الأشخاص المجتمعون حول السيد المسيح – تيموثي كلر
الأشخاص المجتمعون حول السيد المسيح – تيموثي كلر
الأشخاص المجتمعون حول السيد المسيح – تيموثي كلر
كان الجميع “يدون منه ليسمعوه”
نوعان من الناس
إن معظم قراءات هذا المثل ركُزت على الابن الأصغر – “الابن الضال أو المسرف” – في هروبه ورجوعه. غير أن هذا يفوت رسالة القصة الحقيقة؛ لأن أمامنا أخوين، كل منهما يمثل سبيلاً مختلفاً في الابتعاد عن الله، وسبيلاً مختلفاً في التماس القبول داخل مملكة السماء.
ومن المهم أن نلاحظ الإطار التاريخي الذي يرسمه الكاتب لتعليم السيد المسيح هنا. ففي أول آيتين من هذا الأصحاح، يذكر لوقا أنه قد أقبل جماعتان من الناس للاستماع إلى السيد المسيح. إذ نلتقي أولاً “العشارين والخطاة”، أي جباة الضرائب وآخرين من الخطاة المشهرين. هؤلاء الرجال والنساء يُماثلون الأخ الأصغر. فإنهم لم يراعوا شرائع الكتاب المقدس الخُلقية، ولا أحكام الطهارة الطقسية التي يعمل بها اليهود المتدينون.
وقد انهمكوا في “عيشة جامحة”. ومثل الأخ الأصغر، “تركوا الديار” بتركهم الأخلاقيات التقليدية التي تتمسك بها عائلاتهم ومجتمعهم المحترم. أما جماعة المُستمعين الثانية فيه “الفريسيون والكتبة [معلمو الشريعة]”، وقد مثلها الأخ الأكبر. هؤلاء تشبثوا بالأخلاقيات التقليدية التي تربوا عليها. وقد انكبوا على دراسة الأسفار المقدسة وإطاعتها. وكانوا يسجدون بأمانة ويُصلون بمثابرة.
وباختصار شديد، يُبين لوقا كم كانت استجابة كل جماعة للسيد المسيح مختلقة عن الأخرى، فإن صيفة الاستمرار في الفعل اليوناني المترجم “كان …. يدنون” تدل على أن انجذاب الإخوة الصغار إلى السيد المسيح كان نموذجاً ثابتاً على الدوام في خدمته. لقد كانوا يتقاطرون إليه كل حين. فهذه الظاهرة أربكت دعاة الأخلاق والتدين وأغضبتهم… ويُلخص لوقا شكواهم: “هذا يقبل خُطاة، ويأكل معهم [أيضاً]!” فأن يجلس المرء ويأكل مع شخص ما في الشرق الأدنى القديم أمر كان إشارة إلى القبول. وهكذا، فإنهم كانوا يقولون: “كيف يجرؤ يسوع على مد يده إلى خُطاة مُشهرين كهؤلاء؟ إن هؤلاء القوم لا يحضرون خدماتنا بتاتاً! فلماذا يُجتذبون إلى تعليم يسوع؟ لا يُعقل أن يكون معلناً الحق لهم، كما نُعلنه نحن. لا بد أنه يقول لهم فقط ما يريدون أن يسمعوه!”.
إذاً، إلى مَن يوجه السيد المسيح تعليمه في هذا المثل؟ إلى الجماعة الثانية، أي الكتبة والفريسيين. فردّاً على موفقهم بدأ السيد المسيح يضرب هذا المثل. ويُلقي مثل الابنين نظرة مطولة على نفس الأخ الأكبر، ثم يبلغ الذروة بمناشدة قوية له كي يُغير قلبه.
على مر القرون، كلما جرى تعليم هذا النص في الكنيسة أو برامج التربية الدينية، كانت نقطة التركيز الوحيدة تقريباً تنحصر في كيفية استقبال الأب بكل سخاء لابنه الأصغر التائب. وأول مرة سمعت المثل، تصورت عيون مستمعي السيد المسيح الأصليين مغرورقة بالدمع إذ سمعوا كيف سيحبهم الله ويرحب بهم دائماً، بصرف النظر عما سبق أن فعلوه. فنحن نجعل هذا المثل مفعماً بالعاطفة إذا فعلنا ذلك. مع العلم أن المستهدفين في هذا الحكاية ليسوا “خطاة عصاة” بل هم قوم متدينون يعملون كل ما يطلبه الكتاب المقدس.
فالسيد المسيح لا يناشد أبعد الخطاة الفاسدي الأخلاق بقدر مناشدته لأٌقرب الأشخاص المتمسكين بأهداب الفضيلة. وهو يُريد أن يريهم عماهم وضيق آفاقهم وبرّهم الذاتي المزعوم، وكيف تعمل هذا الأمور على تدمير نفوسهم وحياة المحيطين بهم على السواء. فمن الغلط إذاً أن نحسب أن السيد المسيح يحكي هذه القصة بالدرجة الأولى كي يُطمئن الإخوة الصغار إلى محبته غير المشروطة.
لا، لم تنهمر دموع المستمعين الأصلين حيال هذه القصة، بالأحرى صُعقوا وثار استياؤهم وغيظهم. فليس قصد السيد المسيح أن يثير الحنان في قلوبنا، بل أن يُصدع مُسلماتنا. ومن خلال هذا المثل يتحدى السيد المسيح كل ما فكر فيه يومً كل واحد تقريباً بشأن الله والخطية والخلاص. فإن قصته هذه تكشف الأنانية المُدمرة لدى الأخ الأصغر، ولكنها أيضاً تدين التشدد الخلقي لدى الأخ الأكبر بأقوى الألفاظ. إن السيد المسيح يقول هنا إن غير المتدين والمتدين كليهما ضالان روحياً، وإن سبيلي حياتهما مسدودان، وإن كل فكرة خطرت يوماً للجنس البشري بشأن كيفية التواصل مع الله كانت فكرة خاطئة.
لماذا يحب الناس السيد المسيح، لا الكنيسة
إن الإخوة الكبار والإخوة الصغار على السواء موجودون معنا اليوم، في المجتمع نفسه، وأغلب الأحيان في الكنيسة نفسها.
كثيراً ما يكون الولد الأكبر في العائلة هو من يُسر الأبوين، الشخص المسؤول الذي يُطيع المعاير الوالدية. أما الولد الأصغر فيميل لأن يكون المتمرد، شخصاً حُراً يُفضل عشرة الرفقاء وإعجابهم. فالولد الأول يكبر، ويُزاول مهنة تقليدية، ويستقر قريباً من “الماما والبابا”، في حين ينطلق الولد الأصغر كي يعيش في الأحياء المبهرجة في أعماق المدن الكبرى.
هذه الفروق المزاجية لقيت تشديداً ملحوظاً في الأزمنة الأحدث عهداً. ففي أوائل القرن التاسع عشر، أدت حركة التصنيع إلى قيام طبقة وسطى جديدة – البورجوازية – سعت إلى اكتساب الشرعية بواسطة أخلاقيات محورها الاجتهاد في العمل والاستقامة الخلقية. وفي ردة فعل على النفاق والتزمت الملموسين لدى البورجوازيين، نشأتن تجمعات بوهيمية* من جماعة كاتب القصص هنري مرغر (Henri Murger) في باريس خلال أربعينات القرن التاسع عشر، إلى جماعة بلومسبري (Bloomsbury) في لندن، و”بيتس أوف غرينتش فلج” (Beats of Greenwich Village)، ومشاهد إندي-روك (The Indie-Rock) في أيامنا. فالبوهيميون يُشددون على التحرر من الأعراف الاجتماعية وعلى الاستقلالية الشخصية.
وإلى حد ما، يقوم ما يُدعى “حروب الحضارة” بتمثيل هذه الأمزجة والاندفاعات المتضاربة بعينها على مسرح المجتمع العصري. فإن عدداً متزايداً من الناس اليوم يحسبون أنفسهم لا دينيين، أو حتى ضد الدين. إذ يعتقدون أن القضايا الأخلاقية معقدة جداً، ويرتابون من أي أفراد أو مؤسسات يدعون أن لهم سلطة أخلاقية على حياة الآخرين. ولكن على الرغم من نُشوء هذه الروح غير الدينية (أو ربما بسبب ذلك)، ما تزال الحركات الدينية الراشدة المحافظة تشهد تقدماً ضخماً. وإذ توجس كثيرون مما يرونه انقضاضاً من قبل الأخلاق النسبية نظموا صفوفهم “لاسترداد القيم الأصيل” وللوقوف من “الإخوة الصغار” موقفاً معادياً مثل ذاك الذي وقفه الفريسيون منهم.
إذاً، في صف من كان السيد المسيح؟ في الرواية المشهورة “سيد الخواتم” (The Lord of the Rings)، عندما يسأل العفاريت الشيخ العجوز “تريبيرد” (Treebeard) في صف من هو، يجيب: “لست في صف أحد تماماً، لأن لا أحد في صفي تماماً… ولكن هنالك بالتأكيد بعض الأشياء التي لست في صفها تماماً”[1]. وقد كان جواب السيد المسيح الخاص عن هذا السؤال، من خلال المثل، مماثلاً. فهو ليس في صف غير المدينين ولا في صف المتدينين، غير أنه يُبرز الأخلاقية الدينية بوصفها حالة روحية مُهلكة.
يصعب علينا أن ندرك اليوم هذه الحقيقة، ولكن لما قامت المسيحية أولاً في العالم لم تُدع ديانة، فقد كانت اللاديانة. تصور جيران المسيحين الأوائل يسألونهم عن إيمانهم. فإذا سألوهم: “أين هيكلكم؟” يقولون نه ليس لهم هيكل. “ولكن كيف يُعقل أن يكون هذا هو الواقع؟ أين يشتغل كهنتكم؟” ثم يجيب المسيحيون بأن ليس لهم كهنة. فيُغمغم الجيران: “ولكن…. ولكن أين تٌقدم القرابين أو الأضاحي لإرضاء آلهتكم؟” ويجيب المسيحيون بأنهم لا يٌقدمون ذبائح كهذه. فإن السيد المسيح نفسه كان الهيكل الذي وضع حداً لجميع الهياكل، والكاهن الذي وضع حداً لجميع الكهنة، والذبيحة التي وضعت حداً لجميع الذبائح[2].
لم يكن أحد قط قد سمع أي شيء كهذا. لذا دعا الرومان المسيحيين “ملحدين”؛ لأن ما كانوا يقولونه بشأن الحقيقة الروحية كان فريداً ولم يكُن ممكناً أن يُصنف مع ديانات العالم الأخرى. فهذا المثل يُفسر لماذا كانوا على حق تماماً في دعوة المسحيين مُلحدين.
ويجب ألا يفوتنا ما في ذلك من سخرية، ونحن واقفون في وسط حروب الحضارة العصرية. ففي نظر معظم الناس في المجتمع الغربي، المسيحية هي ديانة وأخلاق. والبديل الوحيد لها (فضلاً عن واحدة من ديانات العالم الأخرى) هو اللادينية التعددية. ولكن من البدء لم تكن الحال على هذا المنوال. فقد عرفت المسيحية بكونها “عنصراً ثالثاً” – أمراً مختلفاً كلياً.
إن النقطة الحاسمة هنا، عموماً، هي أن القوم المتشددين في التمسك بالأصول الدينية استاءوا من السيد المسيح؛ أما المتغربون عن التشدد الديني والأخلاقي فقد أُسروا وانجذبوا إليه. ونحن نرى هذا في غير موضع من أخبار العهد الجديد عن سيرة حياة السيد المسيح. ففي كل حالة حيث قابل السيد المسيح شخصاً متديناً وامرأة منبوذة بسبب خطايا الجنس (كما في لوقا 7)، أو شخصاً متديناً وامرأة منبوذة بسبب التمييز العرقي (كما في يوحنا 3 و4)، أو شخصاً متديناً وآخر منبوذاً بسبب العلاقة السياسية (كما في لوقا 19)، كان المنبوذ أو المنبوذة هو الشخص الذي يتواصل مع السيد المسيح، على نقيض الذي يماثلون الأخ الأكبر. ويقول السيد المسيح للقادة الدينيين المحترمين: “إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله” (متى 21: 31).
لقد اجتذب تعليم السيد المسيح باستمرار غير المتدينين، في حين أثار استياء القوم المتدينين المؤمنين بالكتاب المقدس في زمانه. ولكن كنائسنا اليوم، في الأغلب، ليس لها هذا التأثير. فإن الأشخاص البعيدين من النوع الذي اجتذبه السيد المسيح لا ينجذبون إلى الكنائس المعاصرة، حتى التي تحتل مراتب الطليعة. ذلك أننا أميل إلى اجتذاب الأشخاص الأخلاقيين، المحافظين، الطيعين. أما المتفلتون والمتحررون او مكسورو القلب والمهمشون، فيتجنبون الكنيسة. وذلك لا يمكن أن يعني إلا أمراً واحداً: إذا كان وعظ خدامنا وممارسة رعايانا لا يحدثان في الناس مثل التأثير الذي أحدثه السيد المسيح، فلا بد أننا لا نعلن الرسالة ذاتها التي أعلنها هو؛ وإذا كانت كنائسنا لا تجتذب الإخوة الصغار، فلا بد أن تكون ممتلئة بإخوة كبار أكثر عدداً مما نود أن نظن.
* البوهيمي في الأصل هو أحد مواطني منطقة بوهيميا التشيكية. غير أن المصطلح انتشر بمعنى آخر في فرنسا أولاً في القرن التاسع عشر، حيث صار يدل على أي كاتب أو فنان يميل إلى اتخاذ سلوك أو نمط حياة غير مألوف (الناشر).
[1] J.R.R Tolkien, The Two Towers (Harper Collins, 2004), p. 577.
[2] هذا الحوار مؤسس على إيضاح من عظة ألقاها ريتشارد لوكاس (Richard Lucas)، من كنيسة القديسة هيلانة الأنغليكانية في بيشبسغايب، لندن، المملكة المتحدة.