لماذا تأخر تدوين العهد الجديد نحو قرن من الزمان: الحكمة الإلهية والتوقيت التاريخي – Patricia Michael
لماذا تأخر تدوين العهد الجديد نحو قرن من الزمان: الحكمة الإلهية والتوقيت التاريخي – Patricia Michael

مقدمة
يمثل تأخر تدوين العهد الجديد مسألة جدلية تناولتها الأبحاث اللاهوتية والنقدية التاريخية، حيث يُطرح السؤال: لماذا لم يُدوَّن العهد الجديد فورًا بعد أحداث حياة السيد المسيح، بل تأخر التدوين نحو ربع قرن بعد ولادة الكنيسة وانتشار الايمان المسيحي ؟
عند البحث في عملية تدوين العهد الجديد من الضروري أن نأخذ في الاعتبار السياق التاريخي والثقافي للكنيسة الأولى. لم يكن تدوين أسفار العهد الجديد مجرد عملية تسجيل أحداث، بل كان جزءًا من خطة إلهية شاملة، تم تنفيذها في الوقت المناسب وفقًا للتدبير الالهي .
دور النقل الشفوي في نشر التعليم المسيحي
في البداية، اعتمدت الكنيسة الأولى على النقل الشفوي للكرازة والتعليم.
كان المجتمع اليهودي والروماني في القرن الأول يعتمد بشكل أساسي على الذاكرة الشفوية في نقل المعلومات الدينية والتعليمية. فاليهود اعتادوا على حفظ التوراة والشرائع عن ظهر قلب، وكانت التقاليد تنقل شفهيًا بدقة. في السياق المسيحي، شكّلت التلمذة والنقل الشفهي الوسيلة الأساسية لنقل تعاليم المسيح، وهو ما يفسر عدم الشعور بالحاجة الفورية إلى التدوين.كان هذا أمرًا طبيعيًا في بيئة تعتمد بشكل كبير على التقاليد الشفوية، لا سيما وأن معظم الرسل كانوا شهود عيان لحياة المسيح وقيامته:
“وَنَحْنُ نُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا.” (1 يوحنا 1: 2)
كانت الرسالة المسيحية تنتشر من خلال الوعظ والتعليم المباشر، مما سمح لها بالوصول إلى أوسع نطاق من المستمعين قبل أن يتم تدوينها رسميًا.
الاعتقاد بقرب المجيء الثاني للمسيح
كان المسيحيون الأوائل يؤمنون بأن المجيء الثاني للمسيح وشيك، مما جعلهم يركزون على التبشير الشفوي ونشر الرسالة أكثر من تدوينها. فلم تكن هناك حاجة ملحة لكتابة النصوص طالما أن التعليم الحي والمباشر كان الوسيلة الأساسية للنشر.
الظروف التاريخية والسياسية
عاشت الكنيسة الأولى في ظل اضطهادات شديدة من السلطات اليهودية والرومانية. لم يكن المناخ السياسي ملائمًا لإنتاج وثائق رسمية منذ البداية، بل اعتمدت الكنيسة على شهادة الرسل وكرازتهم الشخصية:
“وَأَمَّا هُمْ فَذَهَبُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلِمَةَ بِالآيَاتِ التَّابِعَةِ.” (مرقس 16: 20)
تطور الكنيسة وظهور الحاجة إلى التدوين
مع مرور الوقت، اتسعت الكنيسة جغرافيًا، مع انتشار الكنيسة خارج فلسطين، أصبح من الضروري وجود نصوص مكتوبة تُعبر عن تعاليم المسيح لضمان نقلها بأمانة في المناطق البعيدة.
التحديات اللاهوتية وظهور البدع والهرطقات
وواجه المؤمنون الاوائل تحديات جديدة تتطلب إرشادًا مكتوبًا. وهنا بدأت تظهر الحاجة إلى تدوين التعاليم المسيحية، خاصة مع انتشار الهراطقة والاختلافات العقائدية والبدع التي قد تهدد الإيمان القويم، مما استدعى توثيق التعاليم الصحيحة للرد عليها :
“كَمَا سَلَّمُونَا إِيَّاهَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ.” (لوقا 1: 2-3)
بذلك، بدأ الرسل وكتّاب العهد الجديد في تدوين الأسفار المقدسة استجابةً لهذه الضرورات.
طبيعة عملية التدوين
لم يكن تدوين العهد الجديد عملية ارتجالية أو عشوائية، بل جاء وفق تطور تدريجي ومنهجي، مستجيبًا لاحتياجات الكنيسة الناشئة، وبتوجيه من الروح القدس، كما أكد الرسول بطرس.
“لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الأَبْدِيُّونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.” (2 بطرس 1: 21)
إن تأخر تدوين العهد الجديد لم يكن عشوائيًا، بل كان جزءًا من التدبير الإلهي لتثبيت الكنيسة ونشر الإنجيل بطريقة ملائمة تتوافق مع سياقات متعددة. من خلال النقل الشفوي، ثم التدوين، حافظت الكنيسة على أمانة الإيمان القويم، مؤكدةً أن الله يُرشد كنيسته عبر الزمن وفقًا لحكمته الإلهية.
عند مناقشة تدوين العهد الجديد، غالبا ما يتم ذلك في ضوء حقيقة أن الله أوحى إلى أشخاص معينين بتدوين حياة السيد المسيح وتعاليمه، بالاضافة الى ارادته ومقاصده للكنيسة،وذلك في غضون فترة قصيرة نسبيًا تتراوح بين 20 إلى 65 عامًا فقط بعد موت المخلّص وقيامته وصعوده.وربما الامر الاكثر اثارة للاعجاب هو الكمّ الهائل من الأدلة التي تثبت أن جميع أسفار العهد الجديد قد كُتبت واكتملت بحلول نهاية القرن الأول الميلادي.
وبالنظر الى العدد الكبير من المخطوطات القديمة ، والترجمات المبكرة، والاستشهادات الواردة في الوثائق المتعلقة بالعهد الجديد، فقد أقرّ العديد من العلماء بمن فيهم بعض الباحثين الليبراليين ، بحقيقة أن العهد الجديد أُنجز بالكامل بحلول نهاية القرن الأول الميلادي . وبالمقارنة مع غيره من الأعمال الأدبية القديمة، نجد ان أقدم النسخ المتاحة لأعمال أفلاطون، وثوسيديديس، وهيرودوت، وتاسيتوس وغيرها من الكتابات الكلاسيكية ، يفصلها عن زمن تأليفها الأصلي ما يقارب 1000 عام . امّا بالنسبة للعهد الجديد ، فتعود اقدم المخطوطات المعروفة له إلى أوائل القرن الثاني الميلادي، مما دفع معظم الباحثين إلى الاستنتاج السائد بأن جميع أسفار العهد الجديد قد كُتبت واكتملت في القرن الأول الميلادي.
يتفق العلماء المحافظون عمومًا على أن أقدم وثائق العهد الجديد المكتوبة، مثل رسالة غلاطية ورسائل تسالونيكي الأولى والثانية، قد كُتبت بين عامي 48-52 م.
وكما خلص إروين هـ. لينتون ( Irwin H. Linton) إلى القول بشأن الأناجيل:
[“انها حقيقة معروفة لجميع الباحثين والدارسين في هذا المجال أن هذه الكتب قد تم اقتباسها، وإدراجها في القوائم، وتصنيفها، وتنسيقها بانسجام، والاستشهاد بها كسلطة مرجعية من قبل كتّاب مختلفين، سواء كانوا مسيحيين أو وثنيين، وذلك منذ زمن الرسل ].
تساؤلات حول توقيت الوحي الإلهي وتدوينه
عند النظر في تأخر تدوين العهد الجديد، يمكننا طرح تساؤلات مشابهة تتعلق بتوقيت الوحي الإلهي وتدوينه عبر التاريخ: لماذا انتظر الله حوالي 2500 عام بعد الخلق، وحوالي 1000 عام بعد الطوفان، قبل أن يوحي بتدوين سجل موحى به لهذه الأحداث؟ ولماذا اقتصر السرد الكتابي على 11 فصلًا فقط لتغطية ما يقرب من 2000 سنة من التاريخ البشري، بينما خُصِّص 1,178 فصلًا لتوثيق الألفي سنة التالية؟ كذلك، لماذا انقطع الوحي المكتوب لأكثر من 400 عام بين ملاخي والعهد الجديد؟
هذه التساؤلات تكشف عن نمط متكرر في طريقة الله في إعلان وحيه، حيث يتم ذلك وفق توقيت إلهي وحكمة تتجاوز إدراك البشر. فكما لم يُكشف عن أسباب تأخر التدوين في فترات سابقة بشكل صريح، كذلك لم يُعطَ تفسير مباشر لتوقيت تدوين العهد الجديد. ما يمكن استخلاصه هو أن الله أوحى بكتابة الأسفار المقدسة في الأوقات التي كانت فيها الحاجة إلى التدوين ضرورية لحفظ الإيمان ونقله بأمانة عبر الأجيال.
أولًا: الإرشاد الإلهي المباشر للكنيسة الأولى
كانت الكنيسة الأولى تحمل “كنز الإنجيل في أوانٍ خزفية”، كما عبّر القديس بولس الرسول في رسالته الى اهل كورنثوس.أي أن الرسل كانوا يُقادون بوحي الروح القدس في كل ما علّموه .
(2 كو 4: 7).
“وَلكِنْ لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ للهِ لاَ مِنَّا.”
(غل 1: 12).
“لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.”
(1 كو 2: 10-16).
“فَأَعْلَنَهُ اللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ. لأَنْ مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟ هكَذَا أَيْضًا أُمُورُ اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ. وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ، الَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضًا، لاَ بِأَقْوَال تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ، قَارِنِينَ الرُّوحِيَّاتِ بِالرُّوحِيَّاتِ. وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا. وَأَمَّا الرُّوحِيُّ فَيَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ لاَ يُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ. «لأَنَّهُ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ فَيُعَلِّمَهُ؟» وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ الْمَسِيحِ” .
إذ كان روح الله يرشدهم إلى “جميع الحق” كما قال السيد المسيح :
(يو 16: 13).
“وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ.”
بالإضافة إلى ذلك،كان كل الذين وَضَع الرسل أيديهم عليهم في الكنيسة الأولى ينالون مواهب روحية خاصة مثل النبوة، والمعرفة، والحكمة، وغيرها.
(أع 8: 14-17).
“وَلَمَّا سَمِعَ الرُّسُلُ الَّذِينَ فِي أُورُشَلِيمَ أَنَّ السَّامِرَةَ قَدْ قَبِلَتْ كَلِمَةَ اللهِ، أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا، اللَّذَيْنِ لَمَّا نَزَلاَ صَلَّيَا لأَجْلِهِمْ لِكَيْ يَقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَلَّ بَعْدُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَمِدِينَ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ. حِينَئِذٍ وَضَعَا الأَيَادِيَ عَلَيْهِمْ فَقَبِلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ.”
(1 كورنثوس 12 : 1 – 11)
“وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوَاهِبِ الرُّوحِيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا.
أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أُمَمًا مُنْقَادِينَ إِلَى الأَوْثَانِ الْبُكْمِ، كَمَا كُنْتُمْ تُسَاقُونَ.
لِذلِكَ أُعَرِّفُكُمْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِرُوحِ اللهِ يَقُولُ: «يَسُوعُ أَنَاثِيمَا». وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ.
فَأَنْوَاعُ مَوَاهِبَ مَوْجُودَةٌ، وَلكِنَّ الرُّوحَ وَاحِدٌ.
وَأَنْوَاعُ خِدَمٍ مَوْجُودَةٌ، وَلكِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ.
وَأَنْوَاعُ أَعْمَال مَوْجُودَةٌ، وَلكِنَّ اللهَ وَاحِدٌ، الَّذِي يَعْمَلُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ.
وَلكِنَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ يُعْطَى إِظْهَارُ الرُّوحِ لِلْمَنْفَعَةِ.
فَإِنَّهُ لِوَاحِدٍ يُعْطَى بِالرُّوحِ كَلاَمُ حِكْمَةٍ، وَلآخَرَ كَلاَمُ عِلْمٍ بِحَسَبِ الرُّوحِ الْوَاحِدِ،
وَلآخَرَ إِيمَانٌ بِالرُّوحِ الْوَاحِدِ، وَلآخَرَ مَوَاهِبُ شِفَاءٍ بِالرُّوحِ الْوَاحِدِ.
وَلآخَرَ عَمَلُ قُوَّاتٍ، وَلآخَرَ نُبُوَّةٌ، وَلآخَرَ تَمْيِيزُ الأَرْوَاحِ، وَلآخَرَ أَنْوَاعُ أَلْسِنَةٍ، وَلآخَرَ تَرْجَمَةُ أَلْسِنَةٍ.
وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا يَعْمَلُهَا الرُّوحُ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ، قَاسِمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ، كَمَا يَشَاءُ.
ورغم عدم توفر الكتابات المدونة الموحى بها، لم تكن الكنيسة آنذاك بلا إرشاد إلهي. فبالمعنى المجازي، كان الرسل أنفسهم شهودًا مباشرين للكلمة الإلهية، ينقلون التعليم الموحى به شفهيًا بقوة الروح القدس، مما جعلهم بمثابة “وحي حيّ” يسير بين المؤمنين.
ومع ذلك، ونظرا الى حاجة الكنيسة الى ارشاد دائم ومستمر، أوحى الله إلى رسله بتدوين إعلانه الكامل في صورة دائمة، ليكون مرجعًا ثابتًا يرشد الكنيسة عبر الاجيال وحتى مجيء السيد المسيح (2 تيموثاوس3: 16 – 17 ).
ثانيًا: ضرورة تطور الكنيسة قبل تدوين الأسفار
لم يكن من الممكن تدوين العهد الجديد فور تأسيس الكنيسة بل كان من الضروري أن تمر عدة سنوات قبل ان يتم تدوينه، اذ انّ الأسفار والرسائل الموحى بها والتي تشكل العهد الجديد كانت تتماشى مع تطور الكنيسة واحتياجاتها. ومع ذلك، فانّ مضمونها تجاوز سياقها التاريخي ليحمل مبادئ إيمانية وتعليمية نافعة لجميع المسيحيين عبر العصور.
فعلى سبيل المثال، لم يكن ممكنًا أن يكتب بولس الرسول رسائله إلى كنيسة كورنثوس قبل أن يكون هناك وجود لكنيسة في كورنثوس أصلًا. وإذا كانت هذه الكنيسة لم تتأسس إلا خلال الرحلة التبشيرية الثانية للرسول بولس (حوالي 49-52 م)، فمن الطبيعي ان تكون رسائله اليها قد كُتبت بعد هذا التاريخ . علاوة على ذلك، نظرًا لأن بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس تناول قضايا محددة نشأت داخل الكنيسة هناك (مثل الانقسامات، والانحرافات، وما إلى ذلك)، فمن البديهي أنه لم يكن بالامكان معالجة هذه المسائل بشكل مباشر ومفصّل إلا بعد حدوثها بالفعل. وهكذا، كان لا بدّ من مرور فترة من الزمن قبل أن يتم تدوين أسفار العهد الجديد.
الخاتمة
على الرغم من أن بعض النقاد قد يتساءلون عن سبب انتظار الله نحو ربع قرن من الزمان قبل أن يتم البدء في تدوين العهد الجديد، إلاّ أننا نستطيع أن نكون على يقين من أن لهذا التأخير النسبي القصير حكمة إلهية. وبالرغم أن الله لم يُبيّن صراحةً سبب تأخير تدوين أسفار العهد الجديد وصياغتها في شكل مكتوب، إلا أن هناك أسبابًا منطقية تفسّر ذلك، وعلى رأسها أن هذه الأسفار رغم كتابتها في ذلك الوقت لجماعات محددة ولأغراض معينة، تبقى إعلانًا إلهيًا ذا سلطان شامل، ممتدًّا عبر الأزمان والأماكن.
إن تأخر تدوين العهد الجديد لم يكن عشوائيًا او دون تدبير، بل كان جزءًا من خطة الهية محكمة تهدف الى تثبيت الكنيسة وتعميق رسالتها عبر الزمن، ونشر الإنجيل بما يتوافق مع السياقات التاريخية والدينية.
من منظور لاهوتي، يمكننا اعتبار هذا التأخير بمثابة خطة إلهية متقنة، حيث كان التوقيت الإلهي دقيقًا بما يتناسب مع مرحلة نمو الكنيسة واحتياجاتها. فتأخر تدوين الأسفار كان بمثابة تأكيد على أن الرسالة المسيحية كانت بحاجة إلى ركيزة شفوية قوية قبل أن يُضفى عليها الطابع الكتابي الذي يضمن استمراريتها في الأجيال القادمة. من خلال النقل الشفوي، ثم التدوين، حافظت الكنيسة على أمانة الإيمان القويم، مؤكدةً أن الله يُرشد كنيسته عبر الزمن وفقًا لحكمته الإلهية.
في البداية، كان التبشير بالكلمة أولًا، وكان المسيحيون الأوائل يركزون على نقل الأخبار الشفوية عن حياة المسيح. مع مرور الوقت، ومع تزايد الحاجة إلى توثيق الإيمان والانتشار الجغرافي ومن أجل الحفاظ على نقاوة الايمان في مواجهة الهرطقات والانحرافات العقائدية، أصبح من الضروري التدوين. في هذا السياق، يمكننا أن نفهم أن تأخر التدوين كان جزءًا من خطة إلهية لضمان الانتشار الأمثل للإنجيل وحماية الرسالة المسيحية في مراحلها الأولى. كان هذا التأخير، من منظور اللاهوت المسيحي، مناسبًا تمامًا لتوقيت الكنيسة وتطورها عبر الزمن.
وفي النهاية، يُظهر هذا التدبير الإلهي العميق كيف أن الله قد أعد الكنيسة لنقل رسالته عبر العصور، مؤكدًا أن وحيه لا يقتصر على زمن أو مكان، بل يمتد عبر التاريخ ليظل حيويًا وملهمًا في كل زمان ومكان.
ليكون للبركة
المراجع
Bruce, F. F. (1953). The New Testament Documents: Are They Reliable? (4th ed.). Eerdmans.
Geisler, N. L., & Nix, W. E. (1986). A General Introduction to the Bible (Rev. ed.). Moody.
Comfort, P. W., & Barrett, D. P. (2001). The Text of the Earliest New Testament Greek Manuscripts. Tyndale House.
N.T. Wright & Michael Bird, The New Testament and Its World, 2019.
Richard Bauckham, Jesus and the Eyewitnesses: The Gospels as Eyewitness Testimony, 2006.