شرح عقيدة الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي
شرح عقيدة الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي
مدخل القديس أثناسيوس لشرح عقيدة الروح القدس
وكانت الصياغة اللاهوتية لعقيدة الروح القدس قوية وواضحة جدًّا بصفة خاصة عند القديسين أثناسيوس، وباسيليوس، وغريغوريوس النزينزي، وإبيفانيوس[1]. وكان مدخل القديس أثناسيوس لعقيدة “الروح القدس” متفقًا تمامًا مع مدخله لعقيدة “اللوغوس” أو ابن الله، فكما أنه تمشيًا مع تعليم العهد الجديد رفض أي فكر يقول بأن “اللوغوس” هو مبدأ هذا الكون ويحتل مكانًا متوسطًا بين الله والخليقة، فكذلك أيضًا وبنفس الأسلوب رفض القديس أثناسيوس كل محاولة للوصول إلى فهم الروح القدس تبدأ من مظاهر أو أعمال الروح في الخليقة سواء في الإنسان أو في العالم.
وإذا اعتبرنا أن هناك خطًّا فاصلاً بين ما هو إلهي وما هو مخلوق، أي بين جانب الله الخالق وجانب الخليقة، فإن القديس أثناسيوس جعل النقطة المحوريَّة في شرح عقيدة الروح القدس هي ما أسماه “اختصاص أو خصوصية” (the propriety) الروح القدس بالجانب الإلهي وليس بالجانب المخلوق، وبالتالي كانت مرجعيته الأساسية هي نفس مرجعيته في موضوع علاقة الابن الداخلية بجوهر اللاهوت الواحد.
فالروح القدس مثله مثل الابن هو عطاء الله الذاتي: الذي فيه المُعطي والعطية هما واحد[2]. وبالتحديد لأن الروح القدس هو روح الآب وروح الابن، فقد صاغ القديس أثناسيوس عقيدة الروح القدس من واقع علاقته الجوهرية في الله الواحد، ومن واقع الفعل الواحد غير المنفصل الذي له مع الآب والابن، وكذلك من واقع خصوصية علاقة الروح القدس بالابن، ولذلك نجده يقول: “الثالوث القدوس المبارك واحد في ذاته بغير انقسام.
وعندما يُذكر الآب، فإن ذلك يتضمَّن كلمته والروح القدس الذي هو في الابن. وعندما يُذكر الابن، فإن الآب هو في الابن والروح القدس ليس خارج الكلمة. لأنه توجد نعمة واحدة من الآب تتحقق بالابن في الروح القدس، وتوجد طبيعة إلهية واحدة وإله واحد، “الذي على الكل وبالكل وفي الكل”[3]“.
ويعبِّر القديس أثناسيوس أيضًا عن العمل الواحد الذي للآب والابن والروح القدس بقوله: “الآب يعمل كل الأشياء بالابن في الروح القدس، وهكذا تُحفظ وحدانية الثالوث القدوس[4]“. وحيث إن عمل الثالوث هو عمل واحد، فلا يجوز بأي حالٍ اعتبار أعمال الروح القدس على أنها أقل شأنًا من أعمال الآب أو الابن، لأن كل الأعمال هي في الله الواحد ومن الله الواحد[5].
كما يتضح أيضًا، أنه طبقًا لترتيب القديس أثناسيوس في صياغة العقيدة، فإن معرفتنا الحقيقية عن الروح القدس تأتي من معرفتنا الحقيقية عن الابن، وعن الآب من خلال الابن[6].
إذن، كانت عقيدة الروح القدس تنبع ليس فقط من مجرد النصوص الكتابية أو الذكصولوجيات، ولكن من الحقيقة العظمى وهي: أن الله يعلن عن ذاته بواسطة ذاته، وبالتالي فإن الله ذاته يكون هو محتوى أو مضمون هذا الإعلان من خلال الابن وفي الروح القدس[7]. أي إن عقيدة الروح القدس لم يتم إقحامها من الخارج، بل قد ظهرت ونمت بصورة طبيعية من داخل معرفة الله الواحد، هذه المعرفة النابعة من إعلان الله عن ذاته واتصاله بنا بذاته كآب وابن وروح قدس.
وهذا البناء العقيدي هو ما سلَّط الآباء الضوء عليه في نيقية، وذلك من خلال صياغة مصطلح “هوموأووسيوس” للتعبير عن علاقة الابن بالآب. وكل ما تبقى عمله بعد نيقية كان تطبيق نفس مفهوم ال “هوموأووسيوس” بصورة مماثلة على الروح القدس المُرسل من الآب بواسطة الابن.
ولذا نرى أن القديس أثناسيوس لم يتردد في تطبيق مصطلح “هوموأووسيوس على الروح القدس كما هو الحال بالنسبة للابن[8]، وقد تبعه في ذلك آخرون من لاهوتييّ ما بعد نيقية خاصةً ديديموس[9]، وإيفاجريوس[10] وغريغوريوس النزينزي[11] وإبيفانيوس[12]. فبما أن الآب والابن والروح القدس هم إله واحد كامل غير منقسم[13]، كان من الطبيعي تطبيق مصطلح “هوموأووسيوس” (μοούσιος) أي “الوحدانية في ذات الجوهر” على الثالوث القدوس ككل[14].
معرفة الآب والروح القدس تكون من خلال معرفة الابن
وعلاوة على ذلك، كان واضحًا تمامًا أمام هؤلاء الآباء أنه فقط في الابن ومن خلاله الابن الواحد الوحيد يمكننا أن نعرف هيئة (εδος) اللاهوت، لأنه بالتحديد في يسوع المسيح الابن المتجسد، أوصل الله ذاته لنا نحن البشر من داخل ظروف وواقع وجودنا الأرضي ومعرفتنا المحدودة. وبالتالي فإنه في الابن المتجسد وحده، الذي هو “هوموأووسيوس” مع الآب وفي نفس الوقت “هوموأووسيوس” معنا*، نستطيع أن نعرف الله بالحقيقة وفقًا لما هو في ذاته ووفقًا لطبيعته.
وكذلك على نفس هذا الأساس الذي به نعرف الآب من خلال الابن نستطيع أيضًا أن نعرف الروح القدس، لأنه في الروح القدس المُرسل لنا من الآب بواسطة الابن تُنقل إلينا معرفة الله وتتحقَّق فينا[15]. إذن، فمعرفتنا للروح القدس ومعرفتنا للآب تُستمد وتُضبط من معرفتنا للابن#[16].
ولا يعطينا الروح القدس أية معرفة مستقلة عن الله ولا يضيف أي محتوى جديد لإعلان الله عن ذاته[17]، بل هو يأتي بكونه روح الآب وروح الابن معلنًا الآب في الابن والابن في الآب، ولأنه هو ذاته الله، فمن خلاله يعلِّن الله عن ذاته، ويقول القديس أثناسيوس: “الثالوث القدوس المبارك واحد في ذاته بغير انقسام.
وعندما يُذكر الآب، فإن ذلك يتضمن كلمته والروح القدس الذي هو في الابن. وعندما يُذكر الابن، فإن الآب هو في الابن والروح القدس ليس خارج الكلمة[18]“. ولا يمكن فصل معرفتنا لكل من الآب والابن والروح القدس بعضها عن البعض الآخر، لأن الله يُعرف فقط من خلال إعلانه الواحد عن ذاته الذي من الآب بالابن في الروح القدس. وبهذا الفهم للوحدانية في إعلان الله الثالوثي عن ذاته بواسطة ذاته، وجد القديس أثناسيوس أنه من الضروري تطبيق مصطلح “هوموأووسيوس” (μοούσιος) النيقي على علاقة الروح القدس بكل من الله الابن والله الآب.
عقيدة الروح القدس فيما بين نيقية والقسطنطينية
وقد أُعطيت عقيدة الروح القدس تركيزاً واهتماماً أكثر في الفترة ما بين نيقية والقسطنطينية، وذلك في اتجاهين:
الأول كان بالنسبة للأسرار المقدسة، وقد قام القديس كيرلس الأورشليمي بتوضيح وشرح هذا الجانب من عقيدة الروح القدس في عظاته الشهيرة للموعوظين (Catecheses) وخاصة العظات 4، 16، 17.
أما الاتجاه الثاني فكان بالنسبة للفكر اللاهوتي النسكي وتقليد الكنيسة في تمجيد الله (الذكصولوجية)، وهذا التعليم هو ما قدَّمه القديس باسيليوس في كتابه الهام “عن الروح القدس” (De Spiritu Sancto)، والذي بيَّن فيه أن الكنيسة حينما تقدم تمجيدًا واحدًا للآب والابن والروح القدس فإن هذا يشير إلى وحدانية الثالوث الفائقة في الطبيعة والجوهر. ومن ثم فإن الكنيسة كانت ترى أنه بالروح القدس “يكتمل الثالوث المبارك والمسجود له[19]“.
وعلى أساس هذا الفهم الذي اشترك فيه لاهوتيّو كبادوكية والإسكندرية، قدَّم القديس إبيفانيوس أسقف سلاميس (في قبرص) في كتابه “المُثبَّت بالمرساة” (Anchoratus) عام 374م، تعبيرات قاطعة عن الروح القدس سبق بها ما تم صياغته في قانون الإيمان[20] (في مجمع القسطنطينية).
وهذا التعليم الذي نقله القديس إبيفانيوس عن القديس أثناسيوس كان له تأثيره الدامغ ولا ننسى في ذلك أيضًا ديديموس وق. غريغوريوس النزينزي وق. باسيليوس على الصياغة التي وضعها مجمع القسطنطينية عام 381م (عن الروح القدس)[21].
والآن ننتقل لبحث الملامح الرئيسية لعقيدة الروح القدس التي تمت صياغتها في مجمعيّ نيقية والقسطنطينية.
37 Refer to Athanasius, Ad Ser.; Basil, De Sp. St., & Con. Eun., 3; Gregory Naz., Or., 31, 37, 41; Gregory Nys., De Sp. St., De Trin., Con. Eun., 1; and Epiphanius, Anc., 65ff, Haer., 74. See Theol. In Reconstr., pp. 209-258; Theol. In Reconcil., pp. 231-9; and also T.C. Campbell, ‘The Doctrine of the Holy Spirit in the Theology of Athanasius’, SJT, vol. 27, 1974. pp. 408-440.
38 Athanasius, Ad Ser., 1.30; 3.1, 16; cf. Cyril of Jer., Cat., 16.24.
39 Athanasius, Ad Ser., 1.14 & Ephesians 4.6; see also Ad Ser., 1.20f; 3.5.
42 Athanasius, Ad Ser., 1.2, 20; 3.1-5; 4.4, 17, etc.
43 Athanasius, Ad Ser., 1.31-33.
44 Athanasius, Ad Ser., 1.2, 27; 3.1; cf. Ad Jov., 1, 4.
45 Didymus, De Trin., 1.19; 1.33f; 1.36; 2.4; 2.6.6; 2.6.15; 2.6.22; 2.13; 2.25f; 3.1.2; 3.2.35, 46; 3.12.25f; 3.18; De Sp. St., 17.
46 Evagrius/Basil, Ep., 8.10f.
48 Epiphanius, Anc., 6, 74, 120; Haer., 73.34f; 74.12; 76.11, 16.
50 Thus Didymus, De Trin., 1.17f; 1.34; 1.36; 2.1; 2.4; 2.6.9; 2.14; 2.18; De Sp. St., 7; Basil, De fide, 4; Amphilochius, Fragm., 13, MPG, 39.111; Epiphanius, Anc., 2, 5-7, 74; Haer., 57.4; 72.1; 74.14; 86.16; Exp. fidei, 14; Theodoret, Hist. eccl., 5.9.11; Cyril of Jer., Ep. ad Const., 8; Ps. Macarius, Hom., 17.15.
* وهذا يعني أننا في الابن المتجسد وحده نستطيع أن نعرف الله بالحقيقة وفقًا لما هو في ذاته، وفي نفس الوقت وفقًا لظروف وواقع وجودنا الأرضي ومعرفتنا المحدودة. (المترجم)
51 Epiphanius, Haer., 73.15f; 74.4ff, 10, 13f; 76. Ref. Aet., 7, 29; 86.32; Anc., 19.67ff, 72f.
# ارجع إلى الفصل الثاني صفحة 73. لاحظ كذلك القداس الغريغوري الذي يخاطب الابن قائلاً: “أيها الكائن السيد الرب…الذي أظهر لنا نور الآب، الذي أنعم علينا بمعرفة الروح القدس الحقيقية”. (المترجم)
52 See Theol. in Reconstr., p. 213f; God and Rationality, pp. 165ff.
53 Athanasius, Ad Ser., 3.1ff.
55 Basil, De Sp. St., 45; cf. Hex., 2.6, and Ep., 243,
حيث أشار إلى الروح القدس بكونه (Συμπληρωτικόν τς γίας Τριάδος) أي ’مكمِّل الثالوث القدوس‘، كما أشار كذلك إلى ما ذكره القديس أثناسيوس في رسالته إلى سيرابيون 25:1.
56 Epiphanius, Anc., 119-120; cf. also Anc., 2-11, 67; Exp. fidei, 14ff.
قارن هذه التعبيرات مع تلك التي جاءت عند القديس كيرلس الأورشليمي. ارجع إلى مناقشة ذلك في:
J.N.D. Kelly, Early Christian Creeds, 1950, pp. 297ff, 338ff.
[21] قارن خطاب القديس أثناسيوس إلى الإنطاكيين (Tomus ad Antiochenos, 3.5, 11) والذي صدر من مجمع الإسكندرية عام 362م مع الخطاب المجمعي لمجمع القسطنطينية (Theodoret, Hist. eccl., 5.9). وارجع كذلك إلى:
B. Swete, The Holy Spirit in the Ancient Church, pp. 210-229.