دور المنطق في علم الدفاعيات المسيحية (الدفاع عن العقيدة المسيحية) – ترجمة: Patricia Michael
المقدمة:
إنَّ المنطق، بوصفه طريقة منهجية ومتماسكة للتفكير، يُعدُّ ركيزة أساسية في ميدان الدفاع عن الإيمان المسيحي، لا سيّما عند المسيحيين الإنجيليين المحافظين. فالمنطق يُمثّل الأساس الذي يُتيح للباحثين تقديم حجج عقلية رصينة تُعزِّز إيمانهم، ومن خلاله، يتمكَّن المسيحيون من إظهار أن الإيمان بالله وكلمته الموحى بها لا يرتكز على الايمان وحده فحسْب، بل هو مُستندٌ أيضًا على أدلة عقلية دامغة.
المنطق ليس بعيدًا عن جوهر الكتاب المقدس فالكتاب ذاته يحثُّ الباحثين على التفكير ولا سيّما التفكير النقدي المنطقي.
ففي قول الرب لإسرائيل في إشعياء (1: 18): “هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ “. هنا نلاحظ دعوة صريحة لاستخدام العقل والتفكير النقدي، وعليه، فإن المنطق ليس غريبًا عن الفكر المسيحي، بل هو بمثابة أداة قوية لإيضاح وشرح الحقائق اللاهوتية، وإثباتها، والدفاع عنها.
ما هو المنطق؟
المنطق هو طريقة التفكير التي تمكّن الانسان من استخلاص الاستنتاجات الصحيحة من مجموعة من المقدّمات.
المقدّمات هي الجُمل أو العبارات التي تُستخدم كأساس لبناء الحجّة المنطقية، وهي الافتراضات أو الادعاءات التي نبدأ بها ونستدل منها للوصول إلى النتيجة.
– خصائص المقدمات:
- أساس الحجّة: تمثّل المقدّمات نقطة البداية التي يتم بناء الحجّة عليها، حيث تُستخدم للوصول الى النتيجة المتوقعة.
- علاقتها بالنتيجة: يجب أن تكون المقدمات مرتبطة ارتباطاً منطقيًا بالنتيجة كي تكون الحجة صحيحة وموثوقة من الناحية المنطقية.
– الصدق والصلاحية في المنطق:
المنطق كعلم يهدف الى تقييم الحجج والاستدلالات من زاويتين رئيسيتين:
١- صدق المقدّمات أو الأفكار او العبارات:
يشير هذا المعيار إلى أنه يجب أن تتوافق المقدّمات او الأفكار أو العبارات التي تُستخدم كأساس لأي حجة أو نقاش مع الواقع، أي أن تكون صادقة وتعكس الحقيقة بشكل دقيق.
٢- صلاحية البنية المنطقية للحجة:
تشير الصلاحية إلى التماسك الداخلي للحجة وتسلسل أفكارها بشكل منطقي، بحيث تكون النتيجة مستخلصة بطريقة صحيحة من المقدّمات وفقًا للقواعد المنطقية. تعتمد الصلاحية على انسجام الأفكار وترابطها، مع خلو الحجة من أي شائبة تناقض داخلي.
الصدق والصلاحية مفهومان مترابطان في المنطق، ولكل منهما دور خاص في تقييم الحجج. الصلاحية تضمن الاتساق المنطقي، بينما الصدق يضمن مطابقة المقدمات للواقع. عندما يجتمعان، تتكون حجة قوية تُعرف ب’الحجة الصحيحة’ (Sound Argument)، التي تتيح الوصول إلى استنتاجات دقيقة تستند إلى أسس سليمة ومترابطة. في هذا السياق، يعمل المنطق كأداة أساسية لتحليل الاستدلالات وتقييمها بفعالية.
مثال على حجة سليمة حول مسألة لاهوت السيد المسيح، حيث تُستخدم الصلاحية والصدق لإثبات نقطة منطقية:
المقدمة الاولى:
كل من يغفر الخطايا يملك سلطانًا إلهيًا
(مقدمة مقبولة في الفكر اللاهوتي المسيحي واليهودي، بناءً على أن غفران الخطايا من اختصاص الله وحده).
المقدمة الثانية:
يسوع غفر الخطايا (كما هو مذكور في العهد الجديد في قصة شفاء المفلوج “فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ».” (مر 2: 5).
النتيجة:
إذن، يسوع يملك سلطانًا إلهيًا.
التحليل:
الصلاحية (Validity):
البنية المنطقية للحجة سليمة، حيث إن النتيجة تتبع منطقيًا من المقدّمات وفقًا للقواعد المنطقية. إذا كانت المقدمات صحيحة، فإن النتيجة ستكون صحيحة أيضًا.
إذا كان غفران الخطايا يختص بالله فقط (المقدمة 1)، وإذا غفر يسوع الخطايا (المقدمة 2)، فمن المنطقي أن يسوع يملك سلطانًا إلهيًا.
الصدق (Truth):
- المقدمة الأولى: صحيحة في سياق الفكر اللاهوتي، حيث غفران الخطايا مرتبط بسلطان إلهي.
- المقدمة الثانية: صحيحة بناءً على النصوص الكتابية التي تُظهر أن السيد المسيح غفر خطايا الناس.
- النتيجة: صحيحة بناءً على صحة المقدمات وصلاحية البنية.
الخلاصة:
هذه الحجة تُظهر أحد الأدلة اللاهوتية المستخدمة لإثبات طبيعة المسيح الإلهية.
الحجة سليمة لأنها:
- تحتوي على مقدمات صحيحة ضمن السياق اللاهوتي المسيحي.
- بنيتها المنطقية صحيحة (النتيجة تتبع بالضرورة من المقدّمات).
في مجال الدفاعيات، يُعتبر الصدق والصلاحية ذا أهمية قصوى لأنهما يضمنان أن تكون الحجج التي نقدمها قائمة على معلومات صحيحة ومرتبة ومتّسقة بطريقة منطقية ومقنعة، هذا النهج يساعد على تقديم الإيمان المسيحي كأمر منطقي وعقلاني، وليس مجرد اعتقاد إيماني بعيدا عن العقل. وبالتالي فانّ المنطق يساعدنا على التفكير بوضوح واتخاذ قرارات مبنية على أسس قوية.
استنادًا إلى قول السيد المسيح: أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي.” (يوحنا 14: 6). يُظهر ذلك ارتباط الإيمان المسيحي بالحقيقة وبما أن السيد المسيح هو تجسيد للحقيقة، فإنه من المنطقي ان تُعتَبر العقائد التي علّمها صادقة ومتّسقة منطقياً. يساعد المنطق في الدفاع عن حقيقة ان يسوع هو ابن الله، وان الكتاب المقدس هو كلمة الله، وان الايمان بهذه الحقائق منطقي ومعقول يعتمد على أسس عقلانية متينة.
أساس المنطق: الجذور الكتابية واللاهوتية
إن قوانين المنطق متأصلة في طبيعة الله ذاتها. فالله هو إله النظام، وليس إله الفوضى. ويؤكد بولس الرسول ذلك في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس بقوله: “لأَنَّ اللهَ لَيْسَ إِلهَ تَشْوِيشٍ بَلْ إِلهُ سَلاَمٍ، كَمَا فِي جَمِيعِ كَنَائِسِ الْقِدِّيسِينَ.” (1 كو 14: 33).
إن الثبات والنظام اللذان يتّسم بهما الله ينعكسان على خليقته مما يساهم في تأسيس الهيكل المنطقي ذاته. تماما كما تحكم القوانين الفيزيائية الكون، فانّ قوانين المنطق تحكم التفكير البشري. هذه القوانين تنبع من طبيعة الله الثابتة وغير المتغيرة، مما يجعلها صالحة وقابلة للتطبيق في جميع الاماكن والازمنة.
القوانين الاساسية للمنطق:
تشمل هذه القوانين قانون عدم التناقض، قانون الهويّة، وقانون الوسط المُستبعَد. وكل واحد من هذه القوانين يتوافق مع طبيعة الله وكيفية تفاعله مع خليقته:
1- قانون عدم التناقض:
ينص هذا القانون على أن العبارتين المتناقضتين لا يمكن أن تكونا صحيحتين في الوقت نفسه وفي المعنى ذاته. على سبيل المثال، لا يمكن القول بأنّ: “يسوع هو ابن الله” و”يسوع ليس ابن الله” في آن واحد.
هذا القانون (قانون عدم التناقض) يعكس صدق الله، كما ورد في سفر العدد “لَيْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ، وَلاَ ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَلْ يَقُولُ وَلاَ يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلَّمُ وَلاَ يَفِي؟” (عد 23: 19).
2- قانون الهويّة
هذا القانون يقرر أن الشيء هو ما هو عليه؛ بمعنى أن لكل شيء هويته المحددة. في الكتاب المقدس، يعلن الله عن هويته بوضوح «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ»: “فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ». وَقَالَ: «هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ».” (خر 3: 14). إذا ليس هناك أي التباس حول هويّة الله.
3- قانون الوسط المُستبعَد
ينص هذا القانون على أن أي مقولة إما أن تكون صحيحة أو خاطئة، ولا يوجد خيار ثالث،ولا يمكن ان تكون هناك حالة محايدة. يؤكد يسوع هذا المفهوم في انجيل متى “مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ.” (مت 12: 30). فلا وجود لموقف محايد فيما يتعلق بالإيمان بالمسيح.
تظهر هذه القوانين كيف ان المنطق يعكس النظام والدقة في طبيعة الله، لذا، يُعتبر المنطق أداة لاهوتية قوية تساعد في الدفاع عن الايمان وفهم الحقائق الإلهية، كما يوفّر هذا الاطار المنطقي للمسيحيين الوسيلة لتقديم الحقائق الكتابية بأسلوب عقلاني ومنهجي.
تطبيق المنطق على الدفاعيات المسيحية
تسعى الدفاعيات المسيحية إلى إثبات أن تعاليم الكتاب المقدس منطقية ومتماسكة، وأن الإيمان بالله هو عقلاني وقابل للتبرير. وللقيام بذلك يتم استخدام المنطق لتحليل وتقييم الحجج المعارضة للكتاب المقدس، ودحض المنطق الخاطئ، وتأكيد صحة العقيدة المسيحية.
على مر العصور، قام اللاهوتيون والفلاسفة بتطوير العديد من الحجج المنطقية لدعم وجود الله. من أبرز هذه الحجج:
1- الحجة الكونية (Cosmological Argument):
تعتمد هذه الحجة على المبدأ القائل بأن كل شيء يبدأ في الوجود لا بدّ له من سبب، وتشير إلى أن خَلْق الكون هو دليل على وجود الله.
الكون لا يمكن أن يكون قد أتى إلى الوجود من تلقاء نفسه أو عن طريق الصدفة. لابد أن يكون هناك سبب أولي أو مُسبب (وهو الله) بدأ هذا الوجود.
صياغة الحجة منطقياً:
- الفرضية الأولى: كل شيء بدأ في الوجود، لابد أن يكون له سبب.
- الفرضية الثانية: الكون بدأ في الوجود.
- الاستنتاج: إذا كان الكون قد بدأ في الوجود، فلا بد أن يكون له سبب. وهذا السبب هو الله.
هذا المنطق يتماشى تمامًا مع الكتاب المقدس في سفر التكوين: ” فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.”(تكوين 1: 1). تقدّم الحجة الكونية أساسًا منطقيًا عقلانيا للإيمان بالخالق.
2- الحجة الغائية (Teleological Argument):
وبالمثل، تؤكد الحجة الغائية أن النظام والدقة في الكون يشيران إلى وجود مُصمّم. كما ورد في المزمور: “اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ.” (مز 19: 1).
التصميم المعقد والدقيق في الطبيعة دليل واضح على وجود الله، حيث تُظهر هذه الحجة أن هذا التعقيد والدقة لا يمكن أن يكون نتيجة صدفة، بل نتيجة خالق ذكي.
هنا يستخدم الدفاع المسيحي المنطق لربط العقل بالإيمان، مما يُثبت أن الإيمان بالله وتعاليم الكتاب المقدس ليس مجرد شعور أو تقليد، بل هو مبني على أسس عقلية ومنطقية متينة.
الدفاع عن ألوهية السيد المسيح باستخدام المنطق
يلعب المنطق دورًا أساسيًا في الدفاع عن ألوهية السيد المسيح. أحد المجالات الأساسية التي يكون فيها المنطق حاسماً هو الدفاع عن ألوهية المسيح. قدّم السيد المسيح عدة تصريحات حول هويته، والمنطق يساعد المسيحيين على إظهار التناسق والتماسك في هذه التصريحات.
على سبيل المثال في انجيل يوحنا، يعلن السيد المسيح صراحة “أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ».” (يو 10: 30). هذا التصريح يشير إلى طبيعته الإلهية.
قد يعترض المشككون بأن يسوع لم يكن أكثر من معلم أخلاقي عظيم أو نبي، لكنه ليس إلهاً. ورغم ادّعاءاتهم تلك،فإن المنطق يدحض هذا الاعتراض من خلال استخدام ما يُعرف بحجة “الكاذب، المختل عقليا، أو الرب”.
حجة “الكاذب، المختل عقليا، أو الرب” هي واحدة من أبرز الحجج التي طرحها الكاتب والفيلسوف المسيحي سي. إس. لويس(C.S. Lewis) في كتابه (Mere Christianity) المسيحية المجردة.
تهدف هذه الحجة إلى تحليل ما إذا كان يسوع المسيح هو ابن الله حقاً أو مجرد شخص عادي من خلال ثلاث احتمالات منطقية:
- إذا كان يسوع يدّعي أنه ابن الله وهو في الواقع ليس كذلك، يكون شخصًا غير صادق أو مخادع.
- إذا كان يسوع يعتقد حقًا أنه ابن الله بينما هو ليس كذلك، يكون شخصًا مختلاً غير متزن عقليًا.
- إذا كان يسوع حقاً كما كان يدّعي انه ابن الله وكانت تصريحاته صحيحة، فهذا يعني أنه الرب، أي أن السيد المسيح هو فعلاً الإله المتجسد.
فكرة الحجة:
سي. إس. لويس (C.S. Lewis) يريد ان يقول إنه لا يمكن أن يكون السيد المسيح مجرد “معلّم اخلاقي جيّد” أو “نبي حكيم” فقط، كما يعتقد البعض، لأن ادعاءاته عن نفسه كانت خارجة عن المألوف. إما أنه كان كاذبًا أو ومختلاً عقليا، أو أنه فعلاً الرب الذي جاء إلى الأرض. وبالتالي، لا توجد خيارات وسط بين هذه الاحتمالات. يسوع لم يكن شخصية يمكن التعامل معها بتردد او اتخاذ موقف وسط، إما أن نقبله كاله أو نرفضه تمامًا.
صياغة الحجة منطقيا:
- الفرضية الأولى: يسوع ادّعى أنه الله: “قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ».” (يو 8: 58).
- “أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ».” (يو 10: 30).
- الفرضية الثانية: يسوع إما كان صادقًا في ادعائه، أو كان يكذب، أو كان مخطئًا.
- التحليل
إذا كان يسوع صادقًا ويقول الحق، فهو الرب.
إذا كان يكذب، فهو شرير.
إذا كان مخطئًا، فهو مجنون او مختل عقليا.
- النتيجة
بالنظر إلى الادلة وشخصية يسوع المسيح وسلوكه وتعاليمه واعماله التي اتّسمت بالكمال الأخلاقي والحكمة، يظهر بوضوح انه لا يمكن أن يكون كاذبًا أو مجنونًا وبالتالي، فإن الخيار المنطقي الوحيد هو أن يسوع كان صادقًا وهو الرب ويجب أن نتبعه ونسلّم له حياتنا.
ان الاتساق المنطقي لهذه الحجة يعزز حقيقة الوهية السيد المسيح.
هذه الحجة تُظهر التماسك المنطقي لإعلان يسوع عن ألوهيته، مما يُعزز الإيمان بأن المسيح هو الله المتجسد. يساعد هذا الأسلوب العقلي المؤمنين في الرد على الشكوك وتقديم حجة عقلانية رصينة تدعم العقيدة المسيحية.
كيف يدحض المنطق التفكير الخاطئ؟
المنطق ليس أداة تُستخدم للدفاع عن الحق فحسب، بل هو كذلك وسيلة فعّالة لكشف الأخطاء في التفكير ودحض الاعتراضات المبنية على أسس واهية. إنّ العديد من الانتقادات الموجهة إلى العقيدة المسيحية تنبثق من استنتاجات مغلوطة او من سوء فهم لطبيعة الله وأهدافه.
على سبيل المثال: إشكالية الشر
تُعد “إشكالية الشر” من أكثر الاعتراضات شيوعًا التي يثيرها المشككون، حيث يدّعون أن وجود الشر يتنافى مع وجود إله كلي القدرة وكلي المحبة.
نلاحظ في هذا الاعتراض انه مبني على سوء فهم لطبيعة الله وطبيعة الشر.
يطرح المشككون الحجة التالية:
- إذا كان الله كلي القدرة، فهو يستطيع منع الشر.
- إذا كان الله كلي المحبة، فهو يريد منع الشر.
- الشر موجود.
- الخلاصة بحسب منطق المشككين: إما أن الله لا يستطيع منع الشر أو لا يريد منع الشر، وبالتالي لا يمكن أن يكون هذا الاله موجودًا.
الرد من منظور منطقي:
هذه الحجّة مبنية على سوء فهم لطبيعة الله ومقاصده وحكمته.
على سبيل المثال، الله يسمح بوجود الشر لفترة محدودة ليُظهر عواقب تمرُّد الإنسان على سيادة الله وسلطانه، بمعنى آخر اظهار الخلل المتأصّل في رغبة الانسان في استقلاله عن الله وعن بعضنا البعض كمؤمنين.
“وَقَالَ لآدَمَ: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلًا: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ».” (تك 3: 17-19).
“هكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ.” (رو 12: 5).
وبالتالي بدلاً من ان يكون الشر دليلا على عدم وجود الله، فهو في الحقيقة يؤكد ويعزز الرواية الكتابية عن العالم الساقط. بالإضافة إلى ذلك، تظهر قوة الله ومحبته من خلال تدبيره للفداء من خلال السيد المسيح (يوحنا 3: 16). من الناحية المنطقية، تسقط حجّة المشككين لأنها لا تأخذ في الاعتبار خطة الله النهائية للعدالة والمحبة.
إن وجود الشر لا يتناقض مع صفات الله، بل يعزز السرد الكتابي لعالم سقط في الخطيئة. الله في محبته وقدرته، قدّم الحل النهائي للشر وللبشرية من خلال الفداء بالمسيح، كما جاء في الكتاب: لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. (يوحنا 3: 16).
وليس ذلك فقط بل سيعيد الله في النهاية العدالة ويزيل كل أثر للشر كقول الكتاب:
“وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ».” (رؤ 21: 4).
هنا نلاحظ ضعف حجة المشكك، فالافتراض القائل إن الله ملزم بمنع الشر فورًا يتجاهل حكمته الإلهية وأهدافه السامية، كإظهار سيادته وتعليم الإنسان الدروس الأخلاقية الكبرى وغيرها من الاهداف. هذا التفكير الذي يعرضه المشكك هو اختزال غير منطقي لطبيعة الله وأفعاله.
منطقيا اذاً نستطيع القول بأنّ وجود الشر لا ينفي وجود إله كلي القدرة وكلي المحبة، بل يكشف عن الحاجة البشرية الملحّة إلى وجود الله ويؤكد سَرْد الكتاب المقدس عن سقوط الإنسان وفداء الله له. بذلك، يصبح المنطق أداةَ حاسمة لتفنيد الاعتراضات وإثبات انسجام العقيدة المسيحية مع العقل والحقائق.
دور المنطق في الرد على التناقضات المزعومة في الكتاب المقدس
من الاعتراضات الشائعة أيضًا وجود تناقضات مزعومة في الكتاب المقدس. يدّعي المشككون أن التناقضات بين بعض النصوص الكتابية تدحض مصداقية الكتاب وتؤكد عدم موثوقيته.
عند التمحيص والتدقيق والفحص في هذه الاعتراضات، يتبين أن العديد من التناقضات المزعومة تنبع من سوء فهم للسياق أو للمعنى المقصود من النصوص. إن المنطق يساعد على توضيح هذه القضايا الاشكالية من خلال التحليل الدقيق للغة والسياق والهدف من هذه النصوص بعناية.
على سبيل المثال، قد يُشير المشككون إلى الاختلافات في تفاصيل روايات القيامة بين الأناجيل كدليل على التناقض.
يكشف التحليل المنطقي أن هذه الروايات متكاملة تماما لا يشوبها أي تناقضات، بل هي متّسقة تماما عندما تُفهم في سياقها الصحيح. كل كاتب إنجيلي يسرد الحدث وفقًا للجانب الذي يراه مهمًا في توصيل الرسالة الإلهية، ولا يُقصد منها تقديم صورة متماثلة تمامًا من كل زاوية بل توصيل صورة متكاملة. تمامًا كما قد يركز شهود عيان مختلفون على تفاصيل متنوعة لحادث واحد.
إن الفروق بين النصوص لا تدحض موثوقية الكتاب المقدس، بل على العكس، تُظهر تنوعًا في الأسلوب والرؤية التي تكمّل بعضها البعض. يمكن للمنطق أن يوضح هذه الفروق ويُبين أن الكتاب المقدس يظل وثيقة متّسقة وموثوقة عندما يُفهم في سياقه الصحيح.
الأساس الكتابي للتفكير العقلاني؟
يشجع الكتاب المقدس على التفكير العقلاني والمنطقي، حيث يستخدم العديد من الأساليب والمفاهيم والحجج المنطقية داخل نصوصه.
على سبيل المثال قول بولس الرسول في رسالته الى رومية: “لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ.” (رو 1: 20).
هنا، يستخدم بولس الرسول المنطق ليبين أن الدليل على وجود الله واضح في الخليقة، بحيث لا يمكن لأحد أن يدّعي الجهل بوجوده.
لأن صفاته غير المنظورة، أي قدرته الأبدية وطبيعته الإلهية، تظهر بوضوح، منذ خلق العالم في الأشياء المصنوعة. فهكذا هم بلا عذر.”
بولس الرسول في هذا النص يقدم حُجّة منطقية مفادها أن من الواضح أن هناك خالقًا، وأن كل ما في الكون يشهد على وجوده وقدرته، وبالتالي لا يوجد عذر لمن ينكر وجود الله.
وبالمثل في رسالة كورنثوس الاولى، يستخدم بولس منطقًا مشابهًا للدفاع عن حقيقة القيامة. فيقول: “”وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ!” (1 كو 15: 17).
حُجَّة بولس هنا واضحة ومباشرة: إذا لم تكن القيامة قد حدثت، فإن الإيمان المسيحي كله يتهاوى. ولكن بما أن القيامة قد حدثت بالفعل، فهي تُشكل أساس الإيمان والرجاء في الحياة الأبدية.
كثيرا ما كان السيد المسيح ذاته يستخدم المنطق في تعاليمه. على سبيل المثال، في انجيل متى طرح يسوع معضلة منطقية على الفريسيين بشأن هويته. “وَفِيمَا كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ سَأَلَهُمْ يَسُوعُ قَائلًا: «مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ: «ابْنُ دَاوُدَ». قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبًّا؟ قَائِلًا: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِيني حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبًّا، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟» فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ بَتَّةً.” (مت 22: 41-46).
سألهم كيف يمكن أن يكون المسيح ابن داود وفي نفس الوقت رب داود. هذا السؤال كان تحديًا لفهمهم وأظهر قصور تفسيرهم للكتاب المقدس. من خلال هذا السؤال، أظهر يسوع براعته في استخدام التفكير المنطقي وحكمته الإلهية.
من خلال الكتاب المقدس، نرى أن العقلانية والتفكير المنطقي ليست أشياء غريبة على التعليم المسيحي، بل هما جزءًا لا يتجزأ من طريقة الكتاب المقدس في تقديم الحقائق الإيمانية.
أهمية المنطق في الخطاب اللاهوتي
يشكّل المنطق ركيزة أساسية في الخطاب اللاهوتي وفي الدفاع عن العقائد الكتابية. يقوم اللاهوت المسيحي على اساس ان الحقيقة متماسكة ومتّسقة وقابلة للفهم. بما أن السيد المسيح هو تجسيد للحقيقة عندما عرّف عن نفسه بقوله: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ.” (يو 14: 6). فإنه من الطبيعي والمنطقي أن تكون العقائد التي علّمها صادقة، منسجمة ومتّسقة منطقياً.
بالإضافة الى ذلك، يُعد المنطق اداةَ ضرورية للتمييز بين الحق والباطل.
في رسالة يوحنا الاولى يحذر يوحنا الرسول المؤمنين قائلاً: أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لاَ تُصَدِّقُوا كُلَّ رُوحٍ، بَلِ امْتَحِنُوا الأَرْوَاحَ: هَلْ هِيَ مِنَ اللهِ؟ لأَنَّ أَنْبِيَاءَ كَذَبَةً كَثِيرِينَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى الْعَالَمِ. (1يو 4: 1).
هذا التحذير يدعو المسيحيين إلى دراسة التعاليم بتمعُّن للتأكد من مطابقتها للكتاب المقدس، وهنا يظهر دور المنطق في الكشف عن المغالطات والتناقضات في التعاليم الزائفة.
ليس المنطق اداةَ لفهم العقائد اللاهوتية فقط، بل ايضا يُعَدُّ وسيلة أساسية لفحص ودحض الأفكار المغلوطة. باستخدام المنطق، يُمكن للمدافعين عن الإيمان اثبات اتّساق الحقائق الكتابية وموثوقيتها، مما يعزز إيمان المؤمنين ويمنحهم ثقة اكبر في مواجهة التعاليم المخالفة والافكار المغلوطة.
المنطق والإيمان: تكامُل لا تعارُض
غالبًا ما يُساء تصوير العلاقة بين المسيحية والعقل، فيُظَنُّ انهما نقيضان لا يجتمعان. لكن الحقيقة، كما يظهر من تعاليم الكتاب المقدس فإن الإيمان والمنطق غير متناقضين ولا يستبعد أحدهما الآخر، بل على العكس من ذلك، هما مكمّلان لبعضهما البعض.
يدعو السيد المسيح أتباعه إلى محبة الله بكل قلوبهم وأرواحهم وعقولهم “فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ.” (مت 22: 37). وهذا يشمل استخدام العقل للتفكير من خلال حقائق الكتاب المقدس، والدفاع عن العقيدة، والسيْر وفقًا لحكمة الله.
يوفر المنطق الإطار الهام الذي يساعد المسيحيين على فهم وشرح معتقداتهم والدفاع عنها بفعالية. فهو يساعد على توضيح التماسك الداخلي للعقائد المسيحية واتّساقها، مُبرزاً أن الإيمان بالله ليس إيمانًا أعمى، بل قائم على اساس عقلاني ومنطقي. إن دعوة الكتاب المقدس الى التفكير والبحث، مع بنية حججه المنطقية واهتمامه بالحقيقة تؤكد على اهمية العقل في حياة المسيحي.
من خلال المنطق، يستطيع المسيحيين والمهتمين بمجال الدفاعيات من تحقيق الوصيّة التي أوصى بها بطرس الرسول: “بَلْ قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ، بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ،” (1 بط 3: 15).
الخاتمة:
المنطق ليس مجرد أداةَ لفهم الايمان المسيحي فقط، بل هو أداة فعّالة في الدفاع عن العقيدة المسيحية واظهار الاتّساق بين الإيمان والعقل. يتمكن المسيحيون من تقديم حجج عقلانية متماسكة، تدعم صحة الكتاب المقدس وألوهية المسيح، وهكذا يجمع الإيمان المسيحي بين عمق الاحساس القلبي واتساق التفكير العقلي، مما يجعله تجربة شاملة متكاملة.
ليكون للبركة
ترجمة: Patricia Michael
What Role Does Logic Play in the Defense of Christian Doctrine?