قيامة المسيح ج2 – القديس كيرلس عمود الدين – د. نصحي عبد الشهيد
قيامة المسيح
من شرح إنجيل يوحنا
للقديس كيرلس الأسكندري
لا تلمسيني:
يو17:20 ” قال لها يسوع، لا تلمسيني لأنني لم أصعد بعد إلى أبي ”.
لا يفهم العامة معنى هذا القول بسهولة، لأن فيه سر خفى، ولكن يجب أن نبحث فيه لفائدتنا. وسوف يمنحنا الرب أن نعرف كلماته. فبينما كانت المرأة تجري نحوه، ورغم أنها اشتاقت أن تحتضن قدميه فإن الرب منعها وأوقفها، وذكر سبب منعه إياها بقوله: ” لأنني لم أصعد بعد إلى أبي“، ويلزمنا أن نبحث عن معنى هذا القول. فماذا يعنى أنه لم يصعد بعد إلى أبيه؟ وكيف يمكن أن يكون عدم صعوده سببًا كافيًا لمنع أولئك الذين أحبوه من لمس جسده المقدس؟.
إن كل من يتصور أن الرب رفض أن تلمسه المرأة لكي لا يتدنس بلمستها، وأنه تكلم بهذه الكلمات لكي يكون نقيًا حينما يصعد إلى الآب في السماء، كل من يفكر هكذا يكون مستحقًا لكل لوم ويستحق أن يُوصف بالحماقة والجنون. لأن طبيعة الله لا يمكن أن تتدنس مطلقًا. وكما أن شعاع الشمس عندما يسقط عل كومة من روث البهائم أو على أي شئ آخر من الأشياء الأرضية النجسة، فإن الشعاع لا يتدنس ـ بل يظل كما هو أي غير مُلوث، ولا يشترك في أي رائحة كريهة من القاذورات التي يسقط عليها، فكم بالحري طبيعة الله الكلية لقداسة، فإنها لا تسمح لأي عيب أو دنس أن يؤثر فيها.
إذن ما هو السبب في منع مريم من لمسه حينما اقتربت منه واشتاقت أن تلمسه؟ وماذا يمكن أن يكون قصد الرب حينما يقول: ” لأني لم أصعد بعد إلى أبي“، ينبغي أن نفتش عن معنى هذه الكلمات بأقصى طاقتنا.
لذلك نقول، إن مجيء المخلص إلينا كان له أهداف متعددة. ولكن الهدف الرئيسي بين كل هذه الأهداف هو ما عبّر عنه بكلماته هو نفسه عندما قال:
” لم آت لكي أدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة ” (مت13:9).
فقبل صلب المخلص وقيامته من الأموات، أي حينما لم تكن خطة تدبيره قد وصلت بعد إلى غايتها، فإنه كان يخالط كلاً من الأبرار والخطاة، ويأكل مع العشارين والخطاة، وكان يسمح لكل من يريد، أن يأتي إليه ويلمس جسده المقدس، وذلك لكي يقدس كل البشر ويدعوهم إلى معرفة الحق، ولكي يعيد إلى الصحة والشفاء أولئك الذين كانوا مرضى وضعفاء من كثرة ممارسة الخطية. لذلك يقول أيضًا في موضع آخر: ” لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى” (لو31:5). ولذلك فقبل قيامته من الأموات كان يعاشر الأبرار والخطاة بدون تفرقة أو تمييز. ولم يطرد أبدًا أحد من الذين أتوا إليه. بل إنه حينما كان متكئًا في بيت أحد الفريسيين، جاءت إليه امرأة كانت خاطئة في المدينة، وكانت تبكي (لو37:7و38)، وقد حلت ضفائر شعرها وهذا يدل على عدم تحررها التام من خدمة خطاياها السابقة، ومسحت قدميه بشعرها، أما هو فلم يمنعها. وكذلك حينما كان ذاهبًا لكي يقيم ابنة رئيس المجمع من الموت، جاءت ” امرأة بنزف دم ولمست هدب ثوبه” (لو43:8و44)، ونجد أنه لم يغضب بالمرة، بل أنعم عليها بالثقة المعزية بقوله: ” ثقي يا ابنة إيمانك قد شفاك. اذهبي بسلام“.
في ذلك الوقت فإن الناس الذين كانوا لا يزالون نجسين، والذين كانوا متدنسين عقلاً وجسدًا، هؤلاء حسب تدبيره، كان يسمح لهم أن يلمسوا جسد المسيح مخلصنا نفسه بلا مانع أو عائق، وبذلك يحصلون منه على كل بركة. ولكنه بعد أن أكمل تدبير فدائنا، بعد أن احتمل الصليب والموت عليه، وبعد أن قام حيًا وأظهر أن طبيعته أعلى من الموت، فإنه منذ ذلك الحين بدأ يمنع أولئك الذين يأتون إليه من لمس جسده المقدس، وبذلك أعطانا مثالاً تسير عليه الكنائس المقدسة فيما يختص بالسر الخاص به[1].
فكما أن الناموس الذي أُعطى بواسطة موسى الحكيم فيما يخص ذبح الحمل ـ الذي يرمز للمسيح ـ يقول: ” لا يأكل منه أي أغلف” (خر48:12)، أي غير مختون فهو يعنى أن غير المختون هو غير طاهر. وهو مثال للطبيعة البشرية غير الطاهرة. لأن ما هى طبيعة الإنسان بالمقارنة بنقاوة الله الطبيعية. لذلك إذ ظللنا غير مختونين، أي غير طاهرين فعلينا أن نمتنع عن لمس جسده المقدس، ولكن حينما نصير أطهارًا بالختان الحقيقي للروح فإننا يمكن أن نلمسه، لأن ” ختان القلب هو بالروح” كما يقول بولس (رو29:2).
إعطاء الروح القدس يسبق لمس جسد المسيح:
ولا يمكن أن نُختتن روحيًا إن لم يسكن فينا الروح القدس بالإيمان والمعمودية المقدسة. لذلك فقد كان لائقًا أن تُمنع مريم مؤقتًا من لمس جسده المقدس، لأنها لم تكن قد نالت الروح القدس. فرغم أن المسيح قام من الأموات، ولكن الروح لم يكن قد أُعطى للبشرية من الآب بواسطة المسيح. ولكنه حينما صعد إلى الآب، أرسل الروح إلينا، حسب قوله: ” خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت، سأرسله أليكم” (يو7:16). فلأن الروح القدس لم يكن قد نزل بعد ألينا، لأن المسيح لم يكن قد صعد بعد إلى الآب، فهو لهذا السبب منع مريم من لمسه لأنها لم تكن قد أخذت الروح، قائلاً لها: ” لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي“، أي لم أرسل لك بعد الروح القدس.
التقديس بالروح القدس يسبق التناول من الجسد والدم:
ومن هنا فإن هذا المثال ينطبق على الكنائس. فإننا نمنع الذين آمنوا بلاهوت المسيح واعترفوا بالإيمان ـ أي الذين أصبحوا موعوظين ـ نمنعهم من الاقتراب من المائدة المقدسة لأنهم لم ينالوا غنى الروح القدس بعد، فإن الروح لا يسكن في الذين لم يقبلوا المعمودية. ولكن حينما يصيرون شركاء الروح القدس، فلا يوجد ما يمنعهم من لمس المسيح مخلصنا. لذلك أيضًا، فكل الذين يرغبون في الاشتراك في الإفخارستيا المقدسة يقول لهم خدام الأسرار الإلهية: ” القدسات للقديسين “، وبذلك يعلمونهم أن الاشتراك في القدسات هو المكافأة التي يحصل عليها الذين تقدسوا بالروح.
يو17:20 ”ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ”.
منع المسيح مريم من لمسه للأسباب التي قدمناها، رغم أنها في محبتها لله كانت تشتاق جدًا لهذه الهبة؛ ولكنه يكافئها على عنايتها وسهرها ويضاعف تعويضها على إيمانها الحار ومحبتها له، موضحًا أن الذين يجتهدون في خدمته ينالون مكافأة. ولكن ما هو أكثر مجدًا أن مريم حققت خلاص المرأة من الضعفات القديمة؛ لأن فيها هي أولاً ـ أي في مريم ـ كلل جميع جنس النساء بكرامة مضاعفة. فرغم أنها كانت تبكي في البداية على المسيح، ولكنها حوّلت نوحها إلى فرح عندما أخبرها الرب أن تمتنع عن البكاء، وهو الذي حكم على المرأة في القديم أن تُغلب بسهولة من الأحزان، لأن الله قال لها: ” بالحزن تلدين أولادًا” (تك16:3)؛ ولكن كما جعلها تحت الحزن، في الفردوس عندما أصغت إلى صوت الحية وخدمت حيل الشيطان، هكذا فإنه الآن في بستان أيضًا يطلب منها أن تمتنع عن البكاء. ولأنه عتقها من اللعنة التي قيدتها بالحزن، فإنه يطلب منها أن تكون أول مبشر بأخبار الفرح العظيم، وتخبر التلاميذ بصعوده إلى السماء…
لقد فاقت محبة مريم المجدلية للمسيح جميع الآخرين، وهذا، ربما ما جعل يوحنا يذكرها هي وحدها من بين النساء الأخريات، فهي أول من رأى القبر، وكانت في ابستان، وطافت بجميع المواضع القريبة من القبر باحثة عن الجسد لأنها ظنت أن الرب قد أُخذ من القبر…
فالمخلص أعطى لمريم كرامة ومجدًا وشهرة دائمة بان منحها القيام بواجب البشارة لاخوته حاملة لهم الأخبار السارة التي يقول فيها: ” إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم“…
لنتأمل كيف أن كلمة الله الابن الوحيد جاء بيننا، لكي نصير نحن مثله، بقدر ما تحتمل طبيعتنا أن تبلغ إلى هذا المستوى من جهة خلقتنا الجديدة بالنعمة. لأنه وضع نفسه لكي يرفع ما هو وضيع أصلاً إلى مقامه العالي الخاص به. ولبس صورة عبد ـ رغم أنه بالطبيعة هو الرب وابن الله ـ لكي يرفع ذلك الذي كان مُستعبدًا بالطبيعة، إلى كرامة البنوة، جاعلاً إياه على شبهه الذاتي، وعلى صورته. كيف وبأي معنى؟ إنه عندما صار واحدًا منا كإنسان، لكي يجعلنا نحن أيضًا نصير مثله، أي آلهة وأبناء، فإنه يأخذ ضعفاتنا في ذاته، ويعطينا صفاته الخاصة، وربما تكون مهتمًا جدًا بهذا السؤال. وهذا ما سأشرحه على قدر ما أستطيع:
أولاً، رغم أننا عبيد بالرتبة والطبيعة (لأن المخلوقات تحت سلطان خالقها)، فهو الآن يدعونا اخوته، وجعل الله الآب هو الأب المشترك له ولنا، ولأنه جعل البشرية خاصة به باتخاذه شكلنا لنفسه، فإنه يدعو إلهنا إلهًا له بقوله ” إلهي “، رغم أنه ابنه بالطبيعة؛ وذلك لكي نرتفع نحن إلى كرامته الفائقة العظمة بمشابهتنا له (فنحن لسنا أبناء لله بالطبيعة بل هو الابن الذي يصرخ في قلوبنا بروحه يا أبا الآب غل6:4).
لذلك، لا تعثر عندما تسمعه يدعو الله إلهًا له بقوله “إلهي”، بل بالحري تأمل كلماته بروح مستعدة للتعلّم وتأمل معانيها الحقيقية بانتباه. فهو يقول إن الله أبوه وإنه إلهنا أيضًا وكلا القولين صحيح. لأن إله هذا الكون هو بالحق، أب المسيح، ولكنه ليس أبانا بالطبيعة؛ بل بالحري هو إلهنا لأنه خالقنا وربنا الذي له كل السيادة. ولكن الابن، إذ وحّد نفسه بنا بتجسده فإنه منح لطبيعتنا الكرامة التي له وحده، ودعا ذاك الذي ولده (أي الله الآب) أبًا مشتركًا له ولنا… ومن الجهة الأخرى، فهو باتخاذه شكلنا، فإنه يقبل في نفسه ما يختص بطبيعتنا، فهو يدعو أباه ” إلهي “، لأنه بسبب غنى محبته ورحمته على جنس البشر لم يشأ أن يحتقر صورتنا التي قد اتخذها لنفسه. أما من يريد بجهل أن يعترض على هذا القول ” أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم” ولا يقبل أن يقول المخلص عن الله الآب إنه “إلهه”، فهو بهذا الانحراف في الفهم يطعن في خطة فدائنا ذاتها. وبدلاً من أن يقدم الشكر الواجب لله صانع الخيرات لنا فإنه يحتقره، ويعترض بغباوة على الطريقة التي أظهر بها محبته لنا.
ولكن إن كان الابن قد وضع ذاته ” مستهينًا بالخزى” (عب2:12)، وصار إنسانًا لأجلك، فإن رفضت تواضعه فإنك ستُدان على ذلك، أما هو الذي اتضع لأجلك، فإن الكرامة الواجبة له هي عظيمة بلا حدود…
لذلك، إذ هو كامل ومكتفٍ بذاته كلية كإله، فإنه وضع نفسه لأجلك وصار في شبهك، ورغم أنه مُمجد مجدًا عاليًا كابن الله ومولود من ذات جوهر الآب، فإنه أنزل نفسه، إذ أخلى ذاته من صفات مجده الإلهي بقدر ما تسمح طبيعته الإلهية بذلك.
والآن، فهو إله وإنسان معًا، إذ هو فائق المجد بسبب أصله الإلهي (لأنه إله من إله والمولود الحقيقي من أبيه)، وهو أيضًا وُضِعَ لأجلنا (لأنه صار إنسانًا لأجلنا).
إذن، فلتهدأ نفسك حينما تسمعه يقول: ” أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم“. فمن اللائق جدًا بل والصواب تمامًأ أنه وهو بالطبيعة الإله وابن الله أن يقول عن ذاك الذي ولده إنه ” أبوه “، ولأنه إنسان مثلنا فيحق أن يقول عن الله إنه ” إلهه “….
[1] أي سر الإفخارستيا كما يتضح من بقية الشرح (المعرب).