النعمة والتجارب والالتصاق بالرب وحده – العظة التاسعة للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
عظات القديس مقاريوس الكبير - د. نصحى عبد الشهيد - بيت التكريس لخدمة الكرازة
النعمة والتجارب والالتصاق بالرب وحده – العظة التاسعة للقديس مقاريوس الكبير – د. نصحى عبد الشهيد
العظة التاسعة للقديس مقاريوس الكبير – النعمة والتجارب والالتصاق بالرب وحده – د. نصحى عبد الشهيد
“إن مواعيد ونبوات الله تتحقق بواسطة محن وتجارب متنوعة، وأن الذين يلتصقون بالله وحده، ينقذون من تجربة الشرير”.
قانون عمل النعمة:
إن الفاعليّة الروحانيّة التي لنعمة الله في داخل النفس، تعمل عملها بصبر عظيم، وحكمة وتدبير سرِّي للعقل، وفي أثناء ذلك يناضل الإنسان لأوقات وفترات طويلة باحتمال كثير، ثم ينكشف له أن عمل النعمة فيه، هو عمل كامل، وذلك عندما تمتحن إرادته بتجارب كثيرة ويتبرهن أنها (إرادته) مرضيَّة للروح، ويكون قد أظهر ثباتًا وصبرًا لفترة غير قصيرة. وسنبيِّن أن هذا هو قانون عمل النعمة بأمثلة واضحة في الكتاب المقدس.
أمثلة من الكتاب المقدس:
إن ما أقصده يظهر بوضوح في حالة يوسف، فقد اقتضى الأمر فترات طويلة من الزمن لكي تتحقق مشيئة الله وقصده السابق من جهة يوسف، وتتم الرؤيا التي رآها. وقد امتحن بآلام وشدائد وأحزان وقد احتملها جميعًا، وقد وُجد في جميعها خادمًا كاملاً آمينا لله، وبعد ذلك صار ملكًا على مصر وهو الذي عال أسرته وتحققت المناظر النبوية التي كان قد رآها قبل حدوثها بفترة طويلة ووصلت مشيئة الله إلى غايتها المحتومة من نحوه بعد زمن طويل وتدابير كثيرة.
كذلك الحال مع داود، فقد مسحه الله ملكًا بواسطة صموئيل النبي، وبعد أن مُسح، هرب من شاول الذي كان يطارده لكي يقتله، فما معنى مسح الله له إذًا؟ وأين الوعد الذي وُعد به أن يصير ملكًا بعدما مُسح؟ فإنه بعد أن مُسح حلَّت به شدائد كثيرة وكان يتجول في الصحاري، محرومًا حتى من الخبز ولجأ إلى الوثنيين بسبب مؤامرات شاول ضده.
كل هذه المصائب الشديدة أحاطت بذلك الإنسان الذي مسحه الله ملكًا، وبعد أن تجرَّب طويلاً وامتُحن، وبعد آلام وصبر، إذ قد وضع كل ثقته وإيمانه مرة واحدة في الله، وكأنه يقول لنفسه أن ما فعله الله بي بواسطة مسحة صموئيل النبي وما أمر الله به، لابد أن يحدث لي ولابد وأن يتحقق بدون أدنى شك، حتى وإن استلزم الأمر صبرًا كثيرًا، وبعد فترة من الوقت تمت مشيئة الله وتملَّك داود بعد كل تجاربه. وحينئذٍ أشهرت كلمة الله، وتبرهن أن المسحة التي مَسَحه بها على يدي صموئيل النبي، إنما هي أكيدة وحقيقيّة.
وهكذا الحال مع موسى فقد سبق الله فعرفه، وسبق فعيَّنه ليكون حاكمًا ومنقذًا للشعب، وجعله يصير ابنًا لابنة فرعون، وتربَّى في غنى وبهاء ومجد الملوك، وتعلَّم “بكل حكمة المصريين” (أع 7: 12) ولما بلغ سن الرجولة وصار عظيمًا، رفض كل تلك الأشياء مُفضلاً بالأحرى شدائد المسيح وعاره، كما يقول الرسول “على أن يكون لي تمتع وقتي بالخطية” (عب 11: 25).
وهرب من مصر وصرف وقتًا طويلاً يعمل كراعٍ للغنم، وهو الذي تربى كابن ملك وعاش في لذات القصر ونعيمه، وأخيرًا إذ وُجد مقبولاً لدى الله وآمينا من خلال الصبر الكثير- إذ أنه احتمل تجارب عديدة- أصبح بعد ذلك منقذًا وقائدًا وملكًا لإسرائيل، وقال الله له قد جعلتك “إلهًا لفرعون” (خر 7: 1) وبواسطته ضرب الله مصر بضربات كثيرة وأظهر بواسطته عجائب عظيمة على فرعون، وأخيرًا أغرق المصريين في البحر، فانظر بعد كم من الوقت ظهرت وأعلنت مشيئة الله وقصده، وبعد كم من التجارب والشدائد تحققت هذه المشيئة.
وهكذا أيضًا مع إبراهيم فإن الله كان قد وعده منذ زمن طويل أن يعطيه ابنًا، ولكنه لم يعطه له في الحال، بل خلال سنوات طويلة حلَّت به تجارب وضيقات! ولكن إبراهيم احتمل بصبر كل ما يأتي عليه وتقوى تمامًا بالإيمان موقنًا أن الذي وعد هو صادق ولا يمكن أن يكذب، بل سيتمم كلمته، وهكذا إذ آمن نال الموعد.
ونوح أيضًا، لما أمره الله وله من العمر خمسمائة سنة، أن يبني الفلك، وأخبره أنه سيجلب طوفانًا على العالم، ولم يأتِ الطوفان إلاَّ عندما كان نوح ابن ستمائة سنة، فظل منتظرًا بصبر مائة سنة ولم يشك في قول الله له بل تقوى بالإيمان موقنًا بأن ما تكلم الله به لابد أن يحدث، وإذ وُجد مقبولاً بسبب نية قلبه وايمانه وصبره، خلُص هو وأهل بيته فقط، لأنه حفظ الوصية بنقاوة.
امتحان الإرادة وطاعة الوصايا:
لقد استخرجنا هذه البراهين من الكتب المقدسة لكي نبيِّن أن نعمة الله في الإنسان، وموهبة الروح القدس المعطاة للنفس المؤمنة، تعمل مع جهاد كثير، وصبر عظيم وطول أناة، وتجارب وامتحانات، إذ تمتحن إرادة الإنسان الحرّة بكل أنواع الشدائد.
فإذا لم تحزن الروح في أي شيء، بل وجدت موافقة للنعمة بطاعتها لجميع الوصايا، فإنها تحسب حينئذٍ أهلاً للحصول على الحريّة من الشهوات وتنال ملء التبني بالروح- المتكلم عنه في سر- وتنال الغنى الروحي، والمعرفة والحكمة التي ليست من هذا العالم، هذه النعم التي قد أُعطي للمسيحيين الحقيقيين أن يصيروا شركاء فيها. ولأجل هذا فإنهم أعلى من كل ذوى الفطنة والمعرفة والحكمة من أهل العالم الذين لهم روح العالم.
فإن الشخص الروحي “يحكم في كل شيء” (1 كو 2: 15) كما هو مكتوب. إنه يعرف كل إنسان، ومن أين يأتي بأفكاره وكلامه وما هو موقفه والدرجات والمقاييس التي هو فيها، ولكن ليس أحد من أولئك الذين لهم روح العالم يستطيع أن يعرف الشخص الروحي أو يحكم فيه، إنما يستطيع أن يعرفه ذلك الذي له الروح السماوي- روح اللاهوت- مثله، وبذلك فإنه يكون له نفس معرفته كما يقول الرسول
“قارنين الروحيات بالروحيات، ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل الأشياء الخاصة بروح الله لأنها في نظره جهالة، أما الروحي فيحكم في كل شيء، وهو نفسه لا يحكم فيه من أحد” (1 كو 2: 13-15) فمثل هذا الإنسان ينظر إلى كل الأشياء التي يفخر بها العالم، ينظر إلى كل غنى العالم ولذاته وتمتعاته- بل وحتى معرفته ذاتها- وإلى كل الأشياء المختصة بهذا الدهر كأشياء مرفوضة وكريهة عنده.
نار حب المسيح:
وكما أن الإنسان الذي تتملكه الحمى الشديدة، يكره ويرفض أحلى الأطعمة والأشربة التي تقدم له بسبب اشتعال الحمى فيه، وشدة تأثيرها عليه، وهكذا الذين يشتعلون بالشهوة المقدسة، شهوة الروح، واشتياقه، وتجرح نفوسهم بالمحبة، محبة الله، وتشتعل فيهم نار المحبة السماويَّة بشدة تلك النار التي “جاء الرب ليلقيها على الأرض وهو لا يريد إلاَّ اضطرامها” (لو 12: 49) ويلتهبون بالشهوة السماويَّة للمسيح، هؤلاء كما قلنا سابقًا، يعتبرون كل الأشياء المجيدة والثمينة الخاصة بهذا العالم كأنها أشياء حقيرة وكريهة بسبب نار حب المسيح التي تحصرهم وتشعلهم وتضرمهم ليميلوا بكل قلوبهم إلى الله وإلى الخيرات السماويَّة- خيرات الحب الإلهي.
ذلك الحب الذي لا تستطيع كل الأشياء سواء في السماء أو على الأرض أو تحت الأرض- أن تفصلهم عنه، كما يشهد الرسول قائلاً: “من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف الخ.. لا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا” (رو 35-39).
الانشغال بالهدف الواحد:
ولكن من غير الممكن لأي إنسان أن يقتني نفسه (لو 21: 19) وأن يقتني المحبة السماويَّة- محبة الروح، بدون أن يجعل نفسه غريبًا عن كل الأشياء المختصة بهذا العالم، ويبذل نفسه في طلب حب المسيح، ويتجرد عقله من كل الاهتمامات الماديّة والارتباكات الأرضيّة لكي يكون مشغولاً انشغالاً كليًا بالهدف الواحد، ويتصرف في كل هذه الأشياء بواسطة الوصايا كلها، حتى أن كل اهتمامه وسعيه وكل انهماك وانشغال نفسه، يكون منحصرًا في اكتشاف الجوهر العقلي غير المادي، وفي كيفية تزيين النفس بالوصايا والفضائل، وبالزينة السماويَّة- زينة الروح.
وبالشركة في نقاوة المسيح وقداسته- حتى إذا تخلى عن كل شيء، وتحرّر من كل العوائق الأرضيّة والماديّة، وانطلق حرًا من المحبة الجسديّة، سواء كانت تعلقًا بالوالدين أو الأقرباء، فإنه لا يدع عقله أيضًا ينشغل أو يرتبك بأي أمر آخر مثل السلطان، أو المجد العالمي، أو الكرامات، وصداقات العالم الجسديّة، أو أي أفكار أرضية أخرى بل يصير كل اهتمام عقله وانشغاله وتلهفه منحصرًا في طلب جوهر النفس العقلي، وبكل قلبه ينتظر بتوقع ورجاء مجيء الروح عليه، كما يقول الرب: “بصبركم اقتنوا أنفسكم” (لو 21: 19) “وأيضًا اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تزاد لكم” (مت 6: 33).
فالإنسان الذي يسعى هكذا ويجتهد، ويكون محترسًا دائمًا، سواء بالصلاة أو بالطاعة، أو بكل نوع من الأعمال الإلهيّة، هذا الإنسان يستطيع أن ينجو من ظلمة الشياطين الأشرار.
الالتصاق بالرب وحده:
فالعقل الذي لا يهمل تفتيش ذاته ولا يهمل طلب الرب، يستطيع أن يقتني نفسه- النفس التي كانت في هلاك الشهوات- يقتنيها بتقديم نفسه كأسير لمحبة الرب بكل غيرة وقوة، وبالالتصاق به وحده، كما هو مكتوب: “مستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (2 كو 10: 5)، لكي بواسطة مثل هذا السعي والاشتياق والطلب يمكن أن يصير العقل “روحًا واحدًا مع الرب” (1 كو 6: 17) وهذه هي عطية المسيح ونعمته التي تحل في إناء النفس المستعدة لكل عمل صالح، و”التي لا تزدري بروح الرب” (عب 10: 29) باختيارها وإرادتها الذاتية أو بانحرافات هذا العالم، وأمجاده، ورئاساته، ولذاته الجسديّة، وألفة الأشرار ومعاشراتهم.
فحينما تخصص النفس ذاتها كلها للرب، وتلتصق به وحده وتسير حسب وصاياه، وتعطي روح المسيح حقه من الإكرام- الروح الذي قد أتى عليها وظللها- فإنها تحسب حينئذٍ أهلاً لأن تصير روحًا واحدًا وكيانًا واحدًا معه، كما يقول الرسول:
“وأما من التصق بالرب فهو روح واحد” (1 كو 6: 17) أما إذا سلَّم الإنسان نفسه للهموم أو لطلب المجد أو العظمة أو الكرامات البشريّة، وسعى وراء هذه الأشياء واختلطت نفسه وامتزجت بالأفكار الأرضيّة، أو ارتبطت وتقيدت بأي شيء من أمور هذا العالم، فإن مثل هذه النفس إذا اشتاقت أن تنطلق وتنجو وتهرب من ظلمة الشهوات التي قيَّدتها بها قوات الشر، فلأنها لا تستطيع أن تهرب، وذلك بسبب محبتها لأعمال الظلمة، ولأنها لا تبغض أعمال الشر بغضًا كاملاً.
لذلك فلنعد أنفسنا للمجيء إلى الرب بكل عزم القلب وبإرادة غير منقسمة، ونصير تابعين للمسيح، لنتمِّم كل ما يريده، و”لنذكر وصاياه لنعملها” (مز 103: 18).
ولنفصل أنفسنا تمامًا عن محبة العالم، ونربط نفوسنا بالرب وحده، ويكون هو وحده شاغل عقولنا ويكون هو همّنا وهو مطلبنا وحده. وإذا كان يلزمنا أن ننشكل بعض الشيء أيضًا بالجسد، وبالأشغال الموضوعة علينا، ومن أجل الطاعة لله، فحتى في هذه الحالات، لا ندع عقلنا يبتعد عن محبة الرب وطلبه والشوق إليه، وهكذا إذ نسعى ونجتهد بقلبٍ يقظ، سائرين في طريق البر بقصد مستقيم، ونحترس دائمًا لأنفسنا، فلأننا ننال موعد روحه، ونخلص بالنعمة من هلاك ظلمة الشهوات التي تحارب النفس، فنصير حينئذٍ أهلأ للملكوت الأبدي ويوهب لنا أن نتنعم كل الأبديّة مع المسيح، ممجدين الآب والابن والروح القدس إلى الأبد آمين.