متى أضحى لعلم الآثار دورًا فعالًا في تأكيد الحقائق الكتابية، وفي الحكم على النظريات الخاطئة؟
324- متى أضحى لعلم الآثار دورًا فعالًا في تأكيد الحقائق الكتابية، وفي الحكم على النظريات الخاطئة؟
ج:
1- في الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798م أحضر نابليون معه نحو مائة عالِم، فكتبوا الكثير عن عجائب مصرنا وآثارها، كما نقلوا معهم الكثير من المخطوطات القديمة وصور الآثار، وعندما دُرست هذه الأمور في أوربا، أثارت الفضول للاهتمام بآثار الشرق ولاسيما مصر، وفي منتصف القرن التاسع عشر فُحصت معابد وقبور قدماء المصريين بمعرفة شامبليون وروزليني، وبدأ العلماء الفرنسيون يتابعون تنقيباتهم خلال خمسين عامًا، ويقول فراس السواح إنه قبل حملة نابليون على مصر كانت معلوماتنا عن الشرق الأدنى القديم تعتمد على المصادر الإغريقية والرومانية بالإضافة إلى التوراة.
ولكن حملة نابليون استطاعت حل رموز الكتابات الهيروغليفية المصرية، والحثية، والمسمارية السومرية، والأكادية، والآشورية، والأوغاريتية، والآرامية، وخلال قرن ونصف بذل علماء الآثار والتاريخ واللغات جهد رائع للكشف عن حضارات ذلك الشرق الأدنى القديم(1) ثم بدأت ألمانيا تهتم بالاكتشافات الأثرية في مصر، وفي سنة 1883م تأسست الجمعية الإنجليزية للمصريات وانضم للعلماء الإنجليز بعض العلماء الأمريكان.
2- في القرن التاسع عشر بدأت أعمال التنقيب في مناطق أريحا، والسامرة، وقمران، وأورشليم، وجازر، وتعناك، ومجدو، وبيسان، وبيت شمس، وحاصور.. إلخ.، وبدأت أيضًا اكتشافات بابل وآشور، حيث كشف ” يارد ” وزملائه عن المكتبة المسمارية Cuneiform للملك ” آشور نيبال” (668 – 626 ق. م.) التي تضمنت 30 ألف لوح صلصال، فكانت أعظم اكتشافات القرن التاسع عشر وفي كركميش تم اكتشاف آثار الحثيّين، وفي ” بيسان ” اكتشفوا نصب الملك ميشع، وتعهدت البعثات الفرنسية وانجليزية هذه المنطقة، فكشفوا عن قدم مدينة ” أورك ” وفي سنة 1838 م. قام الأمريكي ” روبنسون ” مع ” عالي سميث ” بدراسة طبوغرافية فلسطين بقصد وضع خرائط دقيقة يظهر عليها أسماء مئات المدن التي ورد ذكرها في الكتاب المقدَّس، وبهذا وجها الأنظار لدراسة آثار هذه المنطقة، وفي سنة 1896م اكتشف ” بتري ” رسالة ترجع إلى سنة 1220 ق. م. تحوي أنشودة نصر لمرنبتاح ملك مصر على بلاد مختلفة ومنها إسرائيل.
3- عندما ظهرت ثمار الحفريات اهتم بها علماء الكتاب المقدَّس، وقد شعروا أنه قد حان الوقت لإطلاق المنجل لحصاد القمح، إذ كشفت عن مدى التطابق بين العهد القديم والحفريات، وقام ” إبراهارد شيردر ” باستخراج الأقوال التي وجدت على الآثار والموازية لأقوال التوراة، وأقامت الجسور بين علم الآثار والتوراة، وقابل الكتابات المسمارية بأقوال العهد القديم، وأصدر كتابًا ضخمًا يربط فيه بين الآثار والعهد القديم مثل قصة خلق الكون والإنسان، وجنة عدن، والطوفان، وبرج بابل، والملوك الذين جاء ذكرهم في العهد القديم، وكذلك الأحداث والكلمات المشتركة(2).
حقًا إن لكل شيء تحت السماء وقت، فقد كانت النقوش الأثرية كنوزًا فقدت مفاتيحها، لأنها دُوّنت بلغات قد اندثرت تمامًا، وعندما شاءت العناية الإلهية بدأ الإنسان يكتشف مفاتيح هذه الكنوز، مفتاحًا بعد الآخر، ومن أهم هذه المفاتيح:
أ – حجر رشيد: الذي اكتشفه المهندس الفرنسي ” بروسار ” Broussard قرب مصب فرع النيل برشيد، وذلك سنة 1789م، وقد كشف هذا الحجر القناع عن اللغة الهيروغليفية التي دوّنت بها الآثار المصرية.
ب- صخرة كردستان: وقد اكتشفها السير “هنري رادلينسون” سنة 1835م، وهو يعمل كموظف بسيط في شركة الهند الشرقية، ووجد عليها إعلان للمك داريوس العظيم مُسجَّل بثلاث لغات بالخط المسماري، وهي الفارسية القديمة والآشورية والبابلية وقد كشفت هذه الصخرة القناع عن كنوز مكتبة نينوى الملكية التي اكتشفها السير ” هنري لايارد ” Sir Henry Layard نحو سنة 1845م.
جـ- الحجر الموآبي: الذي اكتشفه الدكتور “كلاين” Dr. Klein أحد مرسلي جمعية الإرسالية الإنكليزية C.M.S سنة 1869م، وقد كشف هذا الحجر القناع عن الحروف الفينيقية التي استعملها الأنبياء الأولون من بني إسرائيل، وقد تأيد اكتشاف حروف هذه الكتابة سنة 1880م عن طريق تدبير إلهي عجيب، إذ كان أحد الصبية يخوض في بركة سلوام فزلت قدمه فهوى في مكان أعمق، وشاهد مجرى صخري مُدوَّن عليه كتابة غريبة، فأخبر معلمه “هير شيك” Herr Schick وبعد تفسير هذه الكتابة وُجدت أنها تصف كيفية حفر هذا النفق من جانبيه، وكيف سمع كل فريق صوت معاول الفريق الآخر، وعندما هدموا الحاجز الذي كان بينهم التقوا معًا، وهذا يوضح ما فعله حزقيا الملك لكيما يمنع سقوط موارد مياه المدينة في أيدي الغزاة (2 أي 32: 30)(3).
4- لقد ألقت الاكتشافات الأثرية الضوء على نصوص الأسفار المقدَّسة، فما احتج عليه أصحاب النقد الكتابي أيده علم الآثار الحديث، وبعد أن كان بعض النُقَّاد يعتبرون أن الكتاب المقدَّس مؤلَفًا مزيفًا ما لم يثبت العكس بالأدلة الخارجية، تغيَّر منطقهم، وبدأوا يعتبرون أن الكتاب المقدَّس صادقًا ما لم يثبت العكس، وهذا يعد خطوة في طريق رجوعهم إلى جادة الصواب. وما أجمل ما سجله ” نابليون بونابرت ” في كتاب ” غزو مصر وسوريا ” الجزء الثاني إذ يقول ” عندما عسكرنا بين أطلال المدن القديمة، كان أحدهم -في كل أمسية- يقرأ الكتاب المقدَّس بصوت عالٍ في خيمة الجنرال. إن الاحتمالات والحقائق التي تنطق بها الأطلال تأخذ بالألباب، فما زالت في موقعها من الأرض بعد كل هذه العصور والتقلبات”(4).
لقد أيدت الاكتشافات الأثرية صحة بعض النظريات، ودحضت نظريات خاطئة كثيرة، ولنأخذ أمثلة قليلة جدًا من هذه وتلك، فمن النظريات التي أيدها علم الآثار:
أ – جغرافية الكتاب المقدَّس: فقد أثبتت الدراسات الأثرية صحة ما جاء في الكتاب المقدَّس من مواقع الأماكن والشعوب والأحداث، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. “وأصبحت صحة الكتاب المقدَّس ودقته أمرًا مقبولًا على المستوى العالمي. قد بذل الأركيولوجيون (رجال الآثار) الكثير من التنقيب في الأماكن المذكورة في الكتاب المقدَّس، ووصلوا إلى اكتشافات عظيمة تثبت جميعها كل ما جاء في الكتاب من معلومات جغرافية وطبوغرافية في أدق التفاصيل”(5).
ب- الدراسات الأنثروبولوجية: فقد أثبت علم الآثار أن ما ذكره الكتاب المقدَّس عن علم الإنسان، والعلاقات بين القبائل وبين الشعوب كما جاءت في الكتاب المقدَّس هي صحيحة تمامًا، ويقول ” كوتزش”.. ” إن ما يُسمى جدول الأمم (تك 10) يظل -طبقًا لكل النتائج التي أسفرت عنها الكشوف الأثرية الكثيرة- وثيقة أثنوجرافية أصيلة من الطراز الأول، ولا يمكن أن يحل محلها شيء آخر.. من حيث أن النظرية العامة المتعلقة بصحة العلاقات بين القبائل في الكتاب المقدَّس قد وجدت وتجد ما يؤيدها، فقد أصبح هذا أمرًا لا يقبل الجدل”(6).
جـ- الدراسات التاريخية: فقد ثبت بالدليل القاطع صحة ودقة الكتاب المقدَّس ” وحيثما أمكن اختبار أقوال الكتاب المقدَّس في بياناته وإشاراته التاريخية العديدة، فإن علم الآثار قد أثبت أنها صحيحة إلى درجة رائعة، وذلك في صيغتها الحالية بل وفي أدق الأمور وأكثرها غرابة”(7).
ومن النظريات التي هدمها علم الآثار:
أ – كنعان غير متمدينة: لقد ظن البعض أن إبراهيم ترك أور الكلدانية المتمدينة إلى كنعان الهمجية المتخلفة، ولكن بعد مزيد من الدراسات اتضح أن بلاد كنعان كانت متقدمة وصاحبة حضارة، وجاء في دائرة المعارف الكتابية ” أن اكتشاف السور القديم وأحواض المياه في ” تعنك ” والأعمال الهندسية الفذة في إقامة الحصون وأشغال الري في جازر وسور المدينة ذي الأربعين قدمًا المصوَّر في الرسوم المصرية عن الحرب الكنعانية، وكذلك قائمة الغنائم الثمينة التي أخذها تحتمس الثالث.. كل هذه تشهد على الحضارة المترفة والثقافة المتقدمة التي كانت في تلك الأزمنة. وهذا كله إلى جانب الحشد الهائل من الأدلة ضد {الجهل في عصر الآباء}.. مما يؤيد إلى أبعد مدى رأي ” ماكس مولر ” من أن [حضارة فلسطين في عصر الآباء كانت تعادل تمامًا حضارة مصر]”(8).
ب- شخصية ملكي صادق أسطورية: ظن البعض أن شخصية ملكي صادق الذي التقى بإبراهيم، وجاء ذكره في الرسالة إلى العبرانيين (عب 7: 1 – 7) دون أن يُذكر اسم أبيه أو أمه، أنه شخصية أسطورية وقال ” نولدكه”. ” هكذا تتراكم الأدلة على أن قصتنا (في تك 14) ليست بذات قيمة تاريخية، وحتى لو كان سائر الإصحاح تاريخيًا، فسنظل على اعتقادنا بأن ملكي صادق شخصية شعرية”(9) ولكن اكتشافات تل العمارنة أوضحت موقع ملكي صادق من سلسلة ملوك في أورشليم ذوي لقب فريد.
جـ- الملوك الأربعة (تك 14) شخصيات خرافية: فظن ” نولدكه ” أن ما ورد في هذا الإصحاح لا يعتبر تاريخًا، إنما يعتبر إبداع حر، وأن شخصية ملكي صادق هي شخصية شعرية، فقال ” إن الإصحاح الرابع عشر من التكوين يبدأ بقائمة مهيبة من أسماء الملوك الذين يُقال أنه في زمانهم قد وقع الحادث المُروي.. ما فائدة ذكر التاريخ لملوك لا نعرف شيئًا من زمن حكمهم..؟ وبناء عليه فإن ذكر التاريخ هنا غير ضروري ولا يدلنا على شيء.. أما ” بارع” و”برشاع ” فيُقال عنهما إنهما لا جدال غير تاريخيين.. فالجناس اللفظي المزدوج في اسميهما يدل على كونهما وهميين أكثر مما يدل على أصلهما التاريخي.. ومما يلفت النظر أن المدينة التاريخية الوحيدة ” صوغر ” لا يذكر اسم ملكها.. علاوة على ذلك فنحن غير مقيدين بزمن معين، لأن الحادث المُروي كان يمكن أن يقع سنة 4000، تمامًا كما كان يمكن أن يقع في سنة 20000. فإن أقصى ما نستطيع أن نسلم به هو أن الراوي قد استخدم قلة من الأسماء الصحيحة ممزوجة بأسماء زائفة أو مخترعة، ومظهر التاريخية.. بالشكل الذي وردت به، يمكن أن يخدعنا ولكن لفترة قصيرة، كما هو الحال في الأسماء والتواريخ الواردة في سفر أستير”(10) وقال ” فلهاوزن ” أن ” نولدكه ” قد وجه ضربة قاضية لتاريخية القصة، وأيد ” ماير ” رأي ” مولدكه”، وقال ” هتزج ” أن حملة كدرلعومر مجرد ظلال لغزوة سنحاريب (2 مل 19: 35)، ولكن الاكتشافات الأثرية أثبتت تاريخية الملوك الأربعة.
د – أدوم وموآب: قالوا أنه جاء ذكر شعب آدوم وشعب موآب في قصة الخروج مبكرًا جدًا، وشكك البعض في هوية شعب موآب ” لكن ضابطًا من ضباط سيتي مرنبتاح الثاني، حوالي زمن الخروج، يذكر في تقرير رسمي شعب ” آدوم ” ورغبتهم في أن ترعى قطعانهم في جاسان، وبالتالي فإنهم قد وجدوا طريقهم في ذلك الزمان المبكر عبر شبه جزيرة سيناء. ثم أن ” موآب ” التي ظلت طويلًا غير محدَّدة الهوية، وقد أحاطت الشكوك بوجودها في وقت مبكر كالذي ذكرت فيه لأول مرة في الكتاب المقدَّس. لكن هذه أيضًا (موآب) قد ظهرت في نقش يرجع إلى عصر رمسيس الثاني القريب من زمن الخروج، وأنها تقع في ” روتن ” وهو الاسم المصري القديم لسوريا وفلسطين وشمالي وغربي الجزيرة العربية”(11).
لقد قدم لنا علم الآثار الخلفية التاريخية الصحيحة للحقائق الكتابية، فأعاد الأمور إلى نصابها بعد أن قلبها أصحاب النقد العالي، وجاء في دائرة المعارف الكتابية أن ” علم الآثار يُقدم لنا الحقيقة التاريخية الحقيقية للكتاب. فمثلًا عن نقد أي صورة يلزم تعليق الصورة بطريقة صحيحة أولًا، قبل الشروع في نقدها.. وعلم الآثار وحده هو القادر على أن يُعلق الصورة في وضعها الصحيح، يُمكّن علماء النقد أن يقوموا بعملهم، والنقد لا يعتبر نقدًا صحيحًا إلاَّ متى علق علم الآثار الصورة في وضعها الصحيح”(12).
5- يقارن الأستاذ ” سايس ” بين ما قدمه علم الآثار وما قدمه النقد العالي فيقول ” عند بحث التاريخ القديم تواجهنا طريقتان تختلفان عن بعضهما كل الاختلاف، الأولى إيجابية تستقر على حقائق واقعية أكيدة، والثانية سلبية تستقر على النظريات الفرضية الاستقرائية العصرية المزعزعة، فالأولى طريق البحث الأثري والثانية ما يسمونه طريقة النقد العالي، ولست أظن أن العاقل المثقف يتردد في اختيار أي الطريقتين”(13)(14).
_____
(1) راجع الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم ص 29.
(2) راجع زالمان شازار – تاريخ نقد العهد القديم من أقدم العصور حتى العصر الحديث ص 153، 154.
(3) راجع أ. م. هودجكن – تعريب حافظ داود – شهادة علم الآثار للكتاب المقدَّس.
(4) دائرة المعارف الكتابية جـ 1 ص 177.
(5) المرجع السابق ص 178.
(6) المرجع السابق ص 178.
(7) المرجع السابق ص 179.
(8) دائرة المعارف الكتابية جـ 1 ص 180.
(9) المرجع السابق ص 182.
(10) دائرة المعارف الكتابية جـ 1 ص 182.
(11) المرجع السابق ص 181.
(12) دائرة المعارف الكتابية جـ 1 ص 173.
(13) Monument Facto and Higher Critical Fancies, Prof. Suyce, P. 17 , 18.
(14) أ. م. هودجكن – تعريب حافظ داود – شهادة علم الآثار للكتاب المقدَّس ص 29.