أبحاث

رسالة رومية الأصحاح3 – عظة8 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح3 - عظة8 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح3 – عظة8 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

رسالة رومية الأصحاح3 - عظة8 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب
رسالة رومية الأصحاح3 – عظة8 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب

بقية العظة الثامنة:

5 ـ لأنه بعد هذه النعمة، التي تبرّرنا بها، فإن الأمر يحتاج لأسلوب حياة مناسب، فلنُظهر محاولة تليق بهذه العطية لتطبيق مثل هذا الأسلوب. ولنعتنى أن نحفظ المحبة التي هى تاج كل الخيرات، وأن نُظهرها ولو بمحاولات كثيرة. لأن المحبة لا تعنى الكلام فقط، ولا المحاضرات الكثيرة، ولكنها تكمن في مساعدة الآخر، إذ أنها تظهر في الأعمال، وعلى سبيل المثال يتجلّى عمل المحبة عندما يقلل أحد من حالات الفقر، أو يُعين المرضى، أو يُبعد الأخطار، أو يقف بجوار الذين يواجهون مواقف صعبة، أو يبكى مع الباكين، ويفرح مع الفرحين. وعلى الرغم من أن الفرح مع الفرحين يبدو أمرًا بسيطًا، إلاّ أنه يعد عملاً عظيمًا للغاية، ويحتاج إلى فكر حكيم. فمن الممكن أن نرى كثيرين قد حققوا أمورًا صعبة المنال، ولكنهم لا يستطيعون أن يحققوا (المحبة التي تفرح بفرح الآخرين) لأن كثيرين يبكون مع الباكين، لكنهم لا يفرحون مع الفرحين، إذ نجدهم يذرفون الدموع عندما يفرح الآخرين، وهذا هو الحسد والحقد.

          إذًا فكون الإنسان يشارك أخاه في فرحه فهذا ما يعد إنجازًا عظيمًا، وهو أكبر ليس فقط من أن يبكى مع الباكين، بل أيضًا من أن يقف إلى جوار أولئك الذين يتعرّضون للمخاطر. لقد خاطر كثيرون مع أولئك الذين تعرضوا للخطر، وعندما ابتهج هؤلاء تضايقوا هم، هذا هو مرض الحسد، على الرغم من أن الأول (البكاء) ينتج عنه تعب وعرق، بينما الثانى (الفرح) يأتى نتيجة اختيار وقرار فقط، فإن الكثيرين يحتملون ما هو أصعب ويتركوا ما هو أسهل، فنجدهم يئّنوا ويحزنوا جدًا عندما يرون الآخرين يفرحون وعندما يرون أن الكنيسة كلها تنتفع، سواء بالكلمة أو بأى طريقة أخرى. وهل يوجد أسوأ من هذا؟ لأن مثل هذا الإنسان، لا يحارب اخوة فقط، بل يقاوم إرادة الله أيضًا. إذًا يجب عليك عندما تدرك هذا أن توقف المرض (أى الحسد)، وإن لم تستطع أن تقبل قريبك، فعلى الأقل حاول أن تخلّص نفسك من شرور كثيرة (تنتج عن هذا الحسد).

ولماذا تسمح بالحرب أن تخترق أفكارك؟ لماذا تملأ نفسك بالضجيج؟ لماذا تتسبب في الكوارث؟ لماذا تُثير القلق والإرتباك؟ كيف يمكنك أن تطلب غفرانًا للخطايا عندما تصنع كل هذا؟ فإن كان الله لا يغفر لأولئك الذين لا يغفرون خطايا الآخرين، فكم بالحرى أولئك الذين يحاولون أن يظلموا أُناسًا لم يرتكبوا أى ظلم في حقهم. وأى غفرانًا سيُعطى لهم؟[1] هذا يعد برهانًا على ممارسة أسوأ أنواع الشرور. هؤلاء الظالمون إنضموا إلى الشيطان في محاربة الكنيسة، بل ربما بصورة أسوأ بكثير. لأنه من الممكن أن نحترس من الشيطان لأننا لا نجهل حيله، لكن هؤلاء الأشرار وهم يرتدون قناع المحبة، فإنهم يشعلون النار خفيةً. إن ذلك لا يمكن أبدًا أن يدعو للشفقة، بل أنه مثار للسخرية أيضًا. أخبرنى إذًا، لماذا يصفّر وجهك وترتعش وتقف مرتعبًا؟ وما هو الشر الذي حدث؟ هل لأن أخاك قد صار مشهورًا، ممجدًا وناجحًا؟ إن هذا يدعوك أن تتهلل وتفرح وتمجد الله، فإن أحد أعضائك صار مشهورًا ومُمجدًا، إلاّ أنك في الحقيقة تتألم بسبب أن الله قد تمجد في أبنائه.

أرأيت إلى أين تقود هذه الحرب؟ وإن كان أى يهودى يدّعي بأنه لا يتألم لأن الله يتمجّد، لكنه يتألم لأن الأخ يُمجد. إن مجد الله يُستعلن من خلال مجد الأخ، وعليه فأنت الذي تقود هذه الحرب. ومع هذا تقول إن هذا لا يضايقنى وما أريده فقط هو أن يتمجد الله من خلالك. كان ينبغى عليك أن تفرح عندما يفرح أخوك، تمامًا كما تفرح عندما يتمجد الله من خلالك، عندئذ سيقول الجميع مبارك الله الذي لديه مثل هؤلاء الخدام المتحررين من كل حسد، والفرحين بكل الأمور الحسنة التي تسود فيما بينهم. ولماذا أتكلّم عن الأخ؟ لأنه لو كان الذي تمجّد الله من خلاله خصمًا وعدوًا، ولكن الله تمجّد من خلاله، فينبغى عليك لأجل هذا السبب أن تجعله صديقًا لك. ولكنك تجعل الصديق عدوًا لأن الله قد تمجد بتقدمه ونجاحه. فلو أن شخصًا ما قد ساهم في شفاء جسدك المتألم فسوف تعتبره فيما بعد من أصداقائك المقرّبين حتى ولو كان عدوًا، بينما ذاك الذي يُزين جسد المسيح، أى الكنيسة، وهو صديق لك، فأنت تعتبره عدوًا. وهل توجد طريقة أخرى أسوأ من ذلك تُحارب بها المسيح؟ ولهذا فحتى لو صنع المرء معجزات، أو سلك طريق البتولية أو مارس الصوم أو النوم على الأرض، ووصل بفضيلته إلى مستوى الملائكة، لكنه يحمل هذا العيب (أى الحسد) سيعتبره الجميع مريضًا، وأشّر جدًا من الزانى والعاهر والسارق ونابش القبور.

6 ـ ولكى لا يتهمنى أحد بالمبالغة في القول فسوف أسألكم، لو أن شخصًا ما أخذ نارًا وأدوات هدم وقام بهدم وحرق هذه الكنيسة ودمر هذا المذبح، ألا يرميه كل أحد من الموجودين هنا بحجر كدنس ومُدان؟ ماذا إذًا، لو أحضر شخص، هذا اللهب المشتعل جدًا، أى الحسد، والذي لا يهدم فقط مبنى مشيدًا بالحجارة، ويُدمر مذبحًا من الذهب بل يهدم ما هو أثمن وأقيم بكثير من الحوائط ومن المذبح، يدمر البناء الروحى الذي أقامه المعلّمين، فأى غفرانًا يمكن أن يناله؟ ولا يقل لى أحد، إنه حاول مرات كثيرة أن يتخلّص من هذا الداء (أى الحسد) ولم ينجح، لأن كل الأمور يُحكم عليها من جهة الإرادة. لأن شاول أُعتبر أنه قتل داود، على الرغم من أنه لم يتمكن من ذلك.

أخبرنى، هل لا تعلم أنك تتآمر على خراف المسيح، تحارب الراعى والخراف التي بذل المسيح دمه من أجلها وأوصانا أن نجوز الآلام وأن نعمل بكل اجتهاد من أجلها؟ ألا تتذكر، أن سيدك طلب من الآب مجدًا لك ولم يطلب لنفسه، بينما أنت لا تطلب مجد الرب بل مجدك الذاتى على الرغم من أنه لو طلبت مجد الرب، فستنال عندئذٍ مجدك الشخصى. أما إن طلبت المجد الذاتى قبل مجد الرب، فلن تتمتع أبدًا بهذا المجد. فما هو طريق الشفاء إذًا؟ نصلى معًا ونرفع جميعًا صوتًا واحدًا من أجل هؤلاء كما لو كانوا مرضى. لأنه بالحقيقة هؤلاء سلكوا بشكل أكثر سوءًا من أولئك الذين سلكوا بشهوة جامحة. لأن هذا المرض (الحسد) يحتاج صلوات وتضرعات كثيرة، لأن الذي لا يُحب أخاه لن يحقق أى شئ، حتى لو أنفق أموالا كثيرة، وحتى لو أُفرز للشهادة. تأمل حجم العقوبة التي يمكن أن ينالها الذي يُحارب أخاه دون أن يكون ذاك قد ظلمه أبدًا. إنه يُعد أسوأ من الوثنيين.

إذًا لو أننا نحب أولئك الذين يحبوننا فلن نتميّز عنهم بشئ. أخبرنى أين سيقف ذاك الذي يحسد أولئك الذين يحبونه عندما يمثل أمام الله يوم الدينونة العتيدة؟ لأن الحسد يعتبر حقًا أشر من الحرب. لأن العداوة بين المتحاربين تزول بزوال أسباب الحروب، بينما الحاسد لا يمكن أن يصير صديقًا لآخر. والأول (أى المحارب) يُعلن عن معركته بينما الثانى (أى الحاسد) يُخفيها. الأول يستطيع أن يذكر في مرات كثيرة مبررات شن الحروب، بينما الثانى لا دوافع لديه سوى الحماقة والرغبة الشيطانية. إذًا بأى شئ يستطيع المرء أن يقارن هذه النفس؟ بأى شئ فاسد؟ بأي وسيلة دفاع؟ بأي حشرة؟ بأي دويبة؟ لأنه لا يوجد شيئًا يُثير الإشمئزاز أكثر من هذه النفس. لأن مرض الحسد يقود بالحقيقة إلى فوضى في الكنائس، وقد ولّد الخطايا، ووضع سلاحًا في يد الأخ، وجعل اليد اليمنى ترتوى بدم البار، دمر نواميس الطبيعة، فتح أبواب الموت، وقد تسبب في اللعنة[2]، ولم يترك قايين البائس أن يتذكر آلام الوضع ولا حالة الوالدين وحزنهم على فراق ابنهما ولا أى شئ آخر، لكن هذه اللعنة جعلته مشتتًا، وقادته إلى هذا الجنون، وعلى الرغم من أن الله قد قال له ” عند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها[3]، فإنه لم يتراجع. فالشفاء من هذا المرض (أى الحسد)، يعد أمرًا صعبًا، حتى ولو أُعطى المريض أدوية كثيرة، الحسد يُفجر الفساد (أى فساد الحاسد).

إذًا لماذا تتألم وأنت أكثر بؤسًا من الجميع؟ هل لأن الله تمجّد؟ إن هذا الأمر يكشف عن سيادة الشيطان على النفس. هل لأن أخاك صار أفضل منك؟ إنك تستطيع أيضًا أن تتفوق عليه وتصير أفضل. وبناء على ذلك، فلو أردت أن تفوز ينبغى ألا تذبح وألا تقتل، بل يجب أن تتركه ليحيا لكى يبقى لديك دافعًا للجهاد وتنتصر الحياة، لأنه بذلك سيكون تاجك منيرًا. لكنك بهذا الفعل تكون قد أصدرت ضد نفسك أكبر قرار بالهزيمة. لا شئ من كل هذا يعرفه الحاسد. ولأى سبب تحب المجد بهذا القدر مع أنك ستبقى وحيدًا؟ إن قايين وهابيل هما فقط اللذان كانا يعيشان في هذه الأرض. لكن ولا هذا أيضًا قد جعل قايين يضبط مشاعره، لكنه أفرغ نفسه من كل صلاح وأخذ موقفًا وقتل أخاه بتحريض من الشيطان. لأن الشيطان كان حقيقة هو القائد آنذاك لأنه لم يكن كافيًا للشيطان أن الإنسان قد صار فانيًا، لكنه حاول أيضًا أن يجعل الكارثة أكبر، عن طريق القتل، فأقنع قايين بأن يقتل أخيه. لأن ذاك الذي لا يشبع مطلقًا من ممارستنا للشرور قد تَعجّل وكان مُتلهفًا أن يرى قرار القتل وقد تحقق، تمامًا مثل شخص، رأى عدوه محبوسًا، وأن حكمًا بالاعدام قد صدر ضده، فيكون متعجلاً لرؤية تنفيذ حكم الاعدام داخل المدينة قبل أن يخرج منها ولا ينتظر الوقت المحدد لتنفيذ الحكم، هكذا صنع الشيطان آنذاك. فعلى الرغم من أنه قد سمع أن الإنسان سيعود إلى الأرض[4] إلاّ أنه كان مُتلهفًا أن يرى المزيد، أن يموت الابن قبل الأب، والأخ يقتل أخاه، وبأسلوب بشع وعنيف.

7 ـ أرأيت حجم أو كم الخدمات التي يُقدمها الحاسد للشيطان؟ وكيف أنه أشبع رغباته التي لا تُشبع، إذ قدّم له مائدة غنية على قدر ما يشتهى، ليتنا إذًا نتجنب هذا المرض. لأنه بالحقيقة من غير الممكن أن نتجنب تلك النار التي أُعدت للشيطان وأعوانه إن لم نتخلّص من هذا المرض (أى الحسد) لكننا سوف نتخلّص منه لو أدركنا أن المسيح قد أحبنا وأعطانا وصية أن نُحب بعضنا بعضًا. وكيف أحبنا؟ لقد أحبنا حين سفك دمه الكريم لأجلنا، على الرغم من أننا كنا أعداءًا، وصنعنا شرورًا كثيرة.

نفس الأمر اصنعه أنت تجاه أخيك، لأن المسيح أمرنا قائلاً: ” وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم[5]. أو من الأفضل أن نقول إن الأمر يتجاوز مجرد محبتنا بعضنا لبعض، لأن المسيح فعل هذا لأجل أعدائه. ومع هذا فأنت لا تريد أن تعطى دمك لأجل أخيك. لكن لماذا إذًا تسفك دمه مخالفًا الوصية؟ على الرغم أن ما صنعه المسيح لم يصنعه كدين عليه، ولكن عندما تفعل أنت ذلك، فأنت تُسدد دينك. لأن ذاك أيضًا الذي أخذ عشرة آلاف وزنة، وطالب بالمائة دينار من العبد المديون لم يُدان فقط من أجل هذا، أى لأنه طالب بما له، ولكن لأنه لم يصر أفضل، لا بفعل الاحسان، ولا أنه صنع كما صنع سيده معه في البداية، ولا أعاد الدين. لأن هذا الدين ملقى على عاتق العبد وعليه أن يسدده[6]. فإن كل ما نفعله فإننا نفعله بالحقيقة لكى نُسدد دينًا. ولأجل هذا قال المسيح: “متى فعلتم كل ما أُمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون. لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا[7]، حتى عندما نُظهر محبة، أو نُعطى أموالاً للمحتاجين، فإننا في الحقيقة نسدد دينًا. ليس فقط لأن ذاك قد بدأ بالإحسان، لكن لأننا نُعطى مما له، هذا لو حدث مرةً وأعطينا.

لماذا إذًا تحرم نفسك من تلك الأمور التي يريد الله بها أن يجعلك سيدًا؟ طالما أنه لأجل هذا أوصاك أن تقدّم محبة للآخر، لكى تحصل عليها أنت أيضًا. لأن كل ما تقتنيه لنفسك فقط لن تتملكه، ولكنه سيكون لك عندما تعطى للآخر. ترى، هل هناك ما يكون مساويًا أو مشابهًا لهذه المحبة، إن المسيح سفك دمه لأجل الأعداء، بينما نحن لا نُعطى أموالاً حتى لأجل خيرنا. ذاك سفك دمه بينما نحن لا نعطى ولا حتى الأموال التي ليست لنا. ذاك أُعطى أولاً، لكننا لم نقدّم أى شئ بعد ذلك. وبرغم أن ذاك قدّم نفسه لأجل خلاصنا، إلاّ أننا لم نفعل أى شئ، حتى وإن كان لأجل منفعتنا. فما قدّمناه لا يتعدى مجرد أعمال الرحمة الإنسانية، على الرغم من أن كل الأشياء تؤول في النهاية لنا. ولهذا فقد أُعطينا وصية المحبة، حتى تكون لنا هذه المحبة.

تمامًا كما لو أن شخصًا أعطى مالاً لطفل صغير وأمره أن يمسك به جيدًا، أو أعطاه لخادم لكى يحفظه، حتى لا يستطيع مَن يطمع فيه أن يخطفه، هذا بالضبط ما صنعه الله. وأنت أيضًا إعطى  لمَن له إحتياج، لكى لا يأتى آخر ويسلبه منك، مثل السارق أو الشيطان. إن الموت سيخطفه في نهاية الأمر. لذلك حتى وإن احتفظت بهذه الأموال، فلن تحتفظ بها في أمان. ولكنك إذا قدمتها إلى الله، من خلال عطائك للفقراء، فإنه سوف يحفظها لك في أمان، وسوف يردها لك وبوفرة وفي الوقت المناسب. لأن الله لا يأخذها لكى ينزعها منك ولكن لكى يزيدها، ولكى يحفظها في أمان أكثر، لكى يحفظها لذلك الزمان الذي يختفى فيه مَن يُقرض أو مَن يقدم عمل رحمة للآخرين.

إذًا بعد كل هذه الوعود هل هناك مَن هم أكثر قسوة منا عندما نرفض أن نُعطى لله أو أن نقرضه؟ ما ينبغى إدراكه أننا سوف نذهب لله مجردين من كل شئ، بل وفقراء دون أن نحتفظ بشئ مما قد استأمنا هو عليه، لأننا لم نودعه عند ذاك الذي يستطيع أن يحفظه بأمانة أكثر من الجميع. ولهذا فإننا سنُعاقب أشد عقاب. ماذا نستطيع أن نقول إذًا عندما سُندان بسبب تقصيرنا في العطاء. وأى تبرير سنُقدم؟ ولأى سبب لم نُعطى؟ ألا تثق بأنك سوف تأخذ ما قدّمته مرةً أخرى؟ وكيف يمكن أن يكون لهذا مُبرر؟ لأن الله أعطى بسخاء لذاك الذي لم يعط شيئًا فكيف لا يعطى الإنسان أكثر بكثير بعدما أخذ مجانًا؟ وهل الأخذ دون عطاء يسبب لك فرحًا؟ لأجل هذا ينبغى عليك أن تعطى بوفرة، فإن هذه العطايا ستجعلك تفرح أكثر في الحياة الأخرى، هناك حيث لا يستطيع أحد أن ينزعها منك، ولكن إن احتفظت بها لنفسك الآن، فإنك ستعانى شرورًا كثيرة. ومثلما يفعل الكلب الذي يريد أن يخطف قطعة خبز من يد طفل وهو ممسك بها، هكذا يفعل الشيطان في هجومه على الأغنياء.

إذًا فلنعطى هذه الأموال لله، وعندما يرى الشيطان هذا العطاء فإنه سينسحب بكل تأكيد. وعندما ينسحب، فإن الله وقتها سيعطيك كل ما قدّمت وليعوّضك عن هذا العطاء أضعافًا هناك في حياة الدهر الآتى حيث لا يستطيع الشيطان أن يُسبب أى إزعاج. فالأغنياء الآن لا يختلفون على الإطلاق عن الأطفال الذين ينزعجون من بعض الكلاب عندما تعوى جميعها حولهم، والشياطين أيضًا تحاول أن تفترس البشر بإستعبادهم للشهوة، وبالنهم، وبالسكر، وبالنفاق، وبالفجور. وعندما تكون هناك حاجة لكى نُقرض، فإننا ندقق في أولئك الذين أعطوا كثيرًا، ونفحص جيدًا فاعلى الإحسان (حتى نرى حجم العطاء)، لكن نحن هنا نصنع العكس. فالله الذي يصنع الإحسان، والذي يعطى ليس فقط مائة، لكن مائة ضعف، نتركه، ونسعى نحو أولئك الذين لن يردوا حتى أصل المال.

8 ـ ودعني أتساءل: ماذا يَفضُل عنا بعد الأكل بشراهة؟ فضلات ورائحة نتنة. أو دعني أقول ما هو المجد الباطل؟ بغضة وفساد. وماذا عن البخل؟ إهتمام زائد بالمال ومحبة كبيرة له. وماذا عن الفجور؟ جهنم وحشرات ضارة، لأن المديونيين للأغنياء هم الذين يدفعون الفوائد التي لأصل المال، أى الشرور الحاضرة، والكوارث المنتظرة (التي سينالها الأغنياء). أخبرنى إذًا، هل ستُقرض هؤلاء وتُربح كل هذه العقوبات ولا تعطى بثقة كل هذه للمسيح (أى للفقراء والمحتاجين) الذي يَعِد بملكوت السموات وبالحياة الأبدية وبالخيرات التي لا توصف؟ وإذا لم نُقدم لمَن هم في إحتياج فأى تبرير سنُعطى؟ ولأى سبب لا نعطى كل ما نملك للمسيح الذي سيعطيك حتمًا، وسيعطيك بوفرة؟ هل لأنه يعطى بعد زمن طويل أى في الدهر الآتى، على الرغم من أنه من المؤكد، أنه يعطينا خيرات أيضًا في هذه الحياة، فهو الذي قال: ” اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم[8] فهو لا يكذب. هل رأيتم محبة أكثر من هذه؟ إذ أن الأمور المختصة بملكوت الله محفوظة لك ولن تنقص، أما الأمور الأرضية، فهو يعطيها لك على كل حال وأيضًا بوفرة.

وفوق كل هذا، فإنك ستربح بعد حين، غنى أوفر، لأن الربح وقتها سيصير أعظم. لأنه حقًا من جهة هؤلاء الذين يقترضون، نرى أن هذا هو ما يصنعه المُقرضون، طالما أنهم يُقرضون برغبة قوية لأولئك الذين يسدّدون بعد زمن طويل. لأن ذاك الذي يرد الدين على الفور يُعتق من دفع الفوائد، لكن ذاك الذي يحتفظ بالمبلغ لزمن أطول فإنه يعمل به لفترة أكبر (ويقدم عنه فائدة أكثر). علينا ألاّ نحزن إذا تأجل ما يختص بالبشر، بل ونبرره حتى لو طالت فترة التأجيل. ولكن بالنسبة لله هل سوف نتصرف بصغر نفس ونتردد فنُصاب بالحيرة والخوف بالرغم من أنه ـ كما سبق وأشرنا ـ يُقدم عطايا وفيرة في هذه الحياة، وأيضًا يدّخر لك شيئًا أكبر وأعظم في الحياة الأخرى؟ لأن مقدار وجمال العطايا التي يهبها الله في حياة الدهر الآتى، يفوق تفاهة الحياة الحاضرة. وبكل تأكيد أننا لا نستطيع أن نقبل في هذا الجسد الفانى تلك التيجان الخالدة، وأيضًا لا يمكننا أن نتمتع بهذا الميراث الثابت غير المتغيّر في هذه الحياة الحاضرة المليئة بالقلاقل والاضطرابات، والتي تسودها تغييرات كثيرة.

وعليك أن تفكر لو أن شخصًا ما كان مديونًا لك بأموال بينما أنت متغرب في بلد أجنبى، وتعهّد برد هذا الدين، ولم يكن لديك خدم ولا تستطيع أن تحمل هذه الأموال إلى بيتك، فإنك ستترجاه بإلحاح ألاّ يدفعها لك في بلد غريب بل تُفضل أن يسدّدها لك في وطنك، ومع أنك تفعل هذا في أموالك إلاّ أنك فيما يختص بالأمور الروحية والخيرات الغير الظاهرة، فإنك تطلب أن تأخذها هنا في هذه الحياة الحاضرة. هل يوجد دليل على الحماقة أكثر من هذا؟ لأنك إذا حصلت عليها هنا في هذه الحياة فستأخذها بكل تأكيد ولكنها ستنتهى، ولكن إذا انتظرت حياة الدهر الآتى فسيعوضك الله بالخيرات التي لا تفنى. لو أخذت هنا فإنك تأخذ معدنًا ثقيلاً لا ثمن له، أما إذا أخذت هناك فإنك تأخذ ذهبًا نقيًا. ومع هذا لن يحرمك الله من الأمور الأرضية لأنه مع الوعد بملكوت الله، أضاف أمرًا آخر، قائلاً إن مَن يشتهى ملكوت الله وبره، سيأخذ مائة ضعف في هذه الحياة، وسيرث الحياة الأبدية.

ولكن لو أننا لم نأخذ مائة ضعف في هذه الحياة، فالسبب يرجع لنا لأننا لم نُعط لله الذي يستطيع أن يُعطينا بغنى. لأن أولئك الذين أعطوا، قد أخذوا الكثير، على الرغم من أنهم أعطوا القليل. أخبرنى، أى شئ عظيم كان بطرس قد أعطاه، ألم يعطى شبكة ممزقة، وسنارة، وحربة؟ لكن الله فتح أمامه كل بيوت المسكونة، وجال الأرض والبحر، ودعاه الجميع في بيوتهم. والشئ الرائع أنهم باعوا ممتلكاتهم وأحضروها تحت أقدامه، دون أن يضعوها في يده (لأنهم لم يجرؤا على هذا) ناسبين إليه السخاء والإكرام. وقد يقول قائل إن هذا كان بطرس. لكن هل هذا يعني شيئًا بالنسبة لك؟ إن الله لم يَعِد بطرس فقط بملكوت الله، ولم يقل أنت يا بطرس ستأخذ مائة ضعف، بل قال ” وكل مَن ترك بيوتًا أو اخوة أو اخوات .. يأخذ مائة ضعف[9] لأنه لا يحابى الوجوه، بل إن وعوده هى للجميع.

ربما يقول قائل إن لديه أولادًا كثيرين، ويتمنى أن يتركهم أغنياء. وتقول له لماذا تريد أن تجعلهم فقراءًا (أى بهذا السلوك الخالي من المحبة)؟ إذا تركت لهم كل شئ، فإنك تُعطي كل مالك وأنت ترجو لهم الآمان. لكنه أمان غير مؤكد. أما عندما تنجح في أن تجعل الله وريثًا معهم ووصيًا عليهم تكون قد تركت لهم كنوزًا لا حد لها. مثلما يحدث عندما يريد أحد أن ينال منا، فإذا ما دافعنا عن أنفسنا فإن الله لا يُعيننا، ولكن عندما نترك لله الأمر كله، فستصير النهاية أفضل مما نتوقع. وهذا ما يحدث بالنسبة للمال، لو أننا اهتممنا به فإنه سينسحب ولن يعتنى به، أما إذا وضعنا كل شئ تحت عناية الله، فهذا المال، والأولاد أيضًا سيحفظهم هو في أمان كامل. ولماذا تندهش لو أن هذا يحدث في حالة تعاملنا مع الله؟ فبالنسبة للبشر يستطيع المرء أن يرى مثل هذا الأمر. لأنه إن لم تترجى أحد أقربائك في أيام حياتك الأخيرة لكى يعتنى بأولادك، فلن يقوم بهذا العمل من تلقاء نفسه، بل يخجل ويتردد كثيرًا في تعهد هذا الأمر، ولكنك إذا وضعت رجاءك في الله لكى يتعهدهم بالرعاية، باعتبار أنك تُكرّمه بأعظم ما تكون الكرامة، فإنه سيعوّضك بأعظم مجازاة.

          9 ـ إذا أردت إذًا أن تترك غنى وافرًا لأولادك، اتركهم للعناية الإلهية. فالله قد خلق النفس والجسد ومنح الحياة دون أن تقدم أنت أى شئ. لذلك عندما يرى أنك تظهر شهامة وأنك تُسلّم له كل ما يتعلق بالأولاد، بل والأولاد أنفسهم، فكيف لا يغدق عليهم بكل الغنى؟ فإيليا قد أكل الفطيرة التي أعدتها له المرأة بقليل من الدقيق، وعندما رأى الله أنها فضلّته على ابنها، فإنه ملأ غرفة الأرملة بأجران دقيق وبراميل زيت[10]، وعندما تتأمل في مقدار اللطف الذي أظهره إله إيليا، فإنه لا ينبغى إذًا أن نهتم بحجم الغنى الذي نتركه لأبنائنا، بل نعتنى بالأحرى أن نترك لهم الفضائل. لأنه لو وضع الأولاد ثقتهم في الغنى والمال فلن يعتنوا بأى شئ آخر، وسيحاولون أن يحجبوا صفاتهم السيئة بواسطة أموالهم الكثيرة. ولكن إذا رأوا أن عزاءهم لا يتحقق بواسطة الغنى، فسيفعلون كل شئ، حتى أنهم سينالون عزاءً بالفضيلة، وحتى في حالة الفقر والاحتياج.

إذًا اهتم بأن تترك لهم الفضيلة على أن تترك لهم الأموال، لأنه بالحقيقة هو دليل على الغباء الشديد، عندما نحرم الأبناء السيادة على كل ما لنا أثناء حياتنا، بينما عندما نموت، نمنحهم حرية أوسع على الرغم من أنه عندما نكون أحياءًا، ستكون لدينا الفرصة أن نحمّلهم مسئوليات، وأن نُهذبهم ونضبطهم عندما يسيئون استخدام الأمور المادية. لكن عندما نموت فإن غيابنا، مع إندفاع الشباب، يُعطى الفرصة للتسلط الذي يأتى من المال، وبهذا ندفعهم إلى الحزن والشقاء وإلى انحدار شديد ونضع نارًا فوق نار، ونلقى بزيت فوق سعير النار المخيف. وبناء عليه فإذا أردت أن تترك لهم غنى وأمنًا حقيقيًا، اتركهم في عناية الله التي تنفعهم، وسلّم لله كل ما لهؤلاء الأبناء. لأنهم لو أخذوا هذه الأموال فلن يدركوا إلى مَن سيعطونها وسيقعون ضحية لكثيرين من الفاسدين والجاحدين. ولكن إذا أقرضت هذه الأموال لله مسبقًا، فسيبقى الكنز مُحصّنًا فيما بعد، وسوف تسترده مرة أخرى بصورة سهلة جدًا. لأن الله يُسّر بالحقيقة بالأكثر عندما يمنحنا أكثر مما قدمنا وينظر إلى قارضيه بفرح كبير أكثر من أولئك الذين لم يقرضوه، وينظر إلى دائنيه نظرة محبة وتقدير.

وبناء عليه، فإذا أردت أن يكون الله رفيقًا لك على الدوام، ينبغى أن تجعله مدينًا بالكثير. رغم أن المقرض لا يفرح هكذا عندما يكون لديه مدينين، كما يفرح المسيح عندما يكون لديه مُقرضين، وهؤلاء الذين لا يدين لهم بشئ، يتجنبهم، بينما أولئك الذين يدين لهم، فإنه يركض نحوهم بشكل خاص. فلنفعل إذًا كل شئ لكى نجعله مدينًا لنا. لأن هذا الوقت هو وقت للإقراض، والآن هو في حالة احتياج (وهو يقصد هنا كل من له إحتياج). ولو لم تعطه الآن، فلن يحتاج لك بعد موتك. لأنه هنا هو عطشان، وهنا هو جوعان، وهو عطشان لأجل خلاصك. ولهذا صار طالبًا للصدقة، ولهذا يتجول عريانًا، وهو يُعِدّ لك حياة أبدية. لا ينبغى إذًا أن تزدرى به، لأنه لا يريد أن يُميت بل أن يقوت، لا يريد أن يلبس، لكن أن يُلبس الآخرين ويصنع لك ذلك الزي الذهبى، والرداء الملوكي.

ألا ترى الأطباء المجتهدين هم أنفسهم يغتسلون عندما يصنعون حمامًا للمرضى، وإن كانوا ليسوا في حاجة لهذا؟ هكذا يصنع المسيح، يفعل كل شئ من أجلك أنت أيها المريض. لذلك فلكى يعطيك المجازاه فهو لا يطلبك بالإجبار، لكى تعلم أنه يبحث عنك، لا لأنه في احتياج لك، بل لكى يُسدد احتياجك أنت. بتواضع يأتى إليك باسطًا يده اليمنى. وحتى لو أعطيته فلسًا واحدًا، فلن يردك، وحتى لو ازدريت به فلن يبتعد عنك، لكنه سيقترب منك أيضًا مرة أخرى. لأنه يشتهى خلاصنا جدًا.

إذًا فلنحتقر المال، لكى لا يتركنا المسيح. لنحتقر المال، لكى نفوز بهذا المال. لأننا لو تمسكنا بهذا المال هنا في هذه الحياة فسوف نخسره في هذه الحياة، وفي الدهر الآتى أيضًا. ولكننا إن وزعناه بكل سخاء وكرم، فسنتمتع بغنى وفير في هذه الحياة وفي حياة الدهر الآتى.

إذًا فذاك الذي يريد أن يصير غنيًا، فليصر فقيرًا، لكى يصير غنيًا، لينفق (على الفقراء)، لكى يجمع (هبات وعطايا من الله)، ليهب الآخرين، لكى يحصل (على غنى سمائى). لكن لو أن هذه الأمور تُعد جديدة وغريبة عليك، فلتلاحظ الفلاح الذي يزرع، وفكر أن هذا الفلاح لن يجمع (حصادًا) بطريقة اخرى، إن لم ينثر ما لديه، وإن لم يلقى البذور الجاهزة في الأرض. لنبذر نحن أيضًا، ونزرع للسماء، لكى نحصد بوفرة ونحصل على الخيرات الأبدية بالنعمة ومحبة البشر اللواتى لربنا يسوع المسيح الذي يليق به المجد والقوة والكرامة مع الآب والروح القدس، الان وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.

 

[1] ولذلك نصلى في أبانا الذي … ونقول اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا.

[2] عندما قال الله لقايين “ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك” (تك11:4).

[3] تك7:4.

[4] عندما قال الله لآدم ” ملعونة الأرض بسببك.. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها ” (تك17:3، 19).

[5] يو34:13.

[6] انظر مت23:18ـ35.

[7] لو10:17.

[8] مت33:6.

[9] رو37:10.

[10] 1مل7:17ـ16.

رسالة رومية الأصحاح3 – عظة8 ج2 – ق. يوحنا ذهبي الفم – د. سعيد حكيم يعقوب