Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تعاليم آباء الكنيسة ضد التهود والمتهودين – د. أنطون جرجس عبد المسيح

تعاليم آباء الكنيسة ضد التهود والمتهودين – د. أنطون جرجس عبد المسيح

تعاليم آباء الكنيسة ضد التهود والمتهودين – د. أنطون جرجس عبد المسيح

تعاليم آباء الكنيسة ضد التهود والمتهودين – د. أنطون جرجس عبد المسيح

 

 

إعداد

د. أنطون جرجس عبد المسيح

القاهرة – سبتمبر 2023م

 

 

الفهرست

تعاليم آباء الكنيسة ضد بدع التهود والمتهودين. 1

الآباء الرسوليون. 2

رسالة برنابا 2

إلغاء الذبائح والفرائض الناموسية. 2

الرسالة إلى ديوجنيتوس… 3

رفض المعتقدات والحرفية اليهودية. 3

ق. أغناطيوس الأنطاكي. 4

رفض التهود والمتهودين. 4

الرفض التام للتفاسير اليهودية. 4

الآباء المدافعون. 6

ق. يوستينوس الشهيد 6

إبطال العهد الجديد للعهد القديم 6

ق. إيرينيؤس أسقف ليون. 7

رفض التهود والارتداد إلى الناموس.. 7

التهود ورفض التجسُّد الإلهي. 7

ق. ميلتيوس أسقف ساردس… 9

الناموس العتيق ووقتية المثال. 9

إبطال مثال الناموس بحقيقة الإنجيل. 9

الآباء اليونانيون. 11

العلامة أوريجينوس… 11

التهود وإتباع ناموس اليهود 11

ق. أثناسيوس الرسولي. 11

التهود والتظاهر بالمسيحية. 11

التهود ورفض التبني لله الآب.. 12

التهود وتحريف تفسير نصوص الكتاب المقدس.. 13

التهود وإلباس اليهودية اسم المسيحية. 13

يوسابيوس القيصري.. 14

التهود والخلاص بالناموس والمسيح. 14

ق. باسيليوس القيصري الكبير. 15

الناموس هرم وشاخ. 15

ق. غريغوريوس النيسي. 16

الناموس ظل وصورة 16

ق. يوحنا ذهبي الفم. 16

الناموس القديم جزئي وناقص… 16

العهد الجديد أكثر أهمية من القديم 17

ق. كيرلس الإسكندري.. 18

كلمات الناموس مجرد رموز وظلال. 18

معرفة الناموس ناقصة. 19

عدم كمال الناموس.. 20

الخلاصة. 21

 

 

 

 

 

تعاليم آباء الكنيسة ضد بدع التهود والمتهودين

سوف نحاول في هذا البحث تسليط الضوء على قضية من أخطر القضايا التي واجهت الكنيسة، وهي قضية التهود، والتهود في معناه البسيط هو الارتداد عن المسيحية إلى الطقوس والعقائد والممارسات اليهودية، وتُعتبر هذه القضية من أخطر القضايا التي واجهت الكنيسة منذ نشأتها وحتى عصرنا هذا.

فلا يوجد عصر من العصور لم يتسلل فيه التهود إلى الكنيسة، ولا يوجد عصر من العصور لم يوجد فيه المتهودون المؤمنون بالأفكار والعقائد اليهودية بشكلٍ مباشرٍ أو بشكلٍ غير مباشر. ويتسلل التهود إلى الكنيسة بطريقة خفية من خلال دراسة الخلفية اليهودية للعهد الجديد من الناحية التاريخية والطقسية والعقائدية، وهذا شيء لا غبار عليه، ولكن عند التوغل في هذه الدراسة لدرجة تصل إلى تفسير العهد الجديد على مقياس العهد القديم فهذا يدق ناقوس الخطر، وينبئ عن انزلاق غير محسوس نحو التهود، وعودة الفكر اليهوديّ مرة أخرى ليسود الكنيسة في ثوبٍ جديدٍ، ويُعتبر هذا من أخطر الأمور على الإيمان المسيحيّ الأرثوذكسيّ، لأن الذين يقومون بذلك يقعون فريسة للتهود دون دراية بدافع دراسة الخلفية اليهودية لنصوص العهد الجديد، فيبدأ هنا الارتداد عن المسيحية للسقوط في هوة التهود.

سوف نستعرض في هذا البحث كيف واجه آباء الكنيسة قضية التهود منذ العصر الرسوليّ وفي القرون الأولى للمسيحية، وسوف نستعرض أهم صور التهود التي رفضها آباء الكنيسة وحاربوها بشدة، وسوف نطرح وجهة نظر آباء الكنيسة حول عقائد وممارسات وطقوس العهد القديم وعلاقتها بعقائد وممارسات وطقوس العهد الجديد.

 

 

الآباء الرسوليون

سوف نستعرض في هذا الجزء موقف الآباء الرسوليين من بدع التهود في بداية المسيحية منذ القرن الأول وما بعده، وسوف نرى كيف كانت الكنيسة تنظر إلى الناموس والذبائح اليهودية في العصر الرسوليّ.

رسالة برنابا

إلغاء الذبائح والفرائض الناموسية

يشير كاتب رسالة برنابا إلى رفض الله لكافة الذبائح والمحرقات والتقدمات اليهودية عن طريق أنبيائه، وأنه ألغى كل الأمور الناموسية لكي يكون ناموس ربنا يسوع المسيح الجديد خاليًا من نير الفروض والإجبار كالتالي:

لأن [الله] أعلن لنا عن طريق كل أنبيائه أنه لا يحتاج ذبائح، ولا محرقات، ولا تقدمات، قائلاً: ’لماذا كثرة ذبائحكم لي؟ يقول الرب. شبعتُ من محرقات الكباش ودهن الحملان، ولا أريد دم العجول والتيوس، ولا أن تأتوا لتظهروا أمامي. لأنه مَنْ طلب هذا من أيديكم؟ لا تسيروا في ساحتى مرةً أخرى. حينما تحملون لي دقيقًا فاخرًا، فهو بلا قيمة لي، وحين تُقدِّمون بخورًا فهو نجس، ولم أعد أحتمل أعياد أول الشهور والسبوت التي لكم‘ (إش 1: 11-13). وهكذا ألغى [الله] كل هذه الأمور، لكي يكون ناموس ربنا يسوع المسيح الجديد حاليًا من نير الإجبار، ولا يقبل تقدمة يُجبَر البشر على تقديمها“.[1]

ولكن بعد ذلك نجد البعض بمنتهى الغرابة ينادي بالإلغاء الجزئيّ للناموس اليهوديّ وفرائضه، وينادون بكل جرأة بأن أحكام الناموس اليهوديّ لازالت قائمة وسارية في المسيحية وعلى الكنيسة المسيحية، يا له من تعليم متهود فاسد!

الرسالة إلى ديوجنيتوس

رفض المعتقدات والحرفية اليهودية

يطلب كاتب الرسالة إلى ديوجنيتوس من المؤمنين المسيحيين ألا يتعلموا أيّ شيء بشأن المعتقدات والتأويلات اليهودية حول الطعام، وأيام السبوت، والختان، والصوم، والأعياد اليهودية، ويطلب منهم الابتعاد عن سخافات اليهود النجسة كالتالي:

”وبالنسبة لأولئك الذين يظنون أنهم يُقدِّمون له ذبائح دموية ورائحة دهن الذبائح، والمحرقات، ويعتقدون أنهم يُكرِّمونه بواسطة هذه التقدمات، فبالنسبة لي، فإن هؤلاء لا يختلفون شيئًا عن أولئك الذين يُقدِّمون هذه الكرامة للأوثان الصماء […] وأكثر من ذلك وسوستهم بخصوص الطعام، ومعتقداتهم بخصوص أيام السبوت، وتباهيهم الباطل بالختان، وزعمهم بخصوص الصوم وأوائل الشهور، فهذه أمور سخيفة، ولا تستحق أيّ حديث، وأنا لا أظن أنك تحتاج إلى أن تتعلَّم مني أيّ شيء من تلك الأمور […] أعتقد الآن، أنك قد تعلَّمت بشكلٍ كافٍ أن المسيحيين هم على حق في ابتعادهم عن سخافات اليهود النجسة هذه، وحرفيتهم الخادعة، وافتخارهم، ولكن بالنسبة لسر عبادتهم الخاصة، فلا تتوقع أن تستطيع تعلُّمها من إنسان“.[2]

ق. أغناطيوس الأنطاكي

رفض التهود والمتهودين

يرفض ق. أغناطيوس الأنطاكيّ التهود بكل أشكاله رفضًا قاطعًا مُستنكرًا أن يتلفظ البعض باسم يسوع المسيح، ولكنهم مازالوا يعيشون ويُفكِّرون كما يعيش ويُفكِّر اليهود، فليست المسيحية هي التي آمنت باليهودية، بل اليهودية بالمسيحية كالتالي:

”اِطرحوا عنكم الخمير الفاسد العتيق، وتحوَّلوا إلى الخمير الجديد الذي هو يسوع المسيح. وليكن هو ملح حياتكم حتى لا يفسد واحدٌ منكم، لأنكم من رائحتكم تُعرَفون. إنه من غير اللائق أن تتلفظ باسم يسوع المسيح، وأنت تعيش كما يعيش اليهود. فليست المسيحية هي التي آمنت باليهودية، بل اليهودية بالمسيحية، التي فيها اجتمع كل إنسان يؤمن بالله“.[3]

الرفض التام للتفاسير اليهودية

يُشدِّد ق. أغناطيوس الأنطاكيّ على مقاطعة أيّ أحد يُفسِّر المسيحية من خلال التفاسير اليهودية، ويُشبِّه هؤلاء المتهودين الذين لا يتحدَّثون عن المسيح بتاتًا بأنهم كشواهد القبور الحجرية وكقبور الأموات تحمل فقط أسماء الأشخاص المائتين كالتالي:

إذَا فسَّر لكم أحدٌ وفقًا لليهودية، فلا تسمعوا له. لأنه مِن الأفضل أن تسمعوا مختونًا يكرز بالمسيحية، مِن أن تسمعوا غير مختونٍ يكرز باليهودية. وإذَا لم يكلِّمكم أيٌّ منهما عن يسوع المسيح، فهما بالنسبة لي كشواهد القبور الحجرية، وكقبور الأموات، كُتِبَ عليها فقط أسماء الأشخاص الموتى“.[4]

 

 

الآباء المدافعون

سوف نستعرض بداية وتطور حركة التهود التي أزعجت الكنيسة في القرون الأولى لأنها كانت رافضة لرسالة الإيمان المسيحيّ، وذلك في كتابات الأباء المدافعين في القرون الأولى للمسيحية.

ق. يوستينوس الشهيد

إبطال العهد الجديد للعهد القديم

يُؤكِّد ق. يوستينوس الشهيد في القرن الثاني على رفض الكنيسة للتهود والمتهودين، بل ويشير إلى أن ناموس المسيح قد أبطل الناموس الموسويّ وفرائضه ووصاياه، وأن المقصود منه كان اليهود فقط وليس المؤمنين المسيحيين. بل ويُصرِّح ق. يوستينوس الشهيد تصريحًا، قد يبدو للمتهودين في أيامنا هذه تصريحًا صادمًا، وهو أن العهد الجديد قد أبطل العهد القديم، وأنه حلَّ محله، ولا يُفرَض علينا أيً من فرائضه أو وصاياه. فهل كان ق. يوستينوس الشهيد بهذا التصريح ماركيونيًا كما يدَّعي البعض كذبًا في هذه الأيام على الناطقين بالحق الأرثوذكسيّ بأنهم ماركيونيون؟ فيقول التالي:

غير أن رجاءنا ليس بموسى أو الناموس، وإلا صارت عاداتنا كعاداتكم. وقد قرأت أنه ينبغي أن يكون هناك ناموسًا حاسمًا وعهدًا مُلزِمًا أكثر من العهود الأخرى، يحترمه جميع الذين يسعون إلى ميراث الله. فإن الناموس الذي أُعطِيَ على جبل حوريب قد أُبطِلَ وكان المقصود به اليهود فقط. بينما الناموس الذي أتحدَّث عنه أنا هو ببساطة لجميع الناس. وكما أن أيّ قانون جديد إذَا تعارض مع قانون القديم، فهو يُبطِل القديم، فهكذا العهد الجديد يحل محل القديم. لقد أُعطِيَنا ناموسًا أبديًا كاملاً، وهو المسيح ذاته، وأخذنا عهدًا جديرًا بالثقة لن يكون بعده أيّ ناموس أو فريضة أو وصية“.[5]

ق. إيرينيؤس أسقف ليون

رفض التهود والارتداد إلى الناموس

يُوضِّح ق. إيرينيؤس في صراعه مع التهود أن الرب لا يريد للمؤمنين المسيحيين أن يرتدوا إلى ناموس موسى، لأن الناموس قد تحقَّق بالمسيح، وأننا نخلُص بواسطة الإيمان والمحبة نحو ابن الله وبجدة الحياة بمعونة الكلمة كالتالي:

”وأيضًا يُعرِّفنا إشعياء أن الرب لا يريد للمؤمنين أن يرتدوا إلى ناموس موسى، لأن الناموس قد تحقَّق بالمسيح، لكن بواسطة الإيمان والمحبة نحو ابن الله نخلُص بجدة الحياة بمعونة الكلمة، بقوله: ’لا تذكروا الأوليات والقديمات لا تتأملوا بها. هأنذا صانع أمرًا جديدًا. الآن ينبت. ألا تعرفونه. اجعل في البرية طريقًا في القفر أنهارًا. يُمجِّدني حيوان الصحراء الذئاب وبنات النعام لأني جعلت في البرية ماء أنهارًا في القفر لأسقي شعبي مختاري. هذا الشعب جبلته لنفسي، يُحدِّث بفضائلي‘ (إش 43: 18-20 سبعينية)“.[6]

التهود ورفض التجسُّد الإلهي

يتحدَّث ق. إيرينيؤس عن شيعة الأبيونيين، وهم فرقة مسيحية مُتهودة كانت تُحافِظ على التقاليد والتفاسير اليهودية جنبًا إلى جنب مع التفاسير المسيحية، وكانوا يُوؤِّلون نصوص العهد الجديد في ضوء نصوص العهد القديم، حيث يرفضون عقيدة التجسُّد الإلهيّ واتحاد الله بالإنسان في المسيح كالتالي:

”باطلون أيضًا هم الأبيونيون، الذين لا يقبلون الإيمان في نفوسهم بالاتحاد بين الله والإنسان، بل يظلون في الخميرة القديمة التي للميلاد الطبيعيّ، ولا يريدون أن يفهموا أن ’الروح القدس حلَّ على مريم، وقوة العلي ظلَّلتها‘ (لو 1: 35)، لذلك، فالذي وُلِدَ منها قدوس وابن العلي، الله آب الكل، الذي تمَّم تجسُّد هذا الكائن، وأظهر نوعًا جديدًا من الولادة، حتى أنه كما بالولادة السابقة ورثنا الموت، هكذا بهذه الولادة الجديدة نرث الحياة.

لذلك، هؤلاء الناس يرفضون مزج الخمر السمائيّ، ويريدون أن يكون ماء العالم فقط، فلا يقبلون الله لكي يكون لهم اتحاد معه، بل يظلون في ذلك الآدم، الذي انهزم وطُرِدَ من الفردوس، غير مُقدِّرين أنه كما في بداية خلقتنا في آدم أن نسمة الحياة التي صدرت من الله إذ اتَّحدت بما كان قد شُكِّلَ قبلاً، فإنها أحيت الإنسان، وأظهرته ككائن مُنِحَ له عقل، هكذا أيضًا في أزمنة النهاية، فإن كلمة الآب وروح الله، إذ قد صارا مُتَّحِدين بالجوهر القديم لخلقة وتكوين آدم، جعلا الإنسان حيًا كاملاً، ومستعدًا لتقبل الآب الكامل، حتى كما في آدم الطبيعيّ، كُنا جميعًا مائتين، هكذا في الروحانيّ نصير كُلنا أحياء“.[7]

ق. ميلتيوس أسقف ساردس

الناموس العتيق ووقتية المثال

يشير ق. ميلتيوس أسقف ساردس إلى سر الفصح بأنه كان قديمًا بحسب الناموس، ولكنه جديدًا بحسب الكلمة نفسه، وأنه كان مؤقتًا بحسب المثال، ولكنه خالدًا بحسب النعمة كالتالي:

”فافهموا، إذًا، يا أحبائي، كيف يكون سر الفصح: جديدًا وقديمًا، أبديًا ومؤقتًا، قابل للفساد وغير قابل للفساد، زائلاً وخالدًا. قديمًا بحسب الناموس ولكنه جديدًا بحسب الكلمة. مؤقتًا بحسب المثال، لكنه خالدًا بحسب النعمة. قابل للفساد بذبح الحمل، وغير قابل للفساد بحياة الرب. زائلاً بدفنه في الأرض، وخالدًا بقيامته من بين الأموات. قديم هو الناموس، ولكن جديد هو الكلمة. مؤقت هو المثال، أبدية هي النعمة […] ففي الخروف كان المثال، وفي الرب ظهرت الحقيقة“.[8]

إبطال مثال الناموس بحقيقة الإنجيل

يعقد ق. ميلتيوس مقارنة بين الناموس والإنجيل، وبين الشعب الإسرائيليّ والكنيسة، ويُؤكِّد على أن الناموس هو كتاب الأمثال والرموز، ولكن الإنجيل هو شرح الناموس وكماله، وليس العكس كما يدَّعي المتهودون الجدد ذلك، ويُحاولون تفسير العهد الجديد في ضوء العهد القديم. كما يشير ق. ميلتيوس إلى إبطال مثال الناموس مانحًا صورته للإنجيل الذي هو حقيقيّ بالطبيعة، وهكذا بطُل الشعب الإسرائيليّ لمَّا قامت الكنيسة كالتالي:

”فشعب إسرائيل كان مثال الصورة الأولية، والناموس كان كتاب الأمثال؛ والإنجيل كان شرح الناموس وكماله، والكنيسة هي مستودع الحق. وهكذا، فالمثال كان مُكرَّمًا قبل الحقيقة، والرمز كان عجيبًا قبل التفسير؛ أعني أن الشعب كان مُكرَّمًا قبل أن تُشيَّد الكنيسة، والناموس كان عجيبًا قبل أن يُنير الإنجيل. ولكن، لمَّا شُيَّدت الكنيسة، وظهر الإنجيل، بطُلَ المثال مانحًا قوته إلى ما هو حقيقيّ، وأُكمل الناموس مُسلِّمًا قوته للإنجيل. وبنفس الطريقة، حين بطُلَ المثال مانحًا صورته لِما هو حقيقيّ بالطبيعة، وحين أُكمِلَ الرمز مُستنيرًا بالتفسير، هكذا، أُكمِلَ الناموس لمَّا أضاء الإنجيل، وبطُلَ الشعب لمَّا قامت الكنيسة؛ ونحلَّ المثال بظهور الرب. واليوم، ما كان مُكرَّمًا مرةً بات مُحتقرًا، بعد أن ظهر ما هو مُكرَّمًا بالطبيعة“.[9]

 

 

الآباء اليونانيون

سوف نبحث في هذا الجزء صراع الآباء اليونانيين مع بدع التهود والمتهودين التي ظلَّت تلاحق الكنيسة على مر عصورها وإلى يومنا هذا.

العلامة أوريجينوس

التهود وإتباع ناموس اليهود

يشير العلامة أوريجينوس إلى جماعة الأبيونيين المتهودين الذين كانوا يتظاهرون بالمسيحية، حيث كانوا يقبلون بيسوع ويفتخرون بأنهم مسيحيون، ولكنهم مازالوا يريدون العيش وفق ناموس اليهود كجموع اليهود، ولكن يُقرَّ العلامة السكندريّ بأنهم يُقدِّمون أفكارًا غريبةً لا تنسجم مع العقائد التقليدية التي تسلَّمناها من الرب يسوع لنكون مسيحيين كالتالي:

ولنعترف بأن البعض يقبلون يسوع أيضًا، ولهذا السبب يفتخرون بأنهم مسيحيون مع أنهم لا يزالون يريدون العيش وفق ناموس اليهود كجموع اليهود. هذه هي طائفتا الأبيونيين، الأولى تعترف كما نفعل بأن يسوع وُلِدَ من عذراء، والثانية تؤمن بأنه لم يُولَد فيها بهذه الطريقة، ولكن مثل الرجال الآخرين“.[10]

ق. أثناسيوس الرسولي

التهود والتظاهر بالمسيحية

يُشبِّه ق. أثناسيوس الآريوسيين بأنهم مثل اليهود، لا يؤمنون بألوهية المسيح، ويطالبهم بأن يُختتنوا مثل اليهود، ولا يتظاهرون بالمسيحية، ويحاربونها في الخفاء، وهذه هي صورة التهود التي تتسلل دائمًا إلى الكنيسة، حيث يتظاهر البعض بالمسيحية والدفاع عن العقائد المسيحية، بل ويلبسون ثياب المسيحية، ولكن للأسف عقولهم وقلوبهم وأفكارهم مملوءة ومتشبعة بأفكار التهود وعقائده غير المسيحية قائلاً:

لماذا، إذًا، وهم يعتقدون مثل اليهود، لا يختتنون مثلهم، بل يتظاهرون بالمسيحية، بينما هم يحاربونها، لأنه لو كان غير موجود، أو لو كان موجودًا ثم رُقِيَ فيما بعد، فكيف خُلِقَت كل الأشياء بواسطته، وكيف يفرح به الآب لو لم يكن كاملاً؟“.[11]

التهود ورفض التبني لله الآب

ويصف ق. أثناسيوس بدعة الآريوسيين مُنكري ألوهية اللوغوس، بأنها بدعة المتهودين المعاصرين، حيث يشرح المتهودون الثالوث بصورة تتطابق مع الشرح الآريوسيّ، بحيث أن السامع لا يمكنه إدراك الفرق بين الأرثوذكسية والتهود أثناء الحديث، ويتعجب ق. أثناسيوس من كلام المتهودين الجدد الذين يرفضون بنوة الله الآب، وإعلان الابن المتجسِّد عنه كأب حقيقيّ للبشر كالتالي:

”وهؤلاء المشارِكون الأولون كيف لا يُشارِكون اللوغوس؟ وهذا التعليم ليس حقيقيًا، بل هو بدعة المتهودين المعاصرين. فكيف، إذًا، في هذه الحالة –يمكن لأيّ أحد على الإطلاق، أن يتعرَّف على الله كأب؟ لأن من غير المستطاع أن يحدث التبني بغير الابن الحقيقيّ، وهو نفسه القائل: ’ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومَن أراد الابن أن يُعلِن له‘ (مت 11: 27)“.[12]

التهود وتحريف تفسير نصوص الكتاب المقدس

يُشبِّه ق. أثناسيوس الآريوسيين، بأنهم مثل اليهود يتبنون أسلوب قيافا في تحريف معاني أقوال الكتاب المقدَّس، حيث أنهم بذلك يريدون أن يتهودوا، وهكذا يُحرِّفون معاني الكتاب المقدَّس لخدمة أغراضهم غير الأرثوذكسية، بل ولا يستخدمون الأقوال الرسولية في العهد الجديد كالتالي:

”ولكنهم بدلاً من المعنى الحقيقيّ، فإنهم يلقون بذور سم هرطقتهم الخاصة، لأنهم ’لو عرفوا لما صلبوا رب المجد‘ (1كو 2: 8)، ولما كانوا يُحرِّفون معاني أقوال الكتاب الحسنة. إذًا، فإنْ كانوا يتبنون أسلوب قيافا صراحةً، فإنهم يكونون تبعًا لذلك قد قرَّروا أن يتهودوا، حتى أنهم يجهلون المكتوب بأنه ’حقًا سيسكن الله على الأرض‘ (زك 2: 10)، دعهم لا يفحصون الأقوال الرسولية، لأن هذا ليس من سمة اليهود“.[13]

التهود وإلباس اليهودية اسم المسيحية

ويُحارِب ق. أثناسيوس تهود الآريوسيين، الذين يتظاهرون بالمسيحية، ولكنهم في حقيقتهم ينكرون حقيقة التجسُّد الإلهيّ، وينكرون ألوهية وأزلية المخلِّص، مثل اليهود، فيدعوهم أن يُختتنوا ويتهودوا علانيةً. نفس االأسلوب الذي يتبعه المتهودون في كل عصر، يتظاهرون بالمسيحية، وهم ينكرون في داخلهم العقائد المسيحية الأرثوذكسية، ويحاولون إلباس اليهودية اسم المسيحية كالتالي:

”إذًا، طالما أن هذا الضلال هو يهوديّ، ويُوصَف هكذا نسبةً إلى يهوذا الخائن، فدعهم إذًا يعترفون صراحةً بأنهم تلاميذ قيافا وهيرودس، بدلاً من أن يُلبِسوا اليهودية اسم المسيحية، ولينكروا تمامًا كما سبق أن قُلنا حضور المخلِّص في الجسد، لأن هذا الإنكار أقرب إلى بدعتهم.

أو إنْ كانوا يخافون أن يُختتنوا ويتهودوا علنًا بسبب خضوعهم للملك قسطنطيوس، ولأجل أولئك الذين خُدِعوا منهم، إذًا، فدعهم لا يقولون ما يقوله اليهود، لأنهم إنْ تخلوا عن الاسم فيلزمهم عن حق أن يرفضوا العقيدة المرتبطة بالاسم، لأننا نحن مسيحيون. أيها الآريوسيون –نعم نحن مسيحيون ونحن نتميَّز بأننا نعرف جيدًا ما تقوله الأناجيل عن المخلِّص، ونحن لا نرجمه مع اليهود عندما نسمع عن ألوهيته وأزليته، كما أننا لا نعثر معكم، في الكلمات المتواضعة التي قالها من أجلنا كإنسان“.[14]

يوسابيوس القيصري

التهود والخلاص بالناموس والمسيح

يتحدَّث يوسابيوس القيصريّ عن جماعة المتهودين التي تُدعَى بـ ”الأبيونية“، التي نادت بأن المسيح مُجرَّد إنسانًا عاديًا، وأنه تبرَّر فقط بسبب فضيلته السامية، وإنه كان ثمرة لاجتماع رجل مُعيَّن مع القديسة مريم، ويعتقدون بأنه مِن الضروريّ الاحتفاظ بالناموس الطقسيّ، لأنهم لا يستطيعون الخلاص بالإيمان بالمسيح فقط كالتالي:

”وقد كان الأقدمون مُحقين إذ دعوا هؤلاء القوم ’أبيونيين‘ لأنهم أعتقدوا في المسيح اعتقادات فقيرة ووضيعة. فهم اَعتبروه إنسانًا بسيطًا عاديًا، قد تبرَّر فقط بسبب فضيلته السامية، وكان ثمرة لاجتماع رجل مُعيَّن مع مريم. وفي اعتقادهم أن الاحتفاظ بالناموس الطقسيّ ضروريّ جدًا، على أساس أنهم لا يستطيعون أن يخلُصوا بالإيمان بالمسيح فقط وبحياة مماثلة. […] وقد حافظوا مثلهم على السبت وسائر نظم اليهود، ولكنهم في نفس الوقت حافظوا على أيام الرب مثلنا كتذكار قيامة المخلِّص. ولهذا أُطلِقَ عليهم اسم ’أبيونيون‘ الذي يُعبِّر عن فقرهم في التفكير. لأن هذا هو الاسم الذي يُطلَق على رجلٍ فقير بين العبرانيين“.[15]

ق. باسيليوس القيصري الكبير

الناموس هرم وشاخ

يُشدِّد ق. باسيليوس الكبير على أننا ينبغي أن نعبد الله لا بالمعنى القديم للحرف، بل بالمعنى الجديد للروح. لأنه مَن لا يلتزم بحرف الناموس، بل بفهم روح الناموس، هذا يغني للرب أغنية جديدة كالتالي:

”’غنوا له أغنية جديدة‘ (مز 33: 3) بمعنى، أن تعبدوا الله، ليس بالمعنى القديم للحرف، بل بالمعنى الجديد للروح. فهذا الذي لا يلتزم بحرف الناموس، بل بفهم روح الناموس، هذا يُغنِي للرب أغنية جديدة. لأن ذلك الذي هرم وشاخ، قد مضى وانقضى من الوعد. أمَّا نحن فقد تَبِعنا الترنيمة الجديدة والمتجدِّدة التي لتعليم الرب، والذي يُجدِّد مثل النسر شبابنا (مز 3: 1-5)، عندما يفنى إنسان الخارج، ونتجدَّد يوما فيوم“.[16]

ق. غريغوريوس النيسي

الناموس ظل وصورة

يرى ق. غريغوريوس النيسيّ أن الناموس الذي أُعطِيَ منذ البدء هو ظل وصورة لمَّا سيأتي، لذا فإنه يظل غير صالح للمعارك الحقيقية، ولكن المسيح هو مُتمِّم الناموس كالتالي:

والناموس الذي أُعطِيَ منذ البدء كظلٍ وصورةٍ لمَّا سيأتي، يظلُّ غير صالحٍ للمعارك الحقيقية (عب 8: 5). وقائد الجيش هو الذي ’يُتمِّم الناموس‘؛ وهو الذي بُشِّر به مِن قبل وكان مُشترِكًا في الاسم مع خليفة موسى [يشوع] الذي كان على رأس جيش إسرائيل“.[17]

ق. يوحنا ذهبي الفم

الناموس القديم جزئي وناقص

يشير ق. يوحنا ذهبيّ الفم إلى أن المعرفة بناموس العهد القديم كانت جزئية وناقصة إذَا ما قُورنت بمعرفة العهد الجديد الآتية، وهكذا يُبطل الجزئيّ والناقص بالمعرفة الأخرى الكاملة، لأنه متى جاء الكامل فحينئذٍ يبطل ما هو بعض، فهل يجرؤ أحد المتهودين الجدد على الإدعاء بأن ذهبيّ الفم كان ماركيونيًا أو يتبع فكر الهرطقة الماركيونية؟ حيث يقول التالي:

”مِن كل هذه الاعتبارات يتضح أنه ليس مِن أيّ سوء في ناموس العهد القديم فشل في أن يأتي بنا، وإنما لأنَّ الوقت الآن هو وقت الوصايا الأسمى. وإنْ كان أنقص من الجديد فلا يعني هذا أنه شرير: وإلا بناءً على هذا المبدأ سيكون الناموس الجديد ذاته في الحالة نفسها شريرًا. فإن معرفتنا، في الحقيقة، إنْ قُورنت بالمعرفة الآتية، فهي نوع من الأمر الجزئيّ والناقص الذي يبطل بمجيء المعرفة الأخرى (الكاملة). يقول: ’لكن متى جاء الكامل فحينئذٍ يبطل ما هو بعض‘ (1كو 13: 10)، كما حدث للناموس القديم من خلال الجديد. ومع ذلك فنحن لا نلوم الناموس الجديد على هذا، لأنه يُفسِح المجال لحصولنا على الملكوت، لكنا ندعوه عظيمًا بسبب هذا كله“.[18]

العهد الجديد أكثر أهمية من القديم

يناقش ق. يوحنا ذهبي الفم معضلة صعوبة تفسير نبوات العهد القديم وسهولة تفسير العهد الجديد، رغم أن العهد الجديد يتحدَّث في أمور أكثر أهمية من العهد القديم، مثل: ملكوت السموات، وقيامة الأموات، والخيرات التي لا تُوصَف قائلاً:

”فدعونا نفتح آذاننا، طالما سوف نستمع إلى ألغاز نبوية لأن أقوال الأنبياء تُشبِه الألغاز، وتوجد صعوبة شديدة لفهمها في العهد القديم كما أن أسفاره عسرة الفهم، بينما العهد الجديد أكثر وضوحًا وأكثر سهولةً. ويمكن لأيّ أحد أن يتساءل ولماذا قد دُوِّن العهد القديم بهذه الطريقة، مع أن العهد الجديد يتحدَّث في أمور أكثر أهمية مثل ملكوت السماوات، وعن قيامة الأموات، وعن الخيرات التي لا تُوصَف وتتجاوز حدود العقل البشريّ؟“.[19]

ق. كيرلس الإسكندري

كلمات الناموس مجرد رموز وظلال

يدحض ق. كيرلس الإسكندريّ بدع المتهودين بضرورة إتباع الناموس، حيث يُؤكِّد على أن كلمات أسفار موسى هي مُجرَّد ظلال ورموز لكلمات المخلِّص الرب يسوع المسيح، لأن كلمات المسيح أسمى وهي الحق، فهل يمكن أن يتجرأ المتهودون الجدد في عصرنا على الإدعاء بأن ق. كيرلس الإسكندريّ كان ماركيونيًا في جعله لكلمات المسيح أسمى وأحق من كلمات أسفار موسى؟! فيقول التالي:

”قد يظن وبشكلٍ خاطئ أن أسفار موسى تفوق كلمات المخلِّص. لأن هذا ما تبدو عليه الآية بحسب الظاهر، وبقدر ما يقول قائل، معتبرًا الآية دون تدقيق، تسبغ على أسفار موسى شهرة أكثر من كلمات المخلِّص. لأنه بقوله: ’فإن كُنتم لستم تصدقون كُتب ذاك، فكيف تصدقون كلامي‘ (يو 5: 47). فإنه بطريقة ما يعطينا أن نفهم أن كتب موسى في موضع أسمى من كلماته هو. لكن طبيعة الأمر إذَا ما تفحصناه بعمقٍ سوف يكشف لنا عن مدى حماقة تلك الفكرة البعيدة عن التصديق والقبول، لأنه كيف يمكن أن تُعرَف كتب موسى بأنها تفوق كلمات المخلِّص، بينما كلماته كانت رموزًا وظلالاً وكلمات المسيح هي الحق؟“.[20]

معرفة الناموس ناقصة

يرى ق. كيرلس أن تعليم الناموس لم يكن كافيًا لتتميم حياة التقوى في خدمة الله، ولم يُكمِّل شيئًا. ويرى أن المعرفة التي أُعطِيت عن الله في الناموس هي معرفة ناقصة، ولكن يُعلِّم ربنا يسوع المسيح بأمورٍ أفضل مما كانت تحت الناموس. فهل يجرؤ أحد المتهودين الجدد في عصرنا على اتهام ق. كيرلس الإسكندريّ، الملقَّب بـ ”عمود الدين“، وبـ ”ختم الآباء“، بأنه كان ماركيونيًا؟ حيث يقول التالي:

”لأنه كما أن الناموس حينما أتى بهذا التعليم، الذي لم يكن كافيًا لتتميم حياة التقوى في خدمة الله، لم يُكمِّل شيئًا. هكذا أيضًا المعرفة التي أُعطِيت عن الله تحت الناموس كانت ناقصة، وكانت فقط تستطيع أن تمنع الناس من عبادة الآلهة الكاذبة، وتُقنِعهم أن يعبدوا الإله الحقيقيّ الواحد، لأنه يقول: ’لا يكن لك آلهة أخرى أمامي‘ (خر 20: 3)، و ’للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد‘ (مت 4: 10 من تث 6: 13).

ولكن يُعلِّم ربنا يسوع المسيح بأمور أفضل من التي كانت تحت الناموس، ويُعلِّم تعليمًا أوضح من وصية الناموس، ويُقدِّم للجميع معرفةً أفضل وأوضح من معرفة العهد القديم. لأنه أوضَّح لنا بأن وضع نفسه أمامنا على أنه صورة الآب قائلاً: ’مَن رآني فقد رأى الآب‘ (يو 14: 9). وأيضًا ’أنا والآب واحد‘ (يو 10: 30)“.[21]

عدم كمال الناموس

يشير ق. كيرلس إلى أن المسيح أنقص من قوانين الناموس، وأضاف إليها مُحوِّلاً الرمز إلى الحقيقة، فالمسيح لم يكن مثل الكتبة الذين كانوا يُطبِّقون تعليم الناموس في كل مرة في أحاديثهم معه، بل لم يكن المسيح يتبع الرموز التي كانت في كتب الناموس كأنه مُستعبَد لها، بل كانت كلمته مُميَّزةً بالقوة الإلهية كالتالي:

”لأن الكتبة كانوا يُطبِّقون تعليم الناموس في كل مرة في أحاديثهم معهم [أي اليهود]، أمَّا ربنا يسوع المسيح فلم يكن يتبع الرموز التي في كتب الناموس كأنه مُستعبَد لها، بل إذ هو يجعل كلمته مميَّزةً بالقوة الإلهية، فإنه يُنادِي: ’سمعتم إنه قيل في القديم لا تزن. أمَّا أنا فأقول لكم […] لا تشتهي‘ (مت 5: 27، 28). رغم أن الناموس يقول صراحةً إنه لا ينبغي لأيّ واحد أن يضيف على قوانين الله أو يُنقِص منها. ولكن المسيح أنقص منها وأيضًا أضاف إليها، مُحوِّلاً الرمز إلى الحقيقة. لذلك، فلا يمكن أن يُحسَب أنه مِن بين الذين هم تحت الناموس، أيّ مِن بين المخلوقات، لأن مَن وُضِعت على طبيعته وصية العبودية، يكون بالضرورة تحت الناموس“.[22]

تعاليم آباء الكنيسة ضد التهود والمتهودين – د. أنطون جرجس عبد المسيح

 

الخلاصة

نخرج من هذا البحث ببعض النتائج الهامة والضرورية، وهي أن مجال الدراسات اليهودية هو مجال بحثيّ وأكاديميّ مهم في فهم الخلفية الحضارية، والتاريخية، والاجتماعية، والدينية لنصوص العهد الجديد، ولكن تفسير عقائد وتعاليم العهد الجديد ينبغي أن يكون في ضوء عمل المسيح وتدبيره للخلاص، وليس في ضوء تعاليم العهد القديم العتيق.

حيث يُؤكِّد آباء الكنيسة الجامعة على أن قد تحرَّرنا من أحكام ووصايا الناموس اليهوديّ، وحارب آباء الكنيسة بدع التهود والمتهودين في القرون الأولى منذ نشأة المسيحية، متمثلة في جماعة الأبيونيين وغيرهم من المسيحيين المتهودين، الذين كانوا يتظاهرون بقبول المسيحية، ولكنهم مازالوا يتبعون ناموس اليهود وتفاسيرهم وتأويلاتهم، ويقومون بتطبيقها في تفسير نصوص العهد الجديد، وهو ما نراه الآن يحدث في عصرنا الحديث تحت دعوى دراسة الخلفية اليهودية للأناجيل والرسائل على اعتبار أن المسيح والرسل كانوا يهودًا في الأصل، ولكن هذه في الحقيقة دعوات للارتداد إلى التهود بصورةٍ مُقنَّعةٍ وغير واضحة.

لقد أكَّد جميع الآباء والمعلمين الكنسيين بلا استثناء في القرون الأولى للمسيحية على أن العهد الجديد قد أبطل وصايا وشرائع العهد القديم، لأن العهد القديم كان مُجرَّد ظل وصورة ورمز للعهد الجديد. كما واجه آباء الكنيسة خطر التهود والارتداد إلى اليهودية، الذي بدا واضحًا في دخول التفاسير والتأويلات اليهودية للعقائد المسيحية الأساسية، فحذَّر آباء الكنيسة المؤمنين الحقيقيين من الانسياق وراء هذه المعتقدات والتفاسير والتأويلات اليهودية. وناشد آباء الكنيسة المؤمنين المسيحيين الحقيقيين عدم التعاطي مع هذه المعتقدات والأفكار اليهودية الدخيلة على إيمان الكنيسة المسلَّم من المسيح إلى الرسل.

وأشار آباء الكنيسة أيضًا إلى أن تعاليم وناموس العهد القديم هي تعاليم رمزية ومؤقتة بطُلت بمُجرَّد مجيء المرموز إليه وهو شخص الرب يسوع نفسه، مُتمِّم الناموس ومُكمِّله، وحجر الزاوية لكنيسة العهد الجديد. كما أكَّد آباء الكنيسة على أن تعاليم الناموس والعهد القديم هي تعاليم جزئية وناقصة كمُلت بمجيء تعاليم العهد الجديد الأسمى والأكمل، وأنه حينما يأتي الكامل فحينئذٍ يبطُل كل ما هو جزئيّ وناقص.

وعندما كان آباء الكنيسة يصفون تعاليم العهد الجديدة بتلك الأوصاف، لم يخشوا من الاتهامات بالهرطقة الماركيونية، التي يُطلِقها البعض في أيامنا هذه عن جهل وعدم وعي، على كل مؤمن حقيقيّ يريد التمسُّك بتعاليم الأرثوذكسية كما هي في الكتاب المقدَّس، وكما شرحها آباء الكنيسة بكل أمانة وتقوى. فهل يجرؤ هؤلاء المتهودون الجدد على إطلاق هذه الاتهامات الباطلة على آباء الكنيسة الأرثوذكسيين في سياق وصفهم لتعاليم العهد القديم، بأنها تعاليم ناقصة وجزئية عند مقارنتها بتعاليم العهد الجديد الكاملة والسامية؟!

[1] الآباء الرسوليون، ترجمة: مجموعة من المترجمين، (القاهرة: مركز باناريون للتراث الآبائي، 2019)، رسالة برنابا 2: 4-6، ص 39، 40.

[2] المرجع السابق، الرسالة إلى ديوجنيتوس 3: 5؛ 4: 1-6، ص 429، 430.

[3] المرجع السابق، رسالة ق. أغناطيوس الأنطاكي إلى كنيسة مغنيسيا 10: 2، 3، ص 336، 337.

[4] المرجع السابق، رسالة ق. أغناطيوس الأنطاكي إلى كنيسة فيلادلفيا 6: 1، ص 356، 357.

[5] القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد (الدفاعان والحوار مع تريفون ونصوص أخرى)، ترجمة: أ. آمال فؤاد، (القاهرة: مركز باناريون للتراث الآبائي، 2012)، الحوار مع تريفون اليهودي: 11، ص 148، 149.

[6] إيرينيؤس (قديس)، برهان الكرازة الرسولية، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2009)، الفصل 89، ص 146.

[7] إيرينيؤس (قديس)، ضد الهرطقات مج2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2019)، 5: 1: 3، ص 274.

[8] ميلتيوس أسقف ساردس (قديس)، رحلة عبورنا إلى القيامة (العظة الفصحية)، ترجمة: القس لوقا يوسف، (الإسكندرية: كنيسة مار جرجس سبورتنج، 2009)، الفصول 2-4، ص 25-27.

[9] المرجع السابق، الفصول 40-43، ص 43.

[10] أوريجينوس (علامة)، ضد كلسس ج2، ترجمة: القس بولا رأفت، (القاهرة، 2022)، 5: 61، ص 269.

[11] أثناسيوس (قديس)، المقالات الثلاثة ضد الآريوسيين، ترجمة: مجموعة من المترجمين، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017)، 1: 11: 38، ص 104.

[12] المرجع السابق، 1: 11: 39، ص 106.

[13] المرجع السابق، 1: 13: 53، ص 130، 131.

[14] المرجع السابق، 3: 26: 28، ص 329.

[15] يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة، ترجمة: القمص مرقس داود، (القاهرة: مكتبة المحبة، 1999)، 3: 27، ص 130.

[16] باسيليوس الكبير (قديس)، تفسير سفر المزامير ج 1، ترجمة: د. سعيد حكيم، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2020)، عظة 6: 2، ص 186، 187.

[17] غريغوريوس النيسي (قديس)، حياة موسى أو الكمال في مجال الفضيلة، ترجمة: الأب حنا الفاخوري، (لبنان: منشورات المكتبة البولسية، 1996)، القسم الثاني، ص 85.

[18] يوحنا ذهبي الفم (قديس)، شرح إنجيل متى ج 1، ترجمة: د. عدنان طرابلسي، (لبنان، 1996)، عظة 16: 6، ص 182.

[19] يوحنا ذهبي الفم (قديس)، القصد من غموض النبوات، ترجمة: د. چورچ فرج، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2017)، عظة 1: 3، ص 53، 54.

[20] كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج1، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، 3: 1، ص 313.

[21] كيرلس الإسكندري (قديس)، شرح إنجيل يوحنا مج 2، ترجمة: د. نصحي عبد الشهيد وآخرون، (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2015)، ص 369.

[22] المرجع السابق، ص 390.

 

تعاليم آباء الكنيسة ضد التهود والمتهودين – د. أنطون جرجس عبد المسيح

Exit mobile version