمة من الشفاه، ستعرف طبيعتنا الإنسانية ككل كمالها الثالوثى بعد أن تكون قد اجتازت هذا التلعثم، من خلال الكلمة، طالما أنها قد قبلت الروح القدس واستنارت ذهنيًا، والذي لم يجعل انتقاله وسكناه في هؤلاء من الخارج، لكنه استعلن فيها، من خلال تلك الأمور التي هى في داخلها، أى النفس والكلمة، مقابل الآب والابن، فتلد النفس كلمتها الأقنومية، ليس كمخلوقة، ولا كشئ مُغاير، ولا كجنس مختلف، بل بشكل أساسى هو وجود شخصي فطرى يحمل طبيعة مشتركة. مظهرًا الطبائع المشتركة في ارتباطها بروح الذهن، كما لو كانت تشكل جسدًا واحدًا. وبالإضافة إلى هذه العناصر فإن النفس غير الجسدانية تُغرس فيها أعضائها غير الجسدانية[10]، كما لو كانت هذه الأعضاء نماذج توصف وتُصاغ وتتجمع معًا، تلك التي هى فوق كل شكل وهيئة، وهى تحمل روح الذهن كنسمة لجسدها، وكحياة لها، وتملك الكلمة كرفيق لها. فإذا حُرمت النفس من كل هذه الأمور، فلن يكون من الممكن أن توجد ولا أن يُعترف بها كنفس ناطقة وعاقلة، تلك التي خُلقت بحسب صورة الله ومثاله. ومن خلال هذه العناصر الموجودة داخل النفس ستعلم وتعترف أن الآب، والابن، لم يكونا كائنين قبل الروح القدس. فكما في حالة النفس العاقلة، توجد الكلمة داخلها في نفس الوقت، ويوجد داخلها الروح الذي يُحييها ويُجمعها ويُكملها، هكذا فإن الله الكلمة هو كائن مع الآب، وفي نفس الوقت الروح القدس كائن مع الابن ومع الآب. أما إن فصلت وعزلت الكلمة عن النفس، فإن نفسك ستبقى بدون كلمة. هكذا ستعرف من خلال حقيقة الخلق على صورة الله، أنك لو رفضت الله الكلمة، قائلاً إنه غير كائن مع الله الآب، فإنك تكرز حينئذٍ بأن الله هو غير عاقل وشبيه بالحيوانات غير العاقلة. ولو أنك فصلت الروح عن الله، فإنك تتحدث عن من هو ميت وليس عن إله حيّ. لذلك لو أنك أردت أن تجد فلسفة لعبارة “بحسب الصورة والمثال” فينبغي أن تفلسفها هكذا، وليس من قبل الأمور التي هى خارجك، بل من تلك التي هى داخلك. أن تعرف الله غير المعروف، من خلال الثالوث الذي في داخلك، اقتنِ معرفة للثالوث من خلال الأشياء الموجودة حقًا. هذه الشهادة هى شهادة مؤكدة وجديرة بثقة أكثر من أى شهادة أخرى للناموس وللكتاب.
خلق الإنسان وإدراك سر الثالوث:
حقيقةً أنه لهذا السبب فقط خلق الله مثل هذا الكائن الحيّ (أى الإنسان)، لأنه كان يرغب أن يُعلن للعالم سر الثالوث القدوس غير المُدرك، لكى تحمل داخلك أنت يا من خُلقت بحسب صورة الله ومثاله، الصورة والمثال والنماذج والأمثلة التى توضّح سر الثالوث القدوس، ولكى لا تتذبذب بعد من جهة سر الثالوث، حين تتطلع في صورة نفسك المخلوقة. لا تُعبّر بالتساؤل الساخر، إن كان الله ثالوث، فكيف يكون واحدًا؟ وإن كان الكلمة هو ابن، فكيف يمكن أن يكون المولود موجودًا منذ البدء مع والده؟ وإن كان الروح يأتى من الآب، فلماذا لم يولد، لكنه ينبثق؟ أو مَن هو الذي أحضره الآب إلى النور أولاً؟ الابن أم الروح القدس؟ فإن كان الاثنان معًا في نفس الوقت، فهل يوجد يا ترى داخل الثالوث إلهان أخوة، وولادة توأم؟ وكيف ستُميّز الفرق بين الولادة والانبثاق في الكائنات غير الجسدانية، والغير متحركة والثابتة؟ وكيف يكون ممكنًا أن يكون للوالد والمولود نفس المجد؟ وهل الآب يا تُرى ولد بإرادته أم لا؟ ومَن يشهد على أن الآب والابن والروح القدس هم جوهر واحد؟ وإن كان الله الآب هو أقنوم كامل. وإن كان الله الكلمة هو أقنوم كامل، والروح القدس إله كامل، فمن لا يقول إن عقل الله هو أقنوم إلهى آخر لله، وإله آخر هو ذراع الله، وأقنوم آخر هو اصبع الله، وكذلك يمين الله، وكل الأمور الأخرى التي يُقال عنها إنها أعضاء الله في الكتاب المقدس؟
إذًا فلكى لا تتكلم ولا تفكر في هذه الأمور، التي تعثّر فيها الهراطقة، وسقطوا بتفكيرهم، فإن الله خلقك بحسب صورة ومثال وجوده الثالوثى، لتكون نموذجًا يحمل الشكل الثالوثي، والذي يُعرف أنه واحد في الجوهر. وإن كانت لك رؤية مستقيمة، فستجد في هذا الثالوث، وبحق، كل ما يختص بالتعاليم التقوية عن الله، كما في مرآه، وكنموذج أو شكل (للثالوث القدوس). وأقصد أن الأقانيم ثلاثة، والجوهر واحد غير منقسم، وغير مُدرك، وهو الذي لا هيئة له، الذي لا يُشار إليه، غير المولود، المولود، المنبثق، الخالق، الراعى، الديان، غير المحسوس، غير الجسدى، الأبدي، غير المتجزئ، غير المائت، الذي لا يُعبّر عنه، الفائق الجمال، وبعبارة واحدة ستجد كل ما يقال بتقوى عن النماذج والصور الإلهية كظلال مرسومة داخل نفسك. ولهذا قال الله “لنخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا”.
الانتقال من الأصل إلى الصورة:
ومع هذا فإن هذه الأمور لم يفهمها الهراطقة غير المؤمنين في عصرنا ولا فكروا فيها، لأنهم لو فهموا بشكل صحيح عبارة ” بحسب الصورة والمثال ” كملمح للإنسان، ما كانوا ليتذبذبوا في سر الثالوث، ما كانوا ليُخضعوا الفائق للطبيعة لأفكارهم. ما كانوا لينشروا إدعائهم المظلم، بأنه لا يمكن أن يكون الله ثلاثة أقانيم. فلو أن آريوس قد فهم الخلق بحسب “الصورة”، ما كان له أن يُعلّم بأن الابن هو من جوهر مختلف عن الآب. لو أن مقدونيوس تعرض بتقوى لموضوع الخلق “بحسب الصورة” ما كان له أن يصف الروح القدس بأنه مخلوق. لكنهم أصيبوا بالعمى وعانوا ما عاناه أولئك الذين بينما كانوا يمتلكون الجوهرة في أعماقهم، لم يعرفوها، وبحثوا عنها في الهاوية وهذا بسبب أنهم مخدوعون. لاحظ إذًا أن النفس هى “بحسب صورة الله” من حيث الشكل وليست بمساواة طبيعية. كيف صار هذا؟ سأشرح على الفور ما أقوله بوضوح. نحن نؤمن أن الله الآب غير محدود، وينطبق نفس الشئ على الابن وعلى الروح القدس، ولهذا فهم كأقانيم غير محدودين، يحملون أسماءً، يُعلن فيها الواحد عن الآخر، كما يوجد بينهم ترابط مشترك بمعنى أنه عندما يُذكر اسم الآب فمن الواضح أنه يُعلن عن وجود ابن له. كيف يكون ممكنًا أن يُدعى أبًا، إن لم يكن له ابن؟ نفس الشئ عندما يقول روح، فهو يعلن عن الله، لأن الله روح كما يقول الكتاب[11].
فلنأتِ بعد ذلك من هذا الثالوث القدوس إلى صورته، أى إلى الثالوث الذي يوجد داخلنا، وسترى الأسماء الثلاثة، حيث يحوى الواحد الآخر وهم متحدين. بمعنى أنك عندما تُشير إلى النفس الناطقة العاقلة، فمن الواضح أنك تُعلن عن الكلمة والعقل. نفس الشئ إذا ذكرت كلمة عقل، فإنك تعلن بكل الطرق عن النفس والكلمة. لأنه بأى شئ يتعلق الذهن، إن لم يكن بالنفس والكلمة؟ وهكذا فإن اسم أحد الأقانيم يستدعى حتمًا الإشارة إلى الأقنوم الآخر، فهناك ترابط قوي يجمع أسماء الأقانيم معًا. يتضح من ذلك أن الأقانيم تحمل نفس الطاقة والجوهر المشترك غير المنقسم، بمعنى أن طاقة الله الآب والابن والروح القدس هى واحدة ومتساوية، والقوة واحدة، والإرادة واحدة، والرأى واحد. فإن الابن غير منفصل عن الآب في كل ما يعمل وهو عامل معه، وأيضًا في كل ما يفعل الابن أو الروح القدس فإن الآب يعمل معهما في كل الأحوال بشكل غير منفصل. فلا الابن يفعل شيئًا بالانفصال عن الآب، ولا الآب بالانفصال عن الابن والروح القدس، بل ولا الروح القدس أيضًا يفعل شيئًا بدون الابن والآب.
وعندما ننتقل من الأصل إلى الصورة، إلى صورة نفوسنا التي هى مخلوقة “بحسب صورة الله ومثاله” سترى فينا أن الفعل هو واحد ومتساوى. لأن النفس لا تفعل شيئًا بدون الكلمة، ولا الكلمة بدون النفس، ولا أيضًا العقل يفعل شيئًا وحده بدون النفس وبدون الكلمة، بسبب قوتهم وطاقتهم المشتركة المتساوية الأبعاد والفطرية والمترابطة فيما بينها، بحسب خلقتها على صورة الله ومثاله. ولكن إذا قلت لى إن النفس لا تفعل أى شئ وحدها بدون الجسد، وهذا بالضبط ما سبق وأعلناه، إذ أنها قد خُلقت في هذا الجسد بحسب صورة الله ومثاله. فإنها من خلال المادة المرئية تعلن عن قوتها غير المرئية. إلاّ أنها عندما تنفصل عن الجسد أيضًا فإن الجوهر والنفس النقية بحسب طبيعتها، إذ توجد في استنارة وبساطة وهدوء وبهاء، يمكن أن تُدعى وتكون بحق مخلوقة بحسب “صورة الله ومثاله”.
ولكن إذا تهكم المقاوم، كما هو متوقع، على كل ما قلته، لأننا لم نُدلل على أنه توجد ثلاثة أقانيم في النفس بالمساواة مع أقانيم الثالوث القدوس، فليعلم الأحمق أن النفس خلقت على شكل الصورة وليست بمساواة حقيقية للثالوث القدوس. بل وفي الألوهة أيضًا، إن لم يكن هذا أمرًا مخيفًا أن يقوله المرء، فإن هناك تمايز للآب عن الابن، وتمايز للروح القدس عن الابن. وفي تشابهك مع صورة الله، أنت لا تتجاوز هذا أيضًا، أى أنه بولادة الكلمة جسديًا من الشفاه تصير الفضيلة والحكمة والاستنارة والقوة والعمق والمعرفة التي لنفسك وذهنك معروفة ومُعلنة للجميع. وهذا المثال يُعلن لك أنك خلقت وتوجد بحسب “صورة الله ومثاله”. لأنه بولادة كلمة الله جسديًا استعلنت للعالم القوة، المعرفة، الحكمة، وجميع أنواع الصلاح الأخرى التي للآب والروح القدس.
لاحظ إذًا كم وتنوع أعمال الكلمة في العالم، من جهة التشبه بكلمة الله، وكيف أنه بواسطة الكلمة، يُخلق كل شئ ويصير له وجود. لقد أخذت الملائكة كيانها بواسطة الكلمة، وبالكلمة يُمجدون الخالق، وبالكلمة خلق كل ما نراه، بالكلمة أُنير سر الكون، بالكلمة صارت الكيانات معروفة. بواسطة الكلمة فقط ظهرت هذه الكيانات، بالكلمة تحققت الإنجازات، بواسطة الكلمة تجلى الكون. لقد بُشّر بمعرفة الله بواسطة الكلمة، وبواسطة الكلمة أخذنا هذه المعرفة. بواسطة الكلمة توّحدت وانجمعت كل الأشياء معًا. وكما أن الطفل الذي لا يتكلم يعتبر قليل العقل بحسب تقديرات الناس، إلى أن تولد الكلمة من شفتيه، هكذا كلمة الله المولود بحسب الجسد، عبر كل مراحل عدم الكلام الخاصة بطبيعتنا، حين استعلن بكل وضوح في عملية الخلق مع الآب والروح القدس. ولأن نفوسنا هى مخلوقة من الله، فهى غير مُرسلة لخدمة ما، بعد انفصالها عن الجسد، كما يحدث بالعكس مع الملائكة، لأن الملائكة هى أرواح مُرسلة للخدمة، بينما أنفس القديسين هى بشكل أساسى مخلوقة بهيبة بحسب صورة الله ومثاله، لأنه إن كان الإنسان بعد عصيانه، قد طاله نقص بسيط عن الملائكة[12]، إلاّ أنه بإتحاده بالله الكلمة صار أعظم من الملائكة، لأن ذاك الذي خُلق بحسب “صورة الله ومثاله، اتحد الآن بالله وذاك الذي أخذ أولاً صورة الله، يعكس الآن صورة الله، هذا الذي يليق به المجد إلى أبد الآبدين آمين.
[1] العناوين الجانبية من وضع المترجم.
[2] تك26:1.
[3] نار وماء وأرض وهواء. هذه العناصر كانت تمثل المعطيات العلمية لذلك العصر (القرن الرابع) وقد أشار ق. أمبروسيوس إلى هذه العناصر المكونة للإنسان في كتابه شرح الإيمان المسيحي.
[4] تك27:1.
[5] رو29:8.
[6] ميثوديوس هو أسقف مدينتي أوليمبوس وبترا. وقد انتقل بحسب شهادة القديس جيروم إلى إيبارشية صور في فينيقية (لبنان). استشهد عام 213م في خالكيس. وقد عُرف عنه معارضته للعلاّمة أوريجينوس، برغم تأثره بفكر ومنهج أوريجانوس، كما أشار هو نفسه إلى ذلك. وهو ما يظهر في استخدامه للتفسير الرمزي للكتاب المقدس. “ Methodius – the Banget of the ten virgins “ Ante – Nicene Fathers – vol.6.P. 309-310.
[7] ” لتكون مقدسة جسدًا وروحًا” (1كو34:7).
[8] 1كو10:2.
[9] 1كو15:14.
[10] تعبير “أعضاء النفس” استخدمه القديس يوحنا ذهبي الفم في تفسيره لرسالة رومية، الاصحاح الرابع قائلاً: ” علينا أن نشدد أعضاء النفس ونحفظها بالملمح الروحى”. أيضًا استخدمه القديس مقاريوس في العظة 7 ردًا على تساءل، هل العقل شئ والنفس شئ آخر؟ أجاب كما أن أعضاء الجسد وهى كثيرة تُدعى إنسانًا واحدًا، هكذا النفس لها أعضاء كثيرة وهى (العقل ـ الضمير ـ الارادة) وكل هذه مرتبطة معًا في نفس واحدة.
[11] يو24:4.
[12] عب7:2.