أبحاث

رسالة رومية الأصحاح12 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح12 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح12 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح12 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح12 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

 

” فأطلب إليكم أيها الاخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية ” (رو1:12).

          1 ـ بعدما تكلم كثيرًا عن محبة الله نحو البشر، وأظهر عنايته التي لا يُعبر عنها، وصلاحه غير الموصوف والتي لا يمكن فحصه، أخذ يستفيض في عرض ذلك الصلاح، لكي يُقنع أولئك الذين نالوا إحسانات الله، بأن يُظهروا سلوكًا يليق بهذه العطية. وبرغم أنه رسول عظيم وله مكانة كبيرة فهو يتوانى عن أن يترجى. على أن كل ما كان يرجوه منهم لا يتعلق بشئ سيحظى به هو شخصيًا، بل يرتبط بما يمكن أن يحصلوا عليه هؤلاء (الاخوة). وهل سيكون هناك مجالاً للتعجب إذا لاحظت أنه لا يتوقف عن التوسل عندما يتحدث عن رأفات الله؟ إنه يقول لهم نظرًا لأن من هنا تأتي الخيرات غير المحدودة لكم، أى من رأفات الله، فلتقدروا هذه الرأفات، وتستجيبوا لها. كذلك فإن هذه الرأفات تحمل معنى التوسل الذي يمنعكم عن إظهارأى شئ لا يليق بها. هكذا يقول لهم أطلب إليكم برأفة الله التي بها أى خلصتم لأنه أراد أن يؤنب الذين نالوا إحسانات كثيرة فهو يقول لهم إني أطلب برأفة الله رغبة منه أن يقدم لهم الله نفسه وليس هو شخصيًا. وأخبرني يا بولس ماذا تطلب؟ يطلب ” أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية ” ولأنه تكلم عن “ذبيحة”، ولكي لا يعتقد أحد أنه يأمر أن يقدموا أجسادهم ذبائح، أضاف كلمة “حية”. بعد ذلك يفصل هذه الذبيحة عن الذبيحة اليهودية، بقوله: ” مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية “. خاصةً وأن الذبيحة اليهودية جسدية وليست مرضية بشدة. لأنه يقول: ” من طلب هذا من أبويكم “[1]. وفي مواضع أخرى كثيرة جدًا يتضح أن الله كان يرفض هذه الذبائح. لكنه لم يرفض هذه الذبيحة (أى الذبيحة العقلية)، وحتى إن كانت الذبيحة اليهودية تُقدم، فإنه طلب هذه الذبيحة (العقلية). ولهذا قال: ” ذابح الحمد يُمجدني “[2]. وأيضًا ” أسبح اسم الله بتسبيح وأعظمه بحمد. فيستطاب عند الرب أكثر من ثور بقر ذى قرون وأظلاف “[3]. وفي موضع آخر رفض هذه الذبيحة الحيوانية، قائلاً: ” هل آكل لحم الثيران وأشرب دم التيوس. أذبح لله حمدًا وأوف العلى نذورك “[4]. هكذا فإن ق. بولس هنا يُعطي أمرًا أن يقدموا أجسادهم ذبيحة حية. وكيف يمكن أن يصير الجسد ذبيحة؟ يحدث ذلك عندما لا ترى العين أى شئ خبيث وقد صارت ذبيحة، ألا يتفوه اللسان بأى شئ مُقزز، وقد صار تقدمه، ألا تمتد الأيدي إلى أى شئ مُخالف، وقد صارت ذبيحة مكتملة.

          أو من الأفضل أن نقول إن هذا لا يكفي، بل من الضروري بالنسبة لنا فعل الخير أيضًا، حتى أن اليد تقدم عمل الرحمة، والفم يُبارك مَن يُسيئون إلينا، والأذن تنشغل دومًا بسماع كلام الله. لأن الذبيحة لا يكون فيها شيئًا دنسًا، الذبيحة هى باكورة الأشياء الأخرى. إذًا فلنُقدم نحن أيضًا لله، باكورات الأيدي والأرجل والفم، وكل أعضاء جسدنا الأخرى. هذه الذبيحة هى ذبيحة مرضية، بينما ذبيحة اليهود كانت دنسة. لأن ذبائحهم ” كخبز الحزن كل من أكل يتنجس[5]. لكن ذبيحتنا ليست هكذا. تلك الذبيحة الحيوانية المقدمة تُعرض ميتة، بينما هذه الذبيحة (التي يتحدث عنها ق. بولس) تُقدم حية. إذًا حين نُميت أعضاءنا، سنستطيع عندئذٍأن نحيا. لأن ناموس هذه الذبيحة هو ناموس جديد. ولهذا فإن طريقة النار هى غريبة. لأنه لا يحتاج إشعالها إلى خشب ومواد أخرى، بل أن نارنا هذه تشتعل من ذاتها، ولا تحرق الذبيحة، بل تحييها بالأكثر. هذه الذبيحة هى التي طلبها الرب منذ البداية. ولهذا قال النبي: ” ذبائح الله هى روح منكسرة “[6]. وهذه الذبيحة قد قدمها الثلاثة فتية، قائلاً: ” ليس لنا في هذا الزمان رئيس ولا نبي ولا قائد ولا محرقة ولا ذبيحة ولا تقدمة ولا بخور ولا موضع لتقريب البواكير أمامك .. ولكن لانسحاق نفوسنا وتواضع أرواحنا اقبلنا “[7].

          2 ـ لكن، لاحظ كيف أنه (أى ق. بولس) يستخدم كل كلمة بدقة شديدة. لأنه لم يقل اجعلوا أجسادكم ذبيحة، بل قال “قدموا”، كما لو كان يقول، ينبغي ألا يكون لكم بعد شيئًا مشتركًا مع هذه الأجساد، بل قدموها لآخر. كذلك أيضًا الذين يقدمون خيول الحرب، لا يكون لهم فيما بعد أى علاقة معها؛ وأنت أيضًا قد قدمت أعضاءك في الحرب ضد الشيطان، وفي هذه المعركة المخيفة لا تستدعي هذه الأعضاء لخدمتك الذاتية. وهو يُظهر، بالإضافة إلى ذلك، إنه يجب أن نجعلها (أى أعضاؤنا) مُختبرة أو مُجرّبة، طالما أننا ننوي تقديمها. لأننا لا نُقدمها إلى واحد من البشر الأرضيين، بل لله ذاته، ملك الجميع، لا لكي تحارب فقط، بل لكي يجعلها الملك ذاته عرشًا يجلس عليه. لأنه لا يرفض أن يجلس أو يحلّ في أعضائنا، لكنه يريد ذلك جدًا. فما لا يُفضّله الملك البشري، هذا يفضّله ملك الملائكة.

          وعندما يكونوا مستعدين أن يقدموا أنفسهم ذبيحة، فيجب أن يستبعدوا عنهم كل ضعف، فإن كان لديهم أى ضعف ، فلن يستطيعوا أن يقدموا أنفسهم ذبيحة. فلا العين يمكن أن تقدم نفسها ذبيحة، عندما تنتظر إلى أشياء خبيثة، ولا اليد حين تخطف وتكون جشعة، ولا الأرجل عندما تسير بإعوجاج وتتجه نحو اللهو، ولا البطن عندما تصير عبدة للمتعة وتُشعل شهوات اللذات، ولا القلب عندما يكون فيه غضبًا وعشقًا للزنا، ولا اللسان عندما يتكلم بكلام بذئ. ولهذا ينبغي أن يفحص جسدنا من كل جوانبه، حتى لا تكون به عيوبًا.

          إذًا طالما أن أولئك الذين قدموا الذبائح القديمة، كانوا يلتزمون بالناموس بأن يفحصوا كل شئ، ولم يكن يُسمح لهم بأن يقدموا ذبيحة مقطوعة الأذن، أو مقطوعة الذيل، ولا حيوانات مريضة بالجرب، ولا حيوانات بها حزازات[8]. فبالأولى جدًا نحن الذين لم نُقدم خرافًا غير عاقلة، بل قدمنا أنفسنا، أن نُظهر حرصًا أكبر أن نكون أنقياء من كل جهة، لكي نستطيع بحسب ق. بولس أن نقول ” أنا الآن أسكب سكيبًا ووقت إنحلالي قد حضر “[9]. بالحقيقة لقد كان أكثر نقاء من كل ذبيحة، ولهذا دعى نفسه سكيبًا أو مسكوبًا. هذا سيحدث إن أمتنا إنساننا العتيق، إن أمتنا أعضاءنا التي على الأرض، لو صلبنا العالم لنا.

          هكذا لن نحتاج بعد لسكين ولا لمذبح ولا لنار. أو من الأفضل أن نقول إننا سنحتاج لكل هذا، لكن ليست المصنوعة باليد، بل أن كل ذلك سيأتي إلينا من السماء، النار والسكين ستُعطى لنا من السماء، والمذبح بالنسبة لنا هى السماء الواسعة. وإن كان إيليا قدم ذبيحة مادية، ونزلت نار من السماء وأكلت كل شئ، الماء والخشب والحجارة، فبالأكثر جدًا سيحدث هذا معك. وإن كان لديك بعد شيئًا حيًا، وإن كان عندك شيئًا من التراخي، ولكنك رغم ذلك تُُقدم ذبيحة بإرادة مستقيمة، فبعدما تنزل نار الروح، سنأكل هذا الشئ الحيّ، وكل التقدمة ستحمل نهاية أو ستأتي بثمار. لكن ما هى العبادة العقلية؟ هى الخدمة الروحية، هى الحياة التي تتفق مع تعاليم المسيح. تمامًا مثل من هو خادم وكاهن في بيت الرب، أيًا كان هو، حين يكون في وقت تقديم الذبيحة، يصير أكثر وقارًا وورعًا، هكذا نحن أيضًا ينبغي أن نسلك كل أيام حياتنا، كما لو كنا نُقدم عبادة، وأن نكون كهنة. وهذا سيحدث، إن كنت تُقدم له كل يوم ذبائح، وتصير كاهنًا لجسدك، ولفضيلة نفسك. أى حين تقدم تعقلاً، ورحمة، ورأفة، وتسامحًا.

          إذًا عندما تفعل كل هذا، فأنت تُقدم العبادة العقلية، أى العبادة التي ليس فيها شيئًا جسديًا، شيئًا ذهنيًا، شيئًا ماديًا.

          3 ـ إذًا بعدما سمى بالمستمع بالصفات، وأظهر ان كل واحد يعتبر كاهنًا لنفسه، من خلال سلوكه في الحياة، تكلم عن الطريقة التي يمكن بها تحقيق كل هذا. فما هى هذه الطريقة؟ هى:

 

” لا تُشاكلوا هذا الدهر. بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم ” (رو2:12).

          خاصةً وأن شكل هذا الدهر هو زائل وقتي ولا يُمثل شيئًا، وليس فيها أى شئ، وليس فيها شيئًا ساميًا ولا دائمًا، ولا مُمتدًا، بل أن كل شئ فيه هو فاني. إذًا إن كنت تريد أن تسلك بطريقة صحيحة لا تُشاكل الحياة الحاضرة، لأنه لا يوجد شيئًا في هذه الحياة ثابت ودائم. ولهذا فقد دعى ذلك، شكلاً. أيضًا يقول في موضع آخر ” هيئة هذا العالم تزول “[10]. لأن هيئة هذا العالم ليس فيها شيئًا دائمًا ثابتًا، بل كل ما فيها هو وقتي. ولهذا قال: ” هذا الدهر” لكي يُعلن بهذا أنه فاني، بينما يُعلن “بالشكل”، أن ليس له أقنومًا. لأنه سواء تكلمت عن الغنى، أو المجد، أو جمال الجسد، أو المتع، أو أى شئ آخر من تلك الأمور التي تُعتبر كبيرة، فهى فقط شكل وليست حقيقة الشئ، هى عرض وقناع، وليست أقنومًا يبقى للأبد.

          لكن أنت لا تُشاكل هذا الدهر، بل كما يقول الرسول بولس ” تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم “. لم يقل تحوّل أى             (na metaschmat…zesai) بل قال: (na metamorfènesai) أى تغيير (أى أن تتجلى)، لكي يُظهر أن الشكل هو للعالم، بينما فيما يختص بالفضيلة، فالأمر لا يتعلق بالشكل، بل هى صورة حقيقية لها جمال طبيعي، دون أن تحتاج المساحيق الخارجية التي تظهر وفي نفس الوقت تختفي. إن كل هذه تظهر بالحقيقة أولاً ثم تتحلل. إذًا لو أنك ألقيت عنك الشكل الذي ينتمي إلى العالم فستصل سريعًا إلى الصورة. لأنه لا يوجد شيئًا أضعف من الشر، ولا شيئًا يشيخ بسهولة أكثر من الشر. بعد ذلك ولأن الناس بشر، وبسبب طبيعتهم فهم معرضون أن  يُخطئوا كل يوم، فإنه يُعزي المستمع، قائلاً له، جدّد نفسك كل يوم. إن ما نصنعه داخل بيوتنا، حيث نُصلح دائمًا ما أصابه القِدم، فهذا عينه اصنعه في نفسك. هل أخطأت اليوم؟ هل أصابت نفسك الشيخوخة؟ لا تيأس، ولا تفقد شجاعتك بل جدّد نفسك بالتوبة، بالدموع، بالاعتراف وفعل الخير، ولا تتوقف أبدًا عن فعل ذلك.

          وكيف نستطيع أن نفعل ذلك؟ بأن ” تختبروا ما هى إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة ” إما أنه يقصد: تجددوا لكي تعرفوا إرادة الله الصالحة المرضية، وإما: أنكم تقدروا على أن تتجددوا إن عرفتم أين هى منفعتكم، وبالأولى ما هى إرادة الله الصالحة المرضية. لأنه إن عرفت هذا، وتعلّمت أن تُميز طبائع الأشياء، تكون بهذا قد وصلت إلى الطريق الذي يقود إلى كل فضيلة. ومَن هم الذين لا يعرفوا ما هو الصالح بالنسبة لهم، وما هى إرادة الله؟ إن أولئك الذين يتأثرون بالأشياء الحاضرة، ويعتقدون أن الثراء يستحق الحسد ويحتقرون الفقر، والذين يسعون نحو السلطة، وسلّموا أنفسهم للمجد العالمي، أولئك الذين يؤمنون بأنهم عظماء، هؤلاء يبنون منازل فاخرة، يشترون قبورًا فخمة، يمتلكون عبيدًا كثيرين، ويتجول معهم عدد كبير من الخصيان. هؤلاء يجهلون أين هى مصالحهم، وما هى إرادة الله. خاصةً وأن الاثنين هما واحد. لأن الله يريد تلك الأمور التي هى لمصلحتنا، فما يريده الله لنا هو ما يُحقق لنا الفائدة.

          إذًا ما هو الذي يريده الله لنا؟ أن نحيا بفقر، بإتضاع، باحتقار للمجد الباطل، بعفة، وليس بالمتعة، بل بألم، ليس بتنعم، بل بحزن، ليس بدعابات وضحكات، يريدنا أن نحيا بكل الأمور الأخرى التي قنّنها. لكن الكثيرين يعتبرون هذه الأمور تنجيمًا أو عرافة، إنهم يبتعدون جدًا عن معرفة مصلحتهم ومعرفة إرادة الله. إذًا فإن الذين لا يعرفون ما هى الفضيلة، بل يبتهجون بالشر، بدلاً من الفضيلة، ويأتون بالزانية إلى فراشهم بدلاً من المرأة المتعقلة، متى سيتمكنون أن يبتعدوا عن الدهر الحالي؟ ولهذا فقبل كل شئ يجب أن يكون حكمنا على الأمور واضحًا. فحتى وإن كنا لم لا نُمارس الفضيلة بعد، إلاّ أننا يجب أن نمتدح الفضيلة، وإن كنا لا نتجنب الشر، إلاّ أنه يجب علينا أن نُدين الشر، لكي يكون لدينا قبل كل شئ أحكامًا أو قرارات غير مُدانة. وهكذا نتقدم رويدًا رويدًا، سيُمكننا أن نصل إلى الأعمال. ولهذا تحديدًا، فإن الرسول بولس يُعطي أمرًا أن نتجدد ” لنختبر ما هى إرادة الله “. ولكن ما يبدو لي هنا أنه يُدين اليهود، الذين تمسكوا بالناموس. لأن إرادة الله كانت بالتأكيد تشمل الحياة القديمة أيضًا، على ألا تكون أولاً، وقد سمح بها بسبب ضعفهم، أما الكمال والأمر المرضي لدى الله، فهو الحياة الجديدة.

[1] إش12:1.

[2] مز23:50.

[3] مز31:69ـ32.

[4] مز13:50ـ14.

[5] هو4:9.

[6] مز17:51.

[7] نبوءة دانيال 38:3ـ39.

[8] انظر لا17:22ـ33.

[9] انظر 2تيمو6:4.

[10] 1كو31:7.

رسالة رومية الأصحاح12 ج1 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب