الهرطقات التي رفضها الجانب غير الخلقيدوني ج1
الجزء الثاني: الهرطقات التي رفضها الجانب غير الخلقيدوني ج2
1. بعض الملاحظات التمهيدية:
حينما كان الجانب غير الخلقيدوني يقوم بمعارضة مجمع خلقيدونية وطومس ليو، كان يهتم أيضاً (في نفس الوقت وبنفس الحماس) بإدانة عدد من الهرطقات المتنوعة.
وقد شملت قائمة الهراطقة عند غير الخلقيدونيين نفس الرجال الذين رفضهم الجانب الخلقيدوني قبل مجمع عام 451م ـ بسبب تعاليمهم غير الأرثوذكسية ـ كما شملت أيضاً أولئك الذين جاءوا لاحقاً ولم تكن أفكارهم تطابق التقليد العقائدي لغير الخلقيدونيين. ولكي نتعرف على ذلك التقليد العقائدي، ينبغي علينا أن ننظر إلى المواقف (اللاهوتية) التي رفضوها، والأسباب التي ذكروها في تبنيهم لهذة التصرفات.
وقد كانت الهرطقات التي رفضها الجانب غير الخلقيدوني ـ والمتعلقة بدراستنا هذه ـ هي الهرطقات المتصلة بعقيدة الثالوث وبعقيدة التجسد. وبالنسبة للنوع الأخير كان غير الخلقيدونيين قد استبعدوا بعضاً منها بسبب أنها لا تؤكد وحدة المسيح بشكل صحيح، ورفضوا البعض الآخر لأن تفسيرها للاستمرار الديناميكي للاهوت والناسوت في المسيح الواحد كان تفسيراً معيباً.
وقد اهتم اللاهوتيون في الكيان غير الخلقيدوني ـ في كل البيانات العقائدية التي أصدروها ـ بأن يذكروا قائمة بالرجال الذين يعتبروهم من الهراطقة بدءاً من سمعان الساحر وانتهاءً بنسطوريوس من ناحية، ومن فالنتينوس إلى أبوليناريوس وأوطيخا من الناحية الأخرى. وكان غير الخلقيدونيين هم الذين بادروا باستبعاد وتفنيد مجموعة من التعاليم الخاطئة التي ظهرت بعد مجمع خلقيدونية والمتعلقة بعقيدة الثالوث وعقيدة التجسد.
2. الأوطيخية:
كان أوطيخا قد نُفي إلى (Doliche) بشمال سوريا ـ كما ذكرنا ـ فور تولي بولخريا السلطة عام 450م، ولم يُعرف أي شيء عن الرجل منذ ذلك الحين. وسواء كان أوطيخا بالفعل يؤمن بالأفكار التي رأها فيه الذين أدانوه أم لا، فالحقيقة أنه كان هناك رجال في الشرق في ذلك الوقت يتمسكون بمثل هذه الأفكار.
ويذكر زكريا المؤرخ[1] أنه في أيام ثيؤدوسيوس أسقف أورشليم (تنيح عام 457م)، قام رجل خطيب من الإسكندرية يُدعى يوحنا بتقديم نظرية أُشير إليها بـ ’الأوطيخية‘، حيث سعى يوحنا بحكم دراسته الفلسفية أن يربط تخميناته الغيبية ببعض الأفكار المستعارة من المسيحية، ليقدم تفسيراً عن شخص المسيح. وقد اعتبر يوحنا ناسوت المخلص ’ظاهرة فريدة‘ لا توجد طبيعة من نفس نوعها، على أساس أنه وُلد من عذراء،[2] وبالتالي فإذا كان يسوع المسيح هو إنسان بدون طبيعة ’بشرية‘، فقد زعم يوحنا أنه كان طبيعة وحيدة.
ويذكر المؤرخ أن يوحنا الخطيب كتب عدداً من المقطوعات الأدبية ونسبها إلى أشخاص مثل بطرس الأيبيري وثيؤدوسيوس نفسه الذي عندما سمع بأفكار يوحنا وتصرفاته قام بإدانة الرجل وتعاليمه،[3] وأرسل حكمه هذا إلى فلسطين وسوريا والإسكندرية.
ومما يُذكر بواسطة نفس المؤرخ أنه بينما كان ثيؤدوسيوس في السجن اتصل به الخلقيدونيون والأوطيخيون ليحاول كل منهما أن يستميله إليه ولكن هذه المحاولات لم تأتِ بفائدة. ويقال إن ثيؤدوسيوس أخبر الأوطيخيين أن أفكارهم هي نفس تعاليم فالنتينوس وماني وماركيون، ويجب أن تُعرف أنها هرطقة أسوأ من هرطقة “بولس السموساطي، وأبوليناريوس ونسطوريوس”.[4]
أما بالنسبة للبابا تيموثاؤس إيلوروس بطريرك الإسكندرية، والذي يعد أكثر مَن عبَّروا عن انتقادهم لمجمع خلقيدونية بعد وقت ثيؤدوسيوس، فقد عارض أيضاً الموقف الأوطيخي بشدة. ويُذكر أنه عندما كان في نفيه، كتب رسائل إلى الإسكندرية وفلسطين يعارض فيها أولئك الذين يرفضون أن يؤكدوا أن المسيح، الذي هو واحد مع الآب في الجوهر بحسب اللاهوت، هو أيضاً وفي نفس الوقت واحد معنا في الجوهر بحسب الناسوت.[5]
وبالإضافة إلى ذلك، هناك حادثتان في حياة البابا تيموثاؤس إيلوروس تؤكدان معارضته للأوطيخية. الحادثة الأولى أثناء منفاه، حيث كان هناك رجلان من الإسكندرية ـ إشعياء من هرموبوليس، وقس يُدعى ثيؤفيلوس ـ اتخذا إقامتهما في القسطنطينية وزعما أن لهما نفس رؤية البابا تيموثاؤس أيلوروس،[6] ولكن في الحقيقة كانت الأفكار التي ينشرانها هي نفس الأفكار التي اعتُقد أن أوطيخا كان يتمسك بها.
وحينما وصلت هذه الأنباء إلى البابا تيموثاؤس في منفاه أرسل خطابات إلى كل من الإسكندرية والقسطنطينية، يحذر فيها الناس مما يفعله هذان الرجلان.[7] وأرسل البابا تيموثاؤس خطابين إلى القسطنطينية، ينصح في الأول منهما الرجلين (إشعياء وثيؤفيلوس) بالإقلاع عن تلك الأفكار، وعندما لم يتقبل الرجلان الخطاب بصورة جيدة أرسل خطابه الثاني[8] الذي كان عملاً عقائدياً يشرح الإيمان ويحتوي على عدد كبير من الاقتباسات من كتابات الآباء.
ورفض إشعياء وثيؤفيلوس هذا الخطاب أيضاً فقام البابا تيموثاؤس في النهاية بحرمهما بعلة الهرطقة.[9]
وقد ناقش البابا تيموثاؤس في خطابه الثاني موضوع الإيمان بهدف فضح تعاليم إشعياء وثيؤفيلوس اللذان روَّجا أفكارهما في ربوع القسطنطينية. ولذلك أكد البابا تيموثاؤس في خطابه أن ربنا يسوع المسيح في التجسد كان واحداً في الجوهر معنا، وأصر أن “أي واحد يجل الله لن يسمح (لنفسه) أن يحتقر رحمته برفضه الإخلاص لتعليم آبائنا القديسين الذين اعترفوا أن ربنا يسوع المسيح صار واحداً معنا في الجوهر في الجسد”.[10]
وكما فعل البابا ديسقوروس، استمر البابا تيموثاؤس ـ معتمداً على الرسالة إلى العبرانيين ـ ليؤكد أنه “إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يبيد بموته سلطان الموت أي ابليس……. وهو لم يأخذ الطبيعة من الملائكة، ولكن من نسل إبراهيم. و (من ثمَّ) كان ينبغي أن يشبه أخوته في كل شيء لكي يكون رحيماً……. لأنه فيما هو قد تألم وجُرب يقدر أن يعين المجربين”.
ويعلق البابا تيموثاؤس على عبارة ’ يشبه أخوته في كل شيء‘ ويقول: إن الأسفار “تعلم كل أولئك الذين يرغبون في بركات السماء وفي الخلاص، أنه ينبغي عليهم أن يعترفوا أن تجسد ربنا يسوع المسيح كان من مريم…….؛ وهو الذي له ذات الطبيعة مع الآب بحسب لاهوته، صار كذلك له ذات الطبيعة معها (أي مع العذراء مريم) ومعنا في الجسد”.
وبهذه الطريقة شرح البابا تيموثاؤس في خطابه إيمان الكنيسة بخصوص التجسد مفنداً تعاليم إشعياء وثيؤفيلوس الخاطئة. وقد أرسل نسخة من هذا الخطاب إلى الإسكندرية، ووجهه “إلى الإكليروس، والرهبان، والأخوات الراهبات في المسيح، والمؤمنين……. لكي تعرفوا أنني قد كتبت هذه الأشياء”.[11]
ثم حذرهم بأن “الذي لا يؤمن بحسب التقليد الخاص بربنا يسوع المسيح ابن الله ، كما علَّم به آباؤنا القديسون، فليكن محروماً”.[12] ويتضح من هذه الحادثة أن البابا تيموثاؤس إيلوروس لم يكن مؤيداً لوجهة النظر التي أدانها ليو بابا روما ومجمع خلقيدونية على أنها تعليم أوطيخا، كما أن معارضته للمجمع وللطومس لم تكن نتيجة تردده في الاعتراف بكمال بشرية ربنا.
أما الحادثة الثانية التي تثبت أن البابا تيموثاؤس إيلوروس كان يرفض التعليم المنسوب إلى أوطيخا، فقد حدثت في القسطنطينية عام 475م. وكان الإمبراطور باسيليسكوس ـ كما ذكرنا ـ قد أعاد البطريرك تيموثاؤس من منفاه، وعندما زار البابا تيموثاؤس القسطنطينية[13] شجع الإمبراطور ليصدر منشوره العام الذي يلغي مجمع خلقيدونية.
وقد أدان هذا المنشور أولئك الذين يتمسكون بفكرة أن التجسد كان شبهاً خارجياً فقط، فعارض بعض الرجال في القسطنطينية هذا الأمر، واتصلوا بتيموثاؤس ليتفقوا معه لكي يعارض هو الآخر هذه الفكرة، ولكن على عكس توقعاتهم ثار البابا تيموثاؤس ضدهم قائلاً:[14]
“إن الأسفار تعلمنا عن المسيح أنه تشابه معنا في كل شيء، وأنه صار بالكمال بنفس الطبيعة (البشرية) معنا ما عدا الخطية. وهو قد وُلد بطريقة فائقة بدون اتصال زيجي، ولكنه صار إنساناً كاملاً، إذ حُبل به في مريم العذراء وولد منها بالروح القدس، وهو نفسه ظل باستمرار الله المتجسد بدون أي تغيير”.
ومن الواضح هنا أن البابا تيموثاؤس إيلوروس قد أكد أن ناسوت ربنا كان حقيقياً وكاملاً، وأنه (أي البابا تيموثاؤس) استبعد الأوطيخية بنفس التصميم والحماس الذي كان لدى الجانب الخلقيدوني.
وإذا انتقلنا إلى مار فيلوكسينوس أسقف منبج، فسنجد أنه كان ـ كما ذكرنا ـ معارضاً قوياً للنسطورية، وكان يؤمن أنها قد عادت من جديد بمكر من خلال مجمع خلقيدونية وطومس ليو. ويتضح من كتابات مار فيلوكسينوس أنه كان يرفض الأوطيخية أيضاً بنفس الحماس الذي كان يعارض به النسطورية.
ويؤكد مار فيلوكسينوس أن الأوطيخية تؤمن فقط أن الله الابن أخذ لنفسه مظهر وشبه الإنسان[15] بدون أن يأخذ أي شيء من العذراء، وهذا التعليم يضعف من مدلول التجسد ولهذا ينبغي أن ترفضه الكنيسة. وكان فلافيان أسقف القسطنطينية وليو بابا روما قد وجدا ـ كما ذكرنا ـ في أوطيخا نفس هذه الرؤية، وقد عبَّر مار فيلوكسينوس عن موافقته لكليهما أثناء اعلانه عن هرطوقية هذه الأفكار.
وفي الحقيقة ذهب مار فيلوكسينوس في شرحه إلى القول بأن التعليم الأوطيخي لم يقع فقط في خطأ الدوسيتية* ـ كما هو شائع عنه ـ ولكنه وقع أيضاً في الثنائية المانية التي تعتبر أن المادة شر،[16] لأنه إذا كانت الأوطيخية تنكر أن ربنا قد صار متجسداً من العذراء وأنه واحد معنا في الجوهر، أفلا يتضمن هذا رفضاً منها (أي من الأوطيخية) بالاعتراف أن الله من الممكن أن يصير إنساناً على أساس الفرض المسبق بأن الطبيعة البشرية هي شر؟
ويرى مار فيلوكسينوس أن هناك تشابهاً بين النسطورية والأوطيخية حيث يقول:[17]
“وقد يبدو أن الموقف النسطوري والموقف الأوطيخي يضاد كل منهما الآخر، ولكنهما في الواقع يتمسكان بنفس وجهة النظر، لأن كليهما ينكر أن الله وُلد من مريم. فلو كان الله قد اتخذ فقط مظهر وشبه الجسد ولم يأخذ بالحقيقة جسدنا من العذراء، فلا تكون الحقيقة القائلة أن والدة الإله ’ثيؤطوكس‘ قد ولدت، هي أمر واقعي (على الإطلاق)”.
وبينما يستنكر أسقف منبج الأوطيخية على هذا النحو، نجده أيضاً يكتب عن النسطورية قائلاً:[18]
“إن النسطورية لا تعترف أن الكلمة صار جسداً، ولكنها تعترف فقط أن الجسد تكون (أولاً) ثم أتُخذ بواسطة الكلمة. وبالتالي فلا تكون مريم هي والدة الإله ’ثيؤطوكس‘، بل هي فقط والدة الجسد أو بالتحديد الإنسان الذي سكن فيه الله”.
وعند مار فيلوكسينوس ـ كما سنرى بصورة أوضح فيما بعد ـ كان الله الابن قد تجسد بالفعل بأن وحَّد بنفسه ناسوتاً حقيقياً وكاملاً من رحم العذراء، وأي عقيدة تنكر أو تقلل من هذه الحقيقة كانت بالنسبة له هرطقة ينبغي إدانتها.
أما بالنسبة للبطريرك ساويروس الأنطاكي، فقد كان ناقداً قوياً للموقف (اللاهوتي) الذي سُمي بـ ’الأوطيخية‘. وفي إشارته إلى عبارة أن المسيح ’طبيعتان قبل‘ و ’طبيعة واحدة بعد الاتحاد‘[19] كتب البطريرك ساويروس: “لم يقم أحد على الإطلاق من الذين يتمسكون بالتفكير السليم ـ ولا حتى على مستوى الخيال ـ بإقرار تعبير: طبيعتين قبل الإتحاد”.[20] لأن ذلك يعني من وجهة نظر ساويروس أن الطفل الإنساني قد تكوَّن في رحم العذراء قبل اتحاد الطبيعتين.
وبالنسبة لكافة القادة غير الخلقيدونيين، كانت فكرة أن الطفل قد تكوَّن في الرحم قبل الإتحاد لا تعني إلا نفس تعليم نسطوريوس ومؤيديه. وقد عارض البطريرك ساويروس هذه الفكرة في أماكن عديدة في كتاباته ـ بالإضافة إلى ما أوردناه قبلاً ـ ونذكر على سبيل المثال ما كتبه إلى أكيومنيوس (Oecumenius)[21] حيث قال:
“بالرغم من أن هيبوستاسيس (أقنوم) الله الكلمة كائن قبل كل الدهور والأزمنة وهو منذ الأزل مع الله الآب والله الروح، فإن الجسد ذو الروح العاقل (الذي أخذه) لم يوجد قبل اتحاده به”. ومرة ثانية يؤكد البطريرك ساويروس في إحدى عظاته: “ولم يكن الأمر أن هناك طفلاً قد تكوَّن أولاً في رحم العذراء ثم على الفور وحَّد الله الكلمة نفسه به من خلال اتحاد الإرادة واقتران الحب”.[22]
ويتضح من كل ما سبق، أنه بينما كان الجانب غير الخلقيدوني يعارض مجمع خلقيدونية وطومس ليو، إلا أنه كان واعياً تماماً أيضاً للهرطقة ’الأوطيخية‘، وقد قام باستبعادها بمنتهى القوة والحماس مثلما فعل الجانب الخلقيدوني. ومن ثم لم يكن رفض الجانب غير الخلقيدوني لمجمع خلقيدونية هو بسبب تعاطف سري أو علني مع الموقف الذي سُمي بـ ’الأوطيخية‘ في مجمع عام 451م.
ويبقى سؤال هام ينبغي علينا أن نواجهه في إطار هذا السياق، وهو:
إذا كان البابا ديسقوروس والجانب غير الخلقيدوني يعارضون ’الأوطيخية‘ بالفعل، فكيف قام مجمع عام 449م بتبرئة أوطيخا الذي عُرفت تلك الهرطقة باسمه؟. وهذا السؤال في الحقيقة له أهميته من وجهة النظر التاريخية، فالبطريرك ساويروس الأنطاكي ـ الذي كان يعتبر أوطيخا هرطوقياً بشكل مؤكد ـ لا يجد صعوبة في الاعتراف بأن البابا ديسقوروس هو “شهيد المسيح، الذي لم يحنِ وحده ركبته للبعل في مجمع الشر”.[23]
وكما أظهرنا قبلاً، كان البابا ديسقوروس قد أقر في مجمع خلقيدونية أن الأفكار التي قيل عنها أنها لأوطيخا هي بالفعل أفكار هرطوقية، ولكنه أقر أيضاً أنه لا يوجد أي سند في محاضر الجلسات المسجلة لمجمع عام 448م يفيد أن أوطيخا كان بالفعل يتمسك بتلك الأفكار.[24] ومن الجدير بالذكر أن الأساقفة المصريين لم يذكروا أوطيخا بالاسم كهرطوقي في التماسهم الذي قدموه لمجمع خلقيدونية يوم 17 أكتوبر عام 451م.[25]
وحتى بعد مجمع خلقيدونية، لم يتضمن منشور باسيليسكوس اسم أوطيخا في قائمة الهراطقة التي أوردها على الرغم من أن المنشور أدان الهرطقة المنسوبة إليه.[26] أما منشور الإتحاد (الهينوتيكون) الذي أصدره زينو عام 482م فقد أعلن أوطيخا كهرطوقي،[27] وكان ذلك المنشور مقبولاً من الكيان غير الخلقيدوني.
وقد ناقش البطريرك ساويروس الأنطاكي هذا الأمر في عدد من رسائله، فإذا نظرنا إلى هذه الرسائل معاً سنجد أنه أورد فيها ثلاث نقاط أساسية:
أولاً، ذكر البطريرك ساويروس أن مجمع أفسس الثاني عام 449م كان قد أبرأ أوطيخا على أساس أمرين:
-قام المجمع (عام 449م) بإصدار حكمه بعد فحص “محاضر الجلسات التي دُونت في المدينة الملكية (القسطنطينية) والتي تضمنت الشهادات (الأقوال) التي بُنيت عليها إدانة أوطيخا”. وقد حكم المجمع بأنه لم يكن مستحقاً الإدانة.
-قام أوطيخا نفسه بتقديم التماس يحرم فيه ماني وفالنتينوس وأبوليناريوس، وأولئك الذين يقولون أن جسد ربنا قد نزل من السماء، كما أضاف أوطيخا أيضاً بعض النقاط التي ـ كما أشار ساويروس ـ لم تتم قراءتها في مجمع خلقيدونية، وذكر البطريرك ساويروس أنه أورد هذه الكلمات في رسالته إلى سرجيوس الطبيب والمفكر.[28]
وقد فُقدت هذه الكلمات من رسالة البطريرك ساويروس التي نُشرت في ’كتابات الآباء الشرقيين‘ (Patrologia Orientalis)، ومن المحتمل أن تكون هذه العبارات هي نفس العبارات التي سبق أن ذكرناها فيما قبل.[29] وعلى أي حال، فإن دفاعات البطريرك ساويروس انتهت إلى تأكيده بأن أوطيخا لم يُبرَّأ في مجمع عام 449م على أساس نفس الأسباب التي تمت إدانته بسببها في مجمع خلقيدونية.
ثانياً، يؤكد البطريرك ساويروس أنه “بعد هذه الأمور، رجع أوطيخا نفسه إلى قيء رأيه الشرير”.
ثالثاً، إن ارتداد أوطيخا هذا لا “يأتي باللوم” على مجمع عام 449م، ولا على البابا ديسقوروس.[30]
ونستطيع أن نستنبط ملاحظتين على الأقل من الرأي الذي كان يصر عليه البطريرك ساويروس:
الملاحظة الأولى هي أن البطريرك ساويروس لم يذكر بوضوح متى قام أوطيخا بالفعل بتعليم الأفكار التي نُسبت إليه. كما أن كلمات البطريرك ساويروس “رجع إلى رأيه الشرير” تحمل ضمنياً معنى أن أوطيخا كان من الأصل هرطوقياً، ولكننا رأينا أن مجمع عام 449م قد برَّأه وحكم بأن الأساس الذي تمت عليه إدانته في مجمع عام 448م لا يمكن تبريره، كما أعلن أن اعتراف الإيمان الذي قدَّمه أوطيخا كان أرثوذكسياً؛ ومع ذلك وعلى الرغم من هذه الرأفة عاد أوطيخا (بحسب رأي ساويروس) إلى آرائه الأولى.!
وفي الحقيقة، أنه لا يمكن أن يُستنتج تفسير من هذا النوع من محاضر جلسات مجمع عام 449م، لأن فحص المجمع لقضية أوطيخا ـ كما رأينا[31] ـ لم يُظهر أنه كانت لدى الوفود المجتمعة أي شبهة تتعلق بالموقف اللاهوتي (السابق) للرجل، وبالتالي فإن اتهام أوطيخا بأنه عاد إلى رأيه الشرير، لا يمكن ـ لو كان قد حدث ـ أن يكون قد تم قبل وقت انعقاد ذلك المجمع، فإذا افترضنا أنه حدث في الفترة بين وقت انعقاد المجمع عام 449م ونفي أوطيخا عام 450م فيكون من الغريب حقاً أن هذه الأخبار لم تصل في حينها إلى البابا ديسقوروس والأساقفة المصريين، ولا حتى إلى أولئك الذين وضعوا مسودة منشور باسيليسكوس عام 475م.*
وفي الواقع لم يقم البطريرك ساويروس بالإجابة على هذه التساؤلات في تقييمه لأوطيخا، ولا يوجد أمامنا غير احتمال واحد في مواجهة هذه الملابسات التاريخية وهو أنه كان يوجد رجال في تلك الأيام الماضية يعتنقون الأفكار التي نُسبت لأوطيخا، وأن بعضاً منهم على الأقل كان يعتبر الراهب العجوز رائداً لهم. وهكذا يظل السؤال عن هل قام أوطيخا نفسه بتعليم الأفكار التي نُسبت إليه، سؤالاً مطروحاً. أما فيما يخص الأفكار نفسها، فإننا لدينا دلائل قاطعة على أن كلا الجانبين الخلقيدوني وغير الخلقيدوني قد استبعدها منذ بداية الصراع بينهما.
الملاحظة الثانية، هي أن البطريرك ساويروس لم يقدم في دفاعه عن مجمع أفسس الثاني عام 449م أي تبرير للطريقة التي عالج بها المجمع تردد أوطيخا في الإقرار بعبارة “واحد معنا في الجوهر”. وعلى الرغم ـ كما ذكرنا[32] ـ من أن المعنى الذي وراء تلك العبارة كان متضمناً في اعتراف أوطيخا بالإيمان إلاّ أنه كان متردداً في الإقرار بالعبارة نفسها، ولكن مجمع عام 449م لم يعطِ اهتماماً كافياً لتلك النقطة.
وما يهمنا هنا ـ من وجهة نظر هذا البحث ـ هو التأكيد على حقيقة أن الجانب غير الخلقيدوني كان منذ البداية يدين الأفكار التي يصفها الجانب الخلقيدوني بـ ’الأوطيخية‘. وإذا أضفنا إلى ذلك ما قدَّموه في هذه الأثناء من شروحات لموقفهم اللاهوتي، فسوف يتضح بأجلى بيان أن غير الخلقيدونيين يؤمنون بأن الطبيعتين اللتين اتحدتا في المسيح قد استمرتا فيه بدون أي إضمحلال.
3. فكرة أن المسيح له خصوصية واحدة:
ظهرت هذه الفكرة في أيام البطريرك ساويروس الأنطاكي بواسطة رجل يُدعى سرجيوس النحوي، حيث كتب خطاباً حول هذا الأمر وأرسله إلى البطريرك ساويروس يسأله عن رأيه.[33] وقد أكد النحوي:
“إن اللاهوت والجسد ’هما جوهران‘. الأزلية هي خصوصية الأول، وإمكانية الفساد هي خصوصية الأخير*“، وحين صار الله الابن إنساناً، اتخذ جسداً “وولد بطريقة فائقة للطبيعة (supernaturally)” كما أنه “لم يرى فساداً”. ومن هنا يؤكد سرجيوس أنه “بسبب الاتحاد، زالت خصوصية الجسد”، ولذلك “من الأفضل أن نقول أنه توجد خصوصية واحدة (للمسيح)”، ويكمل سرجيوس بقوله “فلماذا إذن نقول أنه توجد هناك خصوصيتان؟”.[34]
وبدأ البطريرك ساويروس مناقشته للأمر بقوله أن التأكيد على وجود فرق في الخصوصيتن هو تعليم الآباء، فقد أكدوا على أن الطبيعتين اللتين اتحدا في المسيح الواحد هما مختلفتان “لأن واحدة غير مخلوقة، والأخرى مخلوقة”.[35] ولكن بينما “يظل الاختلاف بين خواص الطبيعتين قائماً”، “فإن الطبيعتين اللتين يتكون منهما المسيح الواحد” اتحدتا “بدون اختلاط”، وبهذه الطريقة “يُقال إن كلمة الحياة قد أصبح مرئياً وملموساً”.*
ويؤكد البطريرك ساويروس إننا عندما نفكر في عمانوئيل سنرى أن اللاهوت والناسوت هما مختلفان، وبينما نعترف بالاتحاد فإننا لا ننكر الاختلاف الذي بين الطبيعتين اللتين يتكون منهما المسيح الواحد”، وهذا بالرغم من أننا نستبعد وجود أي انقسام بسبب ’الاتحاد الهيبوستاسي (الأقنومي)‘.[36]
وهكذا ظلت خواص كلتا الطبيعتين باقية في المسيح الواحد مع الطبيعتين نفسيهما، بدون اختلاط ولا انقسام. وحيث إن الطبيعتين اتحدتا، فقد حدث تبادل للخواص والذي به أصبح “الكلمة يُعرف في خواص الجسد”، كما أن الخواص البشرية أصبحت “تنتمي للكلمة، وخواص الكلمة (تنتمي) للجسد”.[37] وهذا الاتحاد هو بدون اختلاط، حيث لم تُفقد فيه أي من الطبيعتين ولا أي من خواصهما أو ملكاتهما.
ويمكننا أن نميِّز هذا الموقف ذاته ،الذي تبناه البطريرك ساويروس، عند كل القادة المعترف بهم في الجانب غير الخلقيدوني من الكنيسة. وهذا يُظهر أنهم لم يؤكدوا فقط على استمرار الطبيعتين في المسيح الواحد وإنما حافظوا أيضاً على مبدأ عدم فقدان أو اضمحلال أي خصوصية أو ملكة من أي من هاتين الطبيعتين.
[1] Zacharia, op. cit., I, pp. 161f.
[2] لقد أكد يوحنا ـ كما يقول زكريا المؤرخ ـ أن “الله الكلمة ذاته أصبح الجسد وتألم فيه، هذا إذا كان قد تألم، وبهذا أنكر أنه كان متحداً بجسد بشري”. (المرجع السابق، 1: صفحة 163).
[3] Zacharia, op. cit., I, p. 164.
[4] المرجع السابق صفحة 162.
[5] المرجع السابق صفحة 186.
[6] المرجع السابق صفحة 186.
[7] للإطلاع على الخطابات انظر (المرجع السابق صفحة 186).
[8] للإطلاع على هذا الخطاب انظر (المرجع السابق صفحة 186-202).
[9] للإطلاع على خطاب البابا تيموثاؤس الذي يحرم فيه إشعياء وثيؤفيلوس انظر (زكريا الخطيب، المرجع السابق صفحة 202-205). وقد كتب البابا تيموثاؤس أن إشعياء وثيؤفيلوس يؤمنان بأن “جسد ربنا كان واحداً في الجوهر مع نفسه وليس معنا. وأنه (أي الكلمة) لم يصر إنساناً بالحقيقة”. (نفس المرجع صفحة 203). وفي هذا الخطاب ثبَّت البابا تيموثاؤس مدة التوبة للعائدين من الهرطقة بسنة واحدة متتبعاً في ذلك وصية سلفيه البابا كيرلس والبابا ديسقوروس.
[10] Zacharia, op. cit., I, p. 188.
[11] المرجع السابق صفحة 201-202.
[12] المرجع السابق صفحة 201.
[13] المرجع السابق صفحة 209 وما يليها.
[14] المرجع السابق صفحة 215-216. وهذه الحادثة مذكورة في دراستنا الحالية صفحة 207.
[15] كتب مار فيلوكسينوس: “إن الأوطيخيين يؤمنون فقط بأن الله اتخذ شكل وشبه الإنسان، بينما يرفضون تأكيد أنه أخد أي شيء من مريم حينما أخذ الجسد. وظنوا أنهم إذا افترضوا شيئاً مثل هذا (أي إذا افترضوا أنه أخذ جسداً من مريم العذراء) فإن ذلك سيقودهم إلى القول بأن التجسد قد أحدث إضافة إلى الثالوث” انظر: (Philoxenos, op. cit., p. 154)
* الدوسيتية (أي الخيالية) هي بدعة تنادي بأن جسد المسيح لم يكن جسداً حقيقياً بل قد بدا كذلك، أي كان جسداً وهمياً (أو خيالياً).
[16] أكد مار فيلوكسينوس أنه “لو كان الأوطيخيون يؤمنون مثلنا بأن كل شيء عُمل وخاصة طبيعة الإنسان هو خليقة الله، فما كانوا قد تحدثوا مثل المانيين (Manichaean) بأن جسد الله هو ليس من طبيعتنا…. إن خليقة الله حسنة، ولهذا صار الخالق إنساناً منها. فإذا كانوا مترددين في التسليم بذلك، فدعهم يقولون بوضوح أن طبيعة الإنسان هي من الشر، ليظهروا أنفسهم أنهم ليسوا فقط خياليين ولكن أيضاً مانيين”. (المرجع السابق، صفحة 42-43).
[17] Philoxenos, op. cit., p. 141.
[18] المرجع السابق صفحة 141.
[19] انظر صفحة 59.
[20] Contra Grammaticum, op. cit., II, p. 239.
وهناك موقف مشابه اتخذه البابا تيموثاؤس إيلوروس ضد عبارة أوطيخا. انظر:
(The Council of Chalcedon, op. cit., p. 262).
[21] Patrologia Orientalis, vol. XII, pp. 190-1.
[22] Ibid., vol. VIII, p. 221.
[23] Ad Nephalium, C. S. C. O., Tomus VII, ed. J. Lebon, 1949, p. 141.
[24] انظر صفحة 111.
[25] انظر صفحة 152.
[26] انظر صفحة 206.
[27] انظر صفحة 215، 216.
[28] Patrologia Orientalis, vol. XII, pp. 264-268.
وهذا مشار إليه في الدراسة الحالية صفحة 75. وعن سرجيوس هذا انظر صفحة 262.
[29] انظر صفحة 75.
[30] Patrologia Orientalis, vol. XII, pp. 267-268.
[31] انظر صفحة 71 وما يليها.
* لأن منشور باسيليسكوس لم يتضمن اسم أوطيخا في قائمة الهراطقة التي أوردها على الرغم من أن المنشور أدان الهرطقة المنسوبة إليه.
[32] انظر صفحة 55 وما يليها والمرجعان 156، 157 صفحة 81.
[33] للإطلاع على الخطابات المتبادلة بين سرجيوس والبطريرك ساويروس انظر:
(Ad Nephalium, op. cit., pp. 70f)
* كان سرجيوس يفهم ’خصوصية‘ بأنها تعني التميز المتفرد للشيء ككل (أو للطبيعة ككل)، وبالتالي فكل طبيعة لها تميز محدِّد واحد. ويقول سرجيوس حيث إن الله له تميزه الخاص وهو الأزلية والإنسان له تميزه الخاص وهو إمكانية الفساد، فبما أن المسيح ليس أزلياً (حيث ولد في الزمن بطريقة فائقة) كما إنه لم يرى فساداً، فلذلك تكون له خصوصيته الفريدة التي ليست هي خصوصية الله ولا خصوصية الإنسان ولكنها خصوصية فريدة تخص المسيح وحده. وكما أن المسيح هو طبيعة واحدة من طبيعتين لذلك يمكننا أن نقول أيضاً أنه خصوصية واحدة من خصوصيتين.
[34] Ad Nephalium, op. cit., pp. 71-72.
[35] المرجع السابق صفحة 74-77.
* يذكر إيان تورانس في كتابه “التعليم عن المسيح بعد مجمع خلقيدونية” والذي يحتوي على ترجمة إنجليزية للمراسلات بين ق. ساويروس الأنطاكي وسرجيوس النحوي، أن ق. ساويروس كان يفهم الخصوصية بثلاث معانٍ متباينة ظهرت في خطاباته الثلاث إلى سرجيوس: (1) خواص الشيء (2) سمة مخصوصة بشيء معين ـ أو طبيعة معينة ـ تخصه وحده دون غيره، مثل أن الضحك سمة مخصوصة بالإنسان دون غيره (3) الهوية الخاصة بشيء ما، فالجسد هو جسد وليس حجراً وذلك ببساطة لأنه هو جسد، وقد يَسوَّد لونه أو يتحطم أو يتم طهيه، ولكنه مع ذلك يظل جسداً، أي يظل محتفظاً بهويته الخاصة كجسد وليس شيئاً آخراً.
[36] Ad Nephalium, op. cit., p. 79.
[37] المرجع السابق صفحة 79. ويقر البطريرك ساويروس بما هو أكثر من ذلك إذ يقول:
“ولذلك فبينما نحرم أولئك الذين يؤكدون أن عمانوئيل بعد الاتحاد هو طبيعتين بما لهما من فعلين وخواصين، فإننا لا نضعهم تحت الإدانة بسبب قولهم بالطبيعتين أو الفعلين أو الخواصين؛ ولكن لأنهم بينما يؤكدون على الطبيعتين بعد الاتحاد، ينسبون الأفعال والخواص لكل طبيعة على حدة، وبذلك هم يفصلونهما”. (المرجع السابق، صفحة 80).