أصل الكون – كتاب لغة الله – فرانسيس كولينز PDF
أصل الكون – كتاب لغة الله – فرانسيس كولينز PDF
كتاب لغة الإله PDF – فرانسيس كولينز – للتحميل
الفصل الثاني: كتاب لغة الله
قبل أكثر من ۲۰۰ سنة كتب أحد أعظم الفلاسفة على الإطلاق إيمانويل كانت ما يلي “شیآن يملأن قلبي دوما بالإعجاب المتزايد والخشوع وهو شعور لا يفارقني كلما أطلت التفكير: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي والقانون الأخلاقي في داخلي. لقد ميز السعي لفهم أصل الكون وكيفية عمله كل الأديان تقريبا طوال التاريخ، سواء كان ذلك عبادة للشمس أو نتيجة لظاهرة هامة مثل الكسوف أو لمجرد شعور الانبهار بعجائب الجنة.
هل كانت ملاحظة الفيلسوف امانويل كانط Kant مجرد عاطفة فيلسوف لم يستفد من اكتشافات العلم الحديث، أم أن هناك انسجاما ممكنة بين العلم والإيمان فيما يخص سؤال عميق ومهم مثل السؤال عن أصل الكون؟
إحدى التحديات في سبيل الوصول إلى هذا الانسجام أن العلم ليس ثابت. يتوصل العلماء بصورة مستمرة إلى أفاق جديدة، ويقومون باستكشاف عالم الطبيعة بطرق جديدة، ويغوصون في أعماق المساحات التي ليس لدينا فهم كامل عنها. عندما يواجه العلماء مجموعة بيانات تتضمن ظواهر محيرة وليس لها تفسير فإنهم يفترضون فروض لآلية عمل محتملة للظاهرة ثم يجرون تجارب الاختبار هذه الفروض. العديد من التجارب تفشل، وأغلب الفروض يتبين عدم صحتها. العلم في تطور دائم وهو يصحح نفسه: ليس هناك استنتاج خاطي أو فرضية خاطئة يمكن أن تستمر لوقت طويل، لأن المشاهدات الجديدة سوف تدحض بشكل كامل هذا البناء الخاطئ. ولكن على مدى طويل من الزمن فإن مجموعة مشاهدات متتابعة تؤدي أحياناً إلى إطار جديد للفهم. هذا الإطار يحظى بعد ذلك بتوصيف موضوعي ويسمى “نظرية”- نظرية الجاذبية، والنظرية النسبية ونظرية الأجرام تمثل أمثلة على ذلك.
إحدى الأمنيات العزيزة للعالم أن يجعل ملاحظته تسبب هزة في المجال البحثي. على أمل أن تقدم يوماً ما حقيقة غير متوقعة مما يحتم انتشار هذه النظرية. وهذا ما تمنح جائزة نوبل من أجله. وفي هذا الصدد، فإن أي افتراض بوجود مؤامرة محتملة بين العلماء للإبقاء على نظرية قيد الحياة رغم احتواءها على عيوب جوهرية هو بالتأكيد عمل غير أخلاقي للبحث العلمي الذي لا يكف عن البحث. دراسة فيزياء الفضاء تمثل مثالاً جيداً لهذه المبادئ.
حصلت تحولات عميقة خلال الخمسة عقود الماضية خضع فيها فهمنا للمادة ولتركيب الكون إلى تعديلات جوهرية، ومن دون شك أن هناك تعديلات تنتظرنا في المستقبل. هذه الاختلالات المزعجة قد تقود بعض الأحيان لمحاولة إيجاد تركيب يجمع بين العلم والدين، وبالخصوص إذا كانت الكنيسة قد حددت موقفها المسبق من الأشياء وضمنته في نظامها المعرفي. توافق اليوم قد يتحول إلى انفصال غداً. في القرن السادس عشر والسابع عشر قام كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus وکیبلر وغاليليو Galileo Galilei (وجميعهم يؤمنون بقوة بالله) بالتوصل إلى اكتشافات عظيمة تدل على أنه لا يمكننا فهم حركة الكواكب بشكل أفضل إلا إذا كانت الأرض تدور حول الشمس، وليس العكس. تفاصيل استنتاجاتهم لم تكن جميعها صحيحة، وفي البداية كان العديد من الباحثين في الحقل العلمي غير مقتنعين بها، ولكن في النهاية أقنعت البيانات والتوقعات الصادقة المطردة للنظرية حتى أكثر العلماء تشكيكاً. ومع ذلك ظلت الكنيسة الكاثوليكية معارضة، بل وأدعت أن النظرية تتعارض مع النصوص المقدسة. كان من الواضح أن وجهة نظر النصوص الدينية ضعيفة، ومع ذلك فإن هذه المواجهة استمرت لعقود وأدت إلى كثير من الضرر للعلم وللكنيسة معاً.
لقد شهد القرن الماضي العديد من المراجعات غير المسبوقة لفهمنا للكون. كانت المادة والطاقة تعدان كیانات مختلفة، بينما أظهر أينشتين في معادلته المشهورة E = MC2 أن العلاقة بينهما تبادلية. ثنائية المادة والجسيم تعني أن للمادة خصائص الجسيمات والموجات في نفس الوقت، وهي ظاهرة تتجلى في الضوء والجسيمات الصغيرة مثل الإلكترونات، وهو ما كان غير متوقعاً بالنسبة لعلماء متمرسين. شكل مبدأ عدم التحديد في ميكانيكا الكم لهايزنبرغ والذي جعل بالإمكان قياس إما موقع أو طاقته ولكن ليس كلاهما تبعات مقلقة للعلم والدين معاً. ولكن الأعمق تأثيرا هو أن مفهومنا عن أصل الكون قد تغير بشكل كبير في السنوات الخمس والسبعين الماضية بتأثير من هاتين النظريتين.
غالبية هذه المراجعات لفهمنا للعالم المادي ظلت محصورة نسبيا في نطاق ضيق في دوائر البحث الأكاديمي بعيداً عن نظر الرأي العام. وفي حالات معدودة كانت هناك محاولات نبيلة لشرح تعقيدات الفيزياء الحديثة وعلم الكونيات لعامة الناس ومن هذه المحاولات كتاب ستيفن Stephen Hawking Hawking وهو بعنوان A brief history of Time، ولكن يبدو أن قسم كبير من الخمسة ملايين نسخة التي بيعت من كتاب هوكنغ لم يقرأ لأن غالبية القراء وجدوا أن المفاهيم التي يحتويها الكتاب تستعصي على الفهم.
في الحقيقة، إن الاكتشافات المتعلقة بالفيزياء في العقود الخمسة الماضية قادت إلى رؤى تتعلق بالمادة والطبيعة معاكسة للحدس. قبل ما يقرب من مئة عامة علق عالم الفيزياء ایرنست ریذدفورد Rutherford قائلا ” إن النظرية التي لا تستطيع شرحها لنادل المقهى من المحتمل أنها ليست ذات قيمة. على هذا الأساس فإن الكثير من النظريات الحديثة المتعلقة بالجسيمات الأساسية التي تكون المادة ضعيفة”.
من ضمن المفاهيم الغريبة التي أصبحت موثقة في الوقت الحالي حقيقة أن النيترونات والبروتونات تتكون في الحقيقة من ستة نكهات. بل إن النكهات تصبح أكثر غرابة عندما نعلم أن لكل منها ثلاثة ألوان (أخضر وأحمر وأزرق). الأسماء التي أعطيت لهذه الجسيمات تدل على حس إنساني لدى العلماء. تشكل المجموعة المذهلة للجسيمات الأخرى من الفوتونات إلى الغلونات والميونات عالماً غريباً على تجربة الإنسان اليومية مما يجعل غير العلماء يهزون رؤوسهم غير مصدقين. ولكن كل هذه الجسيمات هو ما يجعل وجودنا ممكنا. بالنسبة لأولئك الذين يعتبرون أن المادية أفضل من التوحيد لأنها ابسط وأقرب للحدس، فإن هذه المفاهيم الجديدة سوف تشكل تحدياً لهم. شيفرة أوكام والتي تنسب إلى فيلسوف القرن الرابع عشر وعالم المنطق الإنجليزي وليام أوكام تعتبر نسخة معدلة من رأي ريذرفورد. هذا المبدأ يعتبر أن التفسير الأبسط لأية ظاهرة هو في العادة التفسير الأصح. في هذه الأيام، يبدو أن شيفرة أوكام وصلت للحضيض بوجهة نظر النماذج الكثيرة من فيزياء الكم.
ولكن لازال ينظر إلى ريذرفورد وأوكام بإجلال، على الأقل لان تعبيرهم الرياضي للظواهر المحيرة المكتشفة حديثاً لازال أبسط، بل وأجمل. عندما كنت طالباً في الدراسات العليا في جامعة ييل Yale كانت لي تجربة مميزة في أخذ مقرر في ميكانيكا الكم النسبية على يد الحائز على جائزة نوبل ویلیس لامب Willis Lamb. كانت طريقته في الشرح عبارة عن استعراض لنظريات النسبية وميكانيكا الكم من بداية مفاهيمها. كان لامب يشرح بشكل كامل معتمداً على ذاكرته، ولكن في بعض الأحيان كان يتجاوز بعض الخطوات ويطلب منا ملأها حتى موعد المحاضرة القادمة. ورغم أني تحولت من الفيزياء إلى علم الأحياء إلا أن تجربة استنتاج معادلات كونية بسيطة وجميلة لوصف حقيقة عالم الطبيعة تركت في نفسي أثراً عميقاً، وبشكل خاص لأن النتيجة النهائية ذات طابع جمالي. هذه التجربة أثارت في نفسي أول الأسئلة الفلسفية المتعلقة بطبيعة الكون الفيزيائية. لماذا تسلك المادة على هذا النحو؟ بتعبير ايغن فينغر Wigner’s ماذا يمكن أن يكون التفسير للتأثير غير المنطقي للرياضيات؟
هل هي مجرد حادثة سعيدة أم أنها تعكس نظرة عميقة لطبيعة الحقيقة؟ إذا كان للشخص أن يقبل مفهوم القوة الخارقة فإن ذلك يعني الغوص في عقل الإله؟ هل واجه أينشتين وهايزنبرغ والأخرين الرب؟ في آخر كتابه A Brief History of Time يكتب هوكنغ ما يلي “يجب علينا كفلاسفة وعلماء وحتى الأشخاص العاديين أن نشارك في نقاش السؤال: لماذا أتينا نحن والكون إلى حيز الوجود؟ اذا استطعنا الوصول إلى إجابة على هذا السؤال فإننا نكون قد حققنا نصرة عظيمة للعقل البشري، لأننا عند ذلك نكون قد وصلنا إلى عقل الإله. هل التوصيفات الرياضية للحقيقة تدل على ذكاء أعظم؟ هل تعد الرياضيات إضافة إلى الحمض النووي لغة أخرى للإله؟ من المؤكد أن الرياضيات قادت العلماء إلى عتبة أكثر الأسئلة عمقاً. وأول هذه الأسئلة كيف بدأ كل شيء في البداية؟
الانفجار الكبير
في بداية القرن العشرين كان معظم العلماء يفترضون أن الكون لا بداية له ولا نهاية له. وهذا الافتراض خلق مفارقات فيزيائية عديدة، ومن ذلك كيف يمكن للكون أن يحافظ على استقراره دون الانكفاء على نفسه بفعل قوة الجاذبية، ولكن الاحتمالات الأخرى لم تكن مقنعة. عندما طور أينشتاين نظريته النسبية في عام 1916 قدم عامل التصحيح لإيقاف انهيار الجاذبية والحفاظ على فكرة حالة استقرار الكون. وفي وقت لاحق اعتبر آينشتاين ذلك أكبر غلطة في حياته.
نظريات أخرى افترضت بديلا لتفسير الكون بدأ عند نقطة معينة، وبعد ذلك اتسع ليصل لحالته الحالية، ولكن بقيت مهمة اثبات ذلك تجريبية على عاتق العلماء الذين يأخذون هذه الفرضية على محمل الجد. بداية هذه المعلومات كانت مع ادوین هابل Edwin Hubble في عام ۱۹۲۹ في سلسلة من التجارب التي تابعت ابتعاد المجرات القريبة منا.
باستخدام تأثير دوبلر وهو نفس المبدأ الذي يسمح لشرطة المدينة تحديد سرعة سيارتك أثناء مرورك بجوار جهاز الرادار أو تلك التي تسبب صفير القطار القادم بنغمة أعلى عندما يمر بجوارك -وجد هبل Hubble أنه أینما نظرنا فإن الضوء في المجرات يدل على أنه ينحسر من جهتنا. وكلما كانت المجرات أبعد فإن المجرات تنحسر بشكل أسرع.
إذا كان كل شيء في الكون يتطاير بعيدة عن بعضه البعض فإن إرجاع مؤشر الزمن يؤدي إلى توقع أنه في وقت ما كانت كل هذه المجرات تشكل كتلة واحدة هائلة جداً. ملاحظة هبل أدت خلال السنوات السبعين الماضية إلى بدأ تجارب عملية، مما دفع نسبة كبيرة من علماء الفيزياء والكونيات إلى استنتاج أن الكون بدأ في لحظة واحدة، وهو ما أصبح يشار إليها بلحظة الانفجار العظيم. الحسابات تدل على أن ذلك حدث قبل 14 مليون سنة.
لقد تم التأكد من صحة هذه النظرية عن طريق الصدفة بواسطة آرنو بینزیاس Arno Penzias وروبرت ولسون Robert Wilson عندما توصلوا إلى ما بدا أنه خلفية مزعجة لذبذبات المايكرويف بغض النظر عن الجهة التي يوجهون لها المجس. وهذا يمثل بدقة نوع الشفق الذي يمكن أن نتوقعه كنتيجة للانفجار العظيم الناشئ عن تدمير المادة والمادة المضادة في اللحظات الأولى من انفجار الكون.
تم التوصل إلى أن هناك أدلة دامغة على صحة نظرية الانفجار الكبير من خلال نسبة عناصر معينة في أرجاء الكون، بشكل خاص الهيدروجين والديوتريوم والهليوم. وفرة الديتريوم بشكل مستمر تمتد من النجوم القريبة منا إلى أبعد المجرات القريبة من أفقنا. هذا الاكتشاف يتوافق مع كمية الديتريوم التي تشكلت تحت درجة حرارة هائلة في لحظة واحدة خلال الانفجار الكبير. إذا كانت هناك عدة لحظات من هذا النوع في أماكن وأزمان مختلفة لما وجد هذا الاتساق.
بناءً على هذا المشاهدات ومشاهدات أخرى، أتفق العلماء على أن الكون بدأ بكثافة لا نهائية ونقطة عديمة الأبعاد من الطاقة الخالصة. وعند هذه النقطة تتهاوى قوانين الفيزياء كنتيجة لذلك، وهو ما يعبر عنه بنقطة “التفرد”. على الأقل حتى وقتنا الحالي لم يستطع العلماء تفسير اللحظات الأولى للانفجار خلال to4310 ثانية. من الممكن القيام بتوقعات للأحداث التي كانت بحاجة أن تقع لينتج الكون الذي نشاهده، بما في ذلك فناء المادة والمادة المضادة، وتشكيل نواة ذرية مستقرة، وفي نهاية المطاف تشكيل الذرات، وفي المقام الأول الهيدروجين، الديوتيريوم، والهيليوم.
السؤال الذي لم يتم الإجابة عليه حتى الآن: هل أن الكون الذي نتج عن الانفجار الكبير سوف يستمر في التمدد إلى ما لا نهاية، أم أن الجاذبية سوف تأخذ زمام المبادرة وحينها تبدأ المجرات بالاقتراب من بعضها، وفي نهاية المطاف تؤدي إلى توقف التمدد. الاكتشافات الحديثة التي دلت على وجود كميات غير معروفة من ما يعرف بالمادة السوداء والطاقة السوداء، والتي يبدو أنها تشغل كمية كبيرة جداً من مادة الكون تجعل الإجابة على هذا السؤال معلقة، ولكن ما لدينا من دلائل تشير إلى أن ذلك سوف يتم تدريجياً، وليس على شكل انهيار كامل.
ماذا كان يوجد قبل الانفجار الكبير؟
فكرة حدوث الانفجار الكبير تقودنا إلى السؤال عن ماذا حصل قبل ذلك، ومن الذي كان يدبر الأمور. هذا السؤال يبين بالتأكيد حدود العلم. النتائج المترتبة على نظرية الانفجار العظيم كبيرة بالنسبة للشخص اللاهوتي. بالنسبة للمعتقدات الدينية التي تعتبر أن الإله خلق الكون من لا شيء يعد الانفجار العظيم أمراً مثيراً. هل تنسجم حادثة فردية مثل الانفجار العظيم مع تعريف المعجزة؟
الشعور بالدهشة لإدراك هذه الحوادث دفع العديد من العلماء اللا أدريين إلى الميل نحو اللاهوتية. في كتابه “الإله وعلماء الفلك” God and the Astronomers كتب عالم الفيزياء الفلكية روبرت جاسترو Jastrow الفقرة التالية في هذه اللحظة يبدو أن العلم عاجز عن إزاحة الستار عن غموض الخلق”. بالنسبة للعالم الذي تعود على الخطوات المنطقية يبدو وكأن قصة الانفجار الكبير تنتهي كحلم مزعج. لقد تسلق جبال من الجهل، وعندما وصل إلى الصخرة الأخيرة باتجاه القمة تم الترحيب به من قبل اللاهوتيين الذين يجلسون هنا منذ قرون”.
بالنسبة لأولئك الذين يودون التقريب بين العلماء واللاهوتيين فإن هناك القليل من الاكتشافات المتعلقة بأصل الكون ما يجعله مساعداً على هذا التقريب. في مورد آخر من كتابه المثير كتب جاسترو يقول “ها نحن نرى كيف أن الأدلة الفلكية عن أصل الكون تؤدي بنا إلى النظرة الدينية. قد تختلف التفاصيل، ولكن العناصر الرئيسية ووجهة النظر الفلكية والدينية لسفر التكوين هي نفسها، وهي سلسلة الأحداث التي جعلت شخص يشرع بعمل ما بشكل مفاجئ في لحظة ما كلمحة من الضوء والطاقة”.
عليّ أن أعترف أن نظرية الانفجار الكبير تحتاج إلى تفسير ربوبي. إنها تجبرنا على نتيجة مفادها أن الطبيعة كانت لها بداية محددة. لا أستطيع أن أتصور طبيعة تخلق نفسها. فقط قوة خارج الزمان والمكان قادرة على ذلك. ولكن ما الذي حدث بعد الانفجار الكبير؟ ما الذي أوصلنا إلى الوجود بعد عشر ملايين سنة من الانفجار العظيم؟
تركيب نظامنا الشمسي وكوب الأرض
في المليون سنة الأولى بعد الانفجار الكبير تمدد الكون وانخفضت درجة الحرارة وبدأت الذرات والجزئيات تتشكل. وبدأت المادة تلتئم إلى مجرات بفعل قوة الجاذبية. واكتسبت حركة دائرية، وفي نهاية المطاف نتج عن ذلك شكل حلزوني للمجرات كما هو الحال مع مجرتنا. وضمن هذه المجرات تشكل مركب من الهيدروجين والهليوم وارتفعت كثافته ودرجة حرارته. وفي نهاية المطاف حدث الاندماج النووي.
عملية اندماج أربع ذرات من الهيدروجين لتشكيل طاقة وذرات الهليوم مما يوفر وقوداً للنجوم. النجوم الكبيرة تحترق سريعاً، وأثناء احتراقها ينتج في محورها عناصر أكثر ثقلاً مثل الكربون والأكسجين. وفي بداية الكون (في أول 100 مليون سنة) تظهر هذه العناصر فقط في محور المجرات المحترقة، ولكن مجموعة من هذه النجوم تتعرض لانفجارات هائلة تسمى السوبرنوفا (باللغة العربية تسمى الطارق الأعظم) لتقذف عناصر أكثر ثقة إلى الغاز الموجود في تلك المجرات.
يعتقد العلماء أن شمسنا لم تتكون في الأيام الأولى من تكون الأرض، بل تكونت في المرحلة الثانية أو الثالثة من تكون النجوم، وذلك قبل خمس ملايين سنة عبر عملية التحام داخلية. وأثناء ذلك أفلتت من عملية الاندماج كمية قليلة من العناصر الثقيلة الموجودة في الجوار وتكون نجم جديد، وبدلا عنه تكونت كواكب تدور حول شمسنا. بما في ذلك كوكبنا، والذي لم يكن صالحا للعيش في الأيام الأولى. في البداية، كان كوكبنا شديد الحرارة مع حدوث انفجارات هائلة متكررة، ولكن الأرض بدأت تبرد تدريجية، وطورت غلاف جوية وأصبح الكون ملائماً للعيش قبل أربع ملايين سنة. وبعد 150 مليون سنة أصبح الكون زاخرة بالحياة.
كل هذه الخطوات التي كونت نظامنا الشمسي أصبحت معلومة تماماً، ومن غير المحتمل أن يتم التعديل عليها على ضوء أية معلومات إضافية. أغلب الذرات في جسمك تم إعدادها في الفرن النووي من السوبر نوفا القديمة -فجسمك مكون في الحقيقة من غبار النجوم.
هل هناك نتائج لاهوتية تترتب على أي من هذه الاكتشافات؟ هل وجودنا فريد في الكون؟ هل ذلك بعيد الاحتمال؟ يمكن المحاججة بأن أصل الحياة المعقدة لا يمكن أن يكون تبلور في أقل من 5-10 ملايين سنة بعد الانفجار العظيم.
منذ الجيل الأول لم تكن النجوم تحتوي العناصر الأثقل مثل الكربون والأكسجين، والتي نعتقد أنها ضرورية للحياة، على الأقل بالمقدار الذي نعرفه. فقط في الجيل الثاني أو الثالث من نظامنا الشمسي والكواكب المتزامنة معه بات من الممكن العيش فيه. وحتى بعد ذلك، استغرق الأمر وقتا طويلا حتى وصلت الحياة إلى درجة الذكاء والحساسية المطلوبتين. وعلى الرغم من أن أنواع الحياة الأخرى لا تعتمد على العناصر الثقيلة فإنها كانت ممكنة الوجود في مكان آخر من الكون، فطبيعة هذه الكائنات الحية من الصعب جدا أن يتم استنتاجه من معرفتنا الكيميائية والفيزيائية الحالية.
هذه الاكتشافات تدعونا للتساؤل عن الحياة التي يمكن أن تكون موجودة في الأماكن الأخرى من الكون. ورغم أنه لا يوجد أحد لديه معلومات حديثة لتأكيد أو نفي ذلك إلا أن هناك معادلة مشهورة تم صياغتها في عام 1961 من قبل عالم الفلك المتخصص في موجات الراديو فرانك دريك Frank Drake سمحت بالتفكير بالاحتمالات الممكنة. تعد معادلة دريك أفضل وسيلة لتوثيق حالة جهلنا بحقيقة وجود كائنات أخرى في الكون. لاحظ دريك بصورة منطقية مبسطة أن التواصل الحضاري في مجرتنا هو نتيجة لسبعة عوامل:
- عدد النجوم في مجرة طريق الحليب (تقريباً 100 مليون) مضروبة بـ
- جزء من عدد النجوم التي تحيط بها كواكب مضروبة بـ
- عدد الكواكب لكل نجم التي يمكن العيش فيها مضروبة بـ
- جزء من تلك الكواكب التي يوجد بها حياة مضروبة بـ
- جزء من تلك الكواكب التي يوجد بها حياة ذكية مضروبة بـ
- جزء من تلك الكواكب التي طورت حياة يمكن التواصل فيها مضروبة بـ
- جزء من تلك الكواكب التي يوجد بها حياة ويمكن التواصل فيها مع كواكب أخرى.
لقد استطعنا التواصل مع العالم خارج الكرة الأرضية قبل أقل من عدة مئات من السنين. عمر الأرض يقارب 4.5 بليون سنة، ولذلك فإن معامل دراك لا يعكس سوى جزء بسيط جداً من عدد سنوات وجود الأرض: 0,000000022)).
معادلة دراك جميلة ولكنها عديمة الفائدة لأننا عاجزون بأي مقدار من اليقين تحديد قيمة كل شيء، ربما باستثناء عدد النجوم في مجرة طريق الحليب. ولكن بالتأكيد فإن نجوم أخرى تم اكتشافها مع الكواكب التي تدور حولها، ولكن بقية المعلومات لازالت غامضة. ومع ذلك فإن معهد “البحث عن الذكاء خارج الأرض” (SETI) الذي تم إنشاءه من قبل فرانك دراك نفسه قد بدأ وبمشاركة من علماء فيزياء وفلك وأخرين في السعي للوصول إلى إشارات من بقية الحضارات المحتملة في مجرتنا. لقد كتب الكثير عن الأهمية الدينية لاكتشاف حياة في الكواكب الأخرى إذا ما تم التحقق من ذلك. هل هذه الحقيقة سوف تجعل الجنس البشري على كوكب الأرض أقل أهمية؟ هل وجود حياة في كواكب أخرى يجعل اشتراك الإله في هذه العملية أقل احتمالا؟ من وجهة نظري هذه الاستنتاجات غير مؤكدة. إذا كان الإله موجوداً، وهو راغب في أن يكون له أتباع ككائنات حية مثلنا، وإذا كان قادرا على الاعتناء والتفاعل مع ستة بلايين شخص على هذا الكوكب، وبلايين أخرى سبقتنا، فإنه من غير الواضح كيف أن غير قادر على التعامل مع ملايين من الكائنات المشابهة لنا، وملايين أخرى من الكواكب. إنه من المشوق أن نعرف ما إذا كانت الكائنات في الكواكب الأخرى من الكون لديها قانون أخلاقي أيضاً، عطفاً على أهميته في نظرتنا لطبيعة الإله. من الناحية الواقعية، من غير المحتمل أن نعرف الإجابة على هذه الأسئلة أثناء سنوات عمرنا.
المبدأ الإنساني
الآن أصبح أصل الكون ونظامنا الشمسي مفهوماً بشكل أكبر بالنسبة لنا، كما تم التعرف على مجموعة مبهرة من المصادفات متعلقة بعالم الطبيعة كانت قد حيرت العلماء والفلاسفة ورجال الدين على حد سواء. خذ على سبيل المثال الملاحظات التالية:
1- في اللحظات الأولى للكون بعد حدوث الانفجار العظيم تم خلق المادة ومضاد المادة في الوقت نفسه تقريباً في جزء صغير من الثانية، وانخفضت درجة حرارة الكون مما سمح للكواركات ومضاداتها للتكثف. عندما يحدث أن يتلاقى أي كوارك بسرعة كبيرة مع مضاد الكوارك فإن ذلك ينتج عنه فناء كل منهما وإطلاق فوتون من الطاقة. ولكن التماثل بين المادة ومضاد المادة لم يكن دقيقاً، لأنه عند كل بليون زوج من الكواركات ومضادات الكوارك كان هناك كوارك زائد. هذا الجزء البسيط الذي سبب الكون في البداية هو الذي كون كتلة الكون الذي نعرفه.
لماذا يوجد هذا التماثل؟ يبدو أنه أكثر ملائمة أن لا يكون هناك تماثل. ولكن إذا كان هناك تماثل كامل بين المادة وضدها فإن الكون سرعان ما يتحول إلى إشعاع خالص، وعندها لن يتمكن البشر والكواكب والنجوم والمجرات من الوجود.
2- الطريقة التي تمدد بها الكون بعد الانفجار العظيم تعتمد اعتمادا كلياً على كم كانت كتلة وطاقة الكون في ذلك الوقت، وهو أمر يعتمد أيضا على قوة ثابت الجاذبية. الدقة العجيبة لهذه المعاملات الفيزيائية كانت مصدر إعجاب للعديد من الخبراء. كتب هوكنج قائلا “لماذا بدأ الكون بنسبة حرجة من التمدد الذي فصل النماذج التي انهارت مرة أخرى عن تلك التي استمرت في التمدد إلى الأبد، بحيث أنه بعد عشرة ملايين سنة من ذلك لازالت تتمدد بنفس النسبة؟ لو كان تمدد الكون بعد ثانية واحدة من الانفجار العظيم أقل بحجم أقل من 100 ألف بليون لانهار الكون قبل أن يصل إلى حجمه الحالي”.
من جهة أخرى، لو كانت نسبة التمدد أكبر بجزء من المليون لما كان بإمكان الكواكب والنجوم أن تتكون. النظريات الحديثة توفر لنا تفسيراً جزئياً عن سبب تراجع نسبة تمدد الكون السريع في الأيام الأولى بعد الانفجار العظيم إلى نسبة مقاربة للقيمة الحرجة. ومع ذلك فإن بعض علماء الفلك يقولون إن ذلك يعيد إلى الواجهة السؤال عن السبب الذي جعل الكون يتوفر على مقدار مناسب من الخصائص المطلوبة لحدوث هذا التمدد المتضخم. وجود الكون الذي نعرفه يقف على حافة سكين من الدقة.
نفس الظروف تنطبق على تكون العناصر الأثقل. إذا كانت القوة الذرية التي تجمع البروتونات والنيترونات أضعف بقليل فإن الهيدروجين سيكون هو الناتج الوحيد في هذا الكون. ومن جهة أخرى لو كانت هذه القوة أكبر بنسبة بسيطة لتحول كل الهيدروجين إلى هيليوم بدلا من نسبة 25٪ التي وجدت بعد الانفجار العظيم. ولما كان بإمكان فرن انصهار النجوم أن ينتج عناصر أثقل. بالإضافة إلى هذه الملاحظة اللافتة فإنه يبدو أن القوة النووية تم تعييرها بشكل مناسب لإنتاج الكربون، وهو أمر حاسم لوجود الحياة على الأرض. لو كانت هذه القوة أكبر بنسبة ضئيلة لتحول كل الكربون إلى أكسجين.
هناك 15 ثابت فيزيائي تعجز النظريات الحالية عن التنبؤ بقيمتها. المعطيات المتوفرة هي أن قيمة هذه الثوابت هي القيمة التي يجب أن تكون عليه. هذه القائمة من الثوابت تشمل سرعة الضوء، مقدار الشدة الدنيا والقصوى للقوى النووية، العوامل المختلفة للقوة الكهرومغناطيسية وقوة الجاذبية. فرصة أن تتوفر كل هذه الثوابت الضرورية لاستقرار الكون بحيث يكون قابل للعيش فيه فرصة متناهية الصغر. وهذه العوامل هي بالفعل ما نلاحظه بالفعل. الخلاصة أن كوننا بالغ الدقة.
حتى تكون محقا في الاعتراض بأن هذه الحجة تستلزم الدور: على الكون أن يسير وفق عوامل متناسبة مع ثبات الكون أو لن نكون موجودين للحديث عن الموضوع. هذه المبدأ يشار إليه على أنه المبدأ الإنساني: وهي فكرة أن الكون تم تعييره بشكل يسمح لحياة الناس. لقد سبب ذلك الكثير من الدهشة والتساؤل منذ أن تم الكشف عنه منذ عقود عدة
هناك عدة ردود على المبدأ الإنساني:
1- من المحتمل أن يكون هناك عدد لا متناهي من الأكوان، إما بالتزامن مع كوننا الذي نعيش فيه أو بكيفية أخرى مع قيم مختلفة من الثوابت ، وربما بقوانين فيزيائية مختلفة، ولكننا لسنا قادرون على مراقبة هذه الأكوان. نحن نعيش فقط في كون خصائصه الفيزيائية تسمح بوجود الحياة عليه. ثوابت كوكبنا ليست سحرية، ولكنها نتيجة غير معتادة لمحاولات الصحة والخطأ، وهو ما يسمى بفرضية تعدد الأكوان.
۲- هناك كون واحد وهو ما نعيش فيه. لهذا الكون جميع الخصائص التي تسمح بوجود الحياة الواعية. لو لم يكن الكون كذلك لما كنا نناقش هذا الموضوع. نحن محظوظون جداً جداً.
۳- هناك كون واحد وهو ما نعيش فيه. الإتقان الدقيق لكل الثوابت الفيزيائية والقوانين الفيزيائية لتوفير حياة واعية ممكنة أمر ليس بمحض الصدفة، وإنما يعكس فعل قام به من خلق الكون في المقام الأول.
بغض النظر عن تفضيل واحد من الاحتمالات 1 أو 2 أو 3، لا شك أن المسألة لاهوتية. يشير كتب هوكنج قائلا “الاحتمالات النافية لتشكل الكون من شيء ما مثل الانفجار العظيم هائلة. أعتقد أن من الواضح أن هناك آثار دينية”. يذهب هوكنغ في كتابه A Brief History of Time أبعد من ذلك فيقول “من الصعب جدا تفسير لماذا بدا الكون بهذه الطريقة، إلا إذا كان ذلك فعلاً إلهياً قام به شخص يريد أن يخلق كائنات مثلنا”. عالم فيزياء معروف هو فریمان دایسون Freeman Dyson توصل بعد مراجعة هذه السلسلة من الأحداث إلى ما يلي “كلما تعمقت في اختبار الكون وتفاصيل تصميمه كلما حصلت على براهين على أن هذا الكون كان على علم بقدومنا”. أيضا أرنو بنزیاس Arno Penzias الحائز على جائزة نوبل والذي اكتشف الإشعاعات الخلفية للميكروويف الكوني والتي دعمت بقوة نظرية الانفجار العظيم يقول “المعلومات المتوافرة والتي جاءت تماماً كما توقعتها لن تكون أكثر من كتب موسى الخمسة والمزامير والإنجيل مجتمعة”. ربما كان Penzias يفكر في كلمات داود في المزمور الخامس “عندما فكرت في جنتكم، وبصمة أصابعكم، والأقمار والنجوم، ما هو الإنسان الذي كان في عقلك”.
ماذا يمكن أن نصل إليه في استعراضنا للاحتمالات الثلاثة؟ دعونا نتناول ذلك بشكل منطقي. لنبدأ بالتالي، لدينا مشاهداتنا عن الكون الذي نعرفه بما في ذلك أنفسنا. وبعد ذلك علينا أن نحسب أي الاحتمالات الثلاث أكثر ترجيحة. المشكلة أنه لا يوجد لدينا طريق لحساب الاحتمالات، ربما إلا في الاحتمال الثاني. أما بالنسبة للاحتمال الأول فإنه كلما اقترب رقم الأكوان المتزامنة إلى اللانهاية فإن احتمال أن تكون خصائص هذا الكون ملائمة يكون كبيراً جداً. أما بالنسبة للاحتمال الثاني، فإن نسبة احتمال ذلك سوف تكون ضئيلة جداً. أما نسبة احتمال الاحتمال الثالث تعتمد على الخالق الخارق الذي يهتم بالكون غير المحصن. على أساس نسب الاحتمال، يبدو الاحتمال الثاني هو الأقل. وهذا ما يتركنا مع الاحتمالين الأول والثالث. الاحتمال الأول يمكن الدفاع عنه منطقياً، ولكن عدد الأكوان القريب من اللانهاية يثير العجب. إنه بالتأكيد يخالف نظرية شيفرة اوكام.
أولئك الذين يرفضون بشكل قاطع القبول بالخالق الذكي، سوف يحتجون بأن الاحتمال الثالث ليس أكثر بساطة على الإطلاق، لأنه يتطلب توسط الموجود الخارق. يمكن القول حينئذ أن الانفجار العظيم ذاته يؤشر بقوة إلى الخالق، والسؤال عما حدث قبل ذلك سوف يظل قائماً.
إذا كان هناك من يقبل بحجة أن الانفجار العظيم يستدعي وجود خالق، فإنه ليس من البعيد عليه أن يقبل بأن الخالق وضع جميع المتغيرات الثوابت والقوانين الفيزيائية وما عداها للوصول إلى هدف معين. وإذا كان هذا الهدف يشمل الكون الذي كان مجرد فراغ لا خصائص له فإننا نكون قد وصلنا إلى الاحتمال الثالث.
عند الحديث عن محاولة الاختيار بين الاحتمال الأول والثالث يقفز إلى الذهن تشبيه الفيلسوف جون ليسلي John Leslie. في هذا المثل، يواجه أحد الأشخاص الإعدام رمياً بالرصاص، وصوب خمسون رامية محترفة بنادقهم تجاهه لتنفيذ الإعدام. يصدر الأمر، ويسمع صوت الطلقات، ولكن بطريقة ما جميع الرصاصات لا تصيب الشخص المدان، ويخرج من دون أن يصاب بأذى. كيف يمكن تفسير مثل هذه الحادثة الغريبة؟
يعتبر ليزلي أن هناك نوعان من البدائل الممكنة تتناسب مع اختيارنا البديلين الأول والثالث. في المقام الأول، ربما يكون هناك الآلاف من الموجودات الفاعلة التي خلقت في نفس اليوم، وأفضل الرماة يمكن أن يخطأ أحياناً. ولكن عوامل الفشل جميعها صبت في مصلحة هذا الشخص بالتحديد، والرماة الخمسون فشلوا في إصابة الهدف. الاحتمال الثاني هو أن هناك شيء ما محدد يجري، والخطأ في تصويب للرماة كان مقصوداً. أيهما يبدو أكثر احتمالاً؟
من الأفضل لنا ترك الباب مفتوحاً لجهة قدرة الاكتشافات المستقبلية في الفيزياء النظرية على تحديد بعض من الثوابت الخمس عشرة، والتي تم تحديدها حتى الآن بواسطة المشاهدات التجريبية، حيث يمكن تقييد قيمتها الرقمية المحتملة عبر شيء ما أكثر عمقا، ولكن هذا الأمل لا يبدو قريبة من الأفق. وزيادة على ذلك، وكما هو الحال مع الحجج التي عرضنا لها في هذا الفصل والذي سبقه، ليس هناك مشاهدة علمية بإمكانها الوصول إلى برهان قاطع على وجود الإله. ولكن بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في التفكير في وجهة نظرهم الدينية فإن المبدأ الإنساني بالتأكيد يوفر حجة مشوقة في صالح الخالق.
ميكانيكا الكم ومبدأ عدم التحديد
اسحق نيوتن كان من المؤمنين، وقد كتب في تفسير الإنجيل أكثر مما كتب في الرياضيات والفيزياء، ولكن ليس كل من يقلده يشاطره الرأي في هذا الاعتقاد. في بداية القرن التاسع عشر قدم الماركيز دي لابلاس marquis de Laplace وهو فيزيائي ورياضي فرنسي معروف وجهة نظر للطبيعة التي تحكم قوانين الطبيعة بدقة (بعضها أكتشف، والبعض الأخر لم يكتشف بعد) وبالتالي فإن الطبيعة لا يمكنها تجنب الانصياع لهذه القوانين. في وجهة نظر لابلاس هذه الحاجة ضرورية حتى في أصغر الجسيمات، وفي أبعد أماكن الكون، وكذلك الحال مع البشر وعملية تفكيرهم.
افترض لابلاس أنه تم إعداد الترتيب الأولي للكون، وكل الحوادث المستقبلية، بما في ذلك المتعلقة بتجربة البشر في الماضي والحاضر والمستقبل بطريقة لا يمكن العودة عنها. هذه النظرة تمثل الصورة المتطرفة من الحتمية العلمية، وهو ما لا يترك أية مساحة للإله (إلا في البداية) أو لمفهوم الإرادة الحرة. لقد أحدثت وجهة النظر هذه ضجة في الأوساط العلمية والدينية (وكما اشتهر عن لابلاس قوله لنابليون عندما سأله عن الإله، “لا أحتاج إلى هذه الفرضية”).
وبعد عقد من ذلك تم الانقلاب على مفهوم لابلاس في الحتمية العلمية، ليس عن طريق حجة دينية، ولكن عن طريق رؤى علمية. في ذلك الوقت بدأت الثورة المعروفة باسم ميكانيكا الكم، كوسيلة للإجابة على الأسئلة غير المجاب عليها في الفيزياء فيما يخص طيف الضوء. استنادا إلى عدة مشاهدات، كشف ماكس بلانك وألبرت آينشتاين أن الضوء لم يأت من أية قوة ممكنة، بل هو عبارة عن قوة مضغوطة في جسيمات طاقة دقيقة تسمى الفوتونات. لذلك، فهو غير قابل للانقسام إلى ما لا نهاية، بل هو عبارة عن سيل من الفوتونات، كما أن تصميم الكاميرا الرقمية لا يمكن أن تكون أدق من بكسل واحد.
في الوقت نفسه، اختبر نیلس بور تركيب الذرة، واندهش من قدرة الإلكترونات في البقاء في مدار الذرة. تجذب الشحنة السالبة لكل إلكترون الشحنة الموجبة لكل بروتون في الذرة، وفي نهاية المطاف ينتج عن ذلك انهيار كل المادة لا محالة. افترض بور مسلمة شبيهة بحجة الكم، مما أدى إلى نظرية تعتمد على مسلمة تقول إن الإلكترونات يمكن أن توجد فقط في عدد متناهي من الحالات.
بدا أن أسس الميكانيكا التقليدية تتهاوى، ولكن أعمق النتائج الدينية لهذه الاكتشافات ظهرت على يد عالم الفيزياء ورنر هیزنبرغ Werner Heisenberg حين أوضح أنه في عالم الكم الغريب في أقصر المسافات وأصغر الجسيمات لا يمكن قياس موقع ومقدار القوة الدافعة بشكل دقيق في نفس الوقت. مبدأ عدم التحديد هذا والذي سطع باسم هیزنبرغ أطاح بحتمية لابلاس بضربة واحدة، لأنه أشار إلى أن أي ترتيب للكون لا يمكن في الحقيقة تحديده بدقة كما كان يتطلب نموذج لابلاس.
النتائج المترتبة على ميكانيكا الكم لفهم معنى الكون كانت موضوعاً لكثير من النقاشات خلال الثمانين سنة الماضية. آينشتاين نفسه، ورغم أنه لعب دوراً مهماً في بدايات ميكانيكا الكم رفض في البداية مفهوم عدم التحديد، وكان له تعبير لافت “الإله لا يلعب النرد”.
يمكن للمؤمن بالإله أن يرد بقوله إن اللعب لن يبدو كنرد بالنسبة للإله، حتى لو كان يبدو لنا كذلك. وكما أشار هوكنج “لازال بإمكاننا تصور أن هناك مجموعة من القوانين التي يمكنها تحديد الحوادث بشكل دقيق لكائن خارق يمكنه أن يراقب الوضع الحالي للكون دون أن يتسبب في إرباكه”.
علم الفلك وفرضية الإله
المراجعة السريعة لطبيعة الكون تقودنا لإعادة النظر في إمكانية فرضية الإله بطريقة أكثر عمومية. أتذكر هنا ما ورد في المزمور 19، حيث كتب داوود “تبرز الجنات عظمة الإله، والسموات تظهر أن ذلك من صنع يديه”. من الواضح أن وجهة النظر العلمية ليست كافية بشكل كامل للإجابة على كل الأسئلة المثيرة المتعلقة بأصل الكون، وليس هناك تعارض جوهري بين فكرة الإله الخالق وبين ما يكشف عنه العلم. في الحقيقة، إن فرضية وجود الإله تجيب على مجموعة من الأسئلة العويصة تتعلق بما حدث قبل الانفجار العظيم، ولماذا هيئ الكون بشكل رائع من أجل أن نعيش فيه.
بالنسبة للمؤمن بالإله الذي وصل من حجة القانون الأخلاقي (الفصل الأول) إلى البحث عن الإله الذي لم يدفع بالكون للحركة فحسب، بل المهتم بالبشر، وهو ما يجعل هذا التركيب ممكناً.
يمكن صياغة الحجة على النحو التالي:
إذا كان الإله موجود فهو قوة خارقة
إذا كان قوة خارقة فهو غير مقيد بقوانين الطبيعة
إذا كان غير مقيد بقوانين الطبيعة فإنه غير مقيد بزمن
إذا لم يكن مقيد بزمن فإنه موجود في الماضي والحاضر والمستقبل
النتائج المترتبة على هذه الاستنتاجات تشمل التالي:
هو يمكن أن يكون موجود قبل الانفجار العظيم، كما يمكن أن يبقى بعد أن يفني الكون
هو قادر على معرفة ترتيب الكون بدقة حتى قبل أن يوجد
يمكن أن يكون على معرفة مسبقة بالكوكب القريب من الحافة الخارجية لمجرة حلزونية متوسطة مناسبة لعيش البشر فيها
يمكن أن يكون على معرفة مسبقة بأن تشكل الكون سوف يؤدي إلى تطوير مخلوقات واعية، من خلال آلية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي.
يمكن أن يكون على معرفة مسبقة حتى بأفكار وأفعال هذه الكائنات رغم أن هذه الكائنات حرة الإرادة.
يمكنني أن أقول الكثير حول الخطوات الأخيرة في هذه الحجة، ولكن الاتساق الملخص بين العلم والإيمان يمكن رؤيته بوضوح. هذه الحجة لا تقصد أن تتستر على كل التحديات أو جوانب القصور. المؤمنين بالإله في بعض أديان العالم يواجهون بالتأكيد صعوبات محددة في بعض تفاصيل أصل الكون الذي تنبأ به العلم.
الربوبين من أمثال آينشتاين الذين يعتقدون أن الإله بدأ خلق الأشياء دفعة واحدة، ولكنه لم يعد مهتمة بما يحدث بعد ذلك، يبدو مرتاحين من الاكتشافات الأخيرة لعلم الفيزياء والفلك، باستثناء مبدأ عدم التحديد. ولكن شعور معظم الأديان الإيمانية بالراحة متغير. ففكرة البداية المحددة للكون غير متوافقة تماماً مع البوذية. ولكن هناك فروع في الديانة الهندوسية لا تواجه تعارض حقيقي مع نظرية الانفجار العظيم. وكذلك أغلب مفسري الإسلام ولكن ليس كلهم.
في التقليد اليهودي -المسيحي، يبدأ سفر التكوين بالعبارة التالية “في بداية الأمر خلق الله السماوات والأرض” وهي تتوافق مع نظرية الانفجار العظيم. وفي مثال لافت، كان البابا بيوس الثاني عشر للكنيسة الكاثوليكية من أشد المؤيدين لنظرية الانفجار العظيم حتى قبل أن يبرز الجانب العلمي للنظرية.
ليست كل التفاسير المسيحية مؤيدة للنظرة العلمية للكون، ومع ذلك فإن من فسروا سفر التكوين بشكل حرفي استنتجوا أن عمر الأرض 6000 سنة فقط، ولذلك فهم يرفضون الاستنتاجات التي ذكرناها. موقف هؤلاء مفهوم من عدة جوانب، فهم يرفضون التفسير الفضفاض وتفريغ النصوص من محتواها. النصوص التي تصف حوادث تاريخية يجب أن تفسر رمزية فقط إذا ما تطلب ذلك.
ولكن هل سفر التكوين من هذا النوع؟ لا شك أن لغته شعرية. هل تعبر هذه النصوص عن هوية شعرية؟ (سيكون هناك الكثير لنقوله عن ذلك في الفصول القادمة). إنه ليس سؤالاً حديثاً، فطوال التاريخ ثار الجدل بين أنصار التفسير الحرفي وأنصار التفسير غير الحرفي. القديس أوغسطينوس Saint Augustine وهو أحد أعظم المفكرين الدينيين كان على وعي بخطورة تحوير النصوص الإنجيلية لتناسب الأطروحات العلمية، فكتب يقول في إشارة خاصة لسفر التكوين في الحقيقة، إن نصوصه غامضة وبعيدة عن متناول فهمنا، فنجد مقاطع في الكتاب المقدس يمكن تفسيرها بطريقة مختلفة دون الانحياز إلى الإيمان الذي تعلمناه. في مثل هذه الحالات، علينا أن لا نستعجل بتهور وأن نأخذ موقف حاسم باتجاه أو أخر، لأنه إذا حصل تطور في البحث عن الحقيقة وقلل من صحة هذا الموقف فإننا سوف نقع معه”.
في الفصول التالية سوف نركز على الجوانب العلمية المتعلقة بدراسة الحياة. سوف نتعرف على التعارضات المحتملة بين العلم والدين، على الأقل من وجهة معلقين معاصرين، ولكن سوف أقول بًنه إذا ما طبقنا نصيحة القديس أوغسطينوس حيث قدمت لنا بشكل جيد قبل الآلاف السنين من وجود أي سبب يدعونا لاعتذار من دارون، سوف نجد توافقاً مرضياً ومتسقاً وعميقاً بين وجهات النظر هذه.