عام

الماكينة القردية – جون ليونكس

الماكينة القردية – جون ليونكس

الماكينة القردية - جون ليونكس
الماكينة القردية – جون ليونكس

الماكينة القردية – جون ليونكس

 

«”آرثر دنت” مخاطباً “فورد برفكت”: “فورد،

إن أعداداً لا حصر لها من القردة منتظرة في الخارج

تريد أن تخبرنا عن هذا النص الذي كتبوه لمسرحية “هاملت”.»

“دوجلاس آدمز”

 

«لا يُشترط أن تكون عالم رياضيات أو فيزياء

حتى تحسب أن عيناً أو جزيء هيموجلوبين يستلزم وقتاً

من الآن إلى الأبد حتى يجمع نفسه بمحض الصدفة

العشوائية الفوضوية.»

“ريتشارد دوكينز”

 

 

القردة الكاتبة:

يزعم “ريتشارد دوكينز” أن العمليات الطبيعية غير الموجهة يمكنها أن تفسر أصل المعلومات البيولوجية، فلا حاجة لمصدر معلومات خارجي. وهو يستخدم في كتابه “الساعاتي الأعمى” مشابهة ترجع جذورها لحجة تنسب إلى “ت. هـ. هكسلي” في مناظرته الشهيرة مع “ويلبروفورس” في أكسفورد سنة 1860. ويقال إن حجة “هكسلي” تقول إن القردة العليا لو أخذت تكتب كتابة عشوائية على الآلة الكاتبة، بشرط أن تمنح عمراً طويلاً، وإمدادات لا تنتهي من الورق والطاقة التي لا تنضب، ستكتب في النهاية، بالصدفة إحدى قصائد شكسبير أو حتى كتاباً كاملاً. عموماً ليس من المحتمل أن يكون “هكسلي” قد قال شيئاً كهذا لسبب بسيط أن الآلات الكاتبة لم تطرح في الأسواق إلا سنة 1874. ولكن ليس هذا هو المهم. فهي قصة طريفة، وبناء على تقديرات عمر الكون الحالية، ناهيك عن تقديرات عمر الأرض، من السهل أن نرى أن هذا الزعم الذي تنطوي عليه المشابهة هراء رياضي. وقد كتب عالم الرياضيات البارز “جيان كارلو روتا” Gian-Carlo Rota في كتاب عن الاحتمالات (توفي قبل أن ينهي كتابته): «لو تمكن القرد من النقر على لوحة المفاتيح نقرة واحدة كل نانو ثانية، فالزمن المتوقع الذي يحتاجه لكتابة مسرحية “هاملت” طويل للغاية حتى إن عمر الكون، وفقاً لتقديرات العلماء، يبدو لا شيء مقارنة به… ولا أظن أنها طريقة عملية لكتابة المسرحيات.»

وليس من الصعب أن نحسب هذا الكلام. فمثلاً، “رسل جريج” Russell Grigg يحسب في مقاله «هل يمكن للقردة أن تكتب مزمور 23 على الكمبيوتر؟» “Could Monkeys Type the 23rd Psalm?” أنه إن نقر القرد نقرة واحدة عشوائياً كل ثانية، فمتوسط الوقت الذي يحتاجه لكتابة كلمة “the” يبلغ 34,72 ساعة. وحتى يكتب نصاً بطول المزمور الثالث والعشرين (مزمور عبري قصير يتكون من 603 حرف ورقم آية ومسافة) سيحتاج في المتوسط حوالي 101710 سنة. والتقديرات الحالية لعمر الكون تتراوح بين أربعة وخمسة أضعاف 910 سنوات. ووفقاً لتعريف “دوكينز”، مؤكد أن هذه الحسبة تجعل مزمور 23 مسألة معقدة: فهو يمتلك «صفات ما، وهو محدد مسبقاً، بحيث أنه لا يحتمل أن يكون قد جاء بالصدفة العشوائية وحدها.»

منذ 1 تموز/يوليو 2003 بدأت عملية محاكاة تتضمن قروداً تكتب عشوائياً على الكمبيوتر، حيث تنقر نقرة واحدة كل ثانية. وقد بدأت العملية بمئة قرد بحيث يتضاعف الرقم كل بضعة أيام، وبالطبع إمدادات الموز لا تنضب. والرقم المسجل حالياً هو 24 حرفاً متتالياً من مسرحية شكسبير “هنري الرابع” أنتجت في حوالي 4010 سنة قردية (عمر الكون يقدر بأقل من 1110 سنة).

ومنذ فترة طويلة أقنعت هذه الحسابات معظم العلماء، بمن فيهم “دوكينز”، أن العمليات العشوائية المحضة لا تستطيع تفسير أصل النظم المحملة بالمعلومات المعقدة. ويستشهد “دوكينز” بتقدير “اسحق أزيموف” Isaac Asimov لاحتمالية تجميع جزيء الهيموجلوبين عشوائياً من الأحماض الأمينية. فهذا الجزيء يتكون من أربع سلاسل من الأحماض الأمينية الملتفة معاً. وكل سلسلة تتكون من 146 حمض أميني والكائنات الحية تحوي 20 نوعاً مختلفاً من الأحماض الأمينية. والطرق الممكنة لترتيب هذه العشرين في سلسلة يبلغ طورها 146 حلقة تصل إلى 14620 طريقة، أي حوالي 19010. (الكون كله لا يضم سوى 7010 بروتوناً).

وأود أن أذكر القارئ بالاستنتاج القاطع الذي توصل إليه “دوكينز”: «إنه أمر واضح وضوح الشمس لا يخفى على أحد ولا تخطئه عين أنه لو كانت الداروينية حقاً نظرية صدفة. لا يمكن أن تنجح. فلا يشترط أن تكون عالم رياضيات أو فيزياء حتى تحسب أن عيناً أو جزيء هيموجلوبين يستلزم وقتاً من الآن إلى الأبد حتى يجمع نفسه بمحض الصدفة العشوائية الفوضوية.»

ويتفق كل من السير “فرد هويل” وعالم الفيزياء الفلكية “تشاندرا ويراماسينغ” Chandra Wickramasinghe مع “دوكينز” في موقفه من قدرات العمليات العشوائية المحضة. «مهما كانت حجم البيئة موضوع النقاش، فمن المستحيل أن تكون الحياة بدأت عشوائياً. وجحافل القردة التي تصم آذاننا بدقاتها العشوائية على الآلات الكاتبة لم تتمكن من إنتاج أعمال شكسبير، لسبب عملي أن الكون المنظور كله لا يكفي للأعداد اللازمة من القردة والآلات الكاتبة، ولا يكفي طبعاً لسلال المهملات اللازمة للتخلص من أوراق المحاولات الخاطئة. وهو ما ينطبق على المادة الحية. فاحتمال أن تتكون الحياة تلقائياً من مادة غير حية يساوي 1 إلى رقم أمامه 40 ألف صفر… وهو ما يكفي لدفن داروين ونظرية التطور بأكملها. فلم يوجد حساء أساسي، لا على هذا الكوكب ولا على أي كوكب آخر، وإن لم تكن بدايات الحياة عشوائية، فلا بد إذن أن تكون نتاج ذكاء له غرض.»

هل من الممكن تسلق جبل اللامحتمل؟

يبدو إذن أن الجميع يتفقون على أن بداية مكونات الحياة بمحض الصدفة يظهر أنها ماتت في الحساء الأساسي. فكيف يمكننا إذن تفسير نشأة هذا التعقيد؟ يحاول “دوكينز” أن يحل معضلة نشأة النظم التي تتميز بدرجة عالية من التعقيد المحدد الذي يستبعد فكرة الأصل الناتج عن الصدفة وذلك باللجوء إلى «تقسيم اللاحتمالية إلى أجزاء صغيرة يمكن التعامل معها، مع استبعاد الحظ نهائياً، ثم الدوران خلف “جبل اللامحتمل” وتسلق مرتفعاته السهلة على اعتبار أننا كلما صعدنا بوصة واحدة نكون قد قطعنا مليون سنة.»

فلنحاول إذن أن نتسلق الجبل في أثر “دوكينز”، ونحاول أن نقلل عدم احتمالية إنتاج جزيء الهيموجلوبين (المشروح أعلاه) مثلاً بتقسيم العملية إلى خطوات صغيرة. ولتكن 1000 خطوة إلى قمة الجبل، ولنفترض وضعاً مبسطاً جداً حيث لا يوجد سوى خيارين في كل خطوة. يقود واحد منهما فقط لشيء مجد، مما يدفع الانتخاب الطبيعي للقضاء على الخيار الآخر غير المجدي، وعلى كل خطوة مستقلة. فما احتمالية العثور على الطريق الصحيح للوصول إلى القمة؟ 1 من 10002، أي حوالي 1 من 30010. ولكن هذه الاحتمالية أصغر من احتمالية التجمع العشوائي لجزيء الهيموجلوبين من الأساس. فاقتراح “دوكينز” تسلق الجبل غير محتمل من عدة أوجه.

ويشير الفيزيائي الحائز على جائزة نوبل “براين جوزيفسون” Brian Josephson بجامعة كامبريدج إلى فرضية أخرى متخفية في ثنايا محاولة “دوكينز” لتسلق جبله: «في كتب من أمثال “الساعاتي الأعمى”، يختص جزء جوهري من الحجة بما إذا كان هناك طريق متصل يبدأ من أصل الحياة ويستمر وصولاً للإنسان، بحيث تكون كل خطوة فيه من النوع الذي يفضله الانتخاب الطبيعي، ومن الصغر الذي يجعلها تحدث بالصدفة. ويبدو أن المسألة تعرض بما يوحي أن الضرورة المنطقية تحتم وجود هذا الطريق، إلا أن هذه الضرورة المنطقية غير موجودة، ولكن الحقيقة أن الافتراضات التطورية هي التي تتطلب وجود مثل هذا الطريق.»

إن السبيل الوحيد للخروج من طريق الاحتمالات المسدود أن نحاول أن نزيد الاحتمالات زيادة كبيرة، وهذا تحديداً ما يفعله “دوكينز” في “الساعاتي الأعمى”. فهو يزعم أن أصل الحياة أبعد ما يكون عن عملية صدفة بحتة، إلا أنه يرى أن الحياة لا بد أن تكون قد بدأت بشيء بسيط يمكن أن ينشأ بالصدفة. وبعدئذ، بدلاً من حدوث عملية “غربلة” في خطوة واحدة فقط، مثل عملية خلط كل مكونات الأحماض الأمينية للهيموجلوبين على أمل الحصول على ذلك الجزيء بالصدفة، يرجح “دوكينز” أن العملية كانت نوعاً من الغربلة التراكمية أو “الانتخاب” التراكمي حيث نتائج كل عملية غربلة تلقم في العملية التالية. ويرى “دوكينز” أن هذه الحركة تزود العملية بشيء يشبه القانون بحيث يمكن أن نعتبرها مزيجاً من الصدفة والضرورة. ولتوضيح الفكرة يستخدم الكمبيوتر لمحاكاة تشبيه قريب من تشبيه القردة الكاتبة المنسوب إلى “هكسلي”، ويقدم لنا خوارزمية بناء على هذه المحاكاة. فهو يتخيل أن القرود مطلوب منها كتابة عبارة ما، والعبارة المستهدفة مأخوذة من مسرحية “هاملت” لشكسبير، ونصها. “Methinks it is like a weasel” وطول هذه العبارة 28 “حرفاً” (نحن نعتبر المسافات “حروفاً” ونعتبر أن الأبجدية الإنجليزية تتكون من 26 حرفاً ومسافة واحدة). ولدينا الآن 28 قرداً (قرد واحد لكل حرف من التسلسل المستهدف) تجلس في صف واحد وتكتب. ومن ثم، فكل قرد مطلوب منه حرف في العبارة المستهدفة. سنحسب أولاً احتمالية أن تنتج العبارة المستهدفة بالنقر العشوائي على وجه المفاتيح: احتمالية الحصول على أول حرف في العبارة بالنقر العشوائي (العملية التي تشبه بها الطفرة) تعادل 1 من 27، وبالمثل احتمالية الحصول على حرفين صحيحين هي 1 من 27 × 27، وهكذا. ومن ثم، فاحتمالية الحصول على العبارة كلها بالنقر العشوائي في محاولة واحدة هي 1 من 2827، أي حوالي 1 من 4010، وهو أيضاً احتمال متناهي الصغر، أقل من 1 من تريليون – تريليون – تريليون. وللتعبير عن الفكرة بأسلوب مختلف، نقول إن العبارة المستهدفة عبارة عن نقطة معينة معزولة في فضاء يحوي تريليون – تريليون – تريليون نقطة أخرى، وعلينا أن نحصل على هذه النقطة باستخدام عملية فعالة.

ولنحسب الآن احتمالية إصابة الهدف، أي الهبوط على تلك النقطة بعد (س) من المحاولات. وأفضل الطرق لحساب ذلك كالآتي: لنأخذ المحاولة الأولى، حيث احتمالية خطأ جميع القرود هي 1 – 1/(2827). وهكذا في (س) من المحاولات تكون احتمالية الخطأ (1 – 1/(2827))س. ومن ثم، احتمالية كتابة الجملة الصحيحة بعد (س) من المحاولات هي 1 – (1 – 1/(2827))س. وإن اعتبرنا أن (س) هي مليار، تظل هذه الاحتمالية صغيرة للغاية، حوالي 1 من 3110، وهي صغيرة رغم أن تسلسل الحروف المعني تافهاً مقارنة بطول جينوم أحد الثدييات (في الإنسان يزيد عن 3 مليار حرف).

فما هو الحل الذي يدعيه “دوكينز” إذن لمشكلة زيادة هذه الاحتمالات متناهية الصغر إلى مقادير يسهل التعامل معها؟ هذا هو الحل: كلما كتب أحد القرود حرفاً، يقارن الحرف الذي يكتبه بالحرف المستهدف من هذا القرد، وهي عملية غير عشوائية بالمرة. وهذه المقارنة طبعاً يجب أن تتم بآلية ما، مثل كمبيوتر (أو رئيس من القرود، حسب الاقتراح الطريف الذي يقترحه الرياضي “دافيد برلينسكي” David Berlinski). فإن كتب القرد الحرف المستهدف تحتفظ آلية المقارنة بذلك الحرف، وهي عملية غير عشوائية بالمرة. وعندئذ يتوقف القرد عن الكتابة، حيث إنه أنهى مهمته. وإن لم يصب القرد الحرف المستهدف، يسمح له بالاستمرار في الكتابة العشوائية حتى يصيبه.

والنتيجة الصافية لهذه العملية أن يتم التوصل للعبارة المستهدفة بسرعة كبيرة جداً تصل إلى 43 خطوة كما في النسخة الفعلية من محاكاة “دوكينز”. فما كان احتمال حدوثه في حالة الصدفة البحتة لا يعادل سوى 1 من حوالي 3110 في مليار محاولة، أصبح الآن لا يستلزم سوى 43 خطوة. ونلاحظ أن نموذج “دوكينز” يشتمل على كل من الصدفة (القرود الكاتبة) والضرورة (الخوارزمية التي تشبه القانون وتقارن المحاولة بالعبارة المستهدفة). وخوارزميته تقيس ما يطلق عليه “لياقة” الحل بحساب الفرق أو “المسافة” بين ذلك الحل والعبارة المستهدفة.

وقد بلغنا الآن صميم حجة “دوكينز”. ولعلك تذكر ما تزعم الحجة إثباته، ألا هو أن عملية الانتخاب الطبيعي العمياء، غير الموجهة، عديمة العقل قادرة على إنتاج المعلومات البيولوجية. إلا أنها لا تثبت شيئاً من هذا القبيل. والحقيقة أن “دوكينز” لم يفعل شيئاً سوى أنه حل مشكلته بإدخال الشيئين اللذين يتمنى أن يتحاشاهما بأي ثمن. فهو يخبرنا في كتابه أن التطور أعمى، وبلا هدف. فلماذا يقصد إذن بإدخال عبارة مستهدفة؟ إن العبارة المستهدفة تمثل هدفاً دقيقاً، وهي على حد تعبير “دوكينز” نفسه مفهوم لادارويني بكل تأكيد. وكيف يمكن للتطور الأعمى أن يرى ذلك الهدف، بل أيضاً أن يقارن به محاولة حتى ينتخبها إن كانت أقرب من سابقتها؟ وهو يقول لنا إن التطور عديم العقل. فماذا يقصد إذن من تقديم آليتين، تحمل كل منهما كافة الأدلة على مدخلات عقل ذكي: آلية تقارن كل محاولة بالعبارة المستهدفة، وآلية تحتفظ بالمحاولة الناجحة؟ وأغرب شيء أن المعلومات التي يفترض في الآليات أن تنتجها يبدو أنها متضمنة أصلاً في مكان ما داخل الكائن الحي الذي يزعم “دوكينز” أن عمليته تحاكي نشأة هذا الكائن. إن الحجة دائرية.

يجب أن نلاحظ أن هذه السمة هي التي تميز آلية “دوكينز” عن الخوارزمية التطورية. فالخوارزميات التطورية معروفة جيداً في الهندسة وغيرها من التطبيقات باعتبارها وسيلة ممتازة ومجربة لإيجاد حلول للمشكلات المعقدة. فقد استعرض “رتشنبرج” Rechenberg مثلاً استراتيجية تطورية تعمل على الحد من المقاومة الكهربية لأحد النظم المعقدة بإحداث تغييرات عشوائية بشكل متتابع. ففي كل “خطوة تطورية” يتم تغيير قيم المتغيرات parameters الأجهزة عشوائياً وتقاس المقاومة. فإن أدى هذا التغيير إلى زيادة المقاومة، يعكس. وإن أدى لخفض المقاومة، يحتفظ به ويستخدم نقطة انطلاق للخطوة التالية. وهذه الاستراتيجية التطورية تفترض وجود قيمة parameter قابلة للقياس يرجى ضبطها لتحقيق أفضل النتائج، فقد يكون الغرض المرجو مثلاً الحد من المقاومة الكهربية. وبناءً على هذا الغرض من خفض المقاومة، يختبر النموذج كافة الأشكال التي يمكن التوصل إليها بتغيير القيم عشوائياً وينتج في النهاية الشكل الأمثل الذي لم يكن معروفاً من قبل.

والنقطة المهمة هنا أنه بناءً على ما سبق يتضح أن الحل لا يكون معروفاً في بداية العملية. إلا أن سيناريو “دوكينز” على النقيض من ذلك، كما رأينا للتو. فمن السذاجة أن نقول إن محاكاة “دوكينز” مقبولة منطقياً نظراً لنجاح الخوارزميات التطورية.

ويعلق الرياضي “دافيد برلنيسكي” تعليقاً حاداً في أحد مقالاته التي أثارت الكثير من المناقشات قائلاً: «التمرين كله هو…. إنجاز ضخم في مجال خداع النفس. جملة مستهدفة؟ صيغ جديدة iterations تشبه المستهدف؟ كمبيوتر أو رئيس للقردة يقيس المسافة بين الفشل والنجاح؟ إن كانت الأشياء عديمة البصر فكيف يمكنها أن ترى الهدف، وكيف تقاس المسافة بين العبارات التي تتولد عشوائياً والعبارات المستهدفة؟ ومن الذي يقوم بذلك؟ وماذا عن رئيس القردة؟ إن آلية التصميم المقصود التي محتها نظرية داروين على مستوى الكائن الحي عادت للظهور مرة أخرى في وصف الانتخاب الطبيعي نفسه، وهو ما يعتبر مثالاً حياً على ما قصده “فرويد” بعودة المكبوت.»

والغريب أن “دوكينز” يعترف أن المشابهة التي يقترحها مضللة، وذلك لأن الانتخاب الطبيعي التراكمية «أعمى بلا هدف». وهو يزعم أنه يمكن تعديل البرنامج ليعالج هذه المشكلة، وليس غريباً أن هذا الزعم ليس له أي سند أو دليل، لأنه لا توجد أصلاً أدلة تؤيده. وحقيقة أنه حتى لو كان صحيحاً، سيثبت عكس ما يؤمن به “دوكينز”. وذلك لأن تعديل برنامج يتطلب استخدام المزيد من الذكاء مع منتج بشري مصمم بذكاء، ألا وهو البرنامج الأصلي. أما البرنامج الأكثر تعقيداً الذي صممه “دوكينز” لمحاكات التطور في الكائنات الحية المعروف باسم biomorph يشتمل أيضاً على نظام “فلترة” مصمم بذكاء، وهو عبارة عن حزمة برامج فيها يوّلد الكمبيوتر أشكالاً معينة تعرض على الشاشة يختارها مستخدم الكمبيوتر بناءً على أناقة شكلها، وما إلى ذلك، فتظهر له أشكال أكثر تعقيداً يطلق عليها “الصور الإلكترونية البيولوجية المعدلة” biomorphs. ولكن إن استبعدت نظام الفلترة، والهدف، ورئيس القردة، تنتهي إلى شيء بلا معنى. إذن حتى تبدو مشابهات “دوكينز” معقولة، فهي تعتمد على تطعيم نموذجه بالخصائص عينها التي ينكر وجودها في العالم الواقعي.

فما أثبته “دوكينز” فعلياً أن الأنظمة التي تتسم بدرجة كبيرة من التعقيد كاللغات، أياً كان نوعها، بما فيها الشفرة الوراثية للـ DNA لا يمكن تفسيرها دون حقنها أولاً بالمعلومات اللازمة.

وتعد الساعة الأوتوماتيكية مثالاً أبسط على ذلك. فهي تستخدم الحركات العشوائية للرسغ والذراع لتدير نفسها. فكيف تفعل ذلك؟ صانع ساعات ذكي صمم ترساً يسمح لعجلة ثقيلة أن تتحرك في اتجاه واحد فقط. ومن ثم، فهي تختار بدقة الحركات الأخرى التي لا تفي بهذا الغرض. والترس نتاج تصميم ذكي. ويرى “دوكينز” أن هذه الآلية لا يمكن أن تكون داروينية. فالساعاتي الأعمى الذي يتحدث عنه ليس عند بعد نظر. واقتبس ثانية من “برلينسكي” قوله: «الآلي الداروينية لا تتوقع ولا تتذكر. ولا تعطي توجيهات ولا تختار اختيارات. فما هو مرفوض في نظرية التطور، ما هو ممنوع منعاً قطعياً هو ظهور قوة قادرة على دراسة الوقت، قوة تحتفظ بنقطة أو بخاصية لأنها ستكون مفيدة [مثل ترس الساعة]. وهذه القوة لم تعد داروينية. فكيف يمكن لقوة عمياء أن تعرف شيئاً كهذا؟ وكيف ينقل النفع المستقبلي للحاضر؟»

الماكينات المعقدة غير القابلة للاختزال:

إلا أن مشابهة “دوكينز” ما زالت تنطوي على المزيد من المشكلات، خاصة إذا حاولنا تطبيقها على نشأة إحدى الماكينات المعقدة غير القابلة للاختزال كما يصفها “مايكل بيهي” التي عرضناها آنفاً. ويقدم “إليوت سوبر” أفضل تصوير للمشكلة بابتكار نسخة جديدة من مشابهة “دوكينز” حيث يتخيل قفلاً يفتح بإدخال حروف سرية هي METHINDSITISAWEASEL. وهذا القفل يتكون من 19 قرصاً متراصة بجوار بعضها البعض، ويحوي كل منها الحروف الأبجدية الإنجليزية التي تبلغ 26 حرفاً. وهو مزود بنافذة تظهر حرفاً واحداً من الحروف الأبجدية. ولنتخيل أن الأقراص تدار عشوائياً ثم يتوقف القرص بفعل آلية ما عندما يتوافق الحرف الظاهر من النافذة مع الحرف الصحيح المقابل له في سلسلة الحروف السرية. وتستمر باقي الأقراص في الدوران العشوائي وتتكرر العملية. وهذا هو نظام “دوكينز” في الأساس.

ويشير “مايكل بيهي” إلى أن المشابهة «تدعى أنه مشابهة موازية للانتخاب الطبيعي الذي يتطلب وظيفة. ولكن ما الوظيفة المتضمنة في الرموز السرية الخاطئة لفتح قفل؟ هب انه بعد إدارة الأقراص فقرة حصلنا على مجموعة حروف نصفها صحيح ونصفها خاطئ. ولتكن مثلاً MDTUIFKQINOAFERSCL (أي حرف صحيح وحرف خاطئ بالتبادل). وتؤكد المشابهة أن هذه النتيجة تمثل مستوى أعلى من مجرد سلسلة حروف عشوائية، وأنها يمكن أن تساعدنا في فتح القفل…. إن كانت قدرتك الإنجابية تعتمد على فتح القفل، فلن يكون لك نسل. ومما يثير السخرية أن “سوبر” وكذلك “دوكينز” يعتبران رموز القفل السرية نظاماً معقداً شديد التحديد ولا يقبل الاختزال يبين على نحن رائع سبب عدم إمكانية التعامل مع الوظيفة تدريجياً في مثل هذه الأنظمة.»

وفي نموذج “دوكينز” الأصلي للقرود الكاتبة، الانتخاب لا يحتفظ إلا بالمحاولات التي لها وظيفة، التي تعنى فيما يتعلق بهذا التشبيه أن ما كتبته القرود في كل خطوة متوسطة في العملية يشكل كلمات لها معنى. وبناءً على ذلك، عندما ننظر إلى المخرجات الناتجة عن محاكاة “دوكينز”، نجد أن العملية لم تبدأ أصلاً. فأفكار “دوكينز” لا يمكنها أن تبدأ أصلاً لتواكب التعقيد غير القابل للاختزال. «إن سيناريو “دوكينز – سوبر” بدلاً من أن يقدم مشابهة للانتخاب الطبيعي في تأثيره على الطفرة العشوائية، يقدم في الواقع نموذجاً للنقيض من ذلك: فاعل ذكي يوجه تركيب جهاز معقد لا يقبل الاختزال.»

بل إليك ما هو أكثر من ذلك. فقرود “دوكينز” تبدو أنها تولد التعقيد. ولكن هل هذا صحيح؟ للتحقق من ذلك سنجري المزيد من الحسابات. تخيل القردة الثمانية والعشرين في السيناريو الأول أعلاه تكتب جميعاً في وقت واحد. ولنختر أحدها ونسأل: ما احتمالية أن يصيب الحرف الصحيح المطلوب منه في العبارة المستهدفة في (س) من المحاولات؟ أسهل وسيلة لإجراء هذه العملية الحسابية أن نفكر أولاً في احتمالية ألا يصيب القرد الحرف الصحيح في أي محاولة. الاحتمالية هنا 26/27. ومن ثم، بناء على “نظرية برنولي” Bernoulli’s Theorem يكون متوسط عدد الحروف الخاطئة بعد محاولة واحدة 28(26/27). وبما أن كل الحروف الصحيحة تحفظ، نكرر العلمية ولكن بحيث نبدأ فقط بالقردة التي لم تصب الحرف الصحيح، وهكذا. وهذا هو جوهر الانتخاب التراكمي. وبذلك يكون متوسط عدد الحروف الخاطئة 28(26/27)س بعد (س) من المحاولات. وهذا الرقم يساوي حوالي 5 بعد 43 محاولة (ولذلك فقد أحسن “دوكينز” صنعاً). وبعد 60 محاولة يكون متوسط عدد الحروف الخاطئة 3، وبعد حوالي 100 محاولة يقترب المتوسط من الصفر (أظهر أحد الحسابات الفعلية 0,64286).

فما الذي يحدث هنا؟ لقد استخدمنا أداة مبرمجة بذكاء للتخلص من المشكلة الحقيقية المفترض أصلاً أن نحلها التي لم تكن توليد اللبنات الأساسية أو الحروف، بل ترتيبها ترتيباً صحيحاً. فما توحي به لنا هذه العملية ظاهرياً أننا ولدّنا كل المعلومات المتضمنة في السلسلة METHINKSIT IS LIKE A WEASEL. ولكننا لم نفعل. بل كل ما فعلناه أننا ولدنا سلسلة معروفة بطريقة عشوائية جزيئاً. فنحن لم نحصل على أي معلومات جديدة.

وللتعبير عن المعنى بطريقة مختلفة أقول: إن آلية “دوكينز” تدعي أنها آلية تزيد الاحتمالية. ولكن زيادة الاحتمالية على هذا النحو تفضي إلى خفض التعقيد. لأن وصف شيء بأنه معقد يستلزم وجود الكثير من الخيارات الأخرى الحقيقية التي يمكن أن تحل محله، كما رأينا. ولكن خوارزمية “دوكينز” لا تسفر إلى عن نتيجة واحدة، هي جملته المستهدفة، وباحتمالية 1. وبالتالي فالمعلومات المضافة في العملية تساوي فعلياً صفراً.

ويجب أن نلاحظ أيضاً أن الاحتفاظ بالحرف الصحيح وعدم فقدانه أبداً يعادل الافتراض بأن الطفرات النافعة دائماً ما يحتفظ بها في أفراد النوع. إلا أن عالم الأحياء التطوري السير “رونالد فيشر” Ronald Fisher بين في كتابه الذي يمثل عموداً أساسياً في هذا المجال أن هذا لا يحدث في الطبيعة. فمعظم الطفرات النافعة تمحى بفعل مؤثرات عشوائية، أو بفعل عدد من الطفرات الضارة يفوق بكثير عدد الطفرات النافعة. وهو ما يناقض الفكرة الشائعة منذ عصر داروين بأن الانتخاب الطبيعي يجب أن يحتفظ بأصغر التنويعات المفيدة حتى تسود على أفراد النوع جميعاً. وهو دليل إضافي يؤيد حجة التعقيد غير القابل للاختزال، كما أوضحنا سلفاً بتصوير القفل ذي الرموز السرية الذي اقترحه “بيهي”: فالطفرة “النافعة” لا تكون نافعة إلا إذا حدثت بالتزامن مع عدد كبير من الطفرات الأخرى “النافعة”، وهو ما يمثل الخطأ القاتل في حجة “العبارة المستهدفة” للقرود الكاتبة.

ومما يساعدنا أيضاً على أدراك ما يشوب تشبيه “دوكينز” من ضعف جوهري أن نستعيض عن عبارة METHINKS IT IS LIKE A WEASEL بالجينوم البشري الكامل الذي يتجاوز طوله 3 مليار (3 × 910) حرف حيث كل حرف إما (أ)، أو (س)، أو (ج)، أو (ث). وسيناريو “دوكينز” يدفعنا أن نتخيل 3 مليار قرد تكتب على الكمبيوتر في وجود الآلية المعتادة للاحتفاظ بالحرف الصحيح في السلسلة. فاحتمالية كتابة أي قرد لحرف خاطئ هي 3/4. وبعد (س) من المحاولات، يبلغ عدد الحروف الخاطئة نحو 3 × 910(3/5)س وهو ما يقل عن حرف واحد خاطئ بعد 80 محاولة. وعليه قد نحصل على الجينوم البشري بعد 80 محاولة في المتوسط.

ويمكن الإشارة أيضاً إلى أنه يعتقد أن النسبة المستخدمة فعلياً من الـ DNA تتراوح من 1 إلى 5٪، فإن أدخلنا هذا الاعتبار في نموذجنا بأن نختصر السلسلة إلى 5٪ فقط من طورها الأصلي، عندئذ تتولد السلسلة برمتها في أقل من 65 محاولة في المتوسط.

ماذا يعني ذلك؟ أن نموذج “دوكينز” عديم الفائدة بوصفه محاكاة لكيفية بناء التعقيد (بمعنى ترتيب الحروف ترتيباً صحيحاً) من سلسلة عشوائية بعملية تطورية غير موجهة. وذلك لأن افتراض وجود آلية تقارن المحاولة بالسلسلة المستهدفة وتحتفظ بها يعني أن المشكلة الحقيقية المتمثلة في ترتيب الحروف ترتيباً صحيحاً قد تم حلها قبل أن نبدأ. فقد استبعد هذا العنصر من المشكلة نهائياً بإدماجه في المنظومة أصلاً، وهو ما يعني طبعاً إمكانية التوصل إلى السلسلة المستهدفة بعدد قليل جداً من الخطوات لأننا نستهدفها أصلاً من البداية.

وهذا هو مفتاح التحليل من منظور النظرية الخوارزمية للمعلومات التي استعرضناها في الفصل السابق. لقد ثبت فشل ماكينة “دوكينز”، وفشلها يتوافق تماماً مع ما نتوقعه من النتيجة التي استخلصها “كوبرز”، ألا وهو أن المعلومات المتضمنة في مخرجات ماكينة “دوكينز” الخوارزمية متضمنة أصلاً إما في المدخلات أو في البينة المعلوماتية للماكينة. وبذلك يكون “كوبرز” على صواب لأن المعلومات متضمنة في البنية المعلوماتية.

وهكذا يتضح أن مقترح “دوكينز” بأكمله ليس سوى نموذج آخر لافتراض ما يدعي إثباته. واقتباس تعليق الفيلسوف “كيث ورد” مناسب جداً في هذا السياق، إذ يقول: «إن استراتيجية “دوكينز” التي تهدف إلى الحد من الذهول والاندهاش لا تفلح في ذلك. بل كل ما تفعله أنها تنقل الدهشة من التوليد التلقائي لنتيجة معقدة مرغوب فيها جداً إلى الوجود التلقائي لقاعدة فعالة مجبرة على إنتاج النتيجة المرجوة في الوقت المناسب.»

ويحاول “بنوك” Pennock في كتابه “برج بابل” Tower of Babel أن ينقذ الموقف فيزعم أن الهدف من نماذج “دوكينز – سوبر” ليس أن تقدم مشابهة للانتخاب الطبيعي في تأثيره على التنوع العشوائي، بل مشابهة للانتخاب التراكمي. ولكن محاولته فاشلة لأن القضية المركزية تتمثل في اعتماد العملية على آلية لمقارنة المحاولة بعبارة مستهدفة. أي أن القضية هي تحديداً أن الأثر الانتخابي يصبح تراكمياً بفعل ما تتميز به الآلية من قدرة مصممة بذكاء على الاحتفاظ بحروف العبارة المستهدفة بمجرد الحصول عليها وقبل أن يكون لها أي أثر نافع. فلا يمكن حدوث انتخاب تراكمي دون الآلية المصممة.

ومن ثم، حجة “دوكينز – سوبر” يشوبها عيب قاتل بوصفها حجة تضفي مقبولية منطقية على فكرة أن العمليات الطبيعية غير الموجهة تستطيع أن توّلد معلومات. إلا أن حجتهما تزيدنا استنارة من حيث إنه يمكن القول بأنها تزيد مقبولية التصميم الذكي. لأنها تبين أن حتى محاولات تفسير أصل المعلومات البيولوجية بناءً على افتراضات مادية قوية لا يمكنها أن تفعل ذلك إلا بتهريب آليات مصممة بذكاء إلى تفسيراتها.

ويعلق عالم الكمبيوتر “روبرت برويك” Robert Berwick قائلاً إن “كل خبرتنا في محاكيات التطور بدءاً من برامج “دوكينز” للصور الإلكترونية البيولوجية المعدلة حيث عرض جوائز لمن سيتمكن من تخمين طرق لانتخاب أشكال شيقة للكائنات الحية، وانتهاء بالخبرات المؤسفة فيما يتعلق بالحياة الاصطناعية artificial life التي تشير إليها “برلينسكي”، تظهر مدى صعوبة التقدم خطوة واحدة دون إجراء انتخاب صناعي أو إدراج الحلول المرغوبة داخل المنظومة.» وقد عبر “فيليب جونسون” عن هذه المشكلة الجوهرية بمنتهى الدقة: «إن الذكاء البشري المطلوب لبرمجة الكمبيوتر على توليد العبارة “methinksitislideaweasel” من برنامج انتقاء حروف عشوائي يفوق الذكاء اللازم للنقر على لوحة المفاتيح وكتابة العبارة المستهدفة من ذاكرة الكمبيوتر التي تمت تغذيتها بهذه العبارة من الأصل.»

أجري حوار سنة 1996 مع “مارسيل – بول شوتسنبرجر” الرياضي الفرنسي اللامع الذي ذكرناه آنفاً الذي شارك في “مؤتمر ويستار” Wistar Conference وفي هذا الحوار شبه الطفرات الأخطاء الطباعية، قائلاً: «….لا يمكن أن يكون التطور تراكماً لمثل هذه الأخطاء الطباعية.» ثم استطرد محللاً نموذج “دوكينز” وأشار إلى أنه نموذج فاقد للاتصال بأوضح الحقائق البيولوجية وأقواها. وذلك لأنه، من منظور رياضي، «ينحي تماماً المشكلة الثلاثية المكونة من التعقيد، والقدرة على أداء الوظيفة، وتفاعلاتهما.»

المحاكيات التي تستخدم الكمبيوتر:

تناولنا في هذا الفصل نموذجاّ واحداً فقط لفئة كاملة من المحاكيات التي تستخدم الكمبيوتر التي تدعى محاكاة العمليات التطورية بما فيها أصل الحياة. فمثلاً “ستيوارت كوفمن” وزملائه في “معهد سانتا فيه” بذلوا الكثير من الجهد في هذا المجال. وقد كشفنا أن المحاكاة التي استعرضناها تتضمن من بدايتها المعلومات عينها التي يفترض أن تولّدها. وقد كشفنا أن المحاكات التي استعرضناها محملة منذ البداية بالمعلومات عينها التي يفترض أن تولّدها. ولاحظنا أيضاً أن برمجة الكمبيوتر تمثل عملاً ذكياً. ومن السهل أن ننسى هذه الملاحظات أو نتجاهلها عندما نفكر في هذه المحاكيات، فيفوتنا أنها في الحقيقة تمثل دليلاً على عكس ما تدعي إثباته.

ويعبر “ستيف فولر” Steve Fuller عن هذه الفكرة تعبيراً بارعاً بقوله: «إن إمكانية محاكاة التطور على الكمبيرتر على نحو يرضي شخصاً مثل “كوفمن” تدعم فعلياً قضية وجود خالق إلهي. فمهما كان، أي برنامج كمبيوتر، هو في حقيقة الأمر، نتاج تصميم ذكي، وليس كياناً ذاتي التنظيم نجا من حالة الفوضى. فإن كان البشر قادرين على برمجة كمبيوتر يولد مخرجات تتميز بهذه الخواص الدقيقة من التنظيم الذاتي، فما المانع أن يكون الله قادراً على ذلك؟ وباختصار، التصميم الذكي باعتباره تفسيراً آخر لأصل الحياة غالباً ما يكتسب مزيداً من القوة كلما ازداد اعتماد التطوريين على الكمبيوتر في إظهار أن التاريخ الطبيعية ليس مجرد نظام معقد، ولكنه أيضاً نظام مركب، والتركيب صفة أصيلة فيه.

وذلك لأن التمييز بين الموقفين سيزداد صعوبة، وسينتهي الأمر بالتطوريين إلى اللعق على أرض أصحاب نظرية التصميم الذكي. والبديل بالطبع أن يثبت التطوريين وجود ماكينة “فون نيومن” Von Neumann machine في البرية، لا تحمل أي أثر لتصميم بشري أو غير بشري.»

الماكينة القردية – جون ليونكس