آبائياتأبحاث

رسائل القديس أنطونيوس ج3

رسائل القديس أنطونيوس ج3

رسائل القديس أنطونيوس ج3

رسائل القديس أنطونيوس
رسائل القديس أنطونيوس

 

الرسالة 8

أحبائي في الرب…

          أكتب إليكم كأبناء أعزاء. فإنه حتى الآباء الجسديين يحبون أولادهم أكثر حينما يجدون هؤلاء الأولاد مشابهين لهم. وهكذا أنا أيضًا فبقدر ازديادكم في التمثل بي، فإني أصلي إلى الله لكي يعطيكم ما سبق أن أعطاه لآبائنا المغبوطين. وأصلي لكي ما آتى إليكم، وأسلمكم أسرارًا أخرى أيضًا، لا أستطيع أن أكتبها إليكم على الورق. فعيشوا في فرح وسلام مع أب المراحم، لكي ما تنالوا الموهبة التي نالها آباؤكم.

قبول الروح الناري والصلاة لنواله:

          والآن فإن أمكم سارة التي هي الروح تفرح بكم. هذه التي أكملت حملها وولدت روحًا إلهيًا فيكم وتشتهي أن تكملكم كما طلبت منها عنكم. وهذا الروح الناري العظيم الذي قبلته أنا اقبلوه أنتم أيضًا، وإذا أردتم أن تنالوه ويسكن فيكم فقدموا أولاً أتعاب الجسد وتواضع القلب، وارفعوا أفكاركم إلى السماء ليلاً ونهارًا، واطلبوا بكل قلبكم هذا الروح النارى القدوس وحينئذ يُعطى لكم، لأنه هكذا حصل عليه إيليا التشبي وأليشع وجميع الأنبياء الآخرين. ولا تفكروا في قلوبكم وتكونوا ذوى قلبين وتقولوا ” من يستطيع أن يقبل هذا؟ ” فلا تدعوا هذه الأفكار أن تدخل إلى عقولكم بل اطلبوا باستقامة قلب وأنتم تقبلوه. وأنا أبوكم اجتهد معكم وأصلي لأجلكم لكي تقبلوه، لأني أعلم أنكم قد جحدتم ذواتكم لكي تستطيعوا أن تقبلوه. لأن كل من يفلح ذاته بهذه الفلاحة في كل جيل فإنه ينال نفس الروح، الذي يسكن في المستقيمي القلوب. وأنا أشهد لكم، إنكم تطلبون الله بقلب مستقيم فأديموا الطلبة باجتهاد من كل قلوبكم فإنه سيعطى لكم.

نتائج نوال الروح:

          وحينما تنالون هذا الروح، فإنه سيكشف لكم أسرار السماء، وأشياء أخرى كثيرة سيعلنها لكم لا أستطيع أن أعبر عنها على الورق. وهو سيجعلكم أحرارًا من كل خوف. ويغمركم فرح سماوي ليلاً ونهارًا، وهكذا ستصيرون كأناس انتقلوا إلى الملكوت وأنتم لا تزالون في الجسد، ولا تطلبون حينئذ عن أنفسكم فقط، بل تطلبون عن الآخرين أيضًا. لأن موسى لما قبل الروح صلي لأجل الشعب قائلاً لله: إن أهلكت هؤلاء فأمح أسمى من كتابك (خر31:32).

          وهكذا ترون أن اهتمامه كان منصبًا على أن يصلي من أجل الآخرين، إذ قد وصل إلى هذه القامة بالروح. ولكن قليلين من بين الكثيرين هم الذين وصلوا إلى هذه القامة: أن ينصرفوا إلى الصلاة لأجل الآخرين. وأنا لا أستطيع أن أكتب إليكم عن كل هذه الأمور بالتفصيل، أما أنتم فحكماء وتعرفون كل شيء. وحينما آتى إليكم فإني سأخبركم عن روح الفرح وكيف ينبغي أن تحصلوا عليه وسأخبركم بكل غناه وعظم لذته، مما لا أستطيع أن أكتبه على الورق.

          كونوا معافين في روح الحياة ولتكونوا نامين ومزدادين قوة يومًا بعد يوم.

 

الرسالة 9

أحبائي في الرب أرسل لكم السلام..

          إن الإنسان إن كان يريد أن يحب الله بكل قلبه وبكل نفسه وبكل قدرته، فإنه ينبغي أن يقتنى مخافة الله أولاً، والمخافة تولد فيه البكاء، والبكاء يولد الفرح، والفرح يولد القوة، وفي كل هذه تكون النفس مثمرة، وحينما يرى الله أن ثمرها جميل هكذا، فإنه يقلبها إليه كرائحة طيبة، ويفرح مع ملائكته بتلك النفس في كل حين، ويملأها بالبهجة، ويعطى للنفس حارسًا ليحفظها في كل طرقها لكي يجعلها تصل إلى موضع الحياة والراحة وليمنع الشيطان من أن يقوى عليها. لأن الشرير حينما يرى هذا الحارس الإلهي، أي القوة المحيطة بالنفس فإنه يهرب، خائفًا من الاقتراب من الإنسان.

اقتناء القوة الإلهية:

          والآن يا أحبائي في الرب، الذين تحبهم نفسي وأنا أعلم أنكم محبون لله، اقتنوا في أنفسكم هذه القوة، لكي يخاف منكم الشيطان، ولكي تكونوا مجتهدين وفرحين في كل أعمالكم ولكي تحلو لكم الإلهيات. فإن حلاوة الله سوف تمدكم بأعظم قوة، لأن حلاوة حب الله ” أحلي من العسل والشهد ” (مز20:19). إن كثيرين من الرهبان والعذارى في المجامع لم يذوقوا حلاوة الله العظيمة هذه، لأنهم لم يقتنوا القوة الإلهية ـ فيما عدا قليلون منهم هنا وهناك ـ لأنهم لم يتاجروا في هذه القوة ولم يسعوا لطلبها ظانين أنهم قد اقتنوها، ولذلك فإن الله لم يعطها لهم. لأن كل من يسعى للحصول عليها، فإنه ينالها كعطية من الله، فإن الله ليس عنده محاباة، ولا يأخذ بالوجوه، بل هو في كل جيل، يعطيها لأولئك الذين يستثمرونها.

          والآن يا أحبائي في المسيح أنا أعلم أنكم تحبون الله. فبما أنكم أتيتم إلى هذا العمل، فقد أحببتم الله بكل قلبكم، ولهذا السبب فأنا أيضًا أحبكم بكل قلبي، ولأن قلوبكم مستقيمة، فإنكم تستطيعون أن تقتنوا هذه القوة الإلهية لنفوسكم، لكي تصرفوا كل زمان حياتكم في حرية وفرح، ويصير كل عمل من الله خفيفًا وسهلاً عليكم بتأثير هذه القوة التي يعطيها الله للإنسان هنا ( على الأرض)، وأيضًا، فإن هذه القوة تقود الإنسان إلى تلك الراحة، وتحفظه حتى يعبر كل ” قوات الهواء ” (أف2:2). فإنه توجد قوات عاملة في الهواء تحاول أن تعوق البشر وتمنعهم من المجيء إلى الله.

الصلاة لنوال القوة الإلهية:

          لذلك فلنرفع صلاتنا إلى الله، لكي لا يمنعونا من الصعود إليه. فمادام الأبرار يحصلون على القوة الإلهية معهم، فلا يستطيع أحد أن يعوقهم. وهذه القوة الإلهية حينما تسكن في الإنسان فإنها تجعله يحتقر كل إهانات، وكرامات البشر، ويبغض كل أمور هذا العالم، وكل راحة جسدية، ويطهر قلبه من كل فكر شرير، ومن كل حكمة هذا العالم الفارغة، فقدموا طلبات مع صوم ودموع ليلاً ونهارًا، وإن الله الصالح لن يتأخر عن إعطائكم هذه القوة.

 

 

 

نتائج نوال القوة:

          وحينما تنالون هذه القوة، فإنكم تصرفون زمان حياتكم في راحة وسلام وحرية من كل همّ، وتجدون دالة عظيمة أمام الله، وهو يعطيكم بنفسه هذه الدالة.

          وكان لي كثير أريد أن أكتبه لكم، ولكنى كتبت هذا القليل بمحبة عظيمة أكنها لكم.

          كونوا معافين في قلوبكم في الرب، في كل فعل محبة نحو الله.

 

الرسالة 10

الصلاة بكل القلب:

          أكتب إليكم كأناس تحبون الله وتسعون إليه بكل قلوبكم. فإن الله يسمع لمثل هؤلاء الناس حينما يصلون ويباركهم في كل شيء. ويهب لهم كل ما تسأله نفوسهم حينما يتوسلون إليه، أما أولئك الذين يأتون إليه ليس بكل قلبهم بل يكونون ذوى قلبين، والذين يعملون أعمالهم لكي يُمجدوا من الناس، مثل هؤلاء لا يستمع الله لهم في أي شيء يسألونه منه، بل بالأحرى يغضب من أعمالهم. لأنه مكتوب ” أن الله قد بدد عظام المرائيين” (مز5:53).

طلب مجد الناس يغضب الله:

          فترون إذن، كيف يغضب الله على أعمال هؤلاء الناس، ولا يعطيهم شيئًا من طلباتهم التي يسألونها منه، بل بالأحرى يقاومهم، لأنهم لا يعملون أعمالهم بإيمان بل يعملونها بتظاهر. لأجل ذلك فإن القوة الإلهية لا تسكن فيهم، بل يكونون ضعفاء ومرضى في كل أعمالهم، وفي كل ما تمتد إليه أيديهم.

قوة النعمة:

          لأجل هذا السبب فهم لم يعرفوا قوة النعمة، وكيف هي تحرر من الهمّ ولا يعرفون الفرح الذي تعطيه، بل تكون نفوسهم مثقله في كل أعمالهم. إن الغالبية العظمى من أبناء جيلنا هم بهذه الحالة: أنهم لم ينالوا القوة الإلهية التي تسمن النفس، وتملأها فرحًا وسرورًا، وتعطيها يومًا فيومًا تلك البهجة التي تجعل القلب مشتعلاً بحرارة إلهية. لأن العمل الذي يعملونه، إنما يعملونه كما لو كان ليراه الناس. ولهذا السبب فإن القوة الإلهية لا تحل عليهم، لأن قوة الله تبغض ذلك الإنسان الذي يعمل أعماله لأجل مجد الناس.

ارفضوا روح المجد الباطل:

          لذلك يا أحبائي، الذين قدمتم ثماركم لله، جاهدوا في كل أعمالكم ضد روح المجد الباطل، لكي تغلبوه في كل الأشياء، ولكي تكون حياتكم كلها وجسدكم مقبولة أمام الله، وتسكنون في الحياة مع خالقكم، ولكي تنالوا القوة الإلهية، التي هي أفضل من كل الأشياء. لأني متيقن يا أحبائي، لأنه طالما أنتم تفعلون كل ما في وسعكم في الحرب ضد روح المجد الباطل، ولا توافقونه بل ترفضونه باستمرار، فإن جسدكم يكون حيًا. لأن هذا الروح الشرير يهاجم الإنسان في كل أعمال البر، وهو يصارع مع أولئك الذين يريدون أن يكونوا مؤمنين أمناء، وحينما ينال أي واحد منهم مدحًا من الناس بسبب أمانته أو تواضعه، أو احتماله للعار، فإن الروح الشرير يدخل بسرعة في معركة معه، ويغلب بعضًا منهم، ويشتت ويطفئ حياتهم، وبعمله هذا فإنه يحرضهم أن يتركوا طريق حياتهم الفاضلة، وأن ينشغلوا بإرضاء الناس. وهكذا تتبدد حياتهم، رغم أن الناس يظنون أنهم قد ربحوا شيئًا. لهذا السبب فإن الله لا يعطيهم القوة الإلهية، بل يتركهم فارغين لأنه لم يجد نفوسهم مستعدة بثمرة صالحة، ويحرمهم لاهوته العظيم.

 

إذا خمدت الحرارة اطلبوها من جديد:

          أما أنتم يا أحبائي فاجتهدوا ضد روح المجد الباطل في كل الأوقات لكي تغلبوه في كل الأشياء، وذلك لكي ترافقكم القوة الإلهية في كل حين. وأنا أصلي لله من أجلكم، لكي يعطيكم هذا الفرح في كل حين، فإنه لا يوجد شيء آخر يجعل الإنسان هكذا حرًا من كل قلق. وإذا حدث بعد نوالكم هذا الفرح، أن رأيتم نفوسكم وقد خمدت الحرارة منها وانسحبت وتركتكم، فاطلبوها من جديد وهي سترجع إليكم. لأن هذه الحرارة هي مثل النار التي تغير الذهب وتنقله إلى طبيعتها. فإذا رأيتم أن قلبكم قد صار مثقلاً في أي وقت، فاحضروا نفوسكم أمامكم وراجعوها إلى أن تصير حارة مرة أخرى وتشتعل فيها نيران الله. لأن داود النبي أيضًا، حينما رأي قلبه مثقلاً: ” قد سكبت قلبي بنفسي ” (مز4:42)، ” تذكرت أيام القِدم، ولهجت بكل أعماله، بسطت إليك يدى، نفسي تعطش إليك كالأرض العطشانة ” (مز5:143،6).

          هذا ما فعله داود حينما رأي أن نفسه قد بردت وثقلت، لكي ما يجعلها حارة مرة أخرى، وهو قد نال الحلاوة الإلهية بالنهار والليل معًا. فافعلوا إذن هكذا يا أحبائي وأنتم ستنمون وتتقدمون، وسيعلن الله لكم أسرارًا عظيمة لا توصف.

          فليحفظكم الله في صحة الروح والنفس والجسد إلى أن يحضركم إلى ملكوته مع آبائكم الذين أكملوا الحياة الصالحة.

          كونوا فرحين بالرب الذي له المجد إلى أبد الآبدين.. آمين.

 

الرسالة 11

          اعلموا يا أولادي المباركين أنني أكتب إليكم كأولاد أحباء، أولاد الموعد، أولاد الملكوت. ولهذا السبب فإني أذكركم ليلاً ونهارًا، لكي يحفظكم الله من كل شر، ولكي يكون عندكم دائمًا حرص واجتهاد، وأن يعطيكم الإفراز والنظر الجديد، لكي تتعلموا تمييز الاختلاف بين الخير والشر في كل الأشياء. لأنه مكتوب “الطعام القوى هو للبالغين الذين بسبب التمرن صارت لهم الحواس مدربة للتمييز بين الخير والشر” (عب14:5).

موهبة الإفراز والتمييز:

          هؤلاء هم الذين صاروا أولاد الملكوت، وحُسبوا في حالة التبنى لله، هؤلاء يعطيهم الله هذا النظر الجديد في كل أعمالهم، لكي لا يستطيع إنسان أو شيطان أن يخدعهم. لأن المؤمن يمكن أن يُخدع بحجة الصلاح، وكثيرين خدعهم الشيطان بهذه الطريقة، لأنهم لم يكونوا قد نالوا هذا النظر الجديد من الله. ولأن الرسول بولس المغبوط عرف أن هذا هو غنى المؤمنين الذي لا حد لعظمته، كتب يقول ” إنى أحنى ركبتى لدى أبي ربنا يسوع المسيح.. لكي يعطيكم روح الحكمة والإعلان في معرفته، لكي تستنير عيون قلوبكم لكي تعرفوا العرض والطول والعلو والعمق، وتعرفوا غنى ميراث القديسين ” (أنظر أف14:3،18، أف16:1ـ18). ولأن الرسول بولس أحبهم بكل قلبه، لذلك أراد أن يعطى لأبنائه الذين أحبهم، غنى المعرفة العظيم هذا، الذي هو النظر الجديد، لأنه يعرف أنه، إذا أُعطى لهم ذلك النظر الحقيقي فإنهم لا يتعبون في شيء بعد ذلك، ولا يجزعون من خوف، بل يكون فرح الله معهم ليلاً ونهارًا، وتصير أعمال الله حلوة عندهم في كل شيء ” أحلي من العسل والشهد ” (مز10:19). ويكون الله معهم بلا انقطاع، ويعطيهم إعلانات ويكشف لهم أسرارًا عظيمة لا يستطيع لساني أن يعبر عنها.

اطلبوا الإفراز:

          لذلك، فالآن يا أحبائي، الذين قد صرتم لي أولادًا، اطلبوا نهارًا وليلاً، لكي تأتى عليكم موهبة الإفراز هذه، التي لم تأت عليكم قبل الآن منذ دخولكم في هذا الطريق النُسكى.

          وأنا أيضًا، أبوكم، سأصلي لأجلكم، لكي تصلوا إلى هذه القامة، فإن كثيرين من الرهبان والعذراي لم يصلوا إلى هذه القامة ـ فيما عدا نفوس قليلة هنا وهناك.

الأحاديث العالمية تطفئ الروح:

          ولكن إذا أردتم أن تبلغوا إلى هذه القامة، فابتعدوا من كل الذين يحملون اسم الرهبنة والبتولية وهم يعيشون في التراخى بينكم لأنكم إذا خالطتموهم فلن يدعونكم تتقدمون، بل يطفئون الحرارة منكم. لأن الكسالي ليس فيهم حرارة وغيرة، بل يتبعون إرادتهم وشهواتهم، وإذا أتوا إليكم، فإنهم يتكلمون عن أمور هذا العالم، وبمثل هذا الحديث يطفئون حرارتكم. ولأجل هذا يقول الرسول ” لا تطفئوا الروح ” (1تس10:5)، فإن الروح ينطفئ بمثل هذا النوع منه الأحاديث، وبكل ما يسبب تشتت القلب. فحينما ترون أي واحد من هؤلاء الناس، فاصنعوا بهم خيرًا، ولكن لا تخالطوهم. فإن هؤلاء هم الذين لا يدعون الناس يتقدمون في القامة الروحية.

          وسلام لكم في الرب في روح الوداعة، يا أحبائي.

 

الرسالة 12

          إلي أحبائي في الرب..

محبة الله ومحبة الاخوة:

          أنا أعلم أن محبة الله هي التي تحصر قلب الإنسان وتجعله يفكر في الاخوة. وأخونا هو ذلك الذي يفكر دائمًا في الدعوة السماوية الكاملة، مصليًا لأجلنا ليلاً ونهارًا كما يصلي لأجل نفسه. ولأني أحسبكم أصدقائي، فإني أذكركم ليلاً ونهارًا في صلواتى، لكي تزدادوا في إيمانكم وفي كل الفضائل، ولكي تنالوا قوة أعظم مما حصلتم عليه حتى الآن. وهذه طلبتى لأجلكم دائمًا لأنكم قد صرتم لي أولادًا في الرب. وحينما كتب بولس لتيموثيئوس، الذي كان أحد أولاده قال له هكذا، ” إنى أذكرك في صلواتى ليلاً ونهارًا، مشتاقًا أن أراك ذاكرًا دموعك لكي أمتلئ فرحًا. إذ أتذكر إيمانك عديم الرياء ” (2تى3:1ـ5)، والآن يا أحبائي فمن أجل استقامة قلوبكم يحبكم قلبي، وكما صنع بولس مع تيموثيئوس هكذا أصنع أنا معكم، إذ أذكركم، وأصلي لأجلكم واشتهي أن أراكم، وأنا أتذكر تنهداتكم وحزن قلوبكم وأتعابكم.

اشتاق أن أراكم لأمنحكم هبة روحية:

          والآن يا أولادي، أنا أطلب من الرب أن يسهل طريقى لآتى إليكم. لأني أعلم أنكم أنتم أيضًا تشتهون أن ترونى كما اشتهي أنا أيضًا أن أراكم.

          وهذا شيء حسن جدًا. لأن الرسول بولس يقول ” لأني مشتاق أن أراكم بكى أمنحكم هبة روحية لثباتكم ” (رو11:1). وهكذا الأمر في حالتكم أنتم أيضًا، رغم أنكم تعلمتم من الروح، فحينما آتى إليكم سأشددكم بتعليم هذا الروح نفسه، وسأعرفكم بأشياء أخرى لا أستطيع أن أكتبها لكم في خطاب.

          سلام لكم في ربنا، في روح الوداعة.

 

الرسالة 13

أسرار اللاهوت العظيمة:

          أقول لكم يا أحبائي أنني أصلي ليلاً ونهارًا لكي تزداد قوة الله فيكم، وتعلن لكم أسرار اللاهوت العظيمة، التي ليس من السهل على أن أعبر عنها باللسان، لأنها عظيمة جدًا وليست من هذا العالم، وهي لا تعلن إلاّ للذين طهروا قلوبهم من كل نجاسة ومن كل أباطيل هذا العالم، وأولئك الذين أبغضوا هذا العالم وحتى نفوسهم أيضًا وحلموا الصليب، وأيضًا تشددوا وصاروا مطيعين لله في كل شيء.

الله يحل فيهم ويغذى نفوسهم بالفرح:

          هؤلاء يحل فيهم اللاهوت ويغذى نفوسهم بالفرح، وهذا الفرح يُغنى النفس ويجعلها تنمو كثيرًا. لأنه كما أن الأشجار لا تنمو إن لم تشرب من الماء، هكذا أيضًا النفس فهي لا تستطيع أن تنمو وتصعد إلى العلاء إن لم تقبل الفرح السماوي. ومن بين الذين يقبلون الفرح السماوي، فهناك قليلون يعلن الله لهم الأسرار التي في السماء، ويريهم مواضعهم السماوية بينما هم لا يزالون في الجسد. ويكون لهم دالة أمامه ويعطيهم كل ما يطلبونه.

          فهذه هي طلبتى ليلاً ونهارًا، أن تصلوا إلى هذه الدرجة وتعرفوا غنى المسيح الذي لا يُستقصى. لأن قليلين هم الذين يصلون إلى هذا الكمال.

ينالون المواهب ويعينون الناس:

          وهؤلاء هم الذين يحصلون على المواعيد العظمى التي يعطيها الابن الوحيد: فهم ينالون المواهب ويصيرون عونًا للناس. وفي كل جيل يوجد أُناس بلغوا إلى هذه الدرجة، والأجيال الآتية لا تخلو من أمثال هؤلاء، وليس من الرجال فقط بل ومن النساء أيضًا، وكل واحد من هؤلاء يكون مثالاً لأهل جيله كما أنه يدين جيله، لأن هؤلاء الكاملون جاهدوا حتى يكملوا، والذين كملوا هم الذين يدينون المسكونة. ولأجل هذا فأنا أصلي لأجلكم بلا انقطاع أن تبلغوا إلى هذا المقدار، وذلك بسبب المحبة التي عندى من نحوكم. فإن الرسول المغبوط بولس تكلم هكذا أيضًا عن أولئك الذين أحبهم، ” كنا نرضى أن نعطيكم لا إنجيل الله فقط بل أنفسنا أيضًا لأنكم صرتم محبوبين إلينا ” (1تس8:2). هكذا قد رتبت أن أرسل إليكم ابنى الحبيب، إلى أن يعطينى الرب أيضًا أن آتى إليكم بالجسد، ليكون لكم نمو وفرح أكثر مما عندكم الآن. لأن الرب عندما يرى الأب يحب أبناءه فإنه يعطى الجميع فرحًا وقوة عظيمة مع سلام عميق في كل شيء.

          سلام لكم في الرب.

 

الرسالة 14

          إلي أحبائي في الرب الذين صار لهم نصيب في ملكوت السماوات: لأنكم هكذا طلبتم الله، متمثلين بآبائكم في الإيمان، لكي تنالوا المواعيد أيضًا، لأنكم صرتم أبناء لهم، لأن الأبناء يرثون بركة آبائهم، إذ لهم نفس الغيرة التي لآبائهم. ولهذا السبب، فلأن يعقوب اتبع مسالك التقوى التي سار فيه والداه، فإن بركات أبويه حلت عليه أيضًا. وإذ قد نال بركتهم، فقد أُعطى له أن يرى السلم والملائكة صاعدة ونازلة عليه (أنظر تك28).

نوال البركة والرؤية السماوية:

          وهكذا الآن فإن الأبناء الذين نالوا بركة آبائهم وقد رأوا القوات السماوية، لا تستطيع قوة في الوجود أن تزعزعهم لأنه حينما رأي بولس الطوباوى هذه القوات، تقوى وصار ثابتًا، وصرخ قائلاً ” من سيفصلنى عن محبة المسيح، لا سيف ولا جوع ولا عرى، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا علو ولا عمق ولا أي خليقة أخرى تقدر أن تفصلنى عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا ” (رو35:8ـ39).

          لذلك فالآن يا أحبائي، اطلبوا بلا انقطاع ليلاً ونهارًا أن تحل عليكم بركات آبائكم، ولكي تفرح أجناد الملائكة بكم في كل شيء، ولكي تكملوا بقية أيامكم في ملء فرح القلب. لأنه إذ وصل إنسان إلى هذه الدرجة، فإن فرح الله يكون معه، ولذلك فإنه لا يتعب من أي شيء فإنه مكتوب: ” نور الأبرار لا ينطفئ أبدًا ” (أم9:13).

 

وصايا المسيح ليست ثقيلة:

          واعلموا يا أولادي أن وصايا المسيح ليست ثقيلة ولا متعبة بل نور حقيقى وسرور أبدى لمن كمل الطاعة. وأنا أصلي لأجلكم لكي تأتوا إلى موضع الحياة. وهذا أنا أفعله بسبب طاعتكم.

الطاعة ونوال البركة:

          فإنه حينما رأي الرب أن تلاميذه يطيعونه، طلب من أبيه لأجلهم قائلاً: ” أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتنى يكونون معى حيث أكون أنا، لأنهم قد حفظوا كلامى” (يو6:17،24). وأيضًا طلب من الآب أن “يحفظهم من الشرير ” (يو15:17) إلى أن يصلوا إلى موضع الراحة. وهذا هو ما أصلي به وأطلبه من الرب أن يحفظكم من الشرير وتصلوا إلى موضع راحة الله وتنالوا البركة. لأن يعقوب بعد قبوله البركة رأي السلم ورأي أجناد الملائكة وجهًا لوجه، وهكذا صارع مع الملاك وغلب، وهذا عمله الله معه لكي يباركه. والله الذي خدمته منذ حداثتى فليبارككم.

 

 

الرسالة 15

          قبل كل شيء، يا  إخوتي المحبوبين، أنا أصلي من أجل صحتكم ونموكم في الأمور غير المنظورة. لأن ” الأشياء التي تُرى وقتية، أما التي لا تُرى فهي أبدية ” (2كو18:4).

الجسد الحى والجسد الميت:

          والآن أنا أرى أن جسدكم هو من فوق وأنكم في ملئ الحياة. فالذي يكون جسده حيًا [1] فإن الله يهبه ميراثًا، ويُحسب ضمن ميراث الله، ويعطيه الله المكافأة عن كل أتعابه. لأن هذا الإنسان يحرص على حفظ جسده حيًا، لكي يُحسب ضمن ميراث الله. لذلك فأنا الآن أفرح بكم وبجسدكم الحي. لأن من كان جسده ميتًا، لا يُحسب ضمن ميراث الله، ولكن يحسبه الله بالأحرى، مذنبًا، وهو لكي يوضح أن أجسادهم كانت مائتة يقول هكذا بواسطة النبي ” نادِ بصوت عال. لا تمسك. أرفع صوتك كبوق وأخبر شعبي بتعديهم وبيت يعقوب بخطاياهم. وإيأي يطلبون يومًا فيومًا ويُسرون بمعرفة طرقى، كأمة عملت برًا ولم تترك قضاء إلهها. يسألوننى عن أحكام البر. يسرون بالتقرب إلى الله. يقولون: لماذا صمنا ولم تنظر، ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ ” (إش1:58ـ3). ويجيبهم الرب عن كلامهم فيقول ” ها إنكم في أيام صومكم تصنعون مشيئتكم الخاصة، والذين تحت سلطانكم تعاملونهم بقسوة وتضربونهم. ها أنكم للخصومة والنزاع تصومون وتضربون بلكمة الشر. لستم تصومون كما اليوم لتسميع صوتكم في العلاء. أمثل هذا يكون صوم أختاره يومًا يذلل الإنسان فيه نفسه، يحني كالأسلة عنقه، ويفرش تحته مسحًا ورمادًا. هل تسمى هذا صومًا مقبولاً للرب؟” (إش3:58ـ5) وأيضًا كل ما هو مكتوب في إشعياء بعد هذه الكلمات.

          فاعلموا يا أولادي أن هذا هو الجسد المائت وأن كل الذين يصنعون هكذا لا يسمع الله لهم عند تضرعهم بل بالأحرى يلومهم. والإنجيل المقدس قد بيّن لنا هذا بقوله ” إن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون ” (مت23:6). ويقول النبي في موضع آخر ” إن جميع أعمال برنا كخرقة الحائض ” (إش6:64). ولكنكم يا  إخوتي الأحباء ليس فيكم شيء من هذا الجسد المائت، بل إن جسدكم حى.

الجسد الحي والازدياد في النعمة والمحبة وثمار القداسة:

          وأنا أصلي إلى الله من أجلكم أن يحفظكم، وان يحفظ جسدكم الحى من الفساد ويجعلكم تزدادون أكثر فأكثر في النعمة وفي الفرح وفي محبة الاخوة وفي محبة الفقراء، وفي كل عملٍ صالح، وفي كل ثمار القداسة، إلى أن تخرجوا من هذا المسكن، ويقبل الرب كل واحد منا في الموضع الذي ليس فيه حزن ولا فكر شرير ولا مرض ولا اضطراب، وإنما فرح وسرور ومجد، ونور أبدى. إنه الفردوس الذي لا تذبل ثماره. ويستقبلكم الرب يسوع في مساكن الملائكة، وإلي ” كنيسة أبكار مكتوبين في السموات ” (عب23:12) وإلي مواعيد وخيرات لم ترها عين ولم تسمع بها أذن ولم تخطر على قلب بشر.

          هذا ما كتبته إليكم لأجل محبتى فيكم، وذلك لكي تتعزى قلوبكم، وهناك أشياء كثيرة أريد أن أكتبها إليكم. ولكن ” أعطِ فرصة للحكيم، فيكون أوفر حكمة” (أم8:9).

          فليحفظكم الرب من هذا العالم الشرير لكي تكونوا أصحاء في الجسد والروح والنفس. وليعطكم ” فهمًا في كل الأشياء ” (2تى7:2)، لكي تُنقذوا من ضلال وشر الزمان الحاضر.

          تذكروا أن الجسد المائت ينشأ في الإنسان نتيجة محبة المجد الباطل ومحبة الملذات الجسدية.

          كونوا معافين بالرب يا أحبائي واخوتى.

 

الرسالة 16

التجارب والأتعاب:

          أنا أعلم أنكم تتعرضون لأتعاب كثيرة وقد دخلتم في تجربة كبيرة. ولكن إن احتملتم التجربة بشكر فسيحل فيكم الفرح لأنه إذ لم تأت عليكم تجارب سواء كانت ظاهرة أم خفية لا تستطيعون أن تتقدموا وتنمو أكثر من قامتكم الحاضرة. لأن جميع القديسين، حينما طلبوا أن يزداد إيمانهم دخلوا في تجارب. فإنه حينما ينال الإنسان نعمة من الله ففي الحال تزداد عليه التجربة من العدو، الذي يريد أن يحرمه من البركة التي باركه بها الله. لأن الشياطين يعرفون أن النفس تتقدم بنوالها النعمة، ولذلك يحاربون ضدها سواء في السر أو في العلانية. لذلك فحينما نال يعقوب البركة من أبيه أتت عليه تجربة عيسو بعد ذلك: لأن الشرير حرك قلبه ضد يعقوب، راغبًا أن يضيع منه البركة. ولكن الشرير ليس له قوة وسلطان على الأبرار لأنه مكتوب ” لأنه لا تستقر عصا الأشرار على نصيب الصديقين ” (مز3:25). وكانت النتيجة أن يعقوب لم يفقد البركة التي نالها بل ازدادت يومًا بعد يوم. وأنتم أيضًا اصنعوا كل ما في وسعكم لتخرجوا منتصرين من التجارب. فإن احتمال التجارب هو ضرورة بالنسبة لأولئك الذين ينالون البركات. وأنا أبوكم، قد احتملت أيضًا تجارب عظيمة علانية وخفية معًا. وثابرت، متوسلاً برجاء كثير، والرب أنقذنى.

          وهكذا في حالتكم أنتم، يا أحبائي، فلأنكم نلتم بركة الله، فكونوا مستعدين لقبول التجارب إلى أن تعبروا خلفها، وحينئذ تحصلون على نمو عظيم وازدياد في كل فضائلكم ويعطى لكم فرح عظيم من السماء لم يسبق لكم تذوقه قبل ذلك.

العلاج لاجتياز التجارب:

          والعلاج اللازم للعبور خلال التجارب هو أن لا تكلوا ولا تخوروا، بل أن تصلوا لله بكل قلبكم مقدمين تشكرات ومظهرين صبرًا في كل الأشياء، وحينئذ فإن التجربة سوف تعبر عنكم. فإن إبراهيم جُرب هكذا، وبواسطة التجربة ظهر ” كبطل مُدرب ” مجيد: وهكذا هو مكتوب، ” كثيرة هي بلايا الصديق ولكن من جميعها ينجيه الرب ” (مز19:34) وأيضًا يعقوب يقول في رسالته ” أعلى أحد بينكم مشقات ؟، فليصلِ ” (يع13:5).

          فانظروا أن جميع القديسين، حينما دخلوا في التجارب، كانوا يطلبون الله. وأيضًا، مكتوب ” الله آمين، وهو لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون ” (1كو13:10).

          والآن، فإن الله يعمل فيكم بسبب استقامة قلبكم. فإنه لو لم يكن يحبكم لما سمح بأن تأتى التجارب عليكم. ” الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله ” (عب6:12) لذلك فالتجارب نافعة للمؤمنين، أما الذين ليس لهم خبرة بالتجارب فإنهم يكونون غير مدربين، وهم يرتدون الثوب الرهباني، ولكنهم ينكرون معناه.

التجارب ودخول الملكوت:

          فلا يستطيع إنسان أن يدخل إلى ملكوت الله بدون تجارب. والقديس بطرس المغبوط يقول في رسالته:

          ” إن ما تبتهجون به الآن، رغم الألم الناتج من التجارب المتنوعة، فإنه يهدف إلى كشف لمعان إيمانكم، الذي يفوق بريق الذهب الذي يمتحن بالنار ” (1بط6:1،7). ويُقال عن الأشجار إنها تتأصل وتنمو بقدر ما تهزها الريح. هكذا الحال أيضًا في احتمال الأبرار للضيقات (إذ يزيدهم نموًا وتأصلاً). ولكن سواء في هذا الأمر أو في أي أمور أخرى، أطيعوا مرشديكم لكي تنموا وتتقدموا.

فرح الروح واحتجابه:

          ينبغي أن تعرفوا كيف أنه في بداية الحياة الروحية يعطى الروح القدس فرحًا للإنسان حينما يرى أن قلبه يتحول إلى النقاوة. ولكن بعد أن يعطى الروح فرحًا وحلاوة فإنه يحتجب ويترك الإنسان. وهذا دليل على نشاط الروح وفاعليته. وهذا الأمر يحدث مع كل نفس تطلب الله وتخافه. إنه يحتجب ويبقى على بُعد مسافة من الإنسان إلى أن يعرف هل يستمر الإنسان في طلبه أم لا، إن بعض الناس، حينما يحجب الروح نفسه عنهم، يتثقلون ويجلسون هكذا مثقلين بدون حركة، لأنهم لا يطلبون من الله أن يرفع الثقل من عليهم وأن يعطيهم من جديد الفرح والحلاوة التي سبق أن تذوقوها، ولكن بسبب إهمالهم وبسبب إرادة ذواتهم، فإنهم يتغربون عن الحلاوة الإلهية. ولهذا السبب فإنهم يصيرون جسدانيين ويرتدون الزى (الرهبانى) بينما هم ينكرون معناه. هؤلاء هم الذين عُميت عيونهم، فلا يتعرفون على عمل الله في داخلهم.

          ولكنهم لو عرفوا هذا الثقل غير المعتاد، الذي هو عكس الفرح الذي كان لهم سابقًا، وطلبوا الله بدموع وصوم، فإنه حينئذ، حينما يرى أنهم يطلبون باستقامة من كل قلبهم، ويجحدون إرادة ذواتهم، فإن الله في نعمته سوف يعطيهم فرحًا أعظم من الفرح الأول الذي كان لهم. ويحفظهم بثبات أكبر. هذه هي العلامة التي يعطيها لكل نفس تطلب الله.

DCD

            وبعد أن كتبت إليكم رسالتي تذكرتً كلمة معينة، ووجدت إلحاحًا في داخلي أن أكتب إليكم عن التجربة التي يتعرض لها الإنسان المتقدم (في الروح)، والذي يهبط إلى أعماق الهاوية من مستوى الكمال الروحى.

تجربة المتقدم في الروح:

          فعن مثل هذا الإنسان يصرخ النبي قائلاً: “وقد نجيت نفسي من أعماق الهاوية” (مز13:86). إن التجارب تقترب من كل من يلتصق بروح الله، ولكنه عن طريق التجارب يقتنى الإفراز ويصير له مجد من نوعٍ آخر. لذلك ففي صعود النبي حينما جاء إلى السماء الأولي دُهش من نورها، ولكنه حينما جاء إلى الثانية دُش دهشة عظيمة حتى أنه قال “إنى اعتبرت نور السماء الأولي كأنه ظلمة” [2]. وهكذا إلى أن وصل إلى مرحلة الكمال النهائية. لذلك فإن نفس الإنسان الكامل البار تتقدم إلى الأمام إلى أن تصعد إلى سماء السموات. فحينما تصلون إلى هذا فإنكم تكونون قد عبرتم كل التجارب. وحتى الآن فإنه يوجد أُناس على الأرض قد وصلوا إلى هذه المرحلة.

 

فائدة التجارب للمؤمنين:

          وأنا أكتب إليكم هذا أيها الأحباء لكي ما تعرفوا بصورة أكيدة أن التجارب تأتى على المؤمنين لا لضررهم بل لفائدتهم، وبدون التجارب التي تأتى على النفس، فإنها لا تستطيع أن ترتفع إلى موضع الحياة، أي موضع ذلك الذي خلقها. ” الروح يهب حيث يشاء ” (يو8:3)، وهو يهب على النفوس النقية والمقدسة، النفوس البارة والصالحة. وإذا أطاعوا الروح، فإنه يعطيهم مخافة الله، مع حرارة في البداية. وحين يبذر بذاره فيهم، فإنه يجعلهم يبغضون كل ما في العالم، سواء كان ذهبًا أو فضة أو زينة، أو كان أبًا أو أمًا أو أولادًا، وهكذا فإنه يجعل كل عمل الله حلوًا لهم أكثر من العسل والشهد، سواء كان هذا العمل تعبًا أو صومًا أو سهرًا أو سكونًا أو أعمال رحمة. وكل شيء يُعمل من أجل الله يصير حلوًا لهم، إلى أن يعلمهم كل شيء (يو26:14). وحينما يكون قد علمهم كل هذه الأشياء، فإن الواحد منهم يكون معرضًا للتجربة. وعندئذ (أي وقت التجربة) فإن كل الأشياء التي كانت قبلاً حلوة لهم تصير ثقيلة عليهم، ولهذا السبب فإن كثيرين حينما يُجربون يظلون في حالة ثقل ويصيرون جسدانيين. هؤلاء الذين يقول عنهم بولس، ” أبعد ما ابتدأتم بالروح تكملون بالجسد؟ أهذا المقدار احتملتم عبثًا؟ ” (غل3:3،4). وبدون هدف؟

مقاومة الشيطان في التجربة:

          ولكن إن قاوم الإنسان الشيطان في تجربته الأولي وهزمه، فحينئذ يعطيه الله حرارة مملوءً سلامًا، وتعقلاً وثباتًا. لأن الحرارة الأولي يشوبها الاضطراب وعدم التعقل.

الحرارة الثانية:

          أما الحرارة الثانية فهي أفضل من الأولى، وهي تولد في الإنسان قدرة على رؤية الأمور الروحية أثناء جهاده في المعركة العظيمة، إذ يكون له صبر غير مضطرب. فكما يحدث مع السفينة عندما تكون الريح حسنة فإن دفتاها تدفعان أكثر، وهكذا تقطع السفينة مسافة كبيرة، وهكذا أيضًا فإن البحارة يفرحون ويكونون في راحة واطمئنان. وبمثل هذا تكون الحرارة الثانية إذ تعطى الإنسان هدوءً وسلامًا في كل شيء وفي كل طريق.

          والآن يا أبنائى الأعزاء اقتنوا لأنفسكم هذه الحرارة الثانية، لكي تكونوا متأصلين ومتأسسين في كل شيء. لأن الحرارة التي يكون الله هو غايتها وهدفها تلغى كل الأهواء الخداعة، وتمسح وتبطل عتاقة الإنسان العتيق، وتجعل الإنسان هيكلاً لله، كما هو مكتوب ” إنى سأسكن فيهم وأسير بينهم (2كو17:6). فإذا كنتم ترغبون أن تعود إليكم الحرارة التي كانت فيكم سابقًا ثم خمدت وأن تأتى إليكم من جديد، فهذا هو العمل الذي يلزم للإنسان أن يعمله: ينبغي أن يقطع عهدًا بينه وبين الله، ويصرخ إليه بأنين القلب وبكل قلبه ويقول له: ” اغفر لي ما فعلته بجهلى، وأنني لن استمر في العصيان “.

          وبعد ذلك لا ينبغي أن يسير تحت سلطان إرادته الذاتية لإرضاء ذاته سواء في جسده أو في نفسه، بل بالأحرى ينبغي أن ترتفع أفكاره إلى الله وأمام الله، بينما هو يؤنب ويوبخ نفسه قائلاً، ” كيف احتقرت الصلاح، واستخففت بحالة فراغك وعقمك كل هذه الأيام! “. ينبغي أن تتذكر كل العذابات، وتتذكر الملكوت الأبدي، موبخًا نفسك في كل الأوقات وقائلاً لها: ” انظرى مقدار الكرامة التي أعطاها الله لك، وأنت أهملتها وازدريت بها”. حينما يقول الإنسان هذا لنفسه، موبخًا إياها ليلاً ونهارًا، فإن الحرارة الإلهية تحل عليه فجأة، وهذه الحرارة الثانية هي أعظم من الحرارة الأولى. لأنه حينما رأي داود النبي الثقل الذي أتى عليه قال: ” تفكرت في أيام القِدم السنين الدهرية وتأملت فيها ” (مز5:77).

          ويقول أيضًا “تذكرت أيام القِدم ولهجت بكل أعمالك، بصنائع يديك أتأمل وبسطت إليك يدى. نفسي تعطش إليك كأرض يابسة ” (مز5:143،6). وأيضًا إشعياء يقول: ” بالرجوع والأنين تخلصون، وتفهمون كيف كان الأمر معكم ” (إش15:30السبعينية).

 

الرسالة 17

والآن يا إخوتي، وأحبائي في الرب، الذين أحبكم بكل قلبي، إني أسمع أن التجربة تتعبكم، وأخاف أن تكون التجربة آتية عليكم من أنفسكم.

التجربة الآتية من الدوافع الذاتية:

          لأني سمعت أنكم تريدون أن تتركوا موضعكم، وحزنت حينما سمعت هذا، رغم أنه قد مضى وقت طويل منذ أن أصابني ذلك الحزن. لأني أعلم بصورة أكيدة، أنكم إن تركتم موضعكم الآن، فلن تتقدموا أو تنموا بالمرة. لأن هذا ليس هو مشيئة الله، وإذ تصرفتم بمشيئتكم الخاصة، فإن الله لن يعمل معكم ولن يخرج معكم، وأخاف أننا سنسقط في شرور كثيرة (نتيجة لذلك).

أخطار أتباع المشيئة الذاتية:

          فإذا تبعنا مشيئتنا الخاصة، فإنه لا يعود يرسل قوته التي تثرى وتبنى وتثبت كل طرق الإنسان. فإذن كان الإنسان يفعل شيئًا، متخيلاً أن هذا الشيء هو من الله، بينما هو في الحقيقة تعبير عن مشيئته الخاصة، فإن الله لا يمده بالعون، وتجد أن قلبه قد أصابته مرارة، وأصبح ضعيفًا في كل شيء تمتد إليه يده. وأن المؤمن على أمل التقدم إلى الأفضل يمكن أن يمضى في طريق خطأ وتكون النتيجة أن يُهزأ به (من الشياطين). فإن حواء لم تنخدع بوهم آخر سوى الصلاح والتقدم. لأنها حينما سمعت “ستصيران مثل الله ” (تم5:3) وفشلت أن تميز صوت المتكلم، فإنها عصت وصية الله، وبذلك فإنها ـ ليس فقط لم تأت بصلاح، بل ايضًا صارت تحت اللعنة.

          وسليمان يقول في الأمثال: ” توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة ولكن عاقبتها تكون إلى الهاوية ” (أم12:14). وهو يقول هذا عن أولئك الذين لا يفهمون مشيئة الله، بل يتبعون مشيئتهم الخاصة. فإن مثل هؤلاء الناس، إذ لا يعرفون مشيئة الله، فإنهم يقبلون في البداية حرارة وحماسًا من الشيطان تشبه الفرح، ولكنها ليست فرحًا، وفيما بعد تتحول هذه الحرارة إلى كآبة ويفتضح الشيطان بوضوح. أما الذي يتبع مشيئة الله، فإنه يحتمل تعبًا كثيرًا في البداية، ولكن فيما بعد يجد راحة وفرحًا. إذن فلا تفعلوا شيئًا بحسب مشيئتكم الخاصة، حتى آتى وأتحدث إليكم.

الدوافع الثلاثة ومعرفة مشيئة الله:

          توجد ثلاثة دوافع تحرك الإنسان في أي مكان، وغالبية النُساك يجهلونها، ما عدا أولئك الذين صاروا كاملين، الذين يقول عنهم الكتاب: “أما الطعام القوى فللبالغين، الذين بسبب التمرن صارت حواسهم مدربة للتميز بين الخير والشر” (عب14:5). فما هي هذه الدوافع الثلاثة ؟:

            أحد هذه الدوافع يأتى به العدو، ودافع آخر ينشأ من القلب، بينما الدافع الثالث يزرعه الله في الإنسان. ومن بين هذه الثلاثة، فإن الله يقبل الدافع الذي هو منه فقط.

          لذلك، امتحنوا أنفسكم، أي من هذه الدوافع هو الذي يلح عليكم أن تتركوا موضعكم. فلا تتركوا موضعكم إلى أن يأذن الله لكم. وأنا أعلم ما هي مشيئة الله بالنسبة لكم، ولكن من الصعب عليكم أن تتعرفوا على مشيئة الله. فإذا لم ينكر الإنسان ذاته، وينكر مشيئته الخاصة، ويطيع آبائه الروحيين، فإنه لن يستطيع أن يتعرف على مشيئة الله، وحتى إذا عرفها، فإنه يحتاج إلى معونة الله لتعطيه القوة لكي يتمم هذه المشيئة.

التعرف على مشيئة الله ثم العمل بها:

          وهكذا أنتم ترون، أن التعرف على مشيئة الله واكتشافها هو أمر عظيم، أما ما هو أعظم منه فهو أن نعمل هذه المشيئة. أما يعقوب فقد كانت عنده هذه القوات (أي معرفة مشيئة الله، والعمل بها) لأنه أطاع والديه. فإنهما حينما أخبراه أن يمضى إلى ما بين النهرين، عند لابان (أنظر2:28)، أطاع في الحال، رغم أنه لم يكن يريد أن ينفصل عن والديه. وبسبب طاعته ورث البركة. ولو لم أكن أنا ـ أبوكم الروحى ـ قد أطعت آبائى الروحيين قبل ذلك، لما أعلن الله مشيئته لى. لأنه مكتوب: ” بركة الأب تبنى بيوت البنين ” (جا9:3).

          وإن كنت أنا قد احتملت أتعابًا كثيرة في البرية والجبال، طالبًا الله نهارًا وليلاً، إلى أن أعلن الله مشيئته لى، أفلا تسمعون الآن لأبيكم في هذا الأمر، وذلك لأجل راحتكم وتقدكم.

          ولكنى سمعت أنكم تقولون: ” إن أبانا لا يعرف مقدار تعبنا، وكيف هرب يعقوب من عيسو “. ولكن ألاّ تعرفون أنه لم يمض من نفسه، بل أُرسل من والديه. أفلا تتمثلون إذن بيعقوب، وتظلون في مكانكم إلى أن يطلقكم أبيكم، لكي يبارككم حينما تذهبون، وحينئذ فإن الله يبارك أعمالكم.

          كونوا معافين في الرب. آمين.

 

الرسالة 18

حياة الهدوء:

          وأنتم تعلمون أيضًا، يا  إخوتي الأحباء، أنه منذ أن حدثت المعصية (الأولى)، فإن النفس لا تستطيع أن تعرف الله إن لم تبتعد عن الناس، وعن كل تشتت. لأن النفس حينئذ سوف ترى العدو الذي يحارب ضدها. وحينما تكون قد رأت العدو وانتصرت عليه في كل مرة يحارب ضدها، فإن الله يسكن في تلك النفس، ويتحول كل تعبها إلى فرح وابتهاج. أما إذا انهزمت النفس، فحينئذ يأتى عليها حزن، وضجر، وأنواع أثقال أخرى كثيرة. ولكنها لا ينبغي أن ترتعب (وتفشل)، لأن (الأعداء) لن يكون لهم سلطان عليها إذا سارت في هدوء.

الخروج من الهدوء بأمر الله:

          ولهذا السبب فإن الآباء القديسين أمثال إيليا التشبي ويوحنا المعمدان، اعتزلوا في البرية على انفراد. فلا تظنوا أن هؤلاء الرجال الأبرار حققوا برهم عن طريق وجودهم وسط الناس. بل بالأحرى، فإنهم مارسوا أولاً هدوءً كثيرًا، وبعد ذلك حصلوا على حلول قوة الله فيهم، وبعد ذلك أرسلهم الله إلى وسط الناس وهم قد اقتنوا جميع الفضائل، لكي يكونوا هم حاملي المؤن الإلهية، ويشفوا الناس من ضعفاتهم. فإنهم كانوا أطباء للروح، قادرين على شفاء ضعفات الناس. ولأجل الحاجة إلى الشفاء فإنهم أُخذوا من هدوئهم وأُرسلوا إلى الناس.

 

الخروج من الهدوء بالمشيئة الذاتية:

          ولكنهم لم يُرسلوا إلاّ بعد أن شُفيت جميع أمراضهم الخاصة لأن النفس لا يمكن أن تُرسل إلى وسط الناس لأجل بنيانهم إن كان فيها بعض النقائص. وأولئك الذين يذهبون قبل أن يكملوا، إنما يذهبون بمشيئتهم الخاصة وليس بمشيئة الله. ويقول الله موبخًا مثل هذا التصرف: ” أنا لم أرسلهم، ولكنهم جروا من أنفسهم ” (إر21:23). ولهذا السبب فإنهم لا يستطيعون لا أن يحفظوا أنفسهم ولا أن يبنوا أي نفس أخرى.

طاعة أمر الله والتشبه بالمسيح:

          أما أولئك الذين يُرسَلون من الله فإنهم لا يريدون أن يتركوا هدوءهم، إذ يعرفون أنهم بواسطة الهدوء قد حصلوا على القوة الإلهية، ولكنهم لكي لا يعصوا الخالق (الذي يأمرهم بالذهاب)، فإنهم يخرجون متمثلين به، لأجل البناء الروحي للناس. كما أرسل الآب ابنه الوحيد من السماء لكي يشفي كل ضعفات وأمراض البشر. كما هو مكتوب: ” هو أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا ” (إش4:53).

          وهكذا كل القديسون الذين جاءوا وسط الناس لكي يشفوهم، فإنهم يتبعون مثال خالق الكل، لكي يُحسبوا أهلاً بالتبني كأبناء لله ويملكون إلى دهر الدهور مع الآب والابن.

          فانظروا يا أحبائي ها أنا قد عرّفتكم قوة الهدوء، وكيف أنه يشفي من كل ناحية، وإنه إرادة الله لنا. ولهذا السبب كتبت إليكم، لكي تتشددوا فيما أنتم تفعلون، وتعرفوا أن جميع القديسين نموا وتقدموا في الهدوء، ولأجل هذا السبب أتت القوة الإلهية وسكنت فيهم، وكشفت لهم الأسرار السماوية، ولذلك طردوا بعيدًا كل عتاقة هذا العالم وفساده. والذي يكتب إليكم هذا قد وصل إلى هذه القامة بواسطة الهدوء.

حياة الهدوء وجحد الذات:

          إن رهبانًا كثيرين في الوقت الحاضر لم يستطيعوا أن يثبتوا في الهدوء لأنهم لم يستطيعوا أن ينتصروا على إرادتهم الذاتية. ولهذا السبب فإنهم يعيشون بين الناس في كل الأوقات، لأنهم لا يستطيعون أن يجحدوا ذواتهم، ويهربوا من معاشرة الناس، أو لا يستطيعون أن يجاهدوا في الرب، ولذلك فإنهم يتركون الهدوء، ويظلون في رفقة أقربائهم وجيرانهم لينالوا تعزيتهم منهم، طوال حياتهم. ولذلك فإنهم لم يُحسبوا أهلاً للحلاوة الإلهية أو لنوال سكنى القوة الإلهية في داخلهم، فإن تلك القوة حينما تتطلع إليهم من فوق، تجد أنهم ينالون تعزياتهم من هذا العالم ومن الشهوات التي تخص النفس والجسد. وكنتيجة لذلك فإن القوة الإلهية لا تعود تستطيع أن تظللهم، إذ أن محبة المال ومحبة المجد البشرى الباطل، وكل أمراض النفس وارتباكاتها، تمنع تلك القوة الإلهية من أن تظللهم.

          فكونوا أقوياء فيما أنتم تفعلون. وان أولئك الذين يتركون الهدوء لا يستطيعون أن يغلبوا شهواتهم، ولا أن يقاتلوا ضد عدوهم، لأنهم مستعبدين لشهواتهم. أما أنتم فإنكم تغلبون الشهوات، وقوة الله حاضرة معكم.

          كونوا معافين في الروح القدس.

 

الرسالة 19

          أحييكم في روح الوداعة المملوءة بالسلام، والذي يفوح رائحة زكية حلوة في نفوس الأبرار.

رائحة الروح القدس:

          فمن هم الذين عرفوا لذة ذلك الروح وحلاوته إلاّ الذين حُسبوا أهلاً أن يحل فيهم. لأن ذلك الروح لا يحل في أي نفس كيفما اتفق، ولكنه يحل فقط في أولئك الذين يتطهرون تمامًا من شهواتهم، لأنه روح قدوس، ولا يستطيع أن يدخل في نفس نجسة.

الروح يحل في الأطهار:

          ولهذا السبب فإن الرب لم يعطى هذا الروح للرسل إلاّ بعد أن تطهرت نفوسهم. ومن أجل ذلك قال لهم، ” إن ذهبت، سأرسل إليكم المعزى، روح الحق، وهو سيخبركم بكل شيء ” (يو7:16،13). لأن هذا الروح منذ هابيل وأخنوخ وإلى هذا اليوم يعطى نفسه لنفوس أولئك الذين قد طهروا أنفسهم تمامًا.

روح التوبة والروح القدس:

          لأن الروح الذي يظلل نفوسًا أخرى ليس هو هذا الروح وإنما هو روح التوبة، وحينما يظللهم روح التوبة، فإنه يدعوهم ويغسلهم من نجاستهم ويجعلهم أنقياء تمامًا، وحينئذ يقدمهم للروح القدس، وهذا الروح لا يكف عن أن يسكب عليهم رائحة ذكية وحلاوة كما سبق وقرأنا ” من هو الذي عرف بهجة الروح، إلاّ أولئك الذين جعل مسكنه فيهم؟ “. وأن كثيرين لم يُحسبوا مستحقين حتى لروح التوبة، أما روح الحق فإنه يسكن فقط في نفوس قليلة في كل جيل.

فإن الجوهرة كثيرة الثمن لا توجد في كل بيت، بل يصعب وجودها حتى في بيوت الملوك، وهكذا أيضًا هذا الروح فإنه لا يوجد إلاّ في نفوس الأبرار الذين جُعلوا كاملين.

نوال الروح والتسبيح لله:

          وأولئك الذين حُسبوا أهلاً له قد قدموا تشكرات عظيمة لله قائلين، “نسبحك يا الله، لأنك منحتنا الروح الذي أعطيته لخدامك “. وبالحقيقة فإن كل الأبرار الذي أُرسل إليهم الروح قدموا تشكرات عظيمة لله. فإن هذا هو ” الجوهرة ” التي يخبرنا عنها الإنجيل (أنظر مت44:13)، التي اشتراها التاجر الذي باع كل ممتلكاته. هذا هو ” الكنز المخفي في الحقل الذي وجده إنسان “، ففرح فرحًا عظيمًا. وهذا الروح يعلن أسرارًا عظيمة للنفوس التي يسكن فيها، ويجعل ليلهم مثل النهار. وهو يملأ أرواحهم بينما هم لا يزالون في هذه الخيمة (الجسدية). فانظروا ها أنا أعلمتكم ببعض أفعال هذا الروح القدوس وأريدكم أن تعرفوا، أنه منذ اليوم الذي فارقتكم فيه، أنجح الرب طريفي في كل شيء إلى أن وصلت إلى موضعي، والآن وأنا في وحدتي، فهو يُنجح طريفي أكثر ويعضدنى في الخفاء وفي العلانية. ولقد كنت أرغب أن تكونوا بالقرب منى لكي أعرفكم بالإعلانات التي أعطاها الروح لي. لأنه كل يوم يكشف لي إعلانات أخرى غير السابقة.

نوال الروح والتجربة:

          وأريد أيضًا أن أعرفكم عن التجربة. فأنتم تعلمون أن التجربة لا تأتى على إنسان إن لم يكن قد نال الروح وحينما يقبل الروح، فإن الروح يسمح للشيطان أن يجربه. ولكن من الذي يسلمه للتجربة؟ روح الله هو الذي يسلمه. لأنه يستحيل على الشيطان أن يجرب مؤمنًا، إن لم يسلمه الله للتجربة. ولذلك فحينما تجسد الرب، وصار مثالاً لنا في كل الأشياء، حينما اعتمد لأجل أن يعلمنا البر، وأتى عليه الروح مثل حمامة، فحينئذ اقتاده الروح إلى البرية ليجرب من إبليس، وإبليس لم يكن له قوة عليه.

          ولكن قوة الروح تقوى المؤمنين أكثر، بعد التجربة، وتزيد قامتهم. وهكذا كانت تجربتى. لأنه كما أن الرب حينما نزل من السماء، وجد جوًا آخر مظلمًا على الأرض، وأيضًا حينما كان مزمعًا أن ينزل إلى الهاوية (بالصليب)، رأي جوًا أكثر ثقلاً من الجو الأول وقال ” الآن نفسي قد اضطربت ” (أنظر يو27:12)، وهكذا أيضًا على نفس المثال تألمت أنا أيضًا بكل أنواع التجارب، واضطربت نفسي أيضًا، ولكننى أعطى المجد لله الذي أعبده وأخدمه منذ حداثتي، من كل قلبي، والذي أنا أطيعه في كل شيء سواء كان في هوانٍ أم في مجد، لأنه رفعني من ظلمة الأعداء وردنى إلى الرفعة الأولي مرة أخرى، كما رد آدم والقديسين إلى رتبتهم الأولى، لأنه مكتوب: ” إذ صعد للعلاء سبي سبيًا وأعطى الناس عطايا ” (أف8:4).

          وأنا أعرفكم يا أحبائي أن تجربتي الأخيرة هذه تشبه تجربة يوسف الأخيرة. فحينما وصل يوسف الطوباوي إلى تجربته الأخيرة في السجن (أنظر تك20:29) اضطرب أكثر من كل التجارب الأخرى السابقة. ولكنه بعد السجن ـ الذي هو مثال للهاوية ـ من ذلك الوقت فصاعدًا لم تصبه أي تجربة. وهكذا يا أبنائي المحبوبين أُعطى كرامة كاملة، لأنه صار ملكًا، (أنظر تك40:41)، ولذا فإني لم أخفِ عنكم ما تعرضت له من التجربة، وعرفتكم بالحالة التي أنا فيها في هذه الأيام.

مثال الكاملين:

          وبعد أن كتبت لكم هذا الكلام، تذكرت الكلمة المكتوبة في حزقيال عن مثال الكاملين. فإنه رأي عند نهر خابور، كائنًا حيًا له أربعة أوجه وأربعة أقدام وأربعة أجنحة، والأوجه الأربعة هي وجه كاروب ووجه إنسان ووجه ثور ووجه نسر (حز1، وأنظر حز14:10). أما وجه الكاروب فيُرى عندما يستريح روح الله في النفس ويقودها لتقديم التسبيح بجمال وحلاوة.

          ولكن حينما يريد الروح أن ينهض لكي يطلب إنسانًا فإنه يأخذ وجه إنسان. وماذا يكون وجه الثور إلاّ حينما تقف النفس للجهاد والحرب ضد قوات الشر، فإن الروح يعينها مثل ثور قوى يستطيع أن يجرح الشيطان بقرنه.

          وماذا عن وجه النسر؟ إن النسر يطير عاليًا أكثر من جميع الطيور الأخرى، وحينما ترتفع النفس عاليًا ـ كما لو كانت ـ بوجه نسر، فإن الروح يدخل فيها ويجعلها تبقى في العلاء، إلى جوار الله.

          ويوجد الكثير من الكلام عن هذا الكائن الحي. الذي كلمتكم عنه قليلاً فقط. ولكن إذا صليتم فسآتي إليكم، وستدخلون معي إلى ” بيت إيل “، وهناك سنكمل نذورنا ونقدم محرقتنا كاملة، وهي التي نطقت بها شفتانا (أنظر مز13:66،14)، وحينئذ سنشرح عن هذا الكائن الحي بحسب قدرتنا. لأن بيت إيل معناها ” بيت الله “. ولذلك فإن الله يحارب عن بيته الذي دُعي باسمه.

الشركة في التعب وفي المجد:

          سلامى لكل لأولئك الذين يشتركون في أتعاب وعرق آبائهم في التجربة، كما يقول يوحنا ” بعرق الإنسان يتمجد الله “، هكذا النفس أيضًا بعرقها يصيرها الرب شريكة له. وهكذا كل الذين يصيرهم شركاء في ثمار تعبه، لأنه مكتوب ” إن كنا نتألم معه، فسنحيا أيضًا معه ” والرب أيضًا يقول لتلاميذه: ” أنتم الذين تعبتم معى في تجاربي، وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي ” (لو28:22ـ30).

          وهكذا ترون يا أحبائي أن الذين يصيرون شركاء في الأتعاب يصيرون شركاء في الراحة أيضًا، والذي يصير شريكًا في احتمال الهوان يكون شريكًا في الكرامة أيضًا. لذلك مكتوب أيضًا في الآباء، ” الابن الصالح هو الذي يرث ميراث آبائه وبركاتهم “.

          وهذا هو أيضًا ما قد زرعناه: إنه زرع الله، والأبناء الصالحين هم أولئك الذين يرثون ميراثنا وبركتنا.

          وحقًا أقول لكم أنني أذكركم دائمًا في صلواتي وأنا أنظر إليكم بالروح كنظر الوالدة الحنون على أولادها. ومرات كثيرة أراد سيدي الرب أن يريحني من أتعاب هذا الجسد ويأخذ نفسي إليه. ولكن لأجل استراحة روح الرب عليكم، قد ترك روحى المسكينة في جسدها لأجل تربيتكم. وقال لها: إنك والدة حسنة ومربية صالحة، فاعتنى عناية شديدة بأولئك الذين في رعايتك، لأنه يسر الله أن يأخذك من هذه الخيمة بعد أن تتركى وراءك زرعًا صالحًا، لأني أعلم أنك معلم ومربي أمين. ولكن نذكر أنه لأجل هذا النسل قد تركك الله في هذه الخيمة (أي في الجسد).

          كونوا معافين في الرب، في روح السلام الوديع الذي يسكن في نفوس الأبرار.

 

هذا هو كتاب أبيكم الذي كتبته لكم، وهذا هو ميراث الآباء الروحانيين الذين يورثونه لأولادهم ويتركونه لهم ليرثوه بالبر. فالآباء الجسديون يتركون لأولادهم تركة ميراث من الذهب والفضة. أما الأبرار فيتركون لأولادهم ميراث البر. وانظروا إلى رؤساء الآباء الذين رغم أنهم كانوا أغنياء في الذهب والفضة، إلاّ أنهم عند وفاتهم لم يُعطوا لأولادهم أي وصية إلاّ بخصوص البر، الذي يبقى إلى دهر الدهور. فإن الذهب والفضة تزول وتضمحل، وهي تخص هذه الخيمة الجسدية القصيرة العمر، أما البر فهو يخص ذلك المسكن الذي يدوم للإنسان إلى دهر الدهور.

          كونوا معافين في الرب وفي مسرة البر الذي يعطيها الله لكم يومًا فيومًا إلى أن تخرجوا من هذا الجسد.

 

 

[1] يستعمل القديس أنطونيوس كلمة جسد بمعنى إيجابى جدًا ليعبر به عن الإنسان كله، وذلك حسب تقليد العهد القديم العبرى حينما يتكلم عن الإنسان بكلمة جسد مثل ” ويبصر كل جسد خلاص الله ” أى ” كل بشر ” وكاستعمال إنجيل يوحنا ” الكلمة صار جسدًا ” أى صار ” إنسانًا ” وبهذا فإن تعليم القديس أنطونيوس بعيد تمامًا عن أى فكرة تعتبر الجسد شريرًا في جوهره. فالجسد الحى هو الإنسان الذى يحيا بالروح ويعمل مشيئة الله، والجسد الميت هو الإنسان يعيش في الشر في داخله حتى لو كان يتظاهر بأعمال البر.

[2] كتاب صعود إشعياء (21:8). وهو وثيقة يهودية مسيحية من القرن الثانى تصف رحلة روح إشعياء النبى بعد استشهاده وصعوده إلى السماوات.

رسائل القديس أنطونيوس ج3