أبحاثمُترجَم

مراحل تأصيل الأناجيل – دونالد كارسون – دوجلاس مو – ترجمة ودراسة: أمير يعقوب

مراحل تأصيل الأناجيل – دونالد كارسون – دوجلاس مو – ترجمة ودراسة: أمير يعقوب

مراحل تأصيل الأناجيل - دونالد كارسون - دوجلاس مو - ترجمة ودراسة: أمير يعقوب
مراحل تأصيل الأناجيل – دونالد كارسون – دوجلاس مو – ترجمة ودراسة: أمير يعقوب

مراحل تأصيل الأناجيل – دونالد كارسون – دوجلاس مو – ترجمة ودراسة: أمير يعقوب

مراحل تأصيل الأناجيل (1)

في سياق التحقق بأصول الاناجيل توجد مناهج متميزة عديدة وقد ظهرت خلال القرنين الماضيين كل منها يبرز سمات ومراحل مختلفة للمسألة. ثلاثة مناهج بالتحديد اظهرت مشاركات هامة لمسألة اصول الاناجيل وتطورها:

  • نقد النموذج (form criticism) الذي يركز على فترة الانتقال الشفهي.
  • ونقد المصدر (source criticism) والذي يركز على طريقة وضع الفقرات الادبية المختلفة لعمل الاناجيل.
  • ثم نقد التعديل (redaction criticism) الذي يركز على مساهمات كتاب الاناجيل الادبية واللاهوتية.

هذه المناهج تتواءم عموما مع الثلاثة مرحل المذكورة في مقدمة انجيل لوقا. غالبية نقاد الانجيل المعاصرون يوظفون هذه المناهج الثلاثة بالتزامن فيما يعرف بتحليل التقاليد (traditions analysis) أو نقد التقليد (tradition criticism) وبالرغم من ذلك فان هذه المناهج الثلاثة متميزة تاريخيا ومنهجيا.

 

أولا: مرحلة التقاليد الشفهية (Oral Traditions)

او ما يعرف بنقد النموذج أو الشكل:

لنبدأ بنقد النموذج بالرغم من ظهوره بعد ذروة نقد المصدر الا انه يركز على المرحلة الاقدم في العملية التي فيها اصبحت الاناجيل في المرحلة الشفهية. هذه كانت الفترة الزمنية قبل وجود اي مصدر أولى مكتوب لحياة وتعليم الرب يسوع. والتي خلالها صارت الأناجيل تنتقل بكلمة الفم. وإذا كان انجيل مرقس يرجع لمنتصف خمسينات القرن الاول الميلادي فان هذه المرحلة للانتقال الشفهي لابد انها استمرت عشرين سنة على الاقل.

ان دراسة الفترة الانتقالية لتقليد يسوع الشفهي حتى وصوله لشكله النهائي المكتوب يسمى أحيانا نقد التقليد أو تاريخ التقليد. ويقول بروس شيلتون: “ان نقد التقليد يركز على الفترة القصيرة نسبيا بين يسوع واول مصدر مكتوب للعهد الجديد”.

ويشرح لنا ستيفين ترافيس اهداف نقد النموذج: “ان نقد النموذج يهدف الى تصنيف كتب العهد الجديد حسب أسلوبها الأدبي وتحليل الوحدات الصغيرة لمادة التقليد حسب النموذج أو الشكل الذي تتبعه خلال الفترة الشفهية”

تم تطبيق نقد النموذج أولا على العهد القديم بواسطة الباحث هيرمان جانكل (Hermann Gunkel) ثم طبق بدراسات العهد الجديد في العقدين الثاني والثالث من هذه القرن بواسطة مجموعة ثلاثية من الباحثين الذين عرفوا منهج نقد المصدر هؤلاء الباحثين هم كارل شميدت ومارتن ديبليوس ورودلف بولتمان. وبالرغم من اختلافهم في العديد من النقاط الهامة إلا أنهم يشتركون في ست افتراضات على الأقل التي صارت قواعد نقد النموذج:

  1. قصص واقوال يسوع انتشرت في وحدات صغيرة مستقلة. ونقاد النموذج المبكرين يرون استثناء في رواية الالام التي يعتقدون أنها كانت عمل أدبي ذاتي متضمن منذ فترة مبكرة جدا. إلا أن هذا الاستثناء لم يعترف به العديد من النقاد المعاصرين.
  2. انتقال مادة الإنجيل يمكن مقارنته بانتقال التقاليد الدينية والشعبية الاخرى. وتقع مسئولية هذا الانتقال على عاتق الأفراد داخل المجتمعات حيث تأخذ المادة شكل وتدون. قواعد الانتقال المحددة والملحوظة عموما في أي حالة للانتقال الشفهي يمكن تطبيقها على انتقال الأناجيل.
  3. قصص وأقوال الرب يسوع أخذت نماذج أو أشكال قياسية محددة (منها جاء لفظ نقد النموذج أو الشكل أو تاريخ النماذج) حيث مازال الجزء الأعظم مرئيا بسهولة في الاناجيل. نقاد النموذج لم يتفقوا على عدد وطبيعة هذه النماذج بالضبط.
  4. نموذج قصة أو قول معين يجعل من الممكن ان يستنتج طريقة رسوخه في حياة الكنيسة المبكرة.
  5. وبانتشار أقوال وقصص يسوع فإن التجمعات المسيحية المبكرة لم تضع هذه المادة في نماذج محددة فقط بل وظفتها بدافع احتياجاتها ومواقفها الخاصة.

يختلف نقاد النموذج بشدة في درجة توظيف وتكوين مادة الانجيل بالكنيسة المبكرة. مثلا بولتمان يعتقد ان التأثير كان ضخما وناسبا الكثير من مادة الانجيل الى الكنيسة المبكرة واوجد القليل المعتبر من كرازة الرب يسوع الارضية. وقد نسب الكثير من مادة الانجيل للكنيسة المبكرة لأنه ومعه العديد يعتقدون ان الكنيسة المبكرة لم تكن منشغلة بالتمييز بين الاشياء التي قالها يسوع حين كان على الارض والاشياء التي استمر في قولها من خلال الانبياء في حياة الكنيسة.

الاحكام التاريخية الراديكالية مثل هذه ليست جوهرية في نقد النموذج والعديد من نقاد النموذج أكثر محافظة في تقييماتهم التاريخية. فينست تايلور أحد النقاد المحافظين الذي حدد تأثير الكنيسة المبكرة اساسا في ترتيب مادة الانجيل. ولكن هناك استثناءات للقاعدة ولابد من القول ان الغالبية العظمى من نقاد النموذج اظهروا قبولهم كتضمين قياس جيد للتشكيك التاريخي.

  1. قام نقاد النموذج الكلاسيكيين بتحديد معايير متنوعة لمساعدتهم في استنتاج عمر وتوثيق تاريخي للمقاطع. هذه المعايير قد تأسست على قوانين انتقال محددة التي تصلح لاي مادة شفهية منتقلة. وحسب هذه القوانين يميل الناس الى:
  • تمديد قصصهم
  • اضافة تفاصيل اليها
  • تكييفها بلغتهم أكثر
  • ثم حفظ وتكوين ما يناسب احتياجاتهم الخاصة ومعتقداتهم.

وبناء على قواعد هذه القوانين فإن العديد من نقاد النموذج صرحوا بأن مادة الإنجيل الأقصر والأقل تفصيل والمتضمنة ألفاظ سامية والتي لا توافق اهتمامات الكنيسة المبكرة أو يهودية القرن الأول الميلادي هي الأقدم وعليه تعتبر تاريخية.

هذا المعيار الاخير والذي يسمى “معيار اللاتشابه أو التباين (criterion of dissimilarity)” هام خاصة للنقاد الأكثر راديكالية. وباستبعاد أي شيء ربما تكون بواسطة الكنيسة المبكرة أو اقتطف من المحيط اليهودي فإنه من الممكن تأمين حد أدنى مؤكدا نقديا للأقوال والأفعال والتي يعتمد عليها الفهم التاريخي للرب يسوع.

مثلا معيار التباين هذا يرجح أن العدد (مرقس 13: 32) “واما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن الا الآب.” أصلي للرب يسوع لأنه يستخدم لغة ليست يهودية ويتضمن فرضية “تجاهل يسوع” (Jesus’ ignorance) والتي قاومت نظرة الكنيسة المبكرة. أيضا معيار خامس مرتبط به باعتبار أصالة المادة المعزولة بسبب معيار التباين بينما معيار سادس “الإقرار أو التصديق المتعدد” (multiple attestation) يعطي أفضلية لمادة وجدت في أكثر من تقليد ساري [مثلا انجيل مرقس والمصدر “ق” (Q)].

 

 

مراحل تأصيل الأناجيل (2): معايير الأصالة التاريخية:

توجد قائمة بالمعايير التي افترضت بواسطة عدد من الباحثين. والفكرة هنا إنه كلما زاد عدد المعايير المطبقة على قول معين أو قصة للرب يسوع تزداد الثقة بخصوص حقيقة عودة القول أو القصة موضع التساؤل للرب يسوع نفسه.

هذه المعايير كما يلي:

  • التأكيدات المتعددة
  • تعدد النماذج
  • السمات اللغوية الآرامية
  • السمات البيئية الفلسطينية
  • الميول تطوير التقليد
  • التباين المزدوج من اليهودية والمسيحية
  • التغييرات اليهودية المسيحية
  • التمايز عن أسلوب البشير
  • الارتباط بالأقوال الأصلية

 

ويفترض الباحثون المشككون أن فقرات الإنجيل التي تحوز درجة شك أقل عند تطبيق المعايير السابقة تعتبر أصلية وتعود للرب يسوع بينما الباحثون المحافظون يفترضون أن الأقوال أصلية بذاتها ما لم تتكون درجة شك معينة عند تطبيق معايير الأصالة.

 

وقد تم اقتراح معيارين سلبيين ينفيان الأصالة هما:

  • الاستحالة البيئية
  • التضارب مع الأقوال الأصلية

 

إن التشكيك التاريخي الذي يميز العديد من نقاد النموذج المرموقين قد أعطى نقد المنهج نفسه سمعة مهاجمة تاريخية الأناجيل. ونقد النموذج كعلم أدبي يستوجب عدم إصدار أحكام استباقية بخصوص تاريخية المادة محل التحليل. علاوة على ذلك العديد من الفرضيات التي يعتمد عليها نقد النموذج تبدو قاطعة:

  • حيث يوجد بالفعل فترة انتقال شفهية أساسية لمادة الإنجيل كثير منها في وحدات صغيرة
  • ويوجد ايضا ميل لهذه المادة لأخذ شكل قياسي معين
  • والكنيسة المبكرة بلا شك قد أثرت في طريقة تدوين هذه المادة.

 

أنواع النماذج في الأناجيل الازائية:

  • الحوارات: حسب ديبليوس فإن هذه الفقرات تتميز بأن أهم نقطة فيها هى آخر تعليق بالقصة وهى قصة قصيرة وتتضمن عنصر ديني وهى تصلح للتعليم.

وقد قسم بولتمان هذا النوع من النماذج إلى حوارات تناظرية وذلك عندما يكون المحاور من معارضي يسوع (مرقس 3: 1-6) وحوارات تدارسية عندما يكون المحاور من التلاميذ (مرقس 2: 28-34) بالإضافة إلى الأقوال الشخصية (biographical apophthegms).في (لوقا 9: 57-62)

أمثلة: الحوار بخصوص قطف السنابل في السبت (مرقس 2: 23-28)، الحوار مع الشاب الغني (مرقس 10: 17-31) والحوار مع مريم ومارثا (لوقا 10: 38-42).

  • المعجزات: هذه الفئة من النماذج متكاملة لها بداية ونهاية واضحة ويمكن تقسيمها حسب نوع المعجزة مثل معجزات إخراج الشياطين (مرقس 5: 1-20، 9: 14-29) والشفاء من الأمراض (مرقس 1: 40-45، 5: 21-43) والإقامة من الموت والظهورات ومعجزات الطبيعة (مرقس 4: 35-41، 6: 35-44، 45-52) وهي تتميز بعدم احتوائها على تعاليم.
  • الحوادث: هذه النماذج التي لا تستلزم بالضرورة عدم تاريخية هذه الأحداث وقد دعاها بولتمان القصص التاريخية والتقليدية وما

تتميز به هذه القصص أنها دينية تخص أشخاص قديسين يتمثل بهم.

ومنها قصص خاصة بالرب يسوع (لوقا 2: 41-49، 4: 29) وعن بطرس مثلا في (متى 14: 28-33، 16: 13-23).

  • الخوارق: هي قصص معجزات خارقة للطبيعة ولكن بدون تدخل ويتم المشهد في وجود العنصر البشري.

يوجد ثلاثة قصص فقط من هذه الفئة وهي: معجزة الظهور الإلهي (مرقس 1: 9-11 وما يوازيها بالأناجيل الاخرى)، التجارب الثلاثة في البرية (متى 4: 1-11 وما يوازيها) ومعجزة التجلي (مرقس 9: 2-8 وما يوازيها). إلا أن بولتمان يضع هذه المعجزات ضمن الفئة السابقة وهي القصص التاريخية.

  • التعاليم: وهذه الفئة تختص بمادة التعليم في الأناجيل وتمثل جميع ما قاله يسوع وتنقسم إلى أقوال، تشبيهات، أمثال، نبوات، تعليقات قصيرة وتشريعات (متى 5: 29، 44-48، 6: 2-4).

 

ويقسم بولتمان هذه الفئة إلى ثلاث مجموعات:

  • اقوال الحكمة [logia]
  • اقوال نبوية
  • تشريعات

وقد فصل بولتمان نوعين من هذه الأقوال: النوع الأول ويبدأ بالمقطع “أنا هو” والتي تكلم فيها يسوع عن نفسه أو عن أعماله أو عن أبديته والنوع الثاني يختص بالأمثال.

ويشرح داريل بوك كيفية التمييز بين النماذج المختلفة للفقرات المتضمنة بالأناجيل: “هذه الفئات تعتبر مساعد تحليلي معلوماتي للشارح أو المفسر للنص. فهى تساعد المفسر ليسأل النوعيات الصحيحة من الأسئلة بخصوص النص ويبحث عن غاياته في التركيب المشترك للشكل أو انفرداته”.

انتقادات كثيرة يجب أن توجه ضد تطبيق نقد النموذج منها:

 

أولا: الادعاء بأن الكنيسة المبكرة لم تميز يسوع الأرضي عن الرب القائم وعليه شعرت بالحرية في وضع أقوال على شفاه يسوع الأرضي الملفوظة بالأنبياء المسيحيين الأوائل والغير مبرر.

 

في الواقع لا يوجد في العهد الجديد ما يبرهن على أن المسيحيون الأوائل لم يميزوا بين يسوع الأرضي والرب القائم وأن نقاد النموذج لم يفسروا على الإطلاق كيف تلفظ أحد المسيحيين الأنبياء ووضع على شفاه يسوع ما علمه في موضع معين بالجليل مثلا. إن النبوة المسيحية الموظفة بهذه الطريقة هي محل تساؤل أكثر بكثير.

 

ثانيا: يجب أن نتساءل هل يمكن مقارنة انتقال مادة الإنجيل عبر عشرين سنة ببعض المواد الأخرى التي يستخدمها نقاد النموذج من أجل رسم استنتاجات بخصوص الأناجيل؟

 

ثالثا: ارتباطا بالنقطة السابقة توجد شكوك بخصوص ما يعرف بقوانين الانتقال. فالباحثون أظهروا أن الانتقال الشفهي بصورة دائما يميل إلى تمديد المادة. وبالتالي فإن استخدام هذه القوانين لكي تنسب قصص وأقوال إلى الكنيسة بدلا من الرب يسوع غير قاطع.

 

وبالرغم من ذلك يجب تسجيل تحذيرات معينة حتى في هذا الفرع الأدبي الصغير:

أولا: ربما الكثير من مادة الإنجيل وجدت منذ فترات مبكرة في شكل مكتوب وأن العديد من باقي المادة ربما ارتبطت معا بوحدات أدبية أكبر.

ثانيا: يجب الحذر بألا نفترض إلتباس بنماذج مادة واضحة ومحددة. وان وجود ما يعرف بالنماذج المختلطة يفترض أن أي تصنيف يجب أن يرى مشروطا وعاما.

ثالثا: زعم نقاد النموذج بالقدرة على تحديد التنظيم في حياة الكنيسة من نماذج محددة يجب أن يعالج بالشك الصحي. فنحن عادة نفتقد إلى البيانات الكافية لأي تعريف.

وختاما ربما الضرر الأكبر في ادعاءات العديد من نقاد النموذج عن طبيعة عملية الانتقال هى أنها “ظنية”!!. والعديد من المؤلفين يزعمون أن غالبية نقاد النموذج لا يثمنون بالقدر الكافي ديناميكيات وطبيعة الانتقال الشفهي.

 

مراحل التحقق من أصالة الأناجيل (3): مرحلة المصادر المكتوبة (Written Sources) أو ما يعرف بنقد المصدر أو المسألة الازائية:

في المرحلة الشفهية لتطور الأناجيل الازائية ربما تضمنت بعض التقاليد المكتوبة عن حياة يسوع وتعاليمه. ربما بعض الرسل أخذوا ملاحظات عن تعاليم الرب يسوع وأفعاله خلال خدمته نفسها وقد تسارعت هذه العملية بعد القيامة. نقد المصدر تخصص من أجل تقصي المرحلة المكتوبة في إنتاج الأناجيل. أنه يقتفي إجابة هذا السؤال: ما هي المصادر المكتوبة إن وجدت هل استخدمها البشيرون في تكوين اناجيلهم؟

هذا السؤال يحوز اهتمام معين لعلماء التاريخ في الحركة المسيحية المبكرة ويسأله أي دارس للأناجيل الازائية. حيث توجد بدايات تشابه في الخطوط العريضة عامة وفي الصياغة خاصة بين الأناجيل الازائية. راجع المثال التالي الخاص بمعجزة شفاء المفلوج:

(إنجيل متى 9: 6): “ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا. حينئذ قال للمفلوج. قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك.”

(إنجيل مرقس 2: 10-11): “ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا. قال للمفلوج لك أقول قم واحمل سريرك واذهب الى بيتك.”

(إنجيل لوقا 5: 24): “ولكن لكي تعلموا أن لابن الانسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا قال للمفلوج لك اقول قم واحمل فراشك واذهب الى بيتك.”

ليس فقط الصياغة مضبوطة بالتمام ولكن كل البشيرون الثلاثة يضعون قطع مفاجئ في كلمات يسوع في نفس النقطة. هذا التضاعف للتركيبات يحدث في مواضع اخرى بطول الفقرات التي فيها يستخدم انجيلين أو الثلاثة اناجيل نفس الصياغة بدقة تامة وبنفس الترتيب وفي سطور عديدة بالنص.

مثال آخر عن كيفية استخدام إنجيل متى ولوقا نفس الكلمات لتسجيل رثاء مدينة أورشليم:

(إنجيل متى 23: 37-39): “يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابا. لأني أقول لكم أنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب”

(إنجيل لوقا 13: 34-35): “يا اورشليم يا اورشليم يا قاتلة الانبياء وراجمة المرسلين اليها كم مرة اردت ان اجمع اولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خرابا. والحق اقول لكم انكم لا ترونني حتى يأتي وقت تقولون فيه مبارك الآتي باسم الرب”

ولكن ما يجعل المشكلة الازائية معقدة هو أنه بجانب حقيقة التوافق التام توجد أيضأ اختلافات محيرة. كما في المثال الاول نجد أن إنجيل متى أسقط “لك” الموجودة في كل من إنجيل مرقس ولوقا. إن المزج بين التوافق وعدم التوافق يمتد إلى تركيب أكبر في الاناجيل أيضأ. وفي فقرات عديدة نجد أن الاناجيل الثلاثة يتبعون نفس الترتيب في الأحداث حتى بدون سبب تاريخي أو تسلسلي واضح.

كل إنجيل قد يسقط جزء من الموجود بالإنجيلين الآخرين وكل منهم يتضمن وقائع متفردة وبعض الأحداث الموجودة في أحد الأناجيل أو إثنين منهم قد توضع بترتيب مختلف.

والسؤال إذا وراء المشكلة الازائية يمكن إعادة صياغته في ضوء هذه البيانات السابقة: ما هى الفرضية التي تفسر المزج بين الاتفاق التام والتباعد الواسع الذي تتميز به الأناجيل الثلاثة؟

توجد حلول أساسية أهمها الأربعة فرضيات الرئيسية التالية:

الفرضية الاولى: الاعتماد العام على انجيل واحد أصلي: في عام 1771م ناقد ادبي ومؤلف الماني (Lessing) زعم ان العلاقات بين الاناجيل الازائية يمكن تفسيرها بأنها قد استخدمت باستقلالية انجيل واحد أصلي مكتوب بالعبرية أو الآرامية. هذه الفرضية تبناها آخرين ثم تعدلت بيد (Eichhorn) الذي افترض وجود أكثر من إنجيل مفقود كمصدر للأناجيل الازائية. إلا أن هذه الفرضية لم تجد قبولا بين علماء القرن العشرين.

الفرضية الثانية: الاعتماد العام على المصادر الشفهية: بعد أن افترض (Lessing) ما يعرف بالانجيل المصدر “الانجيل الاولي” (Ur-gospel) كحل للمشكلة الازائية قام الناقد الالماني (Herder) بافتراض اعتماد الأناجيل الازائية على موجز شفهي منضبط لحياة المسيح كتفسير أفضل. هذا المقترح تم تمديده والدفاع عنه مطولا بواسطة (Gieseler) عام 1881م. هذه النظرة كانت أكثر شيوعا في القرن التاسع عشر عنها الآن. ولكنها استمرت عند القليل من الدارسين.

الفرضية الثالثة: الاعتماد العام على قصاصات مكتوبة ومتطورة تدريجيا: الباحث (Schleiermacher) اقترح أن العديد من قصاصات التقليد وجدت في الكنيسة المبكرة وتلك قد نمت تدريجيا حتى صارت مدمجة في الأناجيل الازائية. هذه الفرضية لم تعد ذات أهمية ولكنها ظلت محل للنقاش بخصوص “الأقوال” (logia) المذكورة في كتابات بابياس كمجموعة أقوال للرب يسوع [راجع يوسابيوس تاريخ الكنيسة 3، 39، 16].

الفرضية الرابعة: الاعتمادية البينية(interdependence): كحل آخر للمشكلة الازائية يفترض أن انجيلين استخدما إنجيل الثالث في بناء نصهما. المدافعين عن هذه الفرضية يقصدون أن الاقتباس في المستوى الأدبي الأخير يفسر درجة التشابه بين الأناجيل الازائية. هذا الحل للمشكلة الازائية كان شائعا منذ زمن مبكر في تاريخ الكنيسة (راجع أوغسطينوس) ويوفي غالبية المتطلبات بين دارسي العهد الجديد المعاصرين ولسبب وجيه.

نظريات الاعتمادية البينية: نظرية واحدة فقط للاعتمادية البينية للأناجيل الازائية التي تستطيع تفسير هذه البيانات.

سمة واحدة لهذه البيانات تبدو حاسمة لصلاحية النظريات المفترضة: العلاقة بين الأناجيل بترتيب تسجيلهم لأحداث الخدمة. دراسة التوازي المتعاقب للأناجيل الازائية في هذه النقطة يظهر حقيقة هامة أنه بينما إنجيل متى ومرقس يتفقان ضد إنجيل لوقا في ترتيب الأحداث وانجيل لوقا ومرقس يتفقان ضد إنجيل متى فإن إنجيل متى ولوقا لا يتفقان على الإطلاق ضد انجيل مرقس.

لاحظ أن إنجيل متى ومرقس يتفقان ضد إنجيل لوقا في وضع إتهام يسوع بإخراج الشياطين باسم بعلزبول مباشرة قبل أمثال الملكوت وانجيل لوقا ومرقس تفقان ضد متى في وضع تهدئة العاصفة وشفاء مجنون كورة الجدريين مباشرة بعد أمثال الملكوت ولا يوجد على الإطلاق اتفاق بين إنجيل متى ولوقا ضد إنجيل مرقس في وضع الأحداث بطريقة أخرى ولا يتبع إنجيل مرقس على الإطلاق أي ترتيب لا يتفق مع ترتيب البشيرين متى ولوقا. هذه الظاهرة أظهرت واحدة من أهم نقاط الجدال بخصوص طبيعة العلاقات بين الأناجيل الازائية:

جدلية الترتيب. فيبدو أن إنجيل مرقس متطلبا كوسيط في أي مخطط بياني للعلاقات بين مرقس ومتى ولوقا سواء كان أقدم منهما أو بينهما أو أقدم منهما.

(مرقس) —–> (متى)/(لوقا)

(متى) —–> (مرقس) —–> (لوقا)

(لوقا) —-> (مرقس) —–> (متى)

(متى)/(لوقا) —–> (مرقس)

كل من هذه المخططات يمكن أن تفسر ظاهرة الترتيب. كما أننا لا يمكن أن نستبعد احتمالية العلاقة الاعتمادية بين إنجيل متى ولوقا في استخدام إنجيل مرقس. كما أن جدال الترتيب لا يستبعد اعتمادية كل من إنجيل متى ولوقا على الآخر بالرغم من أن ذلك يتطلب أن البشير الذي كتب آخرا قد اختار بقصد تتبع ترتيب الانجيلين الاخرين أينما اتفقا.

 

مراحل تأصيل الأناجيل (4)

الفرضية الأغسطينية (Augustinian Proposal): أخذت اسمها من القديس أغسطينوس اللاهوتي الشهير في شمال افريقيا الذي دافع عن هذه الفرضية التي تقول ان متى كان الإنجيل الأول المكتوب ثم مرقس اقتبس منه ولوقا اقتبس منهما. حتى القرن التاسع عشر كانت هذه الفرضية هي النظرة القياسية للعلاقة بين الأناجيل الإزائية. أما الآن بدأ العديد في تفضيل افتراضات بديلة. ولم تحوز فرضية أغسطينوس أي دعم ماعدا الباحث (Butler).

فرضية الإنجيلين (Two-Gospel hypothesis): بجانب أبحاثه النقدية في الأناجيل الإزائية وافق جريسباخ (Griesbach) أن متى كتب أولا إلا أن لوقا كان ثانيا وأن مرقس اعتمد على كل من متى ولوقا. وقد سميت فرضيته بـ”فرضية الإنجيلين” للتميز بينها وبين فرضية المصدرين (two-source hypothesis) وقد تمتعت هذه الفرضية بشعبية خلال الفترة الاخيرة.

فرضية المصدرين (Two-Source Hypothesis): بينما تظهر فرضية الإنجيلين أن متى ولوقا كانا حجرا البناء لإنجيل مرقس فإن فرضية المصدرين تعتبر أن إنجيل مرقس والمصدر “ق” (Q) [مصدر مفقود لأقوال يسوع] قد تم استخدامهما باستقلالية بواسطة متى ولوقا.

الأسبقية المرقسية (Markan priority): أسبقية إنجيل مرقس افترضت أولا في عام 1830م بواسطة العالم كارل لخمان (Lachmann) وقد أعطيت مصطلحها الكلاسيكي في بحث هولتزمان (Holtzmann) عام 1863م.

وأخيرا في كتاب الأناجيل الأربعة: دراسة الاصول (1924م) للعالم (Streeter) افترض وجود مصدرين آخرين بالإضافة إلى إنجيل مرقس والمصدر “ق” (Q) هذا بالإضافة إلى المادة الخاصة بإنجيل متى (M) والمادة الخاصة بإنجيل لوقا (L) فيما يعرف بفرضية المصادر الأربعة هذه كانت محاولة لتفسير أصل الأناجيل خلال نقد المصادر. وقد اقترح (Streeter) تواريخ وأماكن منشأ هذه المصادر.

اخذ العالم (Streeter) نقد المصدر إلى أبعد الحدود وفرضيته كانت آخر عمل كبير في هذا المجال لمدة. ولا يتفق الجميع مع تفاصيل هذا المخطط ومعظم نقاد الإنجيل المعاصرين يتشككون في وجود المصدرين (M) و(L) كمصدرين مكتوبين وأيضا في الاستنتاجات التسلسلية والجغرافية التي توصل لها. فغالبية العلماء يعتقدون أن (Streeter) وسالفيه قد أثبتوا بوضوح فرضية المصدرين بالعموم.

لقد تعرضت فرضية المصدرين في العقود الثلاثة الأخيرة لنقد جاد بواسطة المدافعين عن فرضية الإنجيلين أو فرضية جريسباخ ولكن هناك اخرين احتفظوا بأسبقية إنجيل مرقس بينما تساءلوا بخصوص وجود وطبيعة المصدر “ق”. وبالرغم من أن فرضية المصدرين قد انتزعت من حالة “نتيجة دراسية مؤكدة” (assured result of scholarship) إلا أنها تظل النظرية الأفضل في تفسير العلاقة بين الأناجيل الازائية.

اسبقية إنجيل مرقس (Markan Priority): حتى القرن التاسع عشر غالبية المسيحيون يعتبرون أن إنجيل متى قد كتب أولا. هذا التقليد الذي دعم بشكل واضح من بابياس أحد آباء الكنيسة بالقرن الثاني الميلادي (راجع يوسابيوس).

العديد أعطى إنجيل متى الأسبقية على أساسات غير وافية باعتباره الرسول الوحيد بين بشيري الأناجيل الثلاثة. أيضا تقليد قوي آخر يقول أن مرقس كتب انجيله بناء على تعليم بطرس مما يجعل اعتماد مرقس على إنجيل متى صعب. فلماذا يقتنع العديد من الدارسين أن إنجيل مرقس يقف وراء متى ولوقا؟ وللإجابة على هذا التساؤل راجع النقاط التالية….

ايجازية مرقس (brevity of Mark): إن إنجيل مرقس هو الأقصر بين الأناجيل الازائية: حيث يحتوي إنجيل مرقس على 11025 كلمة بينما إنجيل متى يحتوي على 18293 كلمة وانجيل لوقا 19376 كلمة. فليست ايجازية مرقس التي تعطي اسبقيته لكن ايجازيته تؤخذ مقترنة مع علاقته الوثيقة بإنجيل لوقا ومتى. حيث أن 97% من كلمات إنجيل مرقس تجد ما يوازيها في متى ولوقا بتمديد مرقس في مادتهما وليس أن إنجيل مرقس قد اختصر متى أو لوقا بالإسقاط من مادتهما!!! وذلك كما يعتقد أصحاب نظرية الانجيلين باعتبار أن مرقس هو تلخيص مدروس لمتى ولوقا. ولكن ذلك يمثل تلخيص غريب حيث يسقط أشياء مثل العظة على الجبل واحداث الميلاد وظهورات الرب القائم! ولكن باعتبار مرقس أولا سيكون من السهل معرفة لماذا كتب متى أو لوقا.

الاتفاق اللفظي بين الأناجيل: تظهر الأناجيل الازائية الثلاثة اتفاق لفظي ملحوظ بعدة مواضع. ولكن الدراسة الدقيقة تظهر أنه بينما الأناجيل الثلاثة تتفق نجد أن انجيل متى ومرقس يتفقان بتكرار وانجيل مرقس ولوقا أيضا لكن إنجيل متى ولوقا فقط يتفقان نادرا. وباستخدام الفرضية الاغسطينية يمكن أن نقول أن لوقا دائما يختار صياغة مرقس أكثر من متى وبفرضية الانجيلين يمكن أن نفترض أن مرقس لا يقدم صياغة خاصة على الاطلاق. وكلتا النظرتين بعيدتا الاحتمال.

ترتيب الأحداث: إن مقارنة ترتيب الأحداث في الأناجيل الازائية تظهر حالة مشابهة لما هو ملاحظ في الاتفاقات اللفظية: نجد أن متى ولوقا لا يتفقان ضد مرقس. هذه الظاهرة التي ذكرها لخمان فقال إن هذه الحالة لا يمكن تفسيرها إلا إذا كان لانجيل مرقس الاسبقية.

بساطة أسلوب مرقس: هناك إتفاق عام أن إنجيل مرقس يتضمن شذوذات نحوية وصعوبات تركيبية أكثر من إنجيل متى ولوقا. وهذا يؤيد أسبقية إنجيل مرقس لأن الميل الطبيعي يتيح لكتاب الإنجيلين اللاحقين صقل هذه الشذوذات (راجع المعيار المشابه في النقد النصي). بالمثل أيضا إنجيل مرقس يحفظ اصطلحات آرامية أكثر من متى ولوقا في فقراتهما الموازية مع مرقس. فيكون من السهل ملاحظة كيف أن متى ولوقا يهملان أو يترجمان الإصطلاحات الآرامية التي قد تلتبس على القارئ اليوناني أكثر من أن مرقس يضيف هذه الإصطلاحات الآرامية بدون أساس في مصادره.

اللاهوت الأولي (أو البدائي) في إنجيل مرقس: العديد من الباحثين يجدون الكثير من العبارات اللاهوتية الصعبة في إنجيل مرقس عنها في متى ولوقا وهذا يعرض أيضا أن مرقس أقدم.

مثال في مرقس (6: 5) حيث يقول البشير أنه بسبب عدم إيمان سكان الناصرة فإن الرب يسوع لم يقدر أن يصنع هناك ولا معجزة “ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة”. وفي النص الموازي نجد متى (13: 58) يقول أن يسوع لم يصنع هناك معجزات كثيرة “ولم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم” يبدو من المرجح أن متى أزال المشكلة العسيرة بأن يسوع غير قادر على صنع معجزة.

 

مراحل تأصيل الأناجيل (5)

المصدر “ق” (Q): الباحث (Schleiermacher) أول من افترض وجود وثيقة تتضمن أقوال الرب يسوع كمصدر للأناجيل. اتخذ (Weisse) هذه الفرضية كمصدر رئيسي ثاني في فرضية المصدرين. وتبعا لذلك اعتقد بعض النقاد أن بابياس يشير إلى هذه الوثيقة في عبارته الشهيرة عن “الأقوال” (logia) ولكن هناك درجة شك بذلك. وبنهاية القرن التاسع عشر أصبح هذا المصدر معروفا باسم “ق” (Q). غالبية أصحاب فرضية أسبقية مرقس يعتقدون أن المصدر “ق” من المرجح إنه استخدم في كل من إنجيل متى ولوقا.

والسبب في افتراض مصدر مكتوب لتعاليم يسوع هو وجود 250 عدد مشترك في إنجيلي متى ولوقا وغير موجود في إنجيل مرقس. ويتكونون من تعاليم الرب يسوع في معظمهم. العديد من هذه الأعداد تظهر درجة من التوازي اللفظي الذي يرجح وجود مشترك مكتوب باللغة اليونانية.

والتفسير البسيط لهذه الظاهرة هو اعتماد أحد الانجيلين على الآخر. ولكن في مقابل هذا نجد افتقاد الاتفاق بين انجيلي متى ولوقا في ترتيبهم للأحداث والافتقاد العام للاتفاقات اللفظية بينهم. هذه العوامل تفترض بقوة أن الانجيلين لم يستخدم أحدهما للآخر بل يفترض مصدر آخر. مجهود معتبر قد استنفذ بقصد إعادة تكوين المصدر المفترض وبالرغم من ذلك يوجد جدال معتبر بخصوص “ق” (Q).

بالإضافة إلى جدال الاتفاق اللفظي في المادة “اللامرقسية” (non-Markan) يوجد ثلاث جدالات رئيسية بخصوص وجود المصدر “ق” (Q):

اتفاق الترتيب: فطن عدد من الباحثين إلى الترتيب المتشابه للمادة اللامرقسية المشتركة في متى ولوقا والتي تسمى أحيانا “التقليد المضاعف” (double tradition). هذا الترتيب المتشابه يشير إلى مصدر مفرد مكتوب. ولكن اتفاق الترتيب ليس بهذا الوضوح كما أنه محدود.

المتضاعفات (Doublets): هي فقرات تظهر أكثر من مرة في إنجيل واحد. وهذا يشير إلى أن البشير هنا قد يتبع مرقس من ناحية ثم يتبع “ق” من ناحية أخرى. مثال على ذلك في انجيل لوقا (8: 17) وفي (12: 2) في كلتا الفقرتين يقول يسوع “لأنه ليس خفي لا يظهر ولا مكتوم لا يعلم ويعلن.” وايضا “فليس مكتوم لن يستعلن ولا خفي لن يعرف.” الفقرة الاولى متوازية فقط مع إنجيل مرقس والثانية مع إنجيل متى (10: 26) والافتراض هنا أن لوقا أخذ الفقرة الأولى من مرقس والثانية من “ق”. هذه المتضاعفات (doublets) تفترض وجود مصدر مشترك بجانب إنجيل مرقس ومع ذلك فهي غير كافية لإثبات وجود مصدر مفرد مكتوب.

ومن أمثلة المتضاعفات:

  • مثل الوزنات (متى 25: 14-30، لوقا 19: 12-28)
  • معجزة صيد السمك (لوقا 5: 1-11، يوحنا 21: 4-14)
  • دهن يسوع (مرقس 14: 3-9 = متى 26: 6-13، لوقا 7: 36-50، يوحنا 12: 1-8)
  • إشباع الالاف (مرقس 6: 30-44، 8: 1-10)
  • شفاء عبد قائد المئة (متى 8: 5-13 = لوقا 7: 1-10، يوحنا 4: 36-54)

التموضع المختلف للمصدر “ق”: إن المادة اللامرقسية المشتركة بين لوقا ومتى تتموضع في سياقات مختلفة فانجيل متى يجمع الكثير منها في الخمسة عظات الكبرى بينما لوقا يضعها متبعثرة عبر انجيله (عادة في 6: 20-8: 3، 9: 51-18: 14). هذه الظاهرة من السهل تفسيرها إذا كان كلاهما يستخدمان باستقلالية مصدر مشترك عن أن لوقا استخدم إنجيل متى.

هذه النقاشات أقنعت غالبية الباحثين أن متى ولوقا استخدما تقليد مشترك لامرقسي. ويعتقدون أن المصدر “ق” وثيقة مفردة مكتوبة ولكن هناك اعتراض معتبر على ذلك. والعديد يعتقدون أن “ق” هي مجموعة من القصاصات المكتوبة والتقليد الشفهي. لكن العديد من الباحثين غير مقتننعين بأننا بحاجة لافتراض وجود أي تقليد سابق لأنهم ببساطة يعتقدون أن لوقا استخدم إنجيل متى.

ولأن معرفة لوقا بإنجيل متى قد تضعف بقوة دليل اسبقية مرقس فإن غالبية الذين يرفضون وجود “ق” يرفضون أيضا اسبقية مرقس. ولكن البعض يبقي كل من اسبقية مرقس واستخدام لوقا لإنجيل متى.

أقوى برهان يرجح استخدام لوقا لإنجيل متى وبالتالي ضد نظرية المصدرين بالكامل هو وجود ما يعرف بالـ “اتفاقات الأقلية” (minor agreements) بين انجيل متى ولوقا ضد انجيل مرقس. وهي تتضمن كل الاتفاقات في الترتيب والصياغة لأعداد معينة أو أقوال. كيف يمكن تفسير ذلك إذا كان لوقا ومتى لم يستخدم أحدهما الاخر؟ أيا كانت محاولة التفسير فستعتمد على كيفية قناعتنا بأن لوقا لم يتعرف على متى:

  • تداخل مرقس و”ق” مع إتفاق متى ولوقا كنتيجة لاستخدامهما المشترك للمصدر “ق”
  • تزامن التنظيم في مرقس بنفس الطريقة
  • العطب النصي المبني على ميل النساخ لتوفيق فقرات الإنجيل
  • الاستخدام المشترك للتقاليد الشفهية التي ربما تداخلت مع إنجيل مرقس.

اتفاقات الاقلية هذه تظهر أن تاريخ أصول الإنجيل كانت أكثر تعقيدا عن أي تفسير لفرضية مصدر مفرد. لذلك فإن مصدر مثل “ق” يظل أفضل تفسير للاتفاقات بين متى ولوقا في المادة اللامرقسية. ولكننا ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أكثر من مصدر مكتوب أو خليط من التقاليد الشفهية.

نظريات الإنجيل الأولي (البدائي): بغرض ملء بعض الفجوات المتبقية في فرضية المصدرين وبسبب الشهادة المسيحية المبكرة والأدلة الداخلية افترض باحثون متعددون وجود نسخة مبكرة لكل من الأناجيل الازائية. لخمان هو أول القائلين بنظرية المصدرين.

وقد ابتدأ من افتراض إنجيل أصلي ثم ادعى أن إنجيل مرقس كان الأقرب للأصل. بعض الدارسين الجدد الذين لاحظوا مسألة اتفاقات الأقلية وبعض العناصر في متى ولوقا التي يصعب تفسيرها إذا كان البشيرين استخدما إنجيل مرقس اقترحوا إنجيل أو كلاهما قد استخدما نسخة مبكرة من إنجيل مرقس. هذه الفرضية ينبغي أن تظل محل شك. حيث أن اتفاقات الأقلية ليست كلها من نفس النوعية فالعديد منها لا يمكن تفسيره بافتراض الاعتماد على “مرقس أولي” (Ur-Mark).

وينبغي أن نتحقق من فرضية الاعتماد على مصدر مختلف والتي ينبغي أن تستخدم في تفسير تغيرات متى ولوقا والتي قد طبقت في مصدرهما المرقسي. إن نقد المصدر يأخذ الكثير على عاتقه عندما يقوم بتفسير كل سطر في متى ولوقا بالرجوع إلى مصدر مكتوب. فتأثير التقاليد الشفهية المتنوعة والقصد اللاهوتي للبشيرين ينبغي الاعتراف به. وعند الأخذ بهذه العوامل فإن الحاجة إلى “مرقس أولي” (Ur-Mark) ستزول.

فرضية أخرى أكثر شهرة هي أن متى كتب نسخة مبكرة من انجيله. الدافع في هذه الفرضية هو مجرد إيجاد تفسير مقبول للعلاقات الازائية حيث يشير تعليق بابياس أحد آباء القرن الثاني إلى نسخة مبكرة لمتى (راجع يوسابيوس تاريخ الكنيسة 3, 39, 16): “متى جمع الأقوال (ta logia) في اللغة العبرية (Hebraidi dialekto) وكل ترجمها (hermeneusen) بقدر استطاعته.”

وإذا كان بابياس يشير إلى إنجيل مكتوب بالآرامية أو العبرية فيجب أن يكون نسخة سامية مبكرة من إنجيلنا اليوناني للقديس متى حيث يميل آباء الكنيسة المتأخرين إلى أن بابياس يثبت أسبقية إنجيل متى القانوني. فقد كان شائعا أن إنجيل متى العبري أول إنجيل مكتوب وقد استخدم في تكوين إنجيل مرقس اليوناني وأن إنجيل متى اليوناني استخدم إنجيل مرقس.

وبوضوح إذا وجدت هذه النسخة فيكون إنجيل متى القانوني ليس مجرد ترجمة للأصل العبري:

فإنجيل متى لا يقرأ مثل ترجمة يونانية!

كما أن متى استخدم إنجيل مرقس اليوناني في تكوين انجيله. كما توجد مشاكل أخرى بافتراض أن مرقس استخدم إنجيل متى العبري.

بينما يظهر تقليد قديم يدعي أن مرقس كون انجيله من خلال تعاليم بطرس. فيكون من الصعب تصور كيف أن مرقس استطاع أيضا استخدام نسخة مبكرة لإنجيل متى. وأكثر من ذلك ربما بابياس لم يشير إلى إنجيل على الإطلاق (على اعتبار أن المقطع ” Hebraidi dialekto” يعني لهجة أو أسلوب وليس لغة). وعليه فإن فرضية نسخة عبرية مبكرة لإنجيل متى لا يمكن إثباتها أو دحضها.

إن الدليل على إنجيل لوقا أولي (بدائي) يأتي من خلال إنجيل لوقا نفسه ويعتمد على ثلاث اعتبارات:

  • الكم الأكبر من المادة الخاصة في لوقا بالمقارنة مع متى ومرقس
  • ميل لوقا ليتفرد بطريقته حتى في المادة المشتركة مع متى ومرقس (قارن أحداث الآلام)
  • حقيقة أن لوقا يتضمن مادة من مرقس في فقرات كبيرة وليس مبعثرة خلال الإنجيل.

هذه الظواهر تفترض أن لوقا كون نسخة أولية لإنجيله باستخدام (Q, L) مادته الخاصة) ثم لاحقا دمج إنجيل مرقس في عمله الابتدائي. فبالرغم من أن المسألة تظل غير مبرهنة إلا أن الفرضية جذابة!

استنتاج ختامي: إن فرضية المصدرين تقدم أفضل تفسير للعلاقات بين الأناجيل الإزائية ولكن عدة تحذيرات يجب تقديمهما أولا: إن عملية تكوين الأناجيل كانت معقدة ومركبة حتى أن فرضية عدم وجود مصادر قد تقدم تفسير كامل للمسألة. وإذا كان أحد البشيرين شاهد عيان على الأقل وأن التقاليد المتنوعة الشفهية والمكتوبة لا شك كانت شائعة وأن البشيرين ربما تحدثوا سويا عن أعمالهم فإن افتراضات “القص واللصق” للنقاد تصير لا اساس لها من الصحة.

وبإقرار هذا التعقيد بالتوازي مع استمرارية الظواهر التي لا تفسر فرضية المصدرين باقتناع فإننا ينبغي أن نتعامل مع هذه الفرضية كعمل نظري أكثر منه كاستنتاج ملموس. خاصة مع الحاجة إلى الانفتاح إلى احتمالية أن التفسير المبني على فرضية المصدرين قد لا يناسب البيانات. لذلك ربما نستنتج أن متى أكثر أولية من مرقس أو أن لوقا اتبع مصدر شاهد خاص أكثر من مرقس أو أن متى اعتمد على ذاكرته الخاصة أو كتب كملاحظات أكثر من اعتماده على “ق”.

 

مراحل الأصالة التاريخية للأناجيل (6)

ثالثا: مرحلة التكوين النهائي (Final Composition)

أو ما يعرف بنقد التحرير (أو التعديل):

التعريف: إن نقد التحرير (أو التعديل) يسعى لوصف المقاصد اللاهوتية للبشيرين بواسطة تحليل الطريقة التي استخدموها لمصادرهم. بسبب حاجة نقاد النموذج لدراسة التقاليد الشفهية وحاجة نقاد المصدر لاستقصاء المصادر المكتوبة فإن نقاد التعديل يصرون أن البشيرين قد أخذوا مكانتهم الصحيحة كمؤلفين: فهم أناس اعتمدوا على مصادرهم وتقاليدهم وحبكوا هذا التقليد في عمل أدبي بقصد خلاق وبنظام لاهوتي خاص بهم.

لم يجمع البشيرون التقاليد والمصادر ببساطة وألصقوها سويا. إنما هم أضافوا تعديلاتهم الخاصة لهذه التقاليد ومن أجل ذلك جلبوا يقينهم الشخصي إلى قصة الرب يسوع.

نقد التعديل هو إحدى طرق دراسة الإنجيل وتتضمن خمسة عناصر أساسية:

  1. نقد التحرير (أو التعديل) يفرق بين التقليد والتعديل. فالتقليد من هذا المنظور هو كل المصادر المكتوبة والقصص والأقوال المنتقلة شفهيا التي يستخدمها البشير أثناء كتابة إنجيله. أما التحرير فيشير إلى عملية تعديل هذا التقليد لإيجاد إنجيل مكتوب. ولأن نقد التعديل يعتمد على قدرتنا في تحديد التقاليد التي يعمل عليها البشير فنستطيع معرفة ما قام بتغيره وقد تمت بنجاح على إنجيل متى ولوقا.

حيث نستطيع مقارنة نسختهم النهائية مع مصدرين استخدماهما (إنجيل مرقس والمصدر “ق”). ولنفس السبب نقد التعديل لإنجيل مرقس يعد عملية أكثر صعوبة حيث أننا لا نمتلك أي مصدر استخدمه القديس مرقس.

  1. النشاط التعديلي أو التحريري للبشيرين يمكن رؤيته في عدة جهات:

المادة التي اختاروها لكي يتم ضمها أو استبعادها، مثلا هناك اتفاق عام بأن العظة على الجبل المسجلة في إنجيل متى (5-7) وبالتوازي في لوقا (6: 20-49) قد أخذت من المصدر “ق” إلا أن ما جاء في لوقا يمثل أقل من ثلث ما جاء في إنجيل متى وهذا دليل أن لوقا أسقط تقريبا كل إشارات العهد القديم والناموس (راجع متى 5: 17-19 وفي متى 5: 21-48). وهذا يرجح أن متى له اهتمام جاد بتعليم الكنيسة في أيامه بخصوص علاقة يسوع بالناموس بينما لوقا لم يفعل.

ترتيب المادة: نجد أن إنجيل متى يختلف عن مرقس ولوقا في موضع قصص ثلاث معجزات كبرى: تهدئة العاصفة (متى 8: 18, 23-27) وشفاء مجنون كورة الجدريين (8: 28-34) والحدثين المتشابكين إقامة ابنة يايرس وشفاء نازفة الدم (9: 18-26). ولأن مرقس يعتبر المصدر الرئيسي لمتى لهذه القصص فهذا دليل أن متى قد إخطار وضع هذه القصص في ترتيب مختلف. وعندما نجد متى يفعل نفس الشيء مع قصص معجزات أخرى كما في نهاية (متى 8-9) فإننا نستطيع استنتاج أن متى قد أعاد بقصد ترتيب المادة لإظهار يسوع كصانع للمعجزات.

إعادة الترتيب هذا يحدث أيضا في فقرات أخرى فهل تغيير الترتيب في الثلاثة تجارب البرية (متى 4: 1-11 = لوقا 4: 1-12) يظهر مضامين مختلفة خاصة بالبشيرين؟

“الحبكات” (seams): هي الطريقة التي يستخدمها البشير لكي يسبك تقاليده معا. ومن أجل أن ينسج البشير قصة مترابطة من مصادر متنوعة فإنه يصنع تبادلات (transitions).

هذه التبادلات أو الحبكات تظهر غالبا اهتمامات المؤلف، متى مثلا يبدل التعليم والحكاية بطريقة فعالة ويشير للتبديل في نهاية الحوارات بصيغة متكررة: “فلما أكمل يسوع هذه الأقوال” (متى 7: 28, 19: 1 أنظر أيضا 11: 1, 13: 53, 26: 1).

إضافات للمادة: في قصة لوقا عن خدمة يسوع ودعوة التلاميذ (لوقا 6: 12-19) التي يبدو أنها اعتمدت على (مرقس 3: 7-18) فإنه يشير إلى حادثة غير موجودة في مرقس عن يسوع “وفي تلك الأيام خرج إلى الجبل ليصلّي. وقضى الليل كله في الصلاة لله” (لوقا 6: 12). هنا نجد اهتمام لوقا.

إسقاط للمادة: أينما يتأكد نقاد التعديل أن البشير قد نفذ إلى تقليد لا يتضمنه فإنه من المهم أن نسأل ما إذا كان الإسقاط يخدم اهتمام لاهوتي أم لا، مثال: يبدو أن إسقاط لوقا لقصة المجيء الثاني للرب يسوع على السحاب (موجودة في مرقس ومتى) في رده على رئيس الكهنة (لوقا 22: 29) كانت بسبب أن لوقا أراد تجنب فكرة ” المجيء الوشيك” (imminent parousia).

تغير الصياغة: في فقرة التطويبات الشهيرة نجد أن الرب يسوع حسب إنجيل متى يطلق البركة على “المساكين بالروح” (متى 5″ 3) ولكن حسب لوقا “أيها المساكين” (لوقا 6: 20). نقاد التعديل يعلقون بأن هذا الاختلاف يدلل على أن لوقا يهتم بصورة أكبر بموضوعات “الاقتصاد الاجتماعي” (socioeconomic).

  1. إن نقاد التعديل يبحثون عن هذه الأنواع من التغيرات خلال الإنجيل، أينما يظهر نمط فإننا ربما نتعامل مع إهتمام لاهوتي للمؤلف.
  2. وعلى أساس هذه الصورة اللاهوتية العامة فإن نقاد التعديل يلتمسون تأسيس إطار إنتاج الإنجيل. فنجد مثلا أن لوقا استحب إسقاط إشارات المجيء الوشيك لكي يعرض أنه يكتب في إطار حيث كان تأخر المجيء الثاني قد صار مشكلة.
  3. البعض يضيفون السمات الأدبية واللاهوتية لنقد التعديل بجانب دراسة تعديل البشيرين للتقليد فيما يعرف بـ “نقد التركيب” (composition criticism).

الأصول: بالرغم من أن ويليام ريدي (William Wrede) لم يكن ناقد تعديل من خلال المفهوم السابق إلا أنه قد أعاد تأكيد نقد التعديل النمطي، ويليام ريدي كتب في زمن عندما سادت الفرضية المرقسية في الدراسات الاكاديمية للأناجيل، هذه الفرضية لم تشتهر فقط لأنها أبقت على أسبقية مرقس لكن لأنها دعت أن مرقس قدم تصوير موثوق تاريخي بغير قصد لاهوتي عام للرب يسوع.

ريدي حطم هذا الادعاء حيث أن إنجيل مرقس كان قد كتب بقصد لاهوتي كباقي الاناجيل، وبخاصة عندما دعى ريدي أن مرقس أضاف الكثير من الإشارات حينما صمت يسوع عن مسيانته (messiahship).

هذا السر المسياني (messianic secret) قد صممه مرقس ليفسر كيف أن القليل من الناس تعرفوا على الرب يسوع كونه المسيا خلال حياته. وبينما فقدت فرضية ريدي حظوتها عامة الآن فإن خلافه بخصوص مرقس كونه بقصد لاهوتي وتاريخي قد قبل إلى حد بعيد.

إنطواءات فهم ريدي للبشيرين كلاهوتيين مبدعين لم ترصد مباشرة، فنقد التعديل كعلم لم يتطور حتى عام 1950. ثلاثة نقاد ألمان كان روادا في هذا المجال، مقالة (Bornkamm) على معجزة تهدئة العاصفة كانت أول عمل نقد تعديل وذلك من خلال مقارنتها بما في مرقس.

ثم الباحث (Conzelmann) في كتاب لاهوت القديس لوقا حلل وجهة نظر لوقا اللاهوتية زاعما أن البشير فرض تاريخ للخلاص ثلاثى المراحل في مادة الإنجيل:

(زمن اسرائيل وزمن يسوع وزمن الكنيسة)

وعلى هذا المنوال فإن لوقا عرض قواعد استمرار دور الجماعة المسيحية في التاريخ وبهذه الطريقة عطل الإحباط الناتج عن تأخر المجيء الثاني!! – أي فشل يسوع للعودة قريبا كما هو متوقع.

ماركسين(Marxsen) عمل مع إنجيل مرقس كما عمل (Conzelmann) مع إنجيل لوقا. وانجيل مرقس كان أيضا مدفوعا باهتمام عن المجيء الثاني لكن مرقس أعتقد أن المجيء الثاني كان وشيكا وكتب انجيله رافعا القصد من جمع المسيحيين معا في الجليل من أجل انتظار الرب.

أخيرا من المستحيل انتقاء أعمال نقد التعديل حتى الرائعة منها في هذه الدراسات المبدئية. فالنتائج التي توصل لها (Bornkamm)، (Marxsen) و(Conzelmann) غير معتبرة بما يكفي لكن المنهجية التي أسسوها نجحت في تأمين مكان في مجال دراسات الإنجيل.

 

 

مراحل تأصيل الأناجيل (7) التقييم: الشيوع لا يعني الصحة.

كما هو الحال في أي منهج آخر ينبغي الأخذ بنظرة نقدية على نقد التعديل قبل الإقرار به كمنهج لدراسة الإنجيل. ولنبدأ بخمسة انتقادات لهذه الدراسة:

  1. نقد التعديل يعتمد على قدرتنا في التمييز بين التقليد والتعديل. فينبغي أن نمتلك فكرة جيدة عن المصادر التي استخدمها البشير قبل أن نبدأ في الحديث عن تعديلاته لهذه المصادر. كل نقاد التعديل تقريبا يحسبون صلاحية فرضية المصدرين في أبحاثهم أن متى ولوقا كلاهما استخدما مرقس ومصدر آخر “ق” في كتابة اناجيلهما.

الذين يشككون في دقة فرضية المصدرين عليهم بالتأكيد تأسيس قواعد مختلفة يطبق عليها نقد التعديل. والذين يدافعون عن فرضية الانجيلين عليهم التحدث عن تعديلات مرقس لمتى ولوقا عن تعديلات متى لمرقس وسيجدون صعوبة بالغة في عمل نقد تعديل لمتى فقط. ولكن حتى إذا افترضنا موثوقية عامة لفرضية المصدرين فصعوبات نقد التعديل لا تزول:

أولا: في بعض المواضع اتجاه الاعتماد المفترض في نظرية المصدرين نجد أنه ربما يمكن عكسه. فبعض المواضع في إنجيل مرقس ربما اعتمدت على قصة وجدت طريقها في إنجيل متى. وفي هذه الحالة ينبغي أن نتحدث عن تغييرات مرقس لمتى عن تغييرات متى لمرقس.

ثانيا: متى أو لوقا ربما اعتمدا على نسخة مستقلة أو موازية لمرقس. أيضا ما يسمونه نقاد التعديل “التعديل المتاوي” لمرقس ربما كان تقليد يعبر عنه بأن متى ببساطة كان مرحليا.

ثالثا: ولأننا لا نملك نسخة من المصدر “ق” (Q) فإن الجدل حول إما متى أو لوقا قد عدلا “ق” يكون غير مؤكد. الباحثون يعتقدون عامة أنهم يستطيعون تحديد ما كان أصل “ق” بعوامل متعددة ويؤسسون أحكامهم التعديلية على هذه الافتراض.

لكن الأمر غير موضوعي ويترك مساحة كبيرة للخلاف.

مثلا بخصوص الفرق بين “المساكين” في لوقا و”المساكين بالروح” في متى هل نستطيع التأكد من استخدام لوقا اجتماعيا لـ”ق” عن استخدام متى روحيا له؟ في هذه الحالة نظن أن لوقا هو المسئول حيث أن تغييره مطابق لما هو مؤكد في انجيله. لكن القرار غالبا يكون أكثر صعوبة ومشحون باحتمالات الخطأ.

كل هذا يجعلنا القول بأن نقاد التعديل يحتاجون للكثير من الانتباه بخصوص الزعم أن أحد البشيرين قام بتعديل مصدره. فقد لا نستطيع تحديد عوامل التعديل بدرجة التأكد التي نحتاجها.

  1. نقاد التعديل يفترضون كثيرا أن كل تغييرات البشير التي يعدلها في تقليده تكون بدافع لاهوتي. الكثير منها كذلك لكن الكثير أيضا بدافع مختلف وبالتحديد التغييرات الأقلية المؤثرة على كلمة أو اثنتين تكون صياغة الأسلوب (stylistic) بطبيعتها. وفي حالات أخرى حتى في التقاليد الكبيرة ربما تكون ليست لسبب لاهوتي ولكن لاهتمام تاريخي فلا يمكن إسقاط الأغراض التاريخية البسيطة من اهتمامات البشيرين.
  2. نقاد التعديل أحيانا يساوون بين “المضامين التعديلية” (redactional emphases) والقصد اللاهوتي لبشير. وما يمكن استنتاجه كتعديل يظهر لنا ما هو مميز بإنجيل معين بالمقابلة مع الأناجيل الأخرى أو مع مصادره.

إننا نستطيع استنتاج ما هو تعديلي فيما قام البشير تغييره بقصد أنه مهم خاصة بهذا البشير. ولكن هذا ليس كل شيء في قصده اللاهوتي أو حتى ممثلا له. وما يمكن افتراضه هو افتراض أن التقليد الذي يتخذه البشير ليس جزء من اهتمامه أو قصده اللاهوتي.

إن المحققات المشتركة في متى ومرقس ولوقا ترجح خصوصيتهم والصورة التي يعلم بها ينبغي الأخذ بها في حساباتنا.

  1. تحديد إطار إنجيل معين بناء على القواعد اللاهوتية للمؤلف يكون أكثر بعدا عما تسمح به البيانات نفسها.

إن إضافات متى لكل من مرقس و”ق” مشتملا على اقتباسات الشريعة الموسوية والعهد القديم يظهر أن متى كان يكتب في إطار حاجة المستمع لتعليم من هذا النوع. ومفاد هذه الإضافات يسمح لنا بأخذ تخمينات عن بعض مشكلات المجتمع الذي كان متى يكتب فيه. لكن تفاصيل هذا الإطار الذي يفترضه نقاد التعديل هى “قلاع مبنية على الرمل”

إنهم يعتمدون عادة على جزء من الدليل فقط (ومن ثم فإن نقاد مختلفين يتوصلون إلى نتائج متضاربة أثناء العمل على نفس الإنجيل) ويرسمون نتائج بعيدة جدا عما يسمح به الدليل.

  1. نقد التعديل متلاحق بطريقة تؤدي إلى أن الامانة التاريخية لمادة الإنجيل تكون محل التساؤل. ليس لأن نقد التعديل يسعى لإثبات طبيعة لا تاريخية للتغييرات الناتجة للبشيرين. بل العديد من نقاد التعديل يفترضون أن البشيرين يملكون اهتماما قليلا عنه. ومن هذا المنطلق فإن نقد التعديل هو مولود حقيقي لنقد النموذج الراديكالي.

لهذا فإن مرقس ومتى ولوقا حسب العديد من نقاد التعديل لا يعيرون اهتماما كبيرا للدقة التاريخية أكثر من الجماعات المسيحية المبكرة كما حدد بولتمان (Bultmann) وديبليوس (Dibelius).

لماذا إذا العديد من نقاد التعديل يتوصلون إلى نتائج تشكك في المصداقية التاريخية للأناجيل؟

السبب الرئيسي في ذلك هو الافتراض بين العديد من نقاد التعديل بأن “البشير لا يمكنه أن يكون مدفوعا لاهوتيا وفي نفس الوقت دقيق تاريخيا”! غالبا ما يقدم لنا الاختيار بشكل واضح أو ضمني بين التاريخية والمقاصد اللاهوتية.

فلا يوجد سبب واضح لماذا البشير لا يستطيع أن يكون كلاهما! إن قيام متى ومرقس ولوقا بتعديل تقاليد الإنجيل التي وصلت إليهم أمر لا شك فيه. وعند بعض نقاد التعديل يبدو هذا كافيا لتبرير الاستنتاج بأن البشيرين تلاعبوا بالتاريخ. ولكن هذا ليس بالضرورة بالمرة.

إن إعادة الترتيب والإضافة والإسقاط وإعادة الصياغة لا يستلزم الانصراف عن تاريخية الحدث أو التعليم محل البحث.

فمثلا الصحف تعيد كتابة التقارير الإخبارية للقراء التي يستلمونها وإعادة الكتابة هذه ليست بالضرورة تؤثر في دقة التقرير. الأحاديث الطويلة تختصر أحيانا في بضع كلمات أو مقتطفات تؤخذ منها. ومن أجل ذلك نجد صحف مختلفة تركز على مضامين مختلفة في نفس الحديث. ولا نلوم هذه الصحف على عدم الدقة في عملها وبالمثل لا يجب أن نلوم البشيرين على عدم الدقة التاريخية في حالة تلخيص أو اقتطاف أو إعادة صياغة أقوال يسوع الخاصة. فما قاموا به يبدو واضحا كمقارنة بين البشيرين في كل صفحة تعرضها الأناجيل الازائية تقريبا.

لكن عدم قدرتهم في حفظ الكلمات الاصلية ليسوع (ipsissima verba Jesu) لا يعني بالضرورة أنهم تلاعبوا بالصوت الأصلي ليسوع. ولأن تعديلات البشيرين مرتبطة بما حدث بالفعل أو ما قاله يسوع فعلا حتى وإن اختاروا أو لخصوا أو أعادوا الصياغة فإن السلامة التاريخية باقية.

السؤال الآن هل أراد البشيرين كتابة اناجيلهم بغرض الدقة التاريخية؟ أو هل أرادوا إضافة صبغة لاهوتية لرسالة يسوع سواء حدثت حقيقة أم لا؟ …

إن نقد التعديل نفسه لا يستطيع الإجابة على هذه الأسئلة، ونقاد التعديل أنفسهم توصلوا إلى استنتاجات مختلفة بهذا الخصوص.

فالبعض مقتنعون أن الدراسة الدقيقة للتغيرات المقدمة في البشيرين لا تعرض أي تلاعب بصحة الوقائع التاريخية. فهم يفصلون بين التعديل والتقليد بغرض فهم رسالة الأناجيل بصورة أفضل بدون افتراض أن التعديل له أسس تاريخية بخلاف التقليد. مثلا نجدهم يستنتجون أن لوقا قام بتعديل تطويبات يسوع “طوبى للمساكين” (لوقا 6: 20) من اجل تضمين رؤية اقتصادية بازدواجها مع “الويل لكم أيها الأغنياء” (لوقا 6: 24) بينما متى قام بتعديل نفس الفقرة “طوبى للمساكين بالروح” من أجل إبراز البعد الروحي.

ولأن يسوع ربما قد قصد الرأيين، وبالمقارنة مع العهد القديم فمن من غير الإنصاف أن نتهم أي من البشيرين بالتلاعب غير التاريخي لكلمات يسوع. وهدفنا هنا ببساطة أن نقد التعديل لا يحتاج إلى تدمير الدقة التاريخية للأناجيل وأن نقاد التعديل الذين يفترضون أن البشيرين ليس لديهم اهتمام بالتاريخ في نشاطهم التعديلي لم يثبتوا غايتهم.

إن مشكلات نقد التعديل هى حجج مبالغ فيها وهى افتراضات خاطئة وإجراءات غير ملائمة. فنقد التعديل يتعهد بتقديم المساعدة في تعليل الأناجيل.

 وتحديدا فإن نقد التعديل له عناصر إيجابية متعددة منها:

  1. يقدم المساعدة المباشرة للمفسر واللاهوتي من خلال التركيز على خاتمة مرحلة إنشاء الأناجيل. ومن هذا المنطلق فإنه يقابل بين كل من نقد النموذج ونقد المصدر كونهما مهمان لمؤرخ المسيحية المبكرة لأنهما يهتمان بالأسباب التي مهدت لتقليد الإنجيل فنقد التعديل ينظر إلى مستوى يستحق انتباهنا وهو المنتج الأدبي النهائي، الإنجيل.
  2. نقد التعديل يذكرنا بأن البشيرين كتبوا بأكبر اهتمام تاريخي. فقد كانوا مبشرين ومعلمين يهتمون بتطبيق حقائق حياة يسوع وتعليم الجماعات في أيامهم. هذا القصد اللاهوتي للبشيرين أحيانا يفقد مع فقد الإدراك المستمر لأهمية وتطبيق التاريخ الذي يحكيه البشيرين.
  3. نقد التعديل يعرف ويزيد تقديرنا لتعدد الأناجيل. فإن قصة يسوع جاءت إلينا ليس بواسطة إنجيل واحد بل بأربعة اناجيل كل منهم له تميزه الخاص ومساهمته الهامة في تكوين فهمنا ليسوع. هذا الإنجيل الرباعي الأوجه ينبغي تقديره للرؤية الغنية التي يستحضرها، ونقد التعديل يساعدنا في إدراك فنيات ومعاني هذه الأوجه.

… انتهى

 

المرجع:

مقدمة للعهد الجديد – د. أ. كارسون، دوجلاس ج. موو، ليون موريس (ص10 – ص34).

AN INTRODUCTION to the NEW TESTAMENT – D. A. Carson, Douglas J. Moo, Leon Morris (P 10 – 34)

مراحل تأصيل الأناجيل – دونالد كارسون – دوجلاس مو – ترجمة ودراسة: أمير يعقوب