أبحاث

التعليم الخريستولوجي للتقليد غير الخلقيدوني

التعليم الخريستولوجي للتقليد غير الخلقيدوني

التعليم الخريستولوجي للتقليد غير الخلقيدوني

التعليم الخريستولوجي للتقليد غير الخلقيدوني
التعليم الخريستولوجي للتقليد غير الخلقيدوني

 

1. بعض الملاحظات التمهيدية:

عندما نقوم بفحص الأسباب التي جعلت المسيحيين في مصر وفي أجزاء كثيرة في الشرق يعارضون مجمع خلقيدونية، ستتضح أمامنا حقيقة واحدة من خلال وثائق القرنين الخامس والسادس، ألا وهي أنهم رفضوا الاعتراف بذلك المجمع على أسس لاهوتية جوهرية.

وبالرغم من أنه ليس من المستبعد أن يكون لدى أولئك المسيحيين شكوى عنيفة ضد مجمع عام 451م بسبب الطريقة التي عُومل بها البابا ديسقوروس وبسبب القرار الخاص بالقسطنطينية، إلا أن تلك الأمور لم يأتِ ذكرها في أي من الوثائق سوى بطريقة غير مباشرة، حيث ظل السبب الرئيس المعلن لرفض المجمع هو سبب لاهوتي.

وفي محاولتنا لفهم وجهة نظر أولئك المعارضين، يتعين علينا أن نتذكر حقيقة أنهم كانوا يتمسكون بإخلاص بالتقليد اللاهوتي السكندري الذي كان بالنسبة لهم هو التقليد الأرثوذكسي الوحيد.

ولم يكن هذا التقليد يقتصر على الإسكندرية أو مصر، ولكنه في الحقيقة كان منتشراً في جميع المناطق في الشرق، ومنذ إدانة نسطوريوس ازداد التقدير لهذا التقليد بصورة كبيرة كما صار البابا كيرلس ـ أكثر من أي شخص آخر ـ هو الرجل اللاهوتي الذي يعبِّر عن الأرثوذكسية بكل إمتياز.

وهذه الشعبية التي نالتها تعاليم آباء الإسكندرية لم تكن شعبية مطلقة أو كليةً إذ كان لها معارضون في الجانب الأنطاكي. وكان المؤيدون للتقليد الأنطاكي ـ كما رأينا ـ يحاولون بشتى الطرق تقوية موقفهم، وكانوا في سعيهم هذا يحرِّفون ـ عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ ـ وجهة نظر الجانب السكندري.

وكانت هذه بالفعل هي طبيعة التوتر في الشرق التي على خلفيتها عُقدت المجامع الكنسية الثلاثة عام 448م وعام 449م وعام 451م. وبالنسبة للمنتمين للتقليد السكندري، اعتُبر مجمع عام 448م أنه دافع عن التقليد الأنطاكي وقد تم تصحيح ذلك من خلال مجمع عام 449م، ولكن مجمع خلقيدونية عام 451م قام بإلغاء قرارات مجمع عام 449م.

ولكي نستطيع تقدير وجهة النظر تلك، لابد أن نقوم ببحث الموقف اللاهوتي الذي أقره مجمع خلقيدونية. ومن أجل هذا، سنقوم بفحص الفكر اللاهوتي الذي أكده طومس ليو من جهة، والفكر اللاهوتي الذي أكده تعريف الإيمان الخلقيدوني من الجهة الأخرى. وبعد ذلك سنناقش تعليم البابا ديسقوروس لكي نرى ما هي بالتحديد الأمور التي كان يريد التشديد عليها.

 

2. الفكر اللاهوتي لطومس ليو:

كان الأمر المركزي في مجمع خلقيدونية ـ كما سبق وأوضحنا ـ هو قبول أو عدم قبول طومس ليو. ولذلك سيكون من المناسب هنا أن نعطي ملخصاً مختصراً لهذه الوثيقة، لكي نرى مدى الصعوبة التي يمكن أن يجدها (الشخص) اللاهوتي السكندري في تقبل وهضم الفكر اللاهوتي لتلك الوثيقة.

 

(أ) ملخص مختصر لطومس ليو:

كانت الوثيقة مؤلفة لغرض محدد هو تأييد إدانة أوطيخا التي أعلنها مجمع عام 448م. وقد أخذ الطومس في عرض الموضوع من بدايته الأولى،[1] حيث ذكر أنه: بدلاً من أن يتعلم أوطيخا من أولئك الأكثر منه حكمة اعتمد على فهمه الناقص للإيمان، ولو كان قد توقف فقط ليفحص بعناية العبارة الواردة في قانون الإيمان “أؤمن بالله الآب الضابط الكل، وبابنه الوحيد يسوع المسيح ربنا الذي وُلد من الروح القدس ومن مريم العذراء”،[2] لما كان قد وقع في تلك الهرطقة الحمقاء.

وعندئذ بدأت الوثيقة تقدم أدلة من الأسفار لتبين بها أن “المولود الوحيد الأزلي نفسه الذي من الآب الأزلي، هو ذاته الذي وُلد من الروح القدس ومن مريم العذراء”.

وبهذه الطريقة أخذ الله الابن طبيعتنا لأجل شفائنا، ولكن أوطيخا ـ على عكس هذا التعليم الواضح ـ استعمل “كلمات مضللة” وقال إنه “قد حُبل به في رحم العذراء”، وأن المسيح “أخذ شكل إنسان بدون جسد حقيقي مأخوذ من أمه”. والحق هو أن “الروح القدس جعل العذراء تحبل وتلد، ولكنه كان جسد حقيقي مأخوذ من جسدها” ذاك الذي ولدته.

وقد اتخذ الله الابن الأزلي ناسوتاً بحيث إن “خواص كلتا الطبيعتين والجوهرين محفوظة ومتواجدة معاً في شخص واحد”. إن ابن الله “نزل من عرشه السماوي” ولكنه في نفس الوقت “بدون أن يتنحى عن مجد الآب”، ودخل في هذا العالم وولد بطريقة جديدة.

وبهذا الميلاد (الزمني) لم يتغير اللاهوت إلى ناسوت، ولا ابتُلع الناسوت في اللاهوت، ولكنهما كانا متحدين تماماً بحيث إن “كل طبيعة تقوم بما هو ملائم (proper) لها (أو مختص بها) وهي في شركة (communion) مع الأخرى؛ فعلى سبيل المثال كان الكلمة يقوم بما هو ملائم للكلمة، وكان الجسد ينفذ ما هو ملائم للجسد”.

فكإنسان كان يمكنه أن يشعر بالجوع والعطش وأن يتعب وينام؛ ولكن كإله أشبع الآلاف من الناس بخمس خبزات كما صنع معجزات أخرى. والحق أنه “في الرب يسوع المسيح، يوجد شخص واحد لله والإنسان، ومع ذلك فإنه من حيث التألم الذي هو مشترك لكليهما فإن هذا شيء، ومن حيث المجد الذي هو مشترك (أيضاً) لكليهما فإن هذا شيء آخر؛ لأن الناسوت الذي أدنى من الآب هو له منا، واللاهوت المساوي للآب هو له من الآب”.

ومن هنا فإن وحدة الشخص “ينبغي أن تُفهم بكونها كائنة في طبيعتين”، ولذلك يمكننا أن نقول أن ابن الإنسان أتى من السماء، وأن ابن الله أخذ جسداً وولد من العذراء.

واستمر الطومس ليبين أنه طبقاً لشهود العهد الجديد، فإن المسيح هو إنسان وإله معاً، والرسول بطرس على سبيل المثال أوضح ذلك بصورة جلية في اعترافه التاريخي في قيصرية فيلبس، وبالتالي كان هناك سبب وجيه لكي “يعلن الرب طوباويته” وأن “يشتق (الرب) ثبات قوته واسمه من الصخرة الأصلية”.

وكانت ظهورات ربنا بعد القيامة من أجل تأكيد هذه الحقيقة العظمى للتلاميذ. وقد فشل أوطيخا في إدراك هذا، لأنه لم يميِّز “طبيعتنا في (الابن) المولود الوحيد، لا في حالة تواضع الموت ولا في حالة مجد القيامة”، وبهذه الطريقة تجاهل حقيقة الصليب وبالتالي أنكر المعنى الحقيقي لخلاصنا.

وقام البابا ليو بتوبيخ فلافيان أسقف القسطنطينية لأنه لم يُسكِت الراهب أوطيخا حين قال: “أنا أعترف أن ربنا من طبيعتين قبل الاتحاد، ولكن بعد الاتحاد أنا أقر أنه بالحق طبيعة واحدة”.[3]

(ب) بعض الملاحظات على طومس ليو:

كان البابا ليو قد وضع هذا الطومس في ضوء افتراضٍ مبدئي بأن أوطيخا قد فشل في تأكيد حقيقة ناسوت المسيح وميلاده البشري، ولذلك ركز البابا ليو في الطومس على ثلاثة نقاطٍ بقصد استبعاد الخطر المتضمَّن في الموقف الذي نُسب لأوطيخا. وهذه النقاط هي:

(1) إن ناسوت المسيح كان حقيقياً ـ فقد وُلد كإنسان من الأم العذراء، وكان له كل الخواص الإنسانية الجوهرية، ومات وقام ثانية من بين الأموات.

(2) من خلال ميلاد وحياة وتدبير يسوع المسيح، دخل الله الكلمة ـ الأقنوم الثاني في الثالوث القدوس ـ بنفسه في الوجود التقليدي للجنس البشري وتمم خلاصه.

(3) إن لاهوت الكلمة والناسوت الذي اتخذه، قد استمرا في شخصه الواحد بدون تغيير.

وفي الحقيقة كان التقليدان اللاهوتيان السكندري والأنطاكي يقران بكل هذه التأكيدات (الواردة في الطومس) بدون أي تحفظ. ولكن الصدام بينهما كان قد حدث نتيجة تخوف الجانب السكندري من أن الجانب الآخر لا يؤكد على وحدة شخص المسيح بالمعنى الحقيقي، وكذلك تخوف الجانب الأنطاكي من أن الجانب الآخر يتجاهل حقيقة ناسوت المسيح. وكان طومس ليو بالفعل يقدم العقيدة بالطريقة التي تحقق الرضاء التام للجانب الأنطاكي.

فماذا إذن عن اهتمامات الجانب السكندري؟. لقد تحدث طومس ليو عن ’شخص واحد‘، فماذا كان يعني البابا بهذا التعبير؟ ولكي نقدم السؤال بهذا الشكل ينبغي علينا أن نتذكر أولاً أنه في السياق التاريخي للقرن الخامس كان اللاهوتيون الشرقيون يستخدمون الكلمتين ’بروسوبون‘ و ’هيبوستاسيس‘ اليونانيتين كمرادف يكافئ كلمة ’برسونا‘ عند اللاتين. وكان الأنطاكيون ـ كما ذكرنا سابقاً ـ يؤكدون على اتحاد الطبيعتين في نطاق (أو على مستوى) ’البروسوبون‘، وعلى هذا الأساس كانوا يعلِّمون أن المسيح هو طبيعتين متحدتين في بروسوبون واحد.

ولكن السكندريون أصروا على أن اتحاد الطبيعتين كان بحسب ’الهيبوستاسيس‘ وأن المسيح هو هيبوستاسيس واحد وبروسوبون واحد،* لأن الطبيعتين الإلهية والإنسانية كانتا متحدتين إلى درجة أن المسيح لم يكن “طبيعتين بعد الاتحاد”؛ وهو كان دائماً “من طبيعتين” ولكنه مع ذلك “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة”.

وفي الحقيقة كانت تلك الرؤية السكندرية هي الأساس اللاهوتي الذي تمت على أساسه إدانة نسطوريوس كهرطوقي في مجمع عام 431م. ومن ثم يصبح السؤال عن المعنى الذي كان البابا ليو يقصده من تعبير ’شخص واحد‘، هو سؤال وثيق الصلة بالموضوع. فهل كان يعني بتعبير ’شخص واحد‘ أنه ’هيبوستاسيس واحد‘ أم ببساطة مجرد ’بروسوبون واحد‘؟.

من الواضح من الطومس أن البابا ليو لم يتطرق إلى تلك الأمور (أو الفروق) الدقيقة الخاصة بالشرق، وفي أغلب الظن أنه لم يكن ملماً بها، ولذلك حينما كان يؤكد وحدة شخص المسيح أصر على أن “كل طبيعة تقوم بما هو ملائم (proper) لها (أو مختص بها) وهي في شركة (communion) مع الأخرى؛ فعلى سبيل المثال كان الكلمة يقوم بما هو ملائم للكلمة، وكان الجسد ينفذ ما هو ملائم للجسد”، وأن وحدة الشخص “ينبغي أن تُفهم بكونها كائنة في طبيعتين”.

ورأى القادة الذين تربوا على التقليد اللاهوتي السكندري في عبارة ’شخص واحد كائن في طبيعتين‘ ما يتضمن فقط معنى ’البروسوبون‘، كما رأوا في عبارة ’أن كل طبيعة تقوم بما هو ملائم لها وهي في شركة مع الأخرى‘ ما يحمل معنى ’الهيبوستاسيس‘، وهذا بالتحديد ما كان الأنطاكيون يعلِّمون به طوال الوقت. وهكذا فهم السكندريون أن ليو يؤمن أن ’الهيبوستاسيسين‘ أي الله الابن ويسوع الإنسان اتحدا في ’بروسوبون‘ واحد.

وإذا قارنوا الطومس مع رسائل البابا كيرلس التي أرسلها إلى نسطوريوس وبالأخص الرسالة التي احتوت على الحروم، فسيجدون تناقضاً حقيقياً بين تعليم اللاهوتي السكندري وتأكيدات البابا ليو. لأن ق. كيرلس على سبيل المثال كان قد أوضح تماماً أن الأقوال والأفعال يقوم بها الهيبوستاسيس المتجسد الواحد، بينما يذكر الطومس أن الأقوال والأفعال تقوم بها الطبيعتان،[4] فإذا أُخذ مصطلح ’الطبيعة‘ بمعنى ’الهيبوستاسيس‘ ـ وهو المعنى الوحيد المعقول والمنسجم مع سياق النص ـ سيكون هذا الموقف بالتحديد هو ما لا يمكن قبوله على الإطلاق.

 

[1]   للاطلاع على الطومس انظر: (ACO. II, i. pp. 10f.). الأصل اللاتيني مع الترجمة الإنجليزية موجودة في (T. H. Bindley, op. cit.).

[2] هنا اقتبس ليو بابا روما من قانون الإيمان الروماني القديم وليس من قانون نيقية.

[3]   يذكر طومس ليو أن كلمات أوطيخا هي:

Confiteor ex duabis naturis fuisse Dominum nostrum ante adunationem post adunationem vero unam Confiteor”  

والحقيقة أن الأصل اليوناني الذى عبَّر فيه الراهب عن هذه الكلمات ليس فيه كلمة تتطابق مع كلمة (vero) التي ذُكرت باللاتينية التي كتب بها الطومس. (وهذه الكلمة تعني بالحق أو بالتأكيد أو في الواقع)

*   انظر الملحق الموجود في نهاية الكتاب عن “التطور التاريخي لمدلول المصطلحات المستخدمة في الجدال اللاهوتي في الكنيسة في العصور الأولى”.

[4]   كان هذا هو الاختلاف بين البابا كيرلس والبابا ليو، والذي يبدو أن بول جالتييه قد تجاهله في محاولته التوفيق بين الرجلين. وكما سنرى فلم تكن صيغة إعادة الوحدة تبرر التعليم الذي قدمته روما أثناء النزاع. انظر:

(Galtier’s essay on Le Saint Cyrile d’Alexandrie et Saint Leon le Grand a Chalcedon, in Das Konzil Von Chalkedon, op. cit., vol. I)

التعليم الخريستولوجي للتقليد غير الخلقيدوني