أبحاث

هل تناولت كتابات بولس الرسول يسوع كشخصية تاريخية؟ – ترجمة Patricia Michael

هل تناولت كتابات بولس الرسول يسوع كشخصية تاريخية؟ – ترجمة Patricia Michael

هل تناولت كتابات بولس الرسول يسوع كشخصية تاريخية؟ - ترجمة Patricia Michael
هل تناولت كتابات بولس الرسول يسوع كشخصية تاريخية؟ – ترجمة Patricia Michael

❇ مقدمة

تثير مسألة تاريخية يسوع المسيح جدلًا واسعًا بين المفكرين، حيث تتباين الآراء حول ما إذا كانت شخصية يسوع هي شخصية تاريخية حقيقية أو مجرد أسطورة. من بين هذه الآراء، يبرز رأي توم هاربر في كتابه The Pagan Christ، الذي يزعم من خلاله أن قصة يسوع ليست سوى أسطورة. يدّعي هاربر أن الرسائل التي كتبها الرسول بولس، التي تُعد من أقدم الكتابات في العهد الجديد، تتجاهل بشكل كبير ذكر يسوع كشخصية تاريخية.

في هذا المقال، سنناقش ادعاءات هاربر ونُظهر كيف أن هذه الادعاءات تتعارض مع النصوص الكتابية في رسائل بولس الرسول، والتي تؤكد على التجسد الإلهي للسيد المسيح وبكونه شخصية تاريخية حقيقية. من خلال تحليل دقيق لكتابات بولس، سيتم استعراض الأدلة التي تُثبت أن بولس كان يشير إلى يسوع ليس فقط كإله، بل كإنسان حقيقي في السياق التاريخي.

❇ في كتابه The Pagan Christ، يزعم توم هاربر فرضية مفادها أن قصة يسوع ذات طابع أسطوري. ولتعزيز ادعائه بأن شخصية يسوع، كما وردت في روايات الأناجيل، لم تكن لشخص حقيقي، يؤكد هاربر أن الرسول بولس، الذي كُتبت رسائله قبل الأناجيل، لم يشر أبدًا إلى يسوع باعتباره شخصية تاريخية. حيث كتب هاربر التالي:

“إن أقدم الكتابات في العهد الجديد، والتي تشكل أكثر من ربع محتواه الإجمالي، هي رسائل الرسول بولس. وما يلفت الانتباه بشكل مذهل في هذه الرسائل هو صمتها شبه التام حول موضوع يسوع الناصري كشخصية تاريخية.” (2004, p. 166)

ويعتبر هاربر أن هذا الادعاء يمثّل تحديًا جوهريًا لمؤيدي تاريخية يسوع، حيث يزعم:

“لا شك أن هذه الحقيقة هي التي تقف في وجه المدافعين عن تاريخية يسوع… إذ لم يذكر بولس ولو لمرة واحدة شخصية يسوع بصفته شخصية تاريخية.” (pp. 166-167)

وإدراكًا منه لاحتمالية أن يشير القرّاء والنقّاد إلى أن اسم يسوع قد ورد في كتابات بولس، كتب هاربر:

“من المؤكد أن أحد المنتقدين سيتطرق إلى نقطة جدالية في أن بولس الرسول يذكر يسوع بالاسم بين الحين والآخر. وهذا صحيح بلا شك. لكن معظم علماء اللاهوت المعاصرين يتفقون على أنه حتى في هذه الحالات، لا يتحدث بولس عن كائن بشري من لحم ودم، تمامًا كما لم يكن المصريون القدماء يشيرون إلى شخصية تاريخية عند حديثهم عن ‘إيوسا’ Iusa قبل آلاف السنين… نعم، بولس يتحدث عن ‘هذا يسوع الذي رأيناه’، وفي بعض المواضع قد يعطي الانطباع بأنه مهتم بشخص حقيقي، لكن الفحص الدقيق والتحليل المتعمّق يظهر أنه في الواقع يتحدث دائمًا عن رؤى صوفية لكيان روحاني سامٍ يطلق عليه المسيح.” (pp. 167-168)

 

❇ تحليل نقدي لمزاعم هاربر

هل صحيح أن بولس لم يذكر يسوع إلا نادرًا، ولم يشر إليه أبدًا كشخصية تاريخية من لحم ودم؟ قطعًا لا… من المؤكد أن هذا الادعاء لا يستند إلى أدلة موضوعية. فمن المدهش أن يتمكن هاربر من تقديم مثل هذا الطرح، الذي يتعارض بوضوح مع النصوص التي كتبها بولس الرسول، وأن يجد عمله هذا طريقه إلى النشر دون مراجعة نقدية جادة من قبل متخصصين في الدراسات الكتابية.

في الواقع، تزخر كتابات بولس الرسول بإشارات متكررة إلى يسوع، واصفًا إياه بعبارات لا تحتمل تأويلًا سوى أنه كان شخصية تاريخية حقيقية من لحم ودم. فقد ورد اسم “يسوع” 218 مرة في كتابات بولس (Strong, 2001, p. 453)، هذا دون احتساب الألقاب الأخرى التي كان يوردها مثل “المسيح” أو “الرب”. وبالتالي، فإن الادعاء بأن بولس لم يذكر يسوع إلا نادرًا يُعد طرحًا غير دقيق وتنقصه النزاهة العلمية، ولا يتوافق مع النصوص الكتابية المتاحة.

على سبيل المثال، استخدم بولس الرسول اسم “يسوع” خمس مرات في أول ثماني آيات من رسالة رومية، وسبع مرات في رسالة فليمون ذات الفصل الواحد، واثنتين وعشرين مرة في رسالة فيلبي المكونة من أربعة فصول. وعند تحليل كتاباته بشكل موضوعي، يتضح أنها زاخرة بذكر اسم يسوع، حيث يرد بمعدل 2.5 مرة لكل فصل في المتوسط.

لم يقتصر الأمر على تكرار بولس الرسول لذكر يسوع، بل أكد بشكل صريح أن يسوع جاء في الجسد كإنسان حقيقي، مؤكدًا على ناسوته الكامل. فعلى سبيل المثال، كتب بولس في 1 تيموثاوس 2:5:

“لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ،” (1 تي 2:5).

ولتوضيح قصده من مصطلح “إنسان”، كتب بولس في فيلبي (في 2:5-8):

“فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ، لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ، مَوْتَ الصَّلِيبِ.” (في 2:5-8).

 

يعكس هذا النص بوضوح تأكيد بولس على الطبيعة البشرية الحقيقية للمسيح، حيث يشير إلى تجسده، وتواضعه، وخضوعه التام حتى الموت.
إن أي محاولة لإعادة تأويل عبارة “في شبه الناس” بوصفها مجرد ظهور روحي أو صوفي محكوم عليها بالفشل، ولا تصمد أمام التحليل النقدي للنصوص. علاوة على ذلك، أوضح بولس صراحةً أن مصطلح “شبه الناس”، الذي أشار إليه في فيليبي، يعني التجسد الحقيقي أي الجسد البشري، حيث يكتب في رومية:

“بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْمَدْعُوُّ رَسُولًا، الْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ اللهِ، الَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ،” (رومية 1: 1-3).

كما يؤكد على البعد التاريخي ليسوع من خلال الإشارة إلى محاكمته أمام بيلاطس البنطي في (1 تيموثاوس 6: 13):

“أُوصِيكَ أَمَامَ اللهِ الَّذِي يُحْيِي الْكُلَّ، وَالْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي شَهِدَ لَدَى بِيلاَطُسَ الْبُنْطِيِّ بِالاعْتِرَافِ الْحَسَنِ.”

أحد الانتقادات أيضًا التي يطرحها هاربر هو أن بولس لم يورد تفاصيل معينة عن حياة يسوع، مثل مكان ميلاده في بيت لحم، أو اسم والدته، أو معجزاته المحددة. غير أن هذا الطرح يتجاهل السياق اللاهوتي والتاريخي لكتابات بولس.

نظرًا لأن الوحي الإلهي هو المصدر المشترك لجميع أسفار العهد الجديد، فإنه من المنطقي تمامًا ألّا تكون هناك ضرورة لتكرار ما وثّقته الأناجيل الأربعة بإسهاب ضمن رسائل بولس الرسول، إذ إن الأناجيل (متى، مرقس، لوقا، يوحنا) قد قدمت السرد التاريخي بشكل وافٍ تمامًا. وبالتالي، فإن غياب بعض التفاصيل في رسائل بولس الرسول لا يعني إنكارها، بل هو بمثابة تركيز من بولس الرسول على قضايا لاهوتية وأخلاقية تختلف عن تلك التي تناولتها الأناجيل في سياقها التاريخي.

إن تكرار بولس الإشارة إلى يسوع ككائن بشري دون إعادة سرد تفاصيل الأناجيل المختلفة يثبت أن روايته تتماشى مع كُتّاب الأناجيل، مع احتفاظه في الوقت ذاته بمنهج فيه استقلالية عنهم، ولكنه لا يتعارض معهم. فليس هناك ضرورة لتكرار المعجزات والوقائع المتعلقة بحياة يسوع للمرة الخامسة في كتابات بولس. لقد تناول بولس بشكل متكرر العديد من الأحداث الجوهرية في حياة يسوع، مثل موته، ودفنه، وقيامته، ومحاكمته أمام بيلاطس، وولادته بحسب نسل داود، بالإضافة إلى الحقيقة الأساسية المتمثلة في تجسده كإنسان.

وعليه، فإن اعتراض هاربر على عدم تضمين بولس لمزيد من التفاصيل الواردة في الأناجيل هو معيار اعتباطي وضعه هو وزملاؤه المتشككون، ولا يشكل دليلًا ذا قيمة حقيقية.

وبذلك، فإن كتابات بولس لا تتعارض مع الأناجيل، بل تقدم شهادة مستقلة عنها، مما يعزز المصداقية التاريخية لشخص يسوع.

 

❇ الخلاصة

إن ادعاء هاربر بأن بولس لم يكن يعترف بيسوع كشخصية تاريخية، وأنه لم يكن يعرف سوى “المسيح الصوفي” (p. 172)، يفتقر إلى النزاهة العلمية والأساس الكتابي، ولا يستند إلى تحليل موضوعي للنصوص الكتابية.

والحقيقة الواضحة هي أن كتابات بولس تزخر بذكر اسم يسوع، مع تأكيده المتكرر على أن يسوع جاء في الجسد كإنسان تاريخي. حيث تُظهر رسائل بولس بوضوح أن يسوع كان شخصية تاريخية حقيقية ومن لحم ودم، وأنه لم يكن مجرد كائن روحي غامض، كما يزعم هاربر. والاختلاف في طبيعة السرد بين رسائل بولس والأناجيل لا يعني تناقضًا، بل يؤكد التكامل بين الشهادات المختلفة في العهد الجديد، حيث يقدم بولس شهادة مستقلة تؤكد حقيقة التجسد، مع التركيز على بُعده اللاهوتي وأهميته الخلاصية.

ليكون للبركة
Patricia Michael

هل تناولت كتابات بولس الرسول يسوع كشخصية تاريخية؟ – ترجمة Patricia Michael

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !