تابع (1) مقدمـــــــــــــــة عامة تابع ثالثاً: أهمية الذبيحة وشمولها – لمحة تاريخية سريعة للرجوع للجزء الثالث أضغط هنــــا.
(ب) الحقبة الموسوية
(1) ذبيحة العهد: أولاً يلزمنا أن نعرف ما معنى كلمة عهد، فكلمة عهد في العبرية בְּרית– ب ر ي ت أو بريث: معاهدة، اتفاقية، تحالف، ميثاق؛ أما في اليونانية διαθήκη – diatheke، عهد، وصية، وتُشير إلى قرار يتعذر تغييره، لا يمكن ويستحيل تبديله أو إلغاؤه …
ونلاحظ أن في اتفاقية العهد يوجد شريكان يقبلان عهود إلزامية، وهناك مادة التوثيق التي تحفظ لقراءتها وتنفيذ بنودها، وفيها شهود على بنود هذا العهد، ومن المستحيل العهد ينحل تحت أي سبب أو بند، فالعهد قانوني مُلزِم، ومن خالفه يموت، وذلك ما نراه في البركات واللعنات بالنسبة لحفظ العهد أو كسره…
عموماً كانت خدمة موسى النبي الأساسية هي إقامة العهد بين إسرائيل والله, وقد تم هذا عند جبل سيناء. وأساس هذا العهد هو الطاعة. وقد جاءت الشرائع تؤيد هذا، وتعلن أنه لا قيمة لتقديم الذبائح بدون طاعة – كما سنشرح فيما بعد ( أنظر 1صم 15: 22 )، لذلك يقول الرب لهم على فم أرميا النبي: ” لأني لم أكلم آباءكم ولا أوصيتهم يوم أخرجتهم من أرض مصر من جهة محرقة وذبيحة، بل إنما أوصيتهم بهذا الأمر قائلاً: أسمعوا صوتي فأكون لكم إلهاً وأنتم تكونون لي شعباً ” ( إر7: 21 – 22 ) وبالطبع هنا واضح شرط أن يكون الله إله إسرائيل وأن يكونون له شعب، وهو الطاعة !!!
وهذا هو البند الرئيسي في المعاهدة أو العهد الذي أقامة الله مع إسرائيل، فهذا ما نراه حدث، فقد ” جاء موسى وأخبر الشعب بجميع كلام الرب ( يهوه ) وأحكامه “، ووافق عليها جميع الشعب ” فأجاب جميع الشعب بصوتٍ واحد: ” كل ما تكلم به الرب ( يهوه ) نعمل به “، فكتب موسى جميع الأقوال ( كلام الرب يهوه ): ” فبكر في الصباح وبنى مذبحاً في أسفل الجبل، ورفع أثنى عشر عموداً بعدد أسباط بني إسرائيل، وأرسل فتيان ( شبان ) بني إسرائيل فاصعدوا محرقات ( للدلالة على الطاعة ) وذبحوا ذبائح سلامة للرب من الثيران. فأخذ موسى نصف الدم ووضعه في الطسوس، ونصف الدم رشه على المذبح. وأخذ كتاب العهد وقرأ في مسامع الشعب. فقالوا: كل ما تكلم به الرب نفعل ( نعمله ) ونسمع لهُ. وأخذ موسى الدم ورش على الشعب وقال: هوذا دم العهد الذي قطعه الرب معكم على جميع هذه الأقوال ” ( خروج 24: 3 – 8 )
وواضح جداً من هذه الفقرة معنى العهد وإلزام الطاعة الذي التزم به الشعب كله، وقد أُقيم هذا العهد على دم توثيقاً له كختم لا ينحل، فالدم يحمل قوة الحياة، فالدم كالحياة يخص الله وحده. لذلك فقد حرم الله بشدة سفك دم الإنسان ( أنظر لاويين 3: 17 ، 7: 26 ، 17: 10 و11 .. الخ )، حتى دم الذبائح فكان يُرش على المذبح، كما كان محرماً شرب الدم أو أكل ذبائح مخنوقة ودمها فيها ” لحماً بحياته دمه لا تأكلوه، واطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط… سافك دم الإنسان بالإنسان يُسفك دمه، لأن الله على صورته عمل الإنسان ” ( تك9: 4 – 6 ). نربط بين هذا وبين قرار مجمع أورشليم للرسل الذين أرسلوه للمؤمنين من الأمم بأن: ” يمتنعوا عن نجاسات الأصنام، والزنى، والمخنوق، والدم ” ( أعمال 15: 20 ).
أما بالنسبة لاستخدام الدم في توثيق عهد، فلم يوجد في أي موضع آخر في العهد القديم سوى هذا الموضوع، ثم في العهد الجديد في قول الرب يسوع المسيح ليلة العشاء الأخير، وهو يُقدم الكأس لتلاميذه قائلاً لهم: ” أشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا ” ( مت26: 27و28 )
عموماً رش الدم الحامل قوة الحياة، القصد منه توثيق وتكريس وتقديس العلاقة بين طرفي العهد. فمن خلال مشاركة الله مع إسرائيل في رش الدم الذي يُمثل الحياة، على كل من طرفي العهد ( المذبح لله، وعلى الشعب ) يتم الارتباط السري بينهما وترتفع حياة الإنسان نحو بُعدٍ جديد من العلاقة الوثيقة مع الله، لأنهم مربوطين برباط دم الصلح وإقامة عهد مقدس جداً مع الرب إلههم …
ونجد أن بعد إبرام العهد والموافقة عليه بالطاعة وتوثيقه بالدم تراءى الرب يهوه بمجده أمام الجماعة المختارة – حسب الأمر الذي أعطاه لموسى في خر 24: 1 ( ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل – خر24: 9 )، ” فرأوا الله، وأكلوا وشربوا ” ( خر 24: 11 )، وهذه هي وليمة إبرام العهد، لأن ذبائح السلامة قُدمت مع ذبيحة العهد، وذبائح السلامة تستلزم الاشتراك في الأكل منها بفرح وابتهاج أمام الرب، وذلك حسب ما أوصى الله موسى في التثنية: ” وتذبح ذبائح سلامة، وتأكل هناك وتفرح أمام الرب إلهك ” ( تث27: 7 )، لأن ذبيحة السلامة تُقدم لأجل الشكر على إحسانات الرب التي لا تُحصى ( لا7: 11و12 )، وأهمها الصلح والسلام الذي صنعه الرب مع شعبه بقبوله الدم المسفوك عن خطاياهم ورضاه بأن يرتبط معهم بعهد مقدس، ويصير لهم إلهاً وهم يصيرون له شعباً. ____________________
(2) الذبائح في خيمة الشهادة: أمر الرب موسى بإقامة خيمة الشهادة في البرية لتكون مركز العبادة لكل الشعب لتكون هي المقدس ومكان سكنى الله ومقرّ لقاؤه، أي مكان حلول الرب ليتجلى وسط إسرائيل ليقيم علاقة مع شعبه الذي أفرزه من كل الشعوب وصنع معه عهداً لا ينحل أو ينفك أبد الدهر، إلا لو تخلوا هم عنه بالعصيان ( كما سبق ورأينا في ذبيحة العهد ) فخيمة الشهادة هي البيت، بيت الرب: ” فيصنعون لي مَقْدِساً ( مسكناً مقدساً ) لأسكن في وسطهم ” ( خروج 25 : 8 )…
وكانت قيمة وعظمة وسرّ خيمة الشهادة ( أي مسكن أو بيت يهوه ) في: مجد حضور الله المهوب المخوف والمملوء مجداً، وسبب تقديس الأمة كلها، لأن بسبب مجد حضور الرب وسط الجماعة، صارت هي الأمة المقدسة: ” والآن إن سمعتم كلامي وحفظتم عهدي، فأنكم تكونون شعبي الخاص بين جميع الشعوب… وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمه مقدسة ” ( الترجمة العبرية – خروج 19: 5 و 6 )
عموماً نجد بعد أن أعطى الله مواصفات الخيمة في ( خروج من الإصحاح 25 إلى الإصحاح 39 ) وطريقة تصنيعها لموسى، أُقيمت الخيمة في اليوم الأول من الشهر الأول من السنة الثانية لخروج بني إسرائيل من مصر، حسب كل ما أمر به الرب ( يهوه ) موسى مما أدى مباشرة إلى سكناه هناك في شكل سحابة مجد عظيمة: ” وضع مذبح المحرقة عند باب خيمة الاجتماع وأصعد عليه المحرقة والتقدمة، كما أمر الرب موسى… ثم غطت السحابة خيمة الاجتماع وملأ بهاء ( مجد ) الرب ( يهوه ) المسكن ” ( أنظر خروج 40: 29 – 34 )
وحضور الله بشكل مرئي بهذا المجد العظيم في النهار وبشكل نار في المساء ( أنظر خروج 40: 34 – 38 ؛ لاويين9: 22 – 24 ؛ 16: 2 ؛ عدد9: 15 – 23 )، يتطلب قداسة الشعب وطهارته ورفع الخطية ومحو الشر من قلوبهم ووسطهم، لكي يؤهلوا لحلوله الخاص وحضوره الدائم وسطهم ويقدروا على الاقتراب منه والشركة معه، لذلك ينبغي أن يحافظوا على طهارتهم ويكونوا قديسين: ” إني أنا الرب ( يهوه ) إلهكمفتتقدسون و تكونون قديسين ( فتقدسوا وكونوا قديسين )لأني أنا قدوس ولا تنجسوا أنفسكم… إني أنا الرب الذي أصعدكم من أرض مصر ليكون لكم إلها ( لأكون إلهاً لكم ) فتكونون قديسين لأني أنا قدوس ” (لا 11 :44 – 45)
ومن أجل ذلك ” دعا الرب (يهوه) موسى وكلمه من خيمة الاجتماع ” ( لاويين 1: 1 ) وأعطاه تعليمات مفصلة ودقيقة بخصوص الذبائح المختلفة التي يجب تقديمها للرب في الخيمة وكانت للتكفير عن نفوسهم ” لأن نفس الجسد هي في الدم ، فأنا أعطيتكم إياه ( جعلته لكم ) على المذبح للتكفير عن نفوسكم. لأن الدم يُكفَّر به عن النفس ” ( لاويين 17 : 11 )
والذبائح الرئيسية التي أمر بها الرب موسى هي بحسب ترتيبها الإلهي، تبدأ بما يختص بمجد الله ومتطلباته الخاصة من الشعب من جهة الطاعة ليستمر لهم إلهاً، وتنتهي بحاجة الإنسان من التقديس والطهارة ليؤهل للتقرب من الله، لذلك تبدأ بذبيحة المحرقة وتنتهي بذبيحة الإثم ( أنظر لاويين 1 : 1 إلى لاويين 6 : 7 )؛ وهذا ما سوف نراه بتدقيق وتفاصيل شديدة من خلال بحثنا فيما بعد …
ولنلاحظ بالطبع، أن العهد القديم تمهيد وإشارة للعهد الجديد الذي صنع بدم ابنالله الحي، فكم تكون قداستنا ولقاؤنا معه في سر تجسده العظيم وصليبهالمحيي، لأنه بذبيحة نفسه صار لنا قداسة وطهارة: ” الآن قد أُظهر مرة عندانقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه ” ( عب 9: 26 )
ومن المستحيل على الإطلاق على مستوى العهدين ( القديم وبالأكثر الجديد) أن يقترب أحد من الله بطبع غريب عنه، الذي هو الشر والفساد،لأن الله مطلق القداسة ولا يتعامل مع شبه شر، فكم ينبغي أن نكون مؤهلين للاقتراب منه، لذلك دعانا للمجد والفضيلة للقداسة ” كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة ” ( 2بط1: 3 )، ” كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة ” ( أف1: 4 )، ” فلستم إذاً بعد غرباء ونزلاء بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله ” ( أف 2: 19 )، ” وأما الزنى وكل نجاسة أو طمع فلا يسم بينكم كما يليق بقديسين ” ( أف5: 3 )، ” بل نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضاً قديسين في كل سيرة ” (1بط1: 15)، ” لأنه مكتوب كونوا قديسين لأني أنا قدوس ” (1بط 1: 16 )، وذلك بغرض أن نقرب إليه ويكون لنا شركه معه في النور، لذلك نسمع القديس يوحنا الرسول ينبهنا وينذرنا قائلاً : ” وهذا هو الخبر الذي سمعناه منه ونخبركم به أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة. إن قلنا أن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق، ولكن أن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية، أن قلنا انه ليس لنا خطية نضل أنفسن اوليس الحق فينا. أن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم ” ( رسالة يوحناالأولى1: 5 – 9 )
______________
وفي الجزء القادم سنختتم اللمحة التاريخية السريعة عن الذبائح لنتحدث عن تطور طقوس الذبائح وجوانب الذبيحة المختلفة في العهد القديم