المرأة صاحبة الفلسين – إنجيل لوقا 21 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
المرأة صاحبة الفلسين – إنجيل لوقا 21 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
المرأة صاحبة الفلسين – إنجيل لوقا 21 ج1 – ق. كيرلس الإسكندري – د. نصحى عبد الشهيد
(لو1:21ـ4): “ وَتَطَلَّعَ فَرَأَى الأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي الْخِزَانَةِ. وَرَأَى أَيْضًا أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ. فَقَالَ: بِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمِيعِ. لأَنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ اللهِ وَأَمَّا هَذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ الْمَعِيشَةِ الَّتِي لَهَا “.
اليوم ينفتح أمامنا منظر من مناظر التقوى، مع يسوع كحَكَم قانوني للمباريات، والذي بقرار عادل يُوزِّع الأوسمة والنياشين للذين دعوا للمشاركة في السباق. والأشخاص الذين تُقدمِّهم لنا هذه المباريات ليحوزوا على إعجابنا، ليسوا هم عازفى قيثارات ولا هم مصارعين مهرة، ولا هم أيضًا ممن اعتادوا أن ينالوا المجد بواسطة أصوات المزمار الرخيمة، بل هم بالأحرى من أولئك الذين تفضَّل مخلِّص الكل وتنازل وكرَّمهم بسبب أنه يحب البر. إن أكثر صفوة مكرَّمة بين هؤلاء والمُفضَّلون عن كل الآخرين، هم أولئك الرحماء وذوو العطف الذين يشهد لهم المخلِّص نفسه بقوله: “طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون” (مت7:5).
هؤلاء كان المسيح يراقبهم وهم يلقون قرابينهم في الخزانة، لأننا هكذا سمعنا الإنجيلى القديس يُعلن لنا ذلك هنا. لكن أي فم سيكفي لأولئك الذين يُسبِّحون إله الكل! وكما يقول الكتاب ” مجد الرب إخفاء الكلمة” (أم2:25س)، لأنه يستحيل أن نُسبِّح لطفه الفائق وعظمة محبته للبشرية التى لا تُقارن كما يحق لهما، فهو ينسب لنفسه ويحسبه كقرابين، كل ما نفعله للإخوة الذين أضناهم الفقر، لأنه قال: ” الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتى هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم” (مت40:25)، ومكتوب: “ من يُحسن إلى الفقير يُقرض الرب “. وعن هذا يُعبِّر أحد القديسين عن إعجابه، بطريقة جميلة جدًّا بقوله في أحد المواضع، بل بالأحرى يقول لكل بني البشر: ” إن كنت بارًا فماذا تعطيه؟ أو ماذا يأخذه من يدك؟ لرجلٍ مثلك شرّك، ولابن آدم برّك” (أى7:35و8). لذلك كما قلتُ (من قبل) إن أعمالنا وأفعالنا تُعمل لمن هم رفقاؤنا وإخوتنا، ولكن الله يأخذها لنفسه لأنه محب للبشر، ويحسبها كثمر روحي، وذلك لكيما تكون له فرصة ليُظهر رحمة لأولئك الذين اعتادوا التصرُّف هكذا، ولكي يعتقهم من كل خطية، لأنه مكتوب: ” الرحمة تفتخر على الحكم ” (يع13:2).
لذلك ـ لو سمحتم ـ ليتنا نراقب جهاد الرحماء ونرى ما هى طبيعته، ولمن بالأساس يُخصِّص المخلِّص استحساناته ومدحه بواسطة قراره المقدس والإلهي. لقد تقدَّم بعض الأغنياء وهم جالبين معهم عطاياهم التى جهَّزوها وألقوا قرابينهم في الخزانة، ولكونهم يمتلكون ثروة كبيرة وغنى وافرًا، فإن العطايا التى قدَّمها كل واحد ـ كما يبدو ـ كانت كبيرة في حد ذاتها، ولكنها من الناحية الأخرى صغيرة لا تتناسب مع دخل مقدِّميها. ثم جاءت بعدهم امرأة منضغطة في فقر مدقع لا يُحتمل، والتى كل رجاء معيشتها يكمن في عطف المحسنين، ومن الفتات كانت تجمع بصعوبة ومشقة مؤونة ضئيلة وتافهة تكفى بالكاد لقوت اليوم، وأخيرًا (بعد كل الأغنياء) قدَّمت هذه المرأة فلسين، لأنه لم يكن في مقدورها أن تُقدِّم أكثر من هذا، وإن جاز القول – فإنها جرَّدت نفسها من كل ما لديها، وغادرت الرواق المقدس بيدين خاويتين. يا لهذا العمل العجيب والمدهش! المرأة التى على الدوام تطلب من الآخرين صدقة، تقرض الله، جاعلة حتى الفقر في حد ذاته مثمرًا لإكرام الله. لذلك فقد فازت على الآخرين وتكلَّلت من قِبل الله بجزاء عادل.
لكن ربما يضايق هذا الكلام بعضًا من الأغنياء، ولذلك سنوجِّه لهم ملاحظات قليلة. أنت تبتهج أيها الغني بوفرة ممتلكاتك، نصيبك خصب أكثر ممَّا تتطلبه احتياجاتك الضرورية. أنت تحصد حقولاً ومقاطعات، ولك حقول كروم كثيرة وواسعة وبساتين محمَّلة بما لذَّ وطاب حتى فَقَدَت مذاقها بسبب التأخُّر وضياع موسم جمعها، ولك معاصر وبيادر ومواشي لا حصر لها، وبيت جميل مبني بثمن عظيم وفيه مخازن كثيرة وملابس منسوجة بألوانٍ مختلفة، وأخيرًا أنت لا تُقدِّم بما يتناسب مع دخلك؛ حتى إنك عندما تعطي، فلن تفقد قط سوى القليل جدًّا من غناك الوافر. أمَّا تلك المرأة فقد قدَّمت فلسين، وهى لم تكن تمتلك شيئًا أكثر مما قدمته؛ إذ لم يعد يتبقَ لديها شيء بعد الفلسين، وخرجت من الخزانة بيدين فارغتين، ولكنهما يدين سخيتين، فقد قدمت كل ما تملكه. ألا يحق لها لأجل ذلك أن تفوز بالإكليل؟ ألم تكن تحق لها الأفضلية بمقتضى قرار مقدس؟ أما تفوَّقَت هي على سخائك (أيها الغني)، على الأقل من جهة استعدادها؟
إن الحكيم بولس يكتب أيضًا شيئًا من هذا القبيل: ” لأنه إن كان النشاط موجودًا فهو مقبول على حسب ما للإنسان لا على حسب ما ليس له ” (2كو12:8). ليس فقط يمكن للغني أن ينال نعمة لدى الله بتقديم خيرات للإخوة ـ لأن مخلِّص الكل سيقبل تقدمته ـ بل حتى من يمتلك القليل جدًّا يمكنه أيضًا أن ينال نعمة الله بتقديمه القليل الذى له، وأيضًا لن يعاني أيَّة خسارة لأجل هذا (الذى قدَّمه)، لأن العالِم بكل شيء سيمتدح استعداده (للعطاء)، وسيَقبَل نيَّته (الحسنة)، وسيجعله معادلاً للغنى، أو بالأحرى سيكلِّله بكرامة أكثر وجاهة وامتيازًا.
وهذا أيضًا يستحق أن يثير إعجابنا وانتباهنا، إنَّ الجموع التي كانت صاعدة إلى الهيكل، كان البعض منها يقدِّم عجولاً مسَّمنة، والبعض يقدم غنمًا وبخورًا ولبانًا وأشياء أخرى غيرها لا غنى عنها لتقديم الذبائح التى يأمر بها الناموس بطريقة لائقة، لكن نظرة المخلِّص لم تكن مركَّزة على هؤلاء، بقدر ما كانت مثبَّتة على من يُقدِّمون قرابينهم في الخزانة، أي على من كانوا محسنين وشفوقين، لأنه يقبل الرائحة الطيبة للعبادة الروحية، لكنه يغض نظره عما يُعمل في رموز وظلال، لأنه عرف أنَّ الرموز لا تفيد وأن الظل ضعيف، لذلك فهو يكرم الإحسان إلى الفقير، وإذ يعرف هذا أحد الرسل، فإنه يكتب قائلاً: ” الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هى هذه، افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم” (يع27:1).
ونحن نجد أيضًا أنَّ الوصية التي أعطاها موسى تحثنا على محبة الفقير، وتنهضنا إلى عمل الإحسان، لأن الله الذى وضع أمامنا طريق السلوك الإنجيلى، هو نفسه الذى حدَّد منذ القديم الوصية لموسى، لم يكن إلهًا غيره، إنه هو نفس الإله الوحيد من حيث إنه إله لا يتغير، لأنه يقول بفم أحد الأنبياء القديسين: ” أنا الذى أتكلم إليكم، قريب” (إش6:52س). لذلك فهو تكلم هكذا بواسطة موسى قائلاً: ” إن كان فيك فقير أحد من إخوتك في أحد أبوابك في أرضك التي يعطيك الرب إلهك، فلا تُحوِّل[1] قلبك ولا تقبض يدك عن أخيك المحتاج، بل افتح يدك له بسعة وأقرضه مقدار ما يحتاج إليه، وبحسب ما ينقصه” (تث7:15و8س). أنتم تسمعونه يدعو صدقتهم قرضًا، لأن الله هو الذي يَقبلها وسوف يُعوِّضها ليس بما يساويها، بل بالأحرى بكيل فائض، لأنه يقول: ” كيلاً جيدًا ملبدًا مهزوزًا فائضًا يعطون في أحضانكم ” (لو38:16). وكما يقول الحكيم بولس: ” يحب الله المعطي بسرور ” (2كو7:9). وكون أنه من الصواب أن نكون محسنين للإخوة وليس بخلاء، وليس كمسألة إلزامية بل بدافع من المحبة أكثر من كونه مراعاة للوجوه وبمودَّة متبادلة لا لوم فيها، فإنه حتى ناموس العهد القديم يُوضِّحه بقوله: ” ولا تحزن في قلبك عندما تعطيه، لأنه بسبب هذا الأمر يباركك الرب إلهك في كل أعمالك وجميع ما تمتد إليه يدك” (تث10:15س). ولذلك يقول بولس الرسول: ” المُعطي فليعطِ بسخاء، المدبِّر فباجتهاد، الراحم فبسرور ” (رو8:12)، لأن المحبة التى نظهرها للفقير ليست غير مثمرة، بل هى دَين يُرَّد بزيادة.
لذلك ينبغى لنا أن نكون مجتهدين في إتمام هذا الواجب بكوننا متيقِّنين أنه لو وزَّعنا بيد سخيَّة، فإننا سننفع أنفسنا، لأنه هكذا يعلِّمنا أيضًا بولس الطوباوي قائلاً: ” هذا وإنَّ من يزرع بالشح فبالشح أيضًا يحصد، ومن يزرع بالبركات فبالبركات أيضًا يحصد، كل واحد كما ينوى بقلبه ” (2كو6:9و7). وكما لو كان يقطع الكسل من جهاداتنا الصالحة، فإن الرسول يضيف في الحال هذه الكلمات: ” والله قادر أن يزيدكم كل نعمة، لكى تكونوا ولكم كل اكتفاء كل حين في كل شيء تزدادون في كل عمل صالح. كما هو مكتوب، فرَّق أعطى المساكين، برّه يبقى إلى الأبد” (2كو8:9و9). لأن الذى يُظهِر رحمة للفقير، لن يُتخلَّى عنه أبدًا، بل بالأحرى سيُحسب أهلاً للغفران من المسيح مخلِّصنا الذي به ومعه يليق التسبيح والسلطان لله الآب مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.
[1] لابد أنَّ القديس كيرلس قرأ ¢posteyeij والتى تعني يُحوِّل بدلاً من ¢postšrxeij والتى تعنى يُقسَّي.