هل أخذ سفر التكوين من قصة قايين وهابيل من الأساطير؟
286- هل أخذ سفر التكوين من قصة قايين وهابيل من الأساطير؟
يرى الخوري بولس الفغالي أن قصة قايين وهابيل مأخوذة من الأساطير السومرية حيث الصراع بين إله الرعي وإله الزراعة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وأن الكتاب بدَّل الصراع بين الإلهين إلى صراع بين الأخوين، فيقول “صورة من الصراع بين قايين وهابيل نستطيع أن نقرأها في عالم السومريين بالعراق، بين إله الرعاة وإله الفلاحين، ولكن الكتاب المقدَّس بدَّل هذا المفهوم الأول وجعله قتالًا بين أخوين اثنين..
سيفسر الترجوم هذا المقطع فيقول: وقال قايين لأخيه هابيل “لنخرج معًا إلى البرية ” ولما خرجا معًا إلى البرية قال قايين لهابيل “أنا أرى أن الله لم يخلق العالم بمحبة، وإنه لا يدبره بحسب ثمرة الأعمال الصالحة، وإنه حين يدين فهو يحابي الوجوه، وإلَّا فلماذا رضى عن تقدمتك كل الرضى، ولم يرضَ عن تقدمتي؟ ” أجاب هابيل وقال لقايين “لأن الله خلق العالم بمحبة وهو يدبره بحسب ثمرة أعمالنا الصالحة، وبما أن أعمالي أفضل من أعمالك، فالله قبل تقدمتي ولم يقبل تقدمتك ” أجاب قايين وقال لهابيل “لا دينونة، ولا ديان، ولا عالم آخر، ولا مجازاة خير للصالحين، ولا عقاب للأشرار ” فقال هابيل “بل هناك مجازاة خير للصالحين وعقاب للأشرار ” وأخذا يتجادلان في البرية، فوقف قايين تجاه أخيه هابيل وضربه بحجر على رأسه فقتله”(1).
ويقول زينون كوسيدوفسكي أن كاتب سفر التكوين أظهر هابيل الراعي كمجني عليه، وذلك تعاطفًا مع القبائل العبرانية التي تعيش كقبائل رعوية رُحَّل “كانت القبائل العبرانية آنذاك قبائل رعوية رحَّلّا، ولهذا كان هابيل راعي الماشية، في أساطيرهم محبوبًا من الله وضحية بريئة للمزارع قايين، وبالمناسبة يجب الاعتراف هنا أن تاريخ البشرية يعرف العكس، لكن الانحياز إلى الرعاة الرُحَّل في الأساطير العبرانية مفهوم (وواضح). ذلك لأن قصة قايين وهابيل ظهرت إلى الوجود في العهد القديم جدًا عندما كان العبرانيون قبائل تمارس الرعي والترحُّل”(2).
ويورد فراس السواح ثلاثة أساطير سومرية تتحدث عن الصراع بين الراعي والمزارع، نذكرها باختصار فيما يلي:
1- إيميش وانتين:
تتكون من 308 سطرًا في حالة سيئة، ولكن الخطوط العامة تقول أن الإله إنليل أراد أن يُعمر الأرض بالنباتات والحيوانات، فخلق إيميش الراعي وأنتين المزارع، ولسبب مجهول قام خصام بينهما، فذهبا إلى الإله إنليل ليفصل بينهما، ففضَّل إنليل المزارع أنتين عن الراعي إيميش قائلًا:
“لقد أجرى أنتين ماء الحياة في كل بقاع الأرض.. وأنتج للآلهة كل شيء، إن مزارع الآلهة.. فيا إيميش يا بني كيف تقارن نفسك بأنتين أخيك.. هذه كانت كلمات إنليل المقدسة العميقة المعبرة.. فانحنى إيميش وركع، وأنتين”(3). وانتهى الأمر بصلح الأخوين، وانتهى النص بمديح للأب إنليل:
“أي إنليل أيها الأب نسبح بحمدك”(16).
2- لهار وأشنان:
خلقت الآلهة الإله “لهار ” الراعي، وأخته الإلهة “أشنان ” المزارعة، فكان لهار وأشنان يمثلان بطلان حضاريان، أرسلهما الآلهة للبشر لتعليمهم الزراعة، وتربية الحيوانات والدواجن، والكتابة، والفنون، والنار، ولكن خصامًا وقع بينهما، فأخذا يتجادلان أيهما أفضل من الآخر، ثم احتكما للآلهة، ففضَّل الإلهان “إنليل ” و”إنكي ” المزارعة “أشنان ” عن “لهار ” الراعي، وانتصرت الزراعة للمرة الثانية(4).
3- إنكمد ودوموزي:
في هذه الأسطورة نجد الإلهة “أنانا ” تبحث عن زوج، فيتقدم لها كل من “إنكمد ” المزارع و”دوموزي ” الراعي، فتفضل المزارع قائلة: “أنا العذراء سأتزوج المزارع.. الفلاح الذي يزرع النباتات ويعطي الغلال الوفيرة.. الفلاح الذي ينتج الحبوب الغزيرة “.
ولكن “أوتو ” إله الشمس شجع أخته “أنانا ” للزواج من الراعي “دوموزي ” قائلًا: “أي أختاه عليك بالراعي.. الكثير الأنعام.. أنانا أيتها العذراء لماذا تعرضين عنه..؟ أن زبدته لطيبة وحليبه لسائغ.. وكل ما يمسه يغدو براقًا.. أي أنانا إن دوموزي الكثير الأنعام.. مليء بالجواهر والأحجار الكريمة فلماذا عنه تعرضين.. ستأكلان معًا زبدته الطيبة.. وهو البطل حامي الملك، فلماذا عنه تعرضين”(5).
فتختار “أنانا ” الراعي “دوموزي”، فيفتخر الراعي على المزارع، ويذهب إليه في الحقل، ويدوس بمواشيه مزروعات “أنكمد”، ولكن “أنكمد ” يسامحه قائلًا “أيها الراعي لماذا تريد أن تبدأ معي خصامًا..؟ أي دوموزي لماذا تريد أن تبدأ معي خصامًا..؟ ولماذا نعقد بيننا المقارنة..؟ ألا فلتدع مواشيك تأكل عشب الأرض.. وفي مروجي الخضراء فلترتع قطعانك.. وفي سهول “زايالام ” فلتأكل الحبوب.. ولتشرب من ماء نهري “أونم “..”(6).
ولكن “دوموزي ” الراعي يتمادى في غيه قائلًا “أنا الراعي، لن تحضر حفل زفافي يا أنكمد كصديق.. أيها المزارع كصديق لي، أيها المزارع كصديق لي لا تأتي”(7).
أما “أنكمد ” المزارع فيتمادى في تسامحه، ويعرض على “دوموزي ” تقديم هدايا له ولعروسه قائلًا “ما الذي أستطيع تقديمه؟ سأجلب عدسًا لك.. عدس.. سأجلب لك.. وأنتِ أيتها العذراء أنانا، فكل ما يسرك.. أيتها العذراء أنانا سأقدمه لكِ”(8).
وبعد زواج أنانا بدموزي تحدث المفاجأة، أو ترسل أنانا زوجها دوموزي للعالم الأسفل نيابة عنها، وهنا ترى التضحية بالراعي، وانتصار الزراعة للمرة الثالثة.
أما كمال الصليبي فيدَّعي أن أصل قصة قايين وهابيل هي تصارع الإله العربي “هُبَل ” مع “فين ” الجد الأعلى لقبيلة الفين العربية، فيقول “من هنا يبتدي الاختلاط في القصة بين الخرافة والأسطورة، فهابيل في القصة، كما قلنا، هو الإله العربي القديم “هُبَل “.. أما قايين.. ففي اسمه ما يشير إلى أنه كان يعتبر الجد الأعلى لقبيلة الفين (فين).. ويبدو أن شعب الفين كان في قِدمه يمارس النباتية فيحجم عن أكل اللحوم وتقديم القرابين للآلهة منها.
والأسطورة في قصتنا تمثل قايين (فين) الجد الأعلى لشعب الفين، على أنه كان في الأصل أخًا للإله هُبَل، فتخاصم مع أخيه حول قضية أكل اللحوم أو عدم أكلها، وحول تقديم القرابين من الحيوان أو النبات، وانتهى الخصام بقتل جد شعب الفين للإله هُبَل، فحل به وبذريته ما حل من التيه والتشتت ووضاعة الحال”(9).
تعليق:
1-هناك اختلافات جمة بين قصة قايين وهابيل التوراتية، وبين ما جاء في الأساطير، بل وهناك اختلافات بين الأساطير وبعضها، وعلى سبيل المثال نذكر الاختلافات الآتية:
أ-جاءت الأساطير السومرية صدى للصراع بين الرعاة والفلاحين، بينما كُتب سفر التكوين في صحراء سيناء، حيث لا توجد زراعة ولا فلاحة، بل بالكاد تقوم حرفة الرعي. إذًا ليس هناك صراع بين الرعاة والفلاحين الذي لا وجود لهم.
ب-في القصة التوراتية قدم قايين من ثمار الأرض فقط، وقدم هابيل من أبكار غنمه وسمانها فقط، بينما في الأسطورة نجد أينميش الراعي يقدم من الثمار والأغنام ويزيد عليها الطيور. “بعد أن أنجز كل من الأخوين مهمته قرَّرا الذهاب إلى “نفر ” إلى “بيت الحياة ” ومعهما قرابين الشكر إلى أبيهما “أنليل ” فجلب “أينميش ” أنواعًا عديدة من الحيوانات البرية والمدجنة، والطيور، والنباتات كهدية منه إلى “إنليل “..”(10).. وقدم أينتين الفلاح “المعادن الثمينة والأحجار الكريمة، والأشجار، والأسماك كقربان إلى “إنليل “..”(11) فلو كان موسى النبي اقتبس من هذه الأساطير فلماذا لم يذكر كل هذه الأصناف؟!
جـ- في القصة التوراتية لم يشرب قايين ولا هابيل الخمر، لأنها لم تكن قد عُرفت بعد، بينما جاء في الأساطير أن الأخين شربا الخمر.
د-في القصة التوراتية لم تحدث مناظرة بين قايين وهابيل، أما في الأساطير السومرية فقد قام “لهار ” و”أشنان ” على بعضهما البعض، واحتكما إلى “إنليل ” الذي فضل “أشنان”، ففي القصة التوراتية لم يحتكم الأخان للرب، بينما في الأساطير احتكما للإله “إنليل “.
هـ- انتهت القصة التوراتية بقتل قايين لهابيل، بينما في إحدى الأساطير السومرية لم يُقتل أحدًا، ويقول الأب سهيل قاشا “يغتنم قايين الفرصة ويقتل أخاه هابيل، خلافًا للنتيجة التي توصل إليها (النص) السومري وهي الإذعان إلى حكم الإله والتسليم بأفضلية الزراعة على الرعي”(12).. “وقبل الأخوان قرار إنليل وتمت المصالحة.. فكانت كلمة إنليل الممجدة.. ذات المغزى العميق.. وقُبل القضاء الذي لا يُبدَّل.. فمن ذا الذي يغيره..؟ فركع أينميش إزاء أينتين.. وسكبا معًا القربان المقدس.. بأخوة وصداقة.. وتعاهدا بأن يعملا معًا.. بحكمة وطيب.. فسبحانك أيها الأب إنليل”(13).
و-تجد في الأساطير السومرية خلطًا، فمثلًا أينتين الذي يمثل الفلاح يهتم بالماشية والأغنام التي هي من اختصاص الراعي أينميش “أينتين كان يجعل النعاج والماعز تلد صغارها.. كثَّر البقرات والعجول ووفر بسخاء السمن واللبن.. وفي السهول، جعل البهجة تعم العنز البري والأرويَّات والحُمر الوحشية”(14). ونجد أينميش الذي يمثل الراعي يهتم بالزراعة وإقامة المنازل والمعابد التي هي من اختصاص الفلاح “أما أينميش، فقد نمى الأشجار والزروع ووسع المزاود والحظائر.. وضاعف إنتاج المزارع.. كما أتى بحصاد غني ليُكدس من العنابر.. ودفع في بناء المساكن والتجمعات السكنية وفي.. إشادة البيوت في كل مكان.. وإلى إقامة المعابد لتضاهي الجبال في شموخها”(15).
2-بينما ذكر فراس السواح أسطورة تخبرنا بأن “أنانا ” تزوجت من الراعي، فإن هناك أسطورة أخرى تخبرنا بأن “أنانا ” تزوجت من الفلاح، رغم تشجيع شقيقها لها على الزواج من الراعي وجاء في هذه الأسطورة قول شقيقها “اقترني بالراعي، يا أختاه.. إنانا أيتها الفتاة، لم ترفضينه..؟ لذيذ قشدته ومنعش لبنه.. كل ما يمسه هذا الراعي يتألق.. اقترني إذًا بالراعي يا أنانا.. أنتِ التي تتزينين بالأحجار الكريمة “أونو ” و”شوب “.. لِمَ ترفضينه.. أنتِ حامية الملوك، لِمَ ترفضينه..؟
إنانا تصر على رأيها.. كلا لن أتزوج من الراعي.. أنا لا أريد ارتداء ألبسته الخشنة.. أنا لا أريد ألبس صوفه الصفيق.. أنا الفتاة الصبية، أريد الاقتران بالفلاح.. الفلاح الذي ينتج بكثرة زروعًا كهذه.. الفلاح الذي ينتج بكثرة حبوبًا كهذه!..
بينما كان الراعي مبتهجًا على الضفة.. على شاطئ النهر..! كان الراعي إذًا يقود أغنامه على الضفة.. وبينما كان الراعي يسهر على أغنامه على الضفة.. اقترب منه الفلاح، أنكميدو الفلاح اقترب!- (وتكلم الفلاح) أنا وأنت، أيها الراعي، أنا وأنت.. ما الذي يدفعني للتنازع معك..؟ دع أغنامك تقضم عشب الضفة.. دع أغنامك ترعى في حقولي المزروعة.. دعها تأكل شعيري وهو على ساقه.. دعها تقضم نباتي الحبّي عبر ريف.. وليرتو جديانك وحملانك من قناتي..
(ثم يقدم الفلاح دعواه للعروس) سوف أحمل إليكِ الطحين وأجلب لك البقية.. سوف أجلب لك العدس.. أيتها المرأة الصبية، كل ما ترغبين به.. سوف أقدمه لك أيتها الفتاة إنانا.. الحب والبقية..
(وتزوج الفلاح من إنانا وخاطب الراعي) هيا، أيها الراعي، دعني، يجب أن أعود إلى بيتنا.. دعني إذًا يا صديق إنليل.. يجب أن أعود إلى بيتنا.. “.
3- يقول نيافة المتنيح الأنبا إيسيذورس أن الآثار تشهد لقصة قايين وهابيل “روى الجوالة “هومبولد ” في كتابه المدعو (منظر جبال كورديلارد) في أمريكا أنه عثر في المكسيك على أثر يمثل امرأة تخاطبها حية وعلى جانبها رجلان يعتدي أحدهما على الآخر، وقد قال هذا السائح: إن تقليدات أهل المكسيك تقول أن أم النوع البشري هذه المرأة، وأنها قد ولدت ولدين توأمين “.
4- كيف يدَّعي ناجح المعموري وغيره من الكتَّاب المسلمين بأن قصة قايين وهابيل اقتبسها الكاتب من أساطير الأولين بينما ذُكرت في القرآن أن قايين قتل هابيل، وتعلَّم من الغراب كيف يواري أخيه التراب “وأتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما الله من المتقين..” (سورة المائدة 26 – 31).
_____
(1) البدايات أو مسيرة الإنسان إلى الله ص 105، 106.
(2) الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 16.
(3) مغامرة العقل الأولى ص 211.
(4) راجع مغامرة العقل الأولى ص 211، 212.
(5) المرجع السابق ص 212.
(6) المرجع السابق ص 213.
(7) المرجع السابق ص 213.
(8) المرجع السابق ص 213.
(9) خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل ص 37.
(10) الأب سهيل قاشا- التوراة البابلية ص 109.
(11) المرجع السابق ص 110.
(12) الأب سهيل قاشا- التوراة البابلية ص 102، 103.
(13) المرجع السابق ص 108.
(14) المرجع السابق ص 106.
(15) الأب سهيل قاشا- التوراة البابلية ص 107.
(16) فراس السواح- مغامرة العقل الأولى ص 211.