أبحاث

ردود الأفعال في الشرق تجاه مجمع خلقيدونية ج2

ردود الأفعال في الشرق تجاه مجمع خلقيدونية ج2

ردود الأفعال في الشرق تجاه مجمع خلقيدونية ج2

ردود الأفعال في الشرق تجاه مجمع خلقيدونية ج2
ردود الأفعال في الشرق تجاه مجمع خلقيدونية ج2

الجزء الأول: ردود الأفعال في الشرق تجاه مجمع خلقيدونية ج1

الجزء الثالث: ردود الأفعال في الشرق تجاه مجمع خلقيدونية ج3

3. المعارضة تكتسب قوة:

عندما مات الإمبراطور ليو الأول يوم 18 يناير عام 474م، كان لديه ابنتان هما أريادن (Ariadne) وليونتيا (Leontia). وكانت الابنة الكبرى أريادن قد تزوجت عام 468م من زينو الذي من (Isauria) والذي كان قائداً للجيش في الشرق منذ عام 466م أو 467م. وحينما أنجبا طفلاً أسمياه ليو (مثل جده)، وقد تم تنصيب هذا الطفل إمبراطوراً مساعداً أو شريكاً (co-emperor) لجده ليو الكبير. وعند وفاة الأخير، تم تعيين زينو إمبراطوراً مساعداً أو شريكاً (co-emperor) مع ابنه الصغير، ومات هذا الابن يوم 17 نوفمبر (عام 474م) وحينئذ صار زينو إمبراطوراً منفرداً بالسلطة.

وبعد قليل أدرك زينو أن له معارضين بين أقربائه وأهل بلدته، وكان من بين هؤلاء المعارضين باسيليسكوس أخو زوجة الإمبراطور المتوفي فيرينا (Verina)، الذي كان في وقت ما ضابطاً زميلاً لزينو. واستطاع باسيليسكوس بمساعدة أكاكيوس (Acacius) أسقف القسطنطينية والملكة الأم نفسها أن يستولي على رئاسة الإمبراطورية. وبعد أقل من عامين عاد زينو ليتغلب عليه ويستعيد وضعه الإمبراطوري مرة أخرى في نهاية أغسطس عام 476م.

 

(أ) باسيليسكوس ومنشوره العام:

كان يوم 9 يناير عام 475م، هو اليوم الذي تم فيه إعلان باسيليسكوس إمبراطوراً. وكان من أول الأعمال التي قام بها باسيليسكوس حين وصل إلى السلطة، أنه أرجع القادة غير الخلقيدونيين من النفي أمثال البابا تيموثاؤس إيلوروس، وبطرس القصَّار، وبولس أسقف أفسس وآخرين.

وكان السبب الذي دعا باسيليسكوس لتبني تلك الخطوة هو بالفعل محل تساؤل شغل تفكير المؤرخين، ولكننا في الحقيقة لدينا تفسير لذلك من خلال ما رواه زكريا[1] عن الواقعة، فقد ذكر أنه عند سماع خبر موت الإمبراطور ليو وتنصيب زينو مكانه، حضر وفد من الرهبان من مصر إلى العاصمة لكسب تعاطف الإمبراطور الجديد تجاه قضية غير الخلقيدونيين.

وعندما وصلوا إلى القسطنطينية وجدوا أن السلطة قد أصبحت في يد باسيليسكوس بدلاً من زينو، وأن ثيؤكتيتوس (Theoctitus) صار هو القائد العام، وكان أحد أولئك الرهبان هو ثيؤبامبيس (Theopampis) أخو ثيؤكتيتوس، فاستطاع هؤلاء الرجال بمشورة أكاكيوس (أسقف القسطنطينية) وتحت تأثير زينونيس[2] (Zenonis) زوجة باسيليسكوس أن يجعلوا الأخير يُقدِم على هذه الخطوة.

وبسبب صلة ثيؤكتيتوس بثيؤبامبيس خشي أكاكيوس أن يحاول الضابط الكبير أن يجعل أخيه يحل محله، ولذا ابتدأ يفتر حماسه في تأييده لباسيليكوس، وقد حاول أكاكيوس حتى أن يلغي زيارة البابا تيموثاؤس إيلوروس للعاصمة ولكنه لم ينجح في ذلك.

وأتى البابا تيموثاؤس إيلوروس إلى القسطنطينية واستقبله مالكو السفن السكندريون وشعب المدينة، وأثناء إقامته في العاصمة كضيف للإمبراطور وزوجته شجع البابا تيموثاؤس الإمبراطور باسيليسكوس ليصدر منشوراً عاماً يلغي فيه الابتكار والابتداع (في الإيمان) الذي حدث في خلقيدونية، ويدين طومس ليو.

ولكن جهود البابا تيموثاؤس لضم البطريرك أكاكيوس في جانب هذا المنشور، من خلال ضمان توقيعه على تلك الوثيقة باءت بالفشل. وهكذا ومنذ البداية حُكم على منشور باسيليسكوس بالإخفاق وذلك على الرغم من أن البابا تيموثاؤس وأتباعه لم يروا هذه الحقيقة الواقعة في ذلك الوقت.

وكان الراهب العالم بولس[3] هو الذي كتب المنشور[4] لباسيليسكوس، وقد صدر ذلك المنشور في يوم 9 أبريل عام 475م موجهاً إلى “كل المدن والناس في أنحاء الإمبراطورية”، وكان صريحاً في رفضه لمجمع خلقيدونية. وأكد المنشور على أن قانون إيمان نيقية هو الذي ينبغي أن “يسود على الشعب الأرثوذكسي” في كل الكنائس بكونه الرمز الوحيد للإيمان، وهذا القانون تم التصديق عليه بواسطة مجمع القسطنطينية ومجمع أفسس.

كما ينبغي أن تُضم كذلك ـ إلى قانون نيقية ـ قرارات هذين المجمعين المتصلة بالروح القدس والمتصلة بشخص المسيح في مواجهة تعاليم نسطوريوس. وحيث إن طومس ليو ومجمع خلقيدونية قد أدخلا شيئاً مبتدعاً ومستحدثاً في الإيمان، فإن كليهما يجب أن يُحرم في كل مكان. كما يجب أن تُدان أيضاً وعلى نفس النحو، “هرطقة أولئك الذين لا يعترفون بأن الابن المولود الوحيد من الله، هو بالحقيقة صار جسداً واتخذ الطبيعة البشرية من الروح القدس ومن القديسة مريم والدة الإله الدائمة البتولية، بل يتكلمون بالأعاجيب ـ إما بكونه (أي جسد الكلمة) من السماء، أو بكونه فقط حسب الخيال والظاهر (أي غير حقيقي)”.

كما دعت الوثيقة كل الأساقفة ليوقعوا عليها كدليل على قبولهم لقانون نيقية حسب تفسير وتأكيد مجمعي عام 381م وعام 431م، وبذلك يجحدون ويرفضون مجمع خلقيدونية. وإذا تمسك أحد رغم ذلك بمجمع خلقيدونية سواء كان أسقفاً أو رجل كنسي فإنه يُعزل؛ وإذا كان راهباً أو رجلاً عامياً فإنه سيتعرض للنفي ومصادرة ممتلكاته. وبهذه الطريقة صار من الواجب الالتزام بالقانون الذي كان قد أعلنه ثيؤدوسيوس الثاني.

وفور إعلان هذا المنشور، كان على البابا تيموثاؤس إيلوروس أن يواجه معارضة الأوطيخيين في المدينة، لأنه كان هناك بالقسطنطينية كياناً قوياً من الرهبان والشعب يوقرون الراهب العجوز (أوطيخا) ويعتبرونه شخصية عامة. وقد أربك أولئك الكلمات الواردة في المنشور والتي تدين الرؤية الخيالية للمسيح، وحاولوا الوصول للبابا تيموثاؤس على أمل أن يشرح لهم وجهة نظره في مقابل دفاعهم.

ولأنهم لم يتوقعوا أن يكون البابا تيموثاؤس في جانبهم، أشاروا على الإمبراطورة زينونيس (Zenonis) بعزله مرة ثانية. وأشار ثيؤكتيتوس على البابا تيموثاؤس أن يترك العاصمة، فرحل عنها متوجهاً إلى الإسكندرية ولكنه عرج في طريقة إلى أفسس[5] ليشارك في مجمع هناك للأساقفة الشرقيين.

 وأيد مجمع الأساقفة المنعقد في أفسس تحت رئاسة البابا تيموثاؤس منشور باسيليسكوس، وأصدر بتحمس قراراً ضد حكم مجمع خلقيدونية الخاص بكرسي القسطنطينية. وعلى الرغم من أن هذا القرار الأخير قد أسعد البعض في الشرق في ذلك الوقت، إلاّ إنه لم يكن من الممكن قبوله في القسطنطينية، لأن قرارات مجمع خلقيدونية كانت قد أعطت لبطريرك العاصمة الحق في رسامة أساقفة لمقاطعات بُنطُس وأسيا و(Thrace) التي كانت تحت سلطة أفسس[6] فيما سبق.

وشعر المجمع المنعقد في أفسس بالرضا لما أنجزه، وقد وقَّع على المنشور كل من البابا تيموثاؤس إيلوروس، وبطرس القصَّار، وأناستاسيوس أسقف أورشليم، وبولس أسقف أفسس، بالإضافة إلى ـ كما يقول زكريا ـ سبعمائة من الرجال.[7] وأرسل الأساقفة رداً إلى باسيليسكوس يؤكدون فيه إيمان نيقية حسبما أيدته المجامع اللاحقة أعوام 381م و431م وعام 449م، ويحرمون فيه الهرطقة المقدونية والهرطقة النسطورية وهرطقة الذين يؤمنون بأن ربنا يسوع المسيح كان له جسداً ظاهرياً فقط وأنه (أي الجسد) قد أتى من السماء.[8]

وكان عمر هذا النجاح قصيراً، حيث إن أكاكيوس أسقف القسطنطينية الذي لم يوَّقع على المنشور ابتدأ في التغير من ناحية الإمبراطور باسيليسكوس على الرغم من تأييده له في بداية الأمر. وكان من الطبيعي أيضاً ألاَّ يستحسن أكاكيوس ما سعي البابا تيموثاؤس إليه من حرمان كرسي القسطنطينية من التميز الذي منحه له مجمع خلقيدونية، هذا بالإضافة إلى استيائه كذلك من إشاعة انعقاد مجمع في أورشليم لإقامة الراهب المصري ثيؤبامبيس بطريركاً على القسطنطينية بدلاً منه.[9]

وأمام هذه التهديدات أظهر أكاكيوس مقاومة عنيفة اعتمد فيها على مساندة الكيان الرهباني في القسطنطينية، حيث كانت هناك ـ كما سنرى فيما بعد ـ جماعة الرهبان عديمي النوم (Sleepless) الذين كانوا على استعداد للدفاع عن مجمع خلقيدونية بأي ثمن، كما كان يمكن لأكاكيوس أيضاً أن يعتمد على دانيال العمودي الذي لم يترك عموده أبداً ولا حتى من أجل رسامته كاهناً،[10] ولكن بسبب أن الكنيسة كانت تواجه خطر حقيقي، استجاب دانيال لدعوة البطريرك ونزل بالفعل عن عموده.[11]

وأُجبر باسيليسكوس على ترك منصبه وعاد زينو مرة أخرى، ولم تفِد باسيليسكوس محاولته الأخيرة لإنقاذ نفسه بإصدار منشور مضاد يلغي به المنشور الأول.

وجاء في ذلك المنشور:[12] إن الإيمان الرسولي والأرثوذوكسي الذي كان سائداً منذ البداية والذي استمر التمسك به حتى وقت حكمنا ينبغي أن يكون هو الأساس، ولذلك فإن المنشور الذي قد صدر قبل ذلك وكذلك الأفعال التي تمت تُعتبر كلها لاغية؛ ومن ثم فإننا نحرم نسطوريوس وأوطيخا وكل هرطقة أخرى، ولا ينبغي أن يكون هناك أي مجمع (آخر) حول هذا الموضوع؛ كما تعود المقاطعات التي مارست عليها القسطنطينية حق الرسامة إلى أكاكيوس.

وقام أساقفة أسيا بتقديم اعتذار إلى أكاكيوس ووقَّعوا على المنشور المضاد، كما كتب أساقفة الشرق إلى كالنديون (Calendion) أسقف أنطاكيا وانسحبوا من تأييد المنشور (الأول).

 

(ب) الإمبراطور زينو ومرسوم الإتحاد (Henotikon):

وبمجرد أن وصل الإمبراطور زينو إلى السلطة حتى أصدر أوامره بإبطال منشور باسيليسكوس، وقد كتب في ذلك:[13] أنه يتم إلغاء الأشياء التي صُنعت قبلنا ـ وبالتحديد أثناء الحكم الاستبدادي ـ ضد الكنائس، التي تحت رئاسة أكاكيوس وغيره، وضد حقوقهم وامتيازاتهم. وبالنسبة للقسطنطينية، “فإنه ينبغي أن يكون لها بصورة ثابتة وإلى الأبد المقام والامتياز فيما يخص اختيار الأساقفة، وكذلك الحق في الجلوس قبل الآخرين (في الترتيب)، وكافة الأشياء الأخرى التي من المسلم أنها كانت لها قبل تولينا السلطة أو أثناء حكمنا”.

وهكذا أعاد الإمبراطور زينو لمجمع خلقيدونية موقعه السيادي في الإمبراطورية في مواجهة الإجراءات التي تبناها باسيليسكوس في منشوره. والأمر الهام هنا ليس كون مجمع خلقيدونية يحفظ الأرثوذكسية أو يستبعد الهرطقة، ولكن كونه يضمن حقوقاً وامتيازات معينة للقسطنطينية.

وأمر الإمبراطور زينو كذلك أن يتم إرسال القادة غير الخلقيدونيين الذين أرجعهم باسيليسكوس إلى النفي مرة ثانية، ولكنه استثنى البابا تيموثاؤس إيلوروس من هذا القرار (بسبب تقدمه في العمر)، وبالفعل تنيح البابا بعد وقت قليل.

وكان البطريرك الخلقيدوني في الإسكندرية والذي يُسمى أيضاً باسم تيموثاؤس (سالوفاكيولاس) هو الآخر رجلاً عجوزاً جداً، وكان زينو يأمل أنه بموت أحد الرجلين يلتئم الشقاق الذي في كنيسة مصر من خلال الاعتراف بالشخص الذي سيبقى منهما بأنه البطريرك الأوحد للإسكندرية، ولكن الرسول الذي أبلغ الإمبراطور بنبأ موت البابا تيموثاؤس إيلوروس أبلغه أيضاً بتعيين خلفاً له وهو البابا بطرس مُنجوس.

وعندئذ أعلن زينو ـ مدفوعاً من غيظه بسبب فشل خطته ـ عن تهديده بعقوبة الموت للبابا بطرس، ولكن تيموثاؤس سالوفاكيولاس تدخل لدى الإمبراطور وجعله يتراجع ويكتفي فقط بنفي البابا بطرس. ولم يتم تنفيذ أي من الأمرين لأن البابا بطرس اعتزل في الأديرة المصرية وقضى أيامه متخفياً حتى تغيرت الأوضاع. وفي نفس الوقت تم الاعتراف بالرجل المسن  تيموثاؤس (الخلقيدوني) كبطريرك الإسكندرية من قبل السلطات، واستمر في منصبه هذا حتى وفاته في فبراير عام 482م، وقد شهد في أيامه الأخيرة سلسلة من “الاضطرابات والمذابح”.

ولم يكن الموقف مشجعاً في الأجزاء الأخرى من الشرق، ففي أورشليم مثلاً تولى البطريرك أناستاسيوس خلفاً لجوفينال عام 458م، وقد وقَّع على منشور باسيليسكوس وبقي مخلصاً له ـ على خلاف الكثيرين في الشرق ـ حتى وفاته في يوليو عام 478م. واستمر مارتيريوس (478م ـ 486م) الذي جاء بعد ذلك على نفس سياسة سلفه، وحاول أن يوحِّد الشعب في كل فلسطين من خلال بيان عن الإيمان قدَّمه في رسالته الدورية.

وقد أكد[14] في تلك الرسالة أن المسيح قدم لنا الوحدة ونحن ينبغي أن نحافظ عليها من خلال تمسكنا بقانون إيمان نيقية باعتباره الرمز الوحيد للإيمان؛ وهذا القانون تم التصديق عليه في مجمع القسطنطينية عام 381م، ومجمع أفسس عام 431م؛ ولا يجب الاعتراف بأية إضافة تمت عليه سواء في سرديكا (Sardica) أو أرمينوم (Ariminum) أو خلقيدونية.

وفي أنطاكيا وسوريا سارت الأمور في طريق شاق مسدود، فالبطريرك الأنطاكي بطرس القصَّار كان قد أُرسل إلى المنفى بأوامر من الإمبراطور زينو، ولهذا كان الجانب غير الخلقيدوني المسيطر على الكرسي يكتفي بخدمات يوحنا أسقف أباميا (Apamea). ولكن بعد سنتين تدخَّلت السلطات ونصَّبت ستيفن (Stephen) على كرسي أنطاكيا، وعُيِّن بعده أسقف آخر يُسمى ستيفن أيضاً وهو الذي قُتل عام 479م بإدخال مسامير في جسده.

وهنا تدخل أكاكيوس بطريرك القسطنطينية حيث صار واضحاً أنه من غير الممكن أن تتم رسامة بطريرك يقبل مجمع خلقيدونية في أنطاكيا، وقام أكاكيوس برسامة كالنديون (Calendion) على الكرسي السرياني. ولم يستطع كالنديون أن يحكم قبضته على الكرسي، ولكنه بحكم كونه قائداً للأقلية الخلقيدونية اشتُبه في تورطه في ثورة إيلّوس،[15] وعُزل في سبتمبر عام 484م.

وصارت المشكلة الدينية التي خلقها مجمع خلقيدونية في الشرق تحتاج إلى حل حاسم. وكانت الكراسي الرئيسة في الإسكندرية وأنطاكيا وأورشليم قد أصبحت متقاربة بدرجة أكبر، كما أن أكاكيوس أسقف القسطنطينية كذلك كان مستعداً للتعاون بشرط احترام الجميع للسلطة التي منحها مجمع خلقيدونية لكرسيه على الشرق، وبدون النظر إلى الاختلافات الدقيقة في تعريف الإيمان الخلقيدوني أو الصلة القوية للقسطنطينية مع روما. وجاءت الفرصة للسعي في هذا الاتجاه في عام 481م.

كان تيموثاؤس سالوفاكيولاس ـ كما ذكرنا ـ رجلاً مسناً، كما كان البابا بطرس مُنجوس مستمراً في الاختفاء، ولذلك قدَّم بعض الرهبان والنبلاء بالإسكندرية اقتراحاً إلى السلطات مفاده أنه يقوم الجانبان (الخلقيدوني وغير الخلقيدوني) بعد موت تيموثاؤس الخلقيدوني بالاعتراف بالبابا بطرس بطريركاً لكي تتحقق الوحدة في الكنيسة، وبالتالي لا تكون هناك حاجة لإقامة خلف لتيموثاؤس الخلقيدوني.

ولكن لم تلقى هذه الخطة قبولاً من الجانب الخلقيدوني، وقاموا بتقديم التماس إلى الإمبراطور ضد هذا التحرك،[16] وحمل هذا الالتماس إلى العاصمة راهب قس يُدعى يوحنا التلاوي (John Talaia) من دير ق. يوحنا المعمدان الذي ببيت الشهداء بالمدينة.

وكان يوحنا هذا يطمح في الكرسي السكندري، ولذلك حينما كان في العاصمة اتصل بالقائد الأيسوري (Isaurian) القوي إيلوس (Illus) صديق ثيؤغنوستُس (Theognostus) والي الإسكندرية الذي كان يمكنه التحكم في عملية اختيار البطريرك.

وكان إيلوس ـ كما رأينا ـ يخطط بالاتفاق مع ليونتيوس (Leontius) وإفبريبيوس (Euprepius) للثورة ضد زينو وقد تم اعتقاله مع كالنديون أسقف أنطاكيا في عام 484م، ثم انتهى الأمر بإعدامه. ولكن في عام 481م حين كان يوحنا التلاوي في القسطنطينية كان إيلوس مازال في السلطة، ولذلك حاول يوحنا أن ينال مؤازرته.

ومع ذلك عندما حضر يوحنا أمام الإمبراطور أنكر تماماً أن لديه أية نية لترشيح نفسه لكرسي البطريركية، وقام زينو بالموافقة على طلب السكندريين (الخلقيدونيين) وعاد يوحنا إلى ديره، وأخذ في عودته خطاباً من إيلوس إلى والي الإسكندرية. ومات تيموثاؤس سالوفاكيولاس بعد وقت قليل وقام الفريق الذي ينتمي إليه بتنصيب يوحنا التلاوي خلفاً له، ولكن الإمبراطور زينو رفض الاعتراف به وطرده بسبب حنثه باليمين وهكذا خلا الكرسي السكندري واحتاج إلى من يشغله.

وهنا قدَّم غالبية الشعب السكندري شكواهم إلى الإمبراطور طالبين منه أن يعيد البابا بطرس مُنجوس. وكان زينو مؤيداً للفكرة وعرض عليهم الهينوتيكون (Henotikon) أو مرسوم الإتحاد كأساس (أو شرط) لتبني وجهة نظرهم.

وقد أعد زينو تلك الوثيقة بالاتفاق مع أكاكيوس بطريرك القسطنطينية الذي كان قد نجح في مقاومة البابا تيموثاؤس أيلوروس وأحبط خطته غير الواقعية، وهو الآن يملي شروطه على خليفة البابا تيموثاؤس لكي ما يعترف به. وأصدر الإمبراطور زينو هذا المرسوم في 28 يوليو عام 482م موجهاً[17] إلى “أساقفة وشعب الإسكندرية، ومصر، وليبيا، والخمس مدن”.

وشرح المنشور الحالة الدينية في الشرق بهذه الكلمات المثيرة للمشاعر:

لأن ما حدث، أثناء كل سنين الحياة هذه، أن الزمن قد ترك جيلاً لا يُحصى يرحل عنا، ولذلك رحل البعض من الذين حُرموا من تجديد المعمودية، وآخرون بدون اشتراك في (سر) الشركة الإلهية، كما أن عشرات الألوف من الموتى قد أصيبوا بصورة طائشة لدرجة أن الأرض لم تكن وحدها هي التي تلوثت من كثرتهم ولكن الهواء نفسه أيضاً. فمن يستطيع ألا يصلي لكي تتبدل هذه الأشياء بأشياء أخرى صالحة؟

وقد أقرت هذه الوثيقة أن قانون إيمان نيقية هو الرمز الوحيد للإيمان الذي صدَّق عليه “الآباء المئة والخمسون، كما أقره الآباء القديسون الذين اجتمعوا في أفسس وعزلوا نسطوريوس عديم التقوى وكل خلفائه في المعتقد”.

“وبالنسبة لنسطوريوس هذا وكذلك أوطيخا، فنظراً لأنهما قد اعترفا بآراء مخالفة لما سبق وأُعلن، فإننا نحرمهما. ونقبل بالإضافة إلى ذلك الحروم الإثني عشر التي وضعها كيرلس”.

وواصل مرسوم الإتحاد كلامه بشكل إيجابي إذ يقول:

“ونعترف بأن ابن الله الوحيد، الذي وهو نفسه إله، صار متجسداً بالحقيقة (الذي هو) ربنا يسوع المسيح؛ وهو واحد في ذات الجوهر معنا فيما يخص الناسوت؛ وهو الذي نزل وصار متجسداً بالروح القدس ومن مريم العذراء والدة الإله (ثيؤطوكس)؛ هو ابن واحد وليس إثنين، لأننا نؤكد أن كلاً من العجائب، والآلام التي احتملها في جسده بإرادته، هي لابن الله الوحيد.

ونحن لا نقبل على الإطلاق أولئك الذين يجعلون (فيه) انقساماً أو اختلاطاً أو (يظنونه) خيالاً. لأن التجسد الحقيقي وغير الدنس لم يدخل أية إضافة على الابن، فالثالوث استمر في كونه ثالوثاً حتى بعد ما صار الله الكلمة الواحد من الثالوث متجسداً”.

وبعد مناشدة المرسوم لاستعادة وحدة الكنيسة على أساس ما جاء به من تأكيدات، أعلن الهينوتيكون حرماً على:

“كل من آمن أو يؤمن، الآن أو في أي وقت، سواء في خلقيدونية أو في أي مجمع، بأي إيمان آخر، وبالأخص (ما قدمه) نسطوريوس وأوطيخا ـ المذكورين سابقاً ـ وكذلك أولئك الذين يعتقدون مثلهم”.

ومن الجدير بالذكر أن مرسوم الإتحاد لم يدن مجمع خلقيدونية ولا طومس ليو، ولكنه قام بتوضيح الإيمان أولاً للذين ينتمون للجانب الخلقيدوني حيث ذكر لهم ما الذي لا يتضمنه المجمع، وثانياً للذين في الجانب الآخر (غير الخلقيدوني) حيث أدان الأفكار التي رأوها في الصيغة الإيمانية للمجمع. ومن هنا نستطيع القول أنه لو كان الدافع الوحيد للرجال في كلا الجانبين هو الحرص على استبعاد الهرطقة والحفاظ على الإيمان ـ وبدون الاهتمام بالمكانة الشخصية لكل منهما ـ لكانوا قد قبلوا مرسوم الاتحاد.

وقد كتب دوشيسين (Duchesne) عن الهينوتيكون هذه الكلمات: “لو تركنا جانباً الظروف التي وُضع فيها (هذا المرسوم)، فإن جوهر محتواه لا يمكن أن يثير أي اعتراض من جهة الأرثوذكسية”.[18]

وأُرسل مرسوم الإتحاد إلى الإسكندرية مع فراجميوس (Fragmius) الوالي الجديد على المدينة الذي حل محل ثيؤغنوستُس. وعندما وصل إلى الإسكندرية وجد أن يوحنا التلاوي قد رحل فأخذ يبحث عن البابا بطرس مُنجوس ليريه الهينوتيكون، وقيل للبابا أنه إذا قبل تلك الوثيقة ووافق على الشركة مع أساقفة الجانب الخلقيدوني الذين سيؤيدونها أيضاً، فسيُسمح له بالعودة للكرسي السكندري. ووافق البابا بطرس عليها، فتمت إعادته وطُرد يوحنا التلاوي بدون أي إبطاء.

 

(ج) اتحاد مؤقت بين الكراسي الكبرى:

وكان أول من وقع على مرسوم الاتحاد أكاكيوس بطريرك القسطنطينية وبطرس مُنجوس بطريرك الإسكندرية، وتبادلا بعد ذلك رسائل الشركة والوحدة فيما بينهما.[19] أما في أنطاكيا فكان هناك بطريرك لكل جانب من الإثنين، بطرس القصَّار وكالنديون، ورغم أن بطرس كان في المنفى إلاّ أن غير الخلقيدونيين كانوا هم المسيطرون على الكرسي الأنطاكي.

وكان كالنديون بطريركاً فقط على الأقلية الخلقيدونية التي في المدينة، ولأنه كان يعتبر نفسه وريث التقليد اللاهوتي لإفستاثيوس الذي نُفي عام 328 فقد قام بإعادة رفات الرجل إلى المدينة. وحاول كالنديون أن يرضي الأنطاكيين من خلال السماح باستخدام الثلاثة تقديسات (Trisagion) في صورتها المطوَّلة ولكن مع إضافة عبارة “أيها المسيح الملك”.

وكانت تسبحة الثلاثة تقديسات “قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي يموت، ارحمنا” قد أُدخلت إلى منطقة أنطاكيا منذ منتصف القرن الرابع تقريباً في مواجهة الجانب الأريوسي الذي كان مسيطراً على الكرسي الأنطاكي في ذلك الوقت، وفي أول أسقفية بطرس القصَّار قام بإضافة عبارة “يا من صلبت عنا” لهذه التسبحة، باعتبار أن ذلك هو اختبار الأرثوذكسية عند غير الخلقيدونيين في مواجهة النسطورية.*

وكانت هذه التسبحة تُستخدم في القسطنطينية في صورتها الأصلية (بدون الإضافة) وكانت تُفهم أنها تمجيد مُقدم للثالوث القدوس، وذلك بخلاف الوضع في منطقة أنطاكيا حيث كانت تُفهم بأنها تشير إلى الله الابن.[20]

لذلك فمن وجهة النظر الأولى (التي كانت سائدة في القسطنطينية)  يمكن الاعتراض على الإضافة التي قام بها بطرس القصَّار “يا من صلبت عنا” لأنها قد تعني أن الثالوث تألم على الصليب، ومن هنا كانت إضافة كالنديون لعبارة “أيها المسيح الملك” هي لتوضيح المعنى المقصود على الرغم من أنها قد لا تخدم هدف استبعاد النسطورية.

والمهم أن كالنديون نفسه رفض التوقيع على مرسوم الاتحاد، وبعد اتهامه بالضلوع في ثورة إيلوس تم استبعاده وأُعطي الكرسي إلى بطرس القصَّار في عام 484م، حيث قام بالتوقيع على الهينوتيكون وعقد مجمعاً تم فيه التصديق على مرسوم الاتحاد. وأرسل بطرس القصَّار رسالة الوحدة إلى البابا بطرس مُنجوس بطريرك الإسكندرية،[21] كما كتب مارتيريوس أسقف أورشليم أيضاً إلى بطرس مُنجوس معبراً عن الوحدة.[22]

وهنا صارت البطريركيات الشرقية الأربعة (الإسكندرية والقسطنطينية وأنطاكيا وأورشليم) في اتحاد، وانضم إليهم كثير من الأساقفة وقادة الشعب، ولكن روما لم تكن مشتركة في هذا التطور حيث كان موقف الكرسي الغربي في الحقيقة هو ما عبَّر عنه الوفد الروماني يوم 22 أكتوبر عام 451م وهو: إما أن يقبل الشرق وجهة نظر روما أو أن يدع روما تهتم بأمورها.[23]

واستمر الشقاق الذي حدث في ذلك الوقت بين روما والقسطنطينية لفترة امتدت حوالي خمسة وثلاثين عاماً، هذا بالإضافة إلى أن فيليكس الثالث (Felix III) بابا روما قام بعقد مجمع يوم 28 يوليو عام 484م حضره سبعة وعشرون أسقفاً وقام بحرم أكاكيوس[24] بطريرك القسطنطينية، فتحدى البطريرك هذه الإهانة واستمر في ما خطط له.

ولم يكن ممكناً لهذا الاتحاد أن يستمر طويلاً وذلك لسبب واحد هو أن كلاً من طرفي الخلاف لم يكن منفتحاً في مواجهة المسألة التي سببت الانشقاق، فمجمع خلقيدونية كان في الواقع قد خلق مشكلة خطيرة أثرت على وحدة الكنيسة وكانت هذه المشكلة تحتاج إلى حل. ويذكر زكريا أنه عندما أُرسل مرسوم الاتحاد إلى الإسكندرية اعترض عليه بعض المتحمسين لأنه لم يتعرض لمشكلة مجمع عام 451م، وعلى الرغم من أن البابا بطرس مُنجوس أستطاع أن يهدئهم في البداية إلاّ إنه لم يتمكن من الصمود طويلاً.

وكان هناك رجال في الإسكندرية من الجانب الخلقيدوني يؤيدون يوحنا التلاوي ضد البابا بطرس، وأولئك قد تحركوا في خطة لتدمير الوحدة من خلال الدفع بقس يدعى سيرس (Cyrus) كان في القديم مسانداً للبابا ديسقوروس ولكنه انضم إلى الجانب الخلقيدوني، حيث رأوا أن وجود الرجل بين الذين يتفاوضون في مسألة الوحدة (من الجانب الخلقيدوني) سيزعج غير الخلقيدونيين.[25] هذا بالإضافة إلى أن يوحنا التلاوي نفسه ذهب إلى روما لكسب تعاطف البابا سيمبليكيوس (Simplicius).

ومن هنا نرى أنه كان هناك انتقاد لمرسوم الاتحاد في الجانب غير الخلقيدوني منذ البداية، وكانت جماعة ’الذين بلا رأس‘* (Acephalists) هي التي تقوم بالتشجيع على ذلك. أما على الجانب الخلقيدوني، فكان هناك رجال في الشرق غير مستعدين للاعتراف بأن مجمع خلقيدونية كان يشوبه أي نقصان، ولا مستعدين كذلك للمجازفة بأن تتأثر علاقتهم مع روما.

وإذا رجعنا إلى الرؤية الكنسية التي حاول ممثلو الحكومة البيزنطية تثبيتها في مجمع خلقيدونية، فسنجد أنه كانت تتكون من ثلاثة أجزاء: أولاً اعتراف الإيمان، ثانياً سيادة كرسي القسطنطينية، وثالثاً الاتحاد مع روما بدون الاعتراف بمزاعم بابا روما (في السيادة العامة على الكنيسة كلها). ومن هنا كان أكاكيوس بطريرك القسطنطينية بموافقته على الهينوتيكون قد أظهر رغبته في تجاهل الجزء الثالث من الرؤية السابقة، وكذلك الأخذ بالجزء الأول بدون ضرورة الإصرار على نص ولغة المجمع.

ولم تجد هذه التداعيات استحساناً أو تأييداً من عدد كبير من الجانب الخلقيدوني في الشرق، وبالضبط كما أنه في أيام مجمع خلقيدونية ألتمس المعارضون للإسكندرية تأييد قادة روما، هكذا أيضاً هنا لجأ الرجال إلى روما لطلب المساعدة. ومات أكاكيوس عام 489م، وجاء بعده فرافيتا (Fravitta) الذي مات هو الآخر أيضاً بعد بضعة أشهر، وأُقيم بعد ذلك إفميوس (Euphemius) الخلقيدوني الصميم بطريركاً على القسطنطينية.

وكان إفميوس هذا يؤلمه الانفصال عن روما أكثر من الافتراق المحتمل عن جيرانه الشرقيين، ولذا تبادل المراسلات مع فيليكس الثالث (بابا روما) من أجل إعادة الوحدة بينهما، ولكن البابا طلب منه أن يحرم أكاكيوس كشرط لإزالة الخلاف بينهما، فتوقف الأمر وقتئذ عند ذلك الحد.

 

 

(د) اضطرابات في مصر:

عندما قام البابا بطرس مُنجوس بالتوقيع على مرسوم الاتحاد ودخل رسمياً في الشركة مع أكاكيوس بطريرك القسطنطينية عام 482م، عبَّر ثيؤدور أسقف أسنا[26] (Antinoe) وأسقفين آخرين من صعيد مصر وبعض رجال الكنيسة وكثير من الرهبان عن عدم موافقتهم لما فعله وخرجوا عن الشركة معه.

وفي الحقيقة كان البابا بطرس في رسائله إلى أكاكيوس، قد أقر بما أكده الأخير بأن مجمع خلقيدونية عام 451م لم يبتدع في الواقع أي شيء جديد على الإيمان،[27] ومن هنا رأى معارضوه أن قبوله لهذا الكلام بالإضافة إلى الوحدة التي دخل فيها مع بطريرك القسطنطينية إنما تمثل خيانة للإيمان من قبل البابا بطرس مُنجوس.

وجرت محاولات عديدة لتسوية الخلاف بين البابا بطرس ومعارضيه، منها أن بطرس الأيبيري (أسقف مايوما بفلسطين) جعل بطريرك الإسكندرية يدين مجمع خلقيدونية علانية ويوقِّع على أربعة من كتاباته الخاصة التي تحتوي على حرمان واضح للمجمع ولطومس ليو، ولكن ذلك لم يرضِ المعارضين للبابا بطرس مُنجوس. واتخذ البابا إجراءً يقضي بطرد الأسقف ثيؤدور من ديره، وأمام هذا قام الرهبان بانتداب نيفاليوس (Nephalius) ليعرض شكواهم أمام الإمبراطور.

واستجاب زينو وأرسل حارسه الخاص كوزماس (Cosmas) إلى الإسكندرية لإيجاد حل للمشكلة، وكان هناك جمهور يقدر بثلاثين ألفاً ومعهم عشرة أساقفة ـ كما يذكر زكريا المؤرخ ـ في استقبال مبعوث الإمبراطور، فقام كوزماس بمقابلة مائتين منهم مع البطريرك. وعندئذ أدان البابا بطرس مجمع خلقيدونية وطومس ليو علانية،[28] ولكن هذا أيضاً لم يرضِ معارضيه وتشاوروا فيما بينهم لإقامة بطريرك آخر بدلاً منه، ولكن الأسقف ثيؤدور أثناهم عن القيام بهذه الخطوة.

وعاد زينو وأرسل مبعوثاً آخر يسمى أرسانيوس (Arsanius) فأمر هذا بطرد الرهبان من أديرتهم، إلاّ أن الرهبان أرسلوا ممثلين عنهم إلى الإمبراطور واستطاعوا أن يقنعوه بعدم اتخاذ مواقف عنيفة من هذا النوع. وأُطلق على أولئك المعارضين للبابا بطرس اسم ’الذين بلا رأس‘* (Acephalists)، وقد استمروا في شكل جماعة تشبه إلى حد بعيد أتباع نوفاتيان في القرن السابع.

وعندما مات أكاكيوس في عام 489م، تراجعت جماعة ’الذين بلا رأس‘ بسبب انفصال الشركة التي كانت بين القسطنطينية والإسكندرية. وحينما مات البابا بطرس مُنجوس عام 490م، رفع خليفته البابا أثناسيوس# اسم البابا بطرس من الدبتيخا بهدف توحيد الجميع، ولكنه اضطر إلى إعادته في الليتورجيا استجابة لطلب الشعب.

 

(هـ) بعض التعليقات على الأحداث:

لقد أظهر الخلاف الذي نشأ في مصر طبيعة خطة البطريرك أكاكيوس بخصوص اتحاد الطرفين المتنازعين على أساس مرسوم الاتحاد ’هينوتيكون‘، فلم تكن لدى بطريرك القسطنطينية أية نية للتخلي عن مجمع خلقيدونية كما ظنت روما في ذلك الوقت، بل على العكس كان هدفه هو أن يوحد الجانبين بأن يجعل الجانب غير الخلقيدوني يقبل المجمع بطريقة ماكرة.

وقد اتضح هذا الأمر من خلال تعامله مع البابا بطرس مُنجوس، فكما رأينا أن الأساس الذي بُنيت عليه إعادة الاتحاد لم يتضمن ضرورة تأييد الجانب غير الخلقيدوني للمجمع، ولكن فقط التوقيع على مرسوم الاتحاد وحسب، أما أكاكيوس فقد ذهب إلى أبعد من هذا الاتفاق من خلال تبادله للخطابات مع البابا بطرس التي تعبِّر عن قبوله للمجمع.

ولذلك فالحقيقة هي أنه كما فعل أناتوليوس بالضبط حينما حاول أن يرسِّخ مجمع خلقيدونية في فترة حكم الإمبراطور ليو الأول، هكذا أيضاً سعى أكاكيوس ليحصل على تأييد ضمني للمجمع من البابا بطرس مُنجوس، وعلى الرغم من أن الأخير لم ينتبه إلى هذه الخطة، إلا أن الآخرون كانوا يرونها ويحاولون مقاومة هذا التحرك.

 

[1] Zacharia, op. cit., I, p. 209.

[2] زينونيس كانت مناصرة للفريق الذي ظل مخلصاً لذكرى أوطيخا.

[3] Zacharia, op. cit., I, p. 211. 

[4] للإطلاع على منشور باسيليسكوس انظر:

(Evagrius, III, 4 in PG. LXXXVI, 2600-A – 2604-B)

وقد أورد زكريا جزءاً منه فقط (Zacharia, op. cit., I, pp. 211-213) وهذا المنشور هو الوثيقة رقم 542 في (Coleman-Norton, op. cit.).

 

[5] Zacharia, op. cit., I, pp. 215f.

[6] كانت المزاعم المتنافسة التي ذكرها في خلقيدونية كل من ستيفن وباسانيوس من أجل كرسي أفسس قد رُفضت لصالح يوحنا الذي لم يكن الشعب يقبله. وأقاموا بولس، ولكن السلطة الحكومية طردته، ثم أعاده باسيليسكوس مرة أخرى. وقد ساند هذا المجمع بولس الذي كان قد وقع على المنشور.

[7] Zacharia, op. cit., I, p. 213.

[8] للإطلاع على رد الأساقفة انظر: (المرجع السابق صفحة 213 – 215).

[9] المرجع السابق صفحة 219.

[10] Frend, op. cit., p. 172.

[11] Zacharia, op. cit., I, p. 219. 

[12] للإطلاع على المنشور المضاد انظر: (Coleman-Norton, op. cit., p. 918).

[13] المرجع السابق: الوثيقة رقم 526.

[14] للإطلاع على الرسالة الدورية انظر: (Zacharia, op. cit., I, pp. 221-223)

 

[15] انظر صفحة ، وصفحة .

[16] Zacharia, op. cit., I, pp. 222-23.

يذكر فرند أن الالتماس طلب أن يكون البطريرك سكندرياً وليس مرشحاً من طرف أكاكيوس (بطريرك القسطنطينية) مثلما حدث مع كالنديون أسقف أنطاكيا. (مرجع سابق صفحة 177) ولكن ملاحظة فرند لا تتفق مع التقرير الذي أورده زكريا.

[17] للإطلاع على مرسوم الهينوتيكون انظر:

(Zacharia, op. cit., I, pp. 227-231 and Evagrius, III, 14 in PG. LXXXVI, 2620-C – 2625-A)

كما أنه هو الوثيقة رقم 527 في (Coleman-Norton, op. cit.).

[18] Duchesne, op. cit., III, p. 349.

[19] للإطلاع على رسالة أكاكيوس إلى بطرس انظر: (Zach, op. cit., I, pp. 235-37). وللإطلاع رسالة بطرس إلى أكاكيوس انظر:

 (Evagrius, III, 17 in PG. LXXXVI, 2629-B – 2633-A)

* لأن وضع عبارة “يا من صُلبت عنا” مع الثلاثة تقديسات الموجهة للابن إنما تعني أن الابن الذي له التقديس هو نفسه الذي صُلب وتحمل الآلام. فالذي صنع المعجزات والذي تحمل الآلام هو نفس الابن الواحد والمسيح الواحد. وهذا التعليم الأرثوذكسي لا يقبله النساطرة.

[20] وقد ذكر البطريرك ساويروس هذه النقطة في عظته رقم 125.

(P.O. Tome XXIX Fasc. 1, ed. F. Graffin, Paris, 1960)

ومع إضافة بطرس القصَّار كانت الترنيمة تقول: “قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت، أنت يا من صُلبت عنا، ارحمنا”. وقد وضع كالنديون عبارة ’أيها المسيح الملك‘ بين ’الذي لا يموت‘ و’أنت يا من‘.

[21] Zacharia, op. cit., I, pp. 233-35.

[22] المرجع السابق صفحة 237-238.

[23] انظر صفحة .

[24] Frend, op. cit., p. 182.

[25] Zacharia, op. cit., I, pp. 231f.

* انظر صفحة

[26] Zacharia, op. cit., II, pp. 2-3.

يذكر فرند أنه طبقاً لميخائيل السرياني (المؤرخ)، تضم قائمة معارضي البابا بطرس كل من ثيؤدوروس أسقف أسنا وإثنين من القساوسة وإثنين من الشمامسة وإثنين من كبار رؤساء الرهبان. (مرجع سابق صفحة 180 رقم 4).

والواقع أن هذه النقطة لم يذكرها فقط ميخائيل السرياني الذي كتب في القرن الثاني عشر، ولكن ذكرها أيضاً زكريا في القرن السادس. هذا وقد أوضح الأخير أن قائمة معارضي البابا بطرس كانت تتضمن القسيسين يوليان ويوحنا السكندري، والشماسين إيلاد وسيرابيون، والأساقفة ثيؤدور أسقف أسنا ويوحنا وواحد آخر من مصر، ورئيس الرهبان أندراوس، وبولس الصوفي ورهبان آخرين معروفين.

[27] انظر خطاب البابا بطرس صفحة .

[28] Zacharia, op. cit., II, pp. 5.

* جاءت هذه التسمية بسبب عدم إعترافهم برئاسة البابا بطرس عليهم

# البابا الثامن والعشرون في عداد بطاركة الإسكندرية

ردود الأفعال في الشرق تجاه مجمع خلقيدونية ج2