أنت مدعو إلى فوق رغم التجارب – العظة 16 للقديس مقاريوس الكبير
عظات القديس مقاريوس الكبير - د. نصحى عبد الشهيد - بيت التكريس لخدمة الكرازة
أنت مدعو إلى فوق رغم التجارب – العظة 16 للقديس مقاريوس الكبير
العظة السادسة عشر للقديس مقاريوس الكبير – أنت مدعو إلى فوق رغم التجارب – د. نصحى عبد الشهيد
“الأشخاص الروحانيون يتعرضون لتجارب وشدائد مصدرها الخطيئة الأولى”
خُلقنا في حالة البراءة- الشر نتج من حريّة الإرادة:
كل الجواهر الروحانيّة، أي الملائكة والنفوس البشريّة والشياطين، كل هؤلاء قد خلقهم الخالق في حالة البراءة والبساطة التامة. أما كون البعض منهم قد تحولوا إلى الشر فهذا ناتج من حريّة إرادتهم. فباختيارهم حادوا عن طريق التفكير السليم. فإذا قلنا أن الله خلقهم هكذا أشرارًا، فإننا بذلك نجعل الله قاضيًا ظالمًا بإرسال الشيطان إلى النار. إن بعض الهراطقة قد قالوا أن المادة أزلية أي ليس لها بداية، وأن المادة هي أصل كل الأشياء. وأن هذا الأصل هو القوة، وهي قوة كافية بذاتها. وهذا الكلام نجيب عليه قائلين: “أية قوة إذن هي القوة الغالبة؟. هي بالتأكيد قوة الله، إذن فالمغلوب ليس معادلاً للغالب لا في القوة ولا في الزمن”.
وأولئك الذين يقولون أن الشر هو جوهر حقيقي، لا يعرفون شيئًا. فبالنسبة إلى الله ليس هناك شر جوهري وذلك لأن الله حسب طبيعته الإلهيّة غير قابل للشهوات والأهواء، أما نحن فإن الشر يعمل فينا بقوة كاملة ويجعل نفسه محسوسًا ويوحي بكل الشهوات الرديئة ولكن الشر ليس مختلطًا بنا، كاختلاط الخمر بالماء كما يقول البعض، ولكنه مثل الزوان مع القمح فالقمح وحده والزوان وحده، رغم أنهما موجودان في نفس الحقل، كما أنه في بيت واحد قد يوجد اللص في جزء منه، ورب البيت في جزء آخر.
اختلاط الخطية بالنفس:
إن ينبوع الماء ينبع ماءًا صافيًا رغم أنه يوجد طين أسفل الينبوع تحت الماء. فلو أن أحدًا حرك الطين، فإن الينبوع كله يتعكر. وهكذا النفس حينما تثار فإنها تتنجس وتختلط بالشر، ويصير الشيطان واحدًا مع النفس، كروحين متفقين، في فعل الزنا أو في القتل. لهذا السبب “فالذي يلتصق بزانية هو جسد واحد” (1 كو 6: 16) ولكن في لحظة أخرى تكون النفس قائمة بذاتها، تائبة عما فعلته من خطية، وتبكي وتصلي وتتذكر الله، لأنه لو كانت النفس غارقة دائمًا في الشر فكيف يمكنها أن تفعل ذلك؟ إذ أن الشيطان لا يريد أبدًا أن يقبل الناس إلى التوبة. لأنه خال من كل رحمة أو شفقة.
شركة الروح القدس مع النفس:
والزوجة باتفاقها مع زوجها تصير واحدًا معه، ولكنهما في لحظة أخرى يفترقان، لأنه قد يحدث أن أحدهما يموت والآخر يعيش. وعلى مثال هذه الشركة تكون شركة الروح القدس مع النفس. فيصيران روحًا واحدًا “لأن من التصق بالرب فهو روح واحد” (1 كو 6: 17) وهذا الأمر يحدث عندما يمتليء الإنسان بالنعمة فتحيطه من كل ناحية.
ولكن يوجد البعض من الذين حصلوا على تذوق الله، ولكنهم لا يزالون خاضعين لتأثير العدو، وهم يستغربون بسبب نقص خبرتهم، أنه بعد افتقاد الله لهم بالنعمة فإنهم لا يزالون معرضين للتشكيك في أسرار الإيمان المسيحي. وأما أولئك الذين نضجوا فلا يستغربون هذا الأمر. وكما أن الفلاحين المهرة بسبب طول الخبرة، فإنهم في زمن الرخاء لا يزال عندهم حذر وحرص، وينظرون إلى أوقات القحط والغلاء، ومن الجهة الأخرى فحينما تأتي أوقات الغلاء والقحط فإنهم لا يتضجرون وييأسون لأنهم يتوقعون تغير الحال إلى الأفضل في المستقبل، وهكذا هو الحال في الأمور الروحيَّة حينما “تقع النفس في تجارب متنوعة” (يع 1: 2).
فحينما تقع النفس في تجارب متنوعة، فهي لا تعتبره أمرًا غريبًا من ناحية، ومن الناحية الأخرى لا تيأس لأنها تعلم أن التجارب تأتي بسماح لأجل امتحانها وتهذيبها بالشر الذي يقابلها. ومن الناحية الأخرى فحينما تكون في غنى كثير واطمئنان فإنها لا تتخلى عن اليقظة والحذر، بل تضع في اعتبارها احتمالات تغير الحال في المستقبل.
إن الشمس التي هي جسم مخلوق، تضيء في الأماكن ذات الرائحة الرديئة، حيث يوجد الوحل والقاذورات، دون أن تصاب الشمس بأي أذى أو نجاسة، فكم بالحري جدًا يحتفظ الروح القدس النقي بشركته مع النفس، حينما تكون تحت تأثير من الشرير، دون أن يصبه (أي الروح القدس) أي شيء من هذا الشر. “والنور يضيء في الظلمة والظلمة لا تدركه” (يو 1: 5).
الرجاء الثابت وعدم اليأس:
لذلك فحينما يكون الإنسان في عمق (الروح)، وهو غني بالنعمة، لا يزال فيه بقية من الشر موجودة معه. ولكن يوجد له معين قريب منه ليسعفه ويعينه. لذلك فحينما يكون الإنسان في الشدائد وتثور عليه موجات عظيمة من الأهواء فلا ينبغي أن ييأس، لأن اليأس يجعل الخطية تزدهر وتجد فرصة أكثر للتملك على الإنسان. ولكن حينما يكون للإنسان رجاء مستمر ثابت في الله، فإن الخطية تتناقص وتذوي وتجف.
إن الشلل والتشوهات، والحمى أو الأمراض، هذه كلها ناتجة عن الخطية. لأن الخطية هي أصل كل الشرور، وكل الشهوات الناتجة عن أهواء النفس أو من أفكار الشر، إنما ترجع كلها إلى الخطية. فإن كان هناك نبع ماء جاري- وتحيط به مستنقعات وأراض رطبة موحلة، ومع ذلك فحينما يأتي عليه الحر، فإن النبع وما يحيط به من أراض- يجف تمامًا، هكذا الحال مع عبيد الله الذين تفيض فيهم النعمة وتزداد، فإن هذه النعمة تجفف الشهوة سواء كانت من العدو الشرير، أو من الطبيعة (طبيعتهم البشريّة)، فإن رجال الله الآن، أعظم من آدم الأول.
الله في كل مكان:
إن الله غير محدود وغير مدرك وهو يُظهر نفسه في كل مكان، في الجبال، وفي البحر، وفي الأعماق، ولكن بدون أن ينتقل من مكان إلى آخر ملك الملائكة الذين ينزلون من السماء إلى الأرض. فهو في السماء، وهو هنا على الأرض. ولكنك ستقول لي “كيف يمكن أن يكون الله في الجحيم؟ أو كيف يمكن أن يكون في الظلمة، أو في الشيطان، أو في الأماكن الفاسدة؟ “فأجيبك أن الله غير قابل للتأثر بالشر ويحوي كل الأشياء، لأنه غير محدود، وأما الشيطان الذي هو خليقة الله، فهو مقيد.
أما طبيعة الصلاح (الله) فلا تؤثر فيها النجاسة أو تلوثها كما أن الظلمة لا تستطيع أن تجعله مظلمًا. فإذا قلت إنه لا يحوي كل الأشياء بما فيها الجحيم والشيطان، فإنك بذلك تجعله محدودًا من جهة المكان الذي يوجد فيه العدو الشرير، وعلى هذا الأساس يقتضي البحث عن إله آخر أعلى منه. فالله إذن يلزم أن يكون في كل مكان. ولكن اللاهوت له طبيعة سامية ونقيّة جدًا حتى أن الظلمة، لا تستطيع أن تدركه أو تفهمه، ولا يستطيع الشرير أن يشترك في نقاوته رغم أنه موجود فيه. وبالنسبة لله لا يوجد شر جوهري حيث إن الشر لا يستطيع أن يصيبه بأي أذى.
لنحول أفكارنا إلى المسيح:
أما بالنسبة لنا، فالشر حقيقي، لأنه يسكن في القلب ويعمل فيه إذ أنه يوحي بالأفكار الشريرة والمنجسة، ولا يدعنا نصلي بنقاوة، بل يجذب عقولنا إلى العبودية لهذا العالم، وقد جعل النفوس ملبسًا له وتغلغل حتى إلى عظامنا ولمسها مع أعضائنا.
فكما أن الشيطان موجود في الهواء، وكما أن الله موجود هناك، فإن الله لا يصاب بأي أذى نتيجة وجوده مع الشيطان في الهواء. وهكذا فإن الخطية موجودة في النفس ونعمة الله موجودة فيها كذلك دون أن تصاب نعمة الله بأي أذى وكما أن الخادم الذي يكون بجوار سيده هو في خوف مستمر بسبب قربه من سيده، وهو لا يفعل شيئًا بدون سيده. هكذا يجب علينا أن نحول أفكارنا إلى سيدنا المسيح ونكشفها له، وهو الذي يعرف القلب، وليكن في داخلنا رجاء وثقة أنه هو “مجدي، وهو أبي، وهو غناي”.
ينبغي أن يكون لك في قلبك حرص ومخافة. فحتى إذا لم يكن الإنسان حاصلاً على نعمة الله مغروسة وثابتة فيه بشدة حتى أنها تقوده وتوقظه وتحثه على الأشياء الصالحة ليلاً ونهارًا وبلا انقطاع وتكون مرتبطة بنفسه كما برابطة طبيعية، فعلى الأقل، ينبغي أن يكون له الحرص، والخوف والاجتهاد، وانسحاق القلب، ثابتة فيه باستمرار كأنها حقيقة طبيعية غير متغيرة.
النعمة تنشيء المحبة الإلهيّة وتغير القلوب:
ومثل نحلة تصنع قرصًا من العسل داخل الخلية، هكذا النعمة تنشيء المحبة الإلهيّة سرًا في القلوب وتغيرها من المرارة إلى الحلاوة ومن الخشونة إلى الرقة واللطف، وكما أن الصائغ والنقاش حينما يحفرون أو ينقشون لوحة، فإنه يغطي أجزاء من الصور التي ينقشها على اللوحة، ولكنه حينما ينهي عمله، فإنه يظهرها لامعة بالنور، هكذا الرب الصائغ والفنان الحقيقي يحفر على قلوبنا وينقشها، ويجددها في صمت وسكون إلى أن يأتي يوم خروجها من الجسد، وحينئذٍ يظهر جمال النفس بوضوح.
وأولئك الذين يريدون أن يصنعوا أواني، ويصوروا فيها صور حيوانات فإنهم يصنعون تصميمهم أولاً على الشمع (قالب)، ثم يصبون المعدن على القالب، وهكذا يكتمل العمل على حسب التصميم الموضوع أصلاً. هكذا الخطية، رغم أنها ليس لها جسد، ولكن لها صورة وهي تتخذ أشكالاً كثيرة، وبنفس الطريقة فإن الإنسان الباطن هو مثل واحد من هذه الحيوانات (التي ترسم) فإن له صورة وله شكل لأن الإنسان الباطن هو على مثال الإنسان الخارجي.
وما أعظم هذا الإناء وما أثمنه إذ أنه هو الإناء الوحيد الذي سُرّ الرب به من بين جميع المخلوقات. وأفكار النفس الصالحة هي كحجارة ثمينة ودرر، وأما الأفكار النجسة فهي مملوءة “عظام أموات وكل نجاسة” ورائحة رديئة (مت 23: 27).
من هم المسيحيون بالحق؟
فالمسيحيون إذن هم من عالم آخر وهم أولاد آدم السماوي، جنس جديد، أولاد الروح القدس وإخوة المسيح المضيئين، مثل أبيهم آدم السماوي المضيء. وهم من تلك المدينة، ومن ذلك النسب، ومن تلك القوة (السماويَّة)، إنهم ليسوا من هذا العالم، بل من عالم آخر، والرب نفسه يقول “أنتم لستم من هذا العالم كما أني لست من هذا العالم” (يو 17: 16).
ولكن كما أن التاجر الذي كان في رحلة طويلة لأجل تنمية تجارته ويكون قد سبق قبل عودته وأرسل لأصدقائه ليهيئوا له منازل وحدائق وملابس بحسب ما يلزمه وحينما يعود إلى بلدته فإنه يحضر معه أموالاً كثيرة ويلاقيه أصحابه وأقرباؤه بفرح عظيم، كذلك في الأمور الروحانيّة فالذين يجعلون الغنى السماوي هو موضوع عملهم وانشغالهم فإن أصدقاءهم وأهل بلدتهم، أي أرواح الصديقين القديسين والملائكة يعرفون عملهم واهتمامهم، ويقولون بفرح وإعجاب: “إن إخوتنا الذين على الأرض قد أتوا بغنى عظيم”.
فهؤلاء عند رحيلهم من العالم يكون الرب معهم ويسببون فرحًا عظيمًا لأولئك الذين هم خاصة الرب في السماء، يستقبلونهم مجهزين لهم بيوتًا وبساتين وملابس كلها لامعة وثمينة جدًا.
الحاجة للاعتدال والإفراز:
إننا نحتاج إلى الاعتدال والتبصر في كل الأمور، حتى لا تتحول الأشياء الصالحة التي تبدو أننا قد امتلكناها، إلى ضرر لنا.
فإن الذين هم رحومين بطبيعتهم، إذا لم يحفظوا أنفسهم فقد ينزلقون تدريجيًا إلى الضلال عن طريق نفس شفقتهم ورحمتهم، وأولئك الذين عندهم حكمة يمكن أن تخدعهم حكمتهم. فيجب على الإنسان أن يكون معتدلاً ومتزنًا معًا في جميع الاتجاهات: بأن يجمع الشفقة مع الشدة، والحكمة مع حريّة التصرف، والقول مع العمل، وفي كل شيء يضع ثقته في الرب لا في نفسه.
لأن الفضيلة تُتَبل بتوابل متنوعة كثيرة، كما أن طعامنا الضروري يُتبل بأنواع من البهارات- ليس بالعسل فقط، بل بالفلفل أحيانًا- وهكذا يصير صالحًا ومناسبًا للأكل.
وأولئك الذين يقولون أن الخطية غير موجودة في الإنسان هم مثل أناس مغمورين تحت مياه كثيرة فائضة، ومع ذلك لا يقرون بأن المياه تغمرهم، بل يقولون، “إننا سمعنا صوت المياه سماعًا” ورغم أنهم يكونون مغمورين في عمق أمواج الشر، فمع ذلك يقولون أن الخطية غير موجودة في عقلهم أو أفكارهم.
الفرق بين الفكر النطري وبين الدخول للكنوز السماويَّة:
يوجد فرق عظيم بين أولئك الذين لهم فكر نظري وقدرة على الكلام، ولكنهم غير مُملّحين بالملح السمائي- الذين يتحدثون عن المائدة الملكية دون أن يكونوا قد ذاقوا منها شيئًا أو تمتعوا بها وبين إنسان يرى الملك نفسه، وقد كشفت له الكنوز السماويَّة وقد دخل إليها، وصار وارثًا لها، وهو يأكل ويشرب من المأكولات السماويَّة الثمينة.
الحرص وانسحاق القلب وعناية النعمة:
وإن كان لأم ابن وحيد، وسيم جدًا، وعاقل وحكيم، ومزيّن بكل الصفات الصالحة، وقد وضعت كل آمالها فيه فإذا مات هذا الابن ودفنته فإنها تصاب بأحزان لا نهاية لها وبكاء ونحيب حتى أنها لا تستطيع أن تتعزى. هكذا أيضًا ينبغي على العقل أن يحزن ويبكي حينما تموت النفس عن الله ويكون له كآبة كثيرة وقلب منسحق، ويكون في خوف وحرص، وفي نفس الوقت يكون له جوع وعطش باستمرار إلى كل ما هو صالح، فمثل هذا الإنسان تأخذه يدي نعمة الله والرجاء الإلهي لتعتني به النعمة فلا يعود يحزن أيضًا، بل يبتهج ويفرح كمن وجد كنزًا عظيمًا، ولكنه يرتعد خوفًا أيضًا لئلا يفقد الكنز.
لأن اللصوص يحضرون كثيرًا للهجوم عليه. ومثل إنسان تعرض لخسائر كثيرة من اللصوص واستطاع أن ينجو منهم بصعوبة شديدة وبعد هذا حصل على غنى وفير وخيرات كثيرة، فإنه لا يعود يخشى تأثير الخسارة عليه بسبب ثرائه الوفير، هكذا الرجال الروحانيون فإنهم يتعرضون أولاً لتجارب وضيقات مخيفة، ولكنهم حين يمتلئون بالنعمة ويفيضون بالصالحات، فإنهم لا يعودون يخافون من أولئك الذين يريدون أن يسرقوهم، بسبب أن غناهم صار عظيمًا، ولكنم يخافون- ليس خوف المبتديء من أرواح الشر، بل لهم خوف وحرص كيف يستثمرون المواهب الروحيَّة التي ائتمنوا عليها.
النعمة تغرس التواضع في النفس:
والواحد من هؤلاء الروحانيين، يعتبر نفسه أحقر من جميع الخطاة، ويتأصل فيه هذا الفكر حتى يصير كجزء من طبيعته وكلما تقدم في معرفة الله، بقدر ذلك يحسب نفسه جاهلاً تمامًا، وكلما تعلم فإنه يحسب نفسه أنه يعرف أقل. إن النعمة هي التي تقوم بهذا التأثير في النفس وتجعله كجزء من الطبيعة في النفس.
ومثل الطفل الذي يحمله شاب قوي، والذي يحمله يأخذه إلى حيث يشاء، هكذا النعمة التي تعمل في أعماق النفس فإنها تحملها وترفعها إلى السموات، إلى العالم الكامل، والراحة الأبديّة.
الراحة وعدم الراحة:
ولكن النعمة فيها درجات ورتب. إذ أن رئيس العسكر الذي يحق له الدخول إلى الملك يختلف عن الضباط. وكما أن البيت الذي يمتليء بالدخان يفرغ الدخان أيضًا إلى الفضاء الخارجي هكذا الخطية المخزونة في النفس تخرج إلى الخارج وتنتج ثمارها.
وكما أن أولئك الذين كلفوا بحكم إحدى الولايات أو كلفوا بإدارة الخزانة الملكية هم دائمًا في قلق وحذر لئلا يسيئوا إلى الملك، هكذا أولئك الذين استؤمنوا على العمل الروحاني هم دائمًا في حذر وحرص رغم أنهم يكونون في راحة إلاَّ أنهم لفترة من الوقت يكونون كأنهم لم يحصلوا على الراحة بعد. لأن مملكة الظلمة التي دخلت إلى مدينة النفس والقوات الغريبة التي سيطرت على مراعيها هي في طريقها أن تطرد خارج النفس.
والمسيح الملك يرسل لينتقم للمدينة ويقيد الظالمين بالسلاسل، وتعسكر الجنود السماويَّة وجيش الأرواح المقدسة هناك كأنهم في السموات، وحينئذٍ فإن الشمس تضيء في القلب وتخترق أشعتها وتدخل إلى كل الأعضاء، وهكذا يملك سلام عميق ويصير هو القوة المسيطرة هناك.
استمرار الصراخ إلى الله:
ولكن عزيمة الإنسان في الحرب والجهاد وقيمته الحقيقيّة وإرادته الصالحة من نحو الله، كل هذه تظهر حينما تتأخر النعمة ولكنه يظل شجاعًا ويستمر يصرخ إلى الله. إنك حينما تسمع أن هناك أنهار بها تنانين، وأفواه أسود وقوات مظلمة تحت السماء ونار تحرق الأعضاء فإنك لا تفكر فيها، غير عالم أنك إن لم تنل عربون “الروح القدس” (2 كو 1: 22)، فإن هذه كلها تمسك بنفسك عند خروجها من الجسد ولا تدعوك تصعد إلى السماء.
أتى هو بشخصه ليدعوك إلى فوق:
وبنفس الطريقة، حينما تسمع عن كرامة النفس وكيف أن جوهرها العاقل ثمين جدًا، فإنك لا تفهم أن الله لم يقل عن الملائكة، بل عن الطبيعة البشريّة “لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا” (تك 1: 26). وأن السماء والأرض تزولان ولكنك أنت قد دعيت إلى الخلود، والتبني، والأخوة للملك، ولتكون عروسًا له. في هذا العالم الذي حولنا كل ما هو للعريس يصير للعروس، وهكذا كل ما هو للرب، مهما كان فإنه يودعه إياك.
لقد أتى هو بشخصه إلى معونتك، ليدعوك إلى فوق، وأنت لا تقدر ولا تفهم مقدار كرامتك. لذلك فالمرنم الملهم يبكي على سقطتك قائلاً: “إنسان في كرامة ولا يفهم، فهو مثل البهائم بلا عقل، وهو يُشبّه بها” (مز 49: 20). فليكن المجد للآب والابن، وللروح القدس. إلى الأبد آمين.