لماذا تحدث الله عن نفسه بصيغة الجمع؟
لماذا تحدث الله عن نفسه بصيغة الجمع؟
لماذا تحدث الله عن نفسه بصيغة الجمع؟
وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ” (تك 1: 26)
وَقَالَ الرَّبُّ الإِلهُ” هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا عَارِفًا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَالآنَ لَعَلَّهُ يَمُدُّ يَدَهُ وَيَأْخُذُ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ أَيْضًا وَيَأْكُلُ وَيَحْيَا إِلَى الأَبَد: « ” (تك 3: 22)
يقول دكتور سيد القمني: “إن التعبير “نَعمَلُ الإنسان” و “كَوَاحِد منَّا” يوحي أن الرب الإله هنا لا يتحدث عن نفسه فقط، إنما يتحدث عن نفسه، وعن الآخرين مثله، وإن الحديث موجه إلى هؤلاء الآخرين، وهو ما يؤكد الفهم؛ بأن الرب الإله- إله مميز ضمن مجمع من الآلهة، ويدعم هذا الفهم أكثر، وأكثر نص آخر، يتحدث عن بناء البشر لبرج عالٍ، ذلك البرج المشهور في الأساطير ببرج بابل، فيقول النص (هلم ننزل، ونبلبل هناك ألسنتهم…) إلا أن الأهم من هذا، وما يعنيها أن هذا (الرب) إنما هو فرد ضمن مجمع إلهي”
وللإجابة على هذا السؤال أقول:
أود أن أقول للدكتور سيد القمني: عندما تحدث الله عن نفسه بضمير الجمع في العهد القديم، إنما ذلك إشارة إلى الثالوث الأقدس الذي كان يتضح بالتدريج في الإعلانات الإلهية، إلى أن ظهر بوضوح تام في العهد الجديد. وقد أعلن الله عن ذاته بضمير الجمع عدة مرات فنقرأ:
نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا (تك 1: 26)
هُوَذَا الإِنْسَانُ قَدْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنَّا (تك 3: 22)
لُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ هُنَاكَ لِسَانَهُم (تك 11: 7)
مَنْ أُرْسِلُ؟ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟ (إش 6: 8)…الخ
هذا إلى جانب، اْن واحد من أسماء الله في العهد القديم في العبرية “إلوهيم” في صيغة الجمع.
وصيغة الجمع التي استخدمها الله ليست للتعظيم، كما كان الملوك يفعلون ذلك، فقد أكد المتخصصون في اللغات القديمة أن تلك العادة لم تكن معروفة قديمًا بين ملوك الشرق، وما يؤكد ذلك، أننا لا نجد الملوك في العهد القديم يستعملون ضمير الجمع، عندما يتحدثون عن أنفسهم، فنجد فرعون يقول ليوسف:«انْظُرْ، قَدْ جَعَلْتُكَ عَلَى كُلِّ أَرْضِ مِصْرَ” (تك 41: 41)
ونبوخذنصر يقول: أَنَا نَبُوخَذْنَصَّرُ …رَأَيْتُ حُلْمًا فَرَوَّعَنِي، وَالأَفْكَارُ عَلَى فِرَاشِي وَرُؤَى رَأْسِي أَفْزَعَتْنِي فَصَدَرَ مِنِّي أَمْرٌ بِإِحْضَارِ جَمِيعِ حُكَمَاءِ بَابِلَ قُدَّامِي لِيُعَرِّفُونِي بِتَعْبِيرِ الْحُلْم” ( دا 4: 4- 6)
وكذلك داريوس “ِ أَنَا دَارِيُوسُ قَدْ أَمَرْتُ فَلْيُفْعَلْ عَاجِلاً” (عز 6: 12)
وفي الوقت ذاته، الذي يتحدث الوحي عن الله بصيغة الجمع، نجده يؤكد على وحدانية الله، فيقول موسى: اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِد” (تث 6: 4)
ويقول الرب على لسان إشعياء: ” أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلهَ سِوَايَ ” (إش 45: 5، 21)
وهناك آيات عديدة جدًا لوحدانية الله في العهد القديم، فلا يوجد إنسان عاقل يشكك في إيمان اليهود بوحدانية الله. ووحدانية الله ليست وحدانية صماء جامدة، لكنها وحدانية جامعة، وحدانية موجودة عاقلة حيَّة، وحدانية فيها الأبوة، والبنوة، والحياة، وهناك إشارات في العهد القديم لهذه الوحدانية الجامعة، وهو ما أفصح عنها العهد الجديد، عندما تجسد الابن الوحيد الجنس، وحدثنا عن الآب، والروح القدس، وعرّفنا في العهد الجديد أن كل أقنوم يعبر عن نفسه، ويتشاور مع الأقنومين الآخرين، ولا يتسع المجال هنا لشرح موضوع التوحيد، والتثليث.
إذًا الموضوع بعيد تمامًا عن تعدد الآلهة، كما يظن الدكتور سيد القمني، وأؤكد مرة ثانية: إن كان في العهد القديم إشارات لتثليث الأقانيم في ذات الإلهية، فإن هناك تصريحات واضحة، وحاسمة تؤكد على وحدانية الله.
وإن الوحدانية، والثالوث واضحين من أول صفحة في العهد القديم في سفر التكوين، وحتى أخر إصحاح في سفر الرؤيا.
ونجد صيغة الجمع، والمفرد معًا في العديد من الآيات في الكتاب المقدس، فعندما يخاطب الله إشعياء قائلاً: مَنْ أُرْسِلُ؟ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟ (إش 6: 8) نرى صيغة المفرد في كلمة ” أُرْسِلُ” ثم صيغة الجمع في ” أَجْلِنَا”
وقد جاء بروح النبوة في ( إش 48: 16) على لسان المسيح بخصوص تجسّده: مُنْذُ وُجُودِهِ أَنَا هُنَاكَ، وَالآنَ السَّيِّدُ الرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ” لاحظ أن الذي يتكلم هنا هو الابن الذي أرسله الأب، والروح.
ونرى هذا بوضوح تام في العهد الجديد:
ما حدث وقت معمودية المسيح، فنرى الابن يعتمد، والآب يخاطبه، والروح القدس يحل عليه مثل حمامة. فنرى الآب، والابن، والروح القدس في وقتٍ واحدٍ معًا (مت 3: 16، 17، لو 3: 21، 22)
وما جاء بخصوص المعمودية، فقد أمر المسيح أن يعتمد المؤمنون (باسم) الآب، والابن، والروح القدس، وليس (بأسماء) أي باسم الإله الواحد الثالوث الأقدس. وهذا يدل على أقنومية كلٍ منهم، ومساواتهم (من 28: 19) وفي صيغة البركة الرسولية نقرأ:”نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَمَحَبَّةُ اللهِ، وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِين”
وهنا نرى طلب المسيح، ومحبة الله الآب، وشركة الروح القدس. فكلمات هذه البركة تتضمن الإقرار بأقنومية كلٍ من الآب، والابن، والروح القدس، وألوهيتهم (2 كو 13: 14، و1 بط 1: 2 ، ويو 21) ونقرأ في (1 يو 5: 7) فَإِنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي السَّمَاءِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الآبُ، وَالْكَلِمَةُ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ. وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِد
لذلك نحن نؤمن أن الله واحد مثلث القانيم، وفي قانون الإيمان نقول: “بالحقيقة نؤمن بإله واحد…”
وعندما سأل واحد من الكتبة الرب يسوع: أية وصية هي أول الكل؟ أجابه: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ (مر 12: 29)
وقال الرسول بولس ” رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ إِلهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ (أف 4: 5،6)
ولكننا نؤمن أنها وحدانية جامعة، إن الوحدانية المجردة تعني إغلاق العقل عن كل تفكير، أما الوحدانية الجامعة؛ فهي دعوة للتفكير، والنقاش مع الله، وهذه هي روعة المسيحية، إنها دعوة للتفكير، والابداع.
عندما نتحدث عن الوحدانية الله المجردة، يصبح مفهومنا محدود، وعاجز، وناقص. ماذا نعني عندما نقول “الله واحد” إن هذا يتنافى، وكمال الله المطلق. وأنا أقول لو حصرنا وحدانية الله في المفهوم الضيق لكلمة “واحد” لجعلنل الله محدود، وخاضع للعقل البشري، وهذا تناقض مع تعاليمه المطلق عن الفكر البشري. فلو لم يكن الله ثالوثًا مع من كام الله يمارس صفاته قبل الخلق؟ إن الله موجود قبل الخلق بذاته (الآب) حي بروحه (الروح القدس)، ناطق بكلمتته (المسيح). فلا يمكن الله أن يكون موجود في أي زمن من الأزمنة بدون روحه، ولا كلمته، ولا يمكن أن يكون موجود في أي وقت دون ممارسة صفاته الأزلية كالحب، والكلام، فلو لم يكن الله ثالوث فمع من كان يتكلم، من كان يحب؟
ولو لم يكن الله ثالوثًأ، لأضافت إليه علاقتنا به بعد أن خلقنا شيئًا جديدًا تمامًا عليه وهو هذه العلاقة.
إن هذه العقيدة الجميلة تكلم عنها فلافسة اليونان، فقال هيرقليطس: ” الواحد ليس إلا كثرة توحدت، والكثرة ليست إلا واحدًا تكثًر”.
وقال أفلاطون: “إذا كانت الكثرة تقتضي الواحدة، فالوحدة تقضي الكثرة”
وقال أرسطو: “إن شيئًا واحدًا بعينه، يمكن أن يكون واجدًا وكثيرًا” أي لا فصل بين الوحدة والكثرة فيه
أما فلاسفة اليهود فقالوا: “إن كل وحدانية لها صفات خاصة، ومعنى ذلك شمواها على كثرة من نوع ما”
وفلاسفة المسيحية قالوا: “لا غني للوحدة عن كثرتها، ولا غني للكثرة عن وحدتها”
“ولا تعارض بين مبدأ الوحدة، ومبدأ الكثرة”
أما الفلاسفة المسلمين، ومن أهمهم ابن سينا قال:” لا وجود للجوهر الواحد”
وقال آخر: “قيام الشيء بذاته لابد له من جزئين أو أجزاء”
إذا فكل الفلاسفة على اختلاف ألوانهم، وأديانهم يرون إن كل وحدانية في الوجد سواء روحية أو مادية هي وحدانية قائمة بكثرة، أي بينها، وبين ذاتها نسب، وعلاقات، وإذا شئت وحدة عن ذلك فقدت مميزات الوحانية الحقيقة، وكانت وحدانية وهمية لا وجود لها في عالم الحقيقة.
أخيرًا أقول إن نتحدث عن الله بكل حرص، وحذر، وتواضع. إن المسيحية لإيمانها بعظمة الله، وتعاليمه إنما تعترف أن وحدانية الله تتجاوز كلية المفهوم البشري للوحدانية.