آبائيات

عظات على سفر العدد ج1 (1 – 14) – العلامة أوريجينوس

عظات على سفر العدد ج1 (1 - 14) - العلامة أوريجينوس

عظات على سفر العدد ج1 (1 – 14) – العلامة أوريجينوس

المحتوى

 

 

المحتويات

مقدمة
 
العظة الأولى: التعداد.
 
العظة الثانية: تنظيم المحلة.
 
العظة الثالثة: اللاويون.
 
العظة الرابعة: إحصاء اللاويين وواجباتهم.
 
العظة الخامسة: وظائف اللاويين في خيمة الاجتماع.
 
العظة السادسة: موسى والسبعين شيخًا – زواج موسى والحبشية.
 
العظة السابعة: معاقبة مريم ومجد موسى الجواسيس في كنعان.
 
العظة الثامنة: عصيان الشعب.
 
العظة التاسعة: مجامر قورح – عصيان جديد وشفاعة  
 
موسى وهارون – عصا موسى.
 
العظة العاشرة: خطايا القديسين.
 
العظة الحادية عشر: الباكورة.
 
العظة الثانية عشر: البئر – سيحون.
 
العظة الثالثة عشر: الانتصار على سيحون “تابع” 
 
الانتصار على باشان – حادثة بلعام.
 
العظة الرابعة عشر: بلعام “تابع”.
 
عظات على سفر العدد ج1 (1 - 14) - العلامة أوريجينوس
عظات على سفر العدد ج1 (1 – 14) – العلامة أوريجينوس

 

مقدمة

منذ القرن الرابع وشخصية أوريجينوس[1] تحظى باهتمام كبير في الكنيسة فالقديس أغريغريوس صانع العجائب يسميه “معلم الكتب المقدسة الأول” والقديس جيروم يرى فيه مثالاً يحتذي به.

وأثر أوريجينوس واضح في مجالات عديدة مثل محاولة الصلح بين التفسيرين الحرفي والرمزي للأسفار، واعتباره من الممهدين لظهور الرهبنة بما كتب عن علاقة الحب بين النفس وعريسها المسيح وكلامه عن الصلاة. وهو أيضًا المقتني للأخلاق الإنجيلية.

من هنا جاء اهتمامنا بنشر هذه العظات لأوريجينوس على سفر العدد. قام أوريجينوس بعمل هذه العظات في المدة بين 244 – 249م. وكما نفهم من النص أنه كان يعظ في الكنيسة ومعنى ذلك أنها موجهة لكل الشعب وليس لعدد قليل من التلاميذ.

طريقة أوريجينوس في الوعظ

نلاحظ أنه لم يكن يجهز عظاته سابقًا في هيئة محاضرات كاملة حول موضوع معين، ولكن كل مرة ينتهي القارئ من قراءة الإنجيل في الكنيسة، كان أوريجينوس يرتجل الكلام عفويًا ومن هنا يأتي الإحساس بأنه يقدم أفكارًا كثيرة لا علاقة لها بالنص الذي يعلق عليه. ولكن هذه هي طريقة التفسير التي كانت سائدة في عصره.

وهذا لا يمنع أن يحوي الوعظ والتفسير فكرة عامة عن السفر ثم أخذ نقطة أساسية تقوده خلال السفر كله وهذا نراه في بداية تفسيره لإنجيل يوحنا وتفسيره لنشيد الأناشيد.

سفر العدد

ماذا يمكن أن يقدم لنا سفر العدد، فيبدو أنه لا يحمل نفس الوحدة التي نجدها في سفر اللاويين أو التثنية وليس به أحداث تاريخية عظمى كالتي نراها مثلاً في سفر الخروج. وقليلون هم الذين شرحوا هذا السفر في تقليد الكنيسة.

أوريجينوس يهدف في عظاته إلى أن يقيم السامع من كسله وإهماله ويلهمه بأفكار سامية لكي يقوده إلى الله بالتوبة أي أن هدف تفسير أوريجينوس هو الرعاية، وخلاص النفوس وبنيانها ولهذا فهو لا يستطرد كثيرًا بل يذهب إلى الهدف مباشرة. ويعتبر العلماء أن عظاته على سفر العدد تصف طريق الخلاص بشكل أعمق ومباشر أكثر من كتاباته الكبيرة مثل “رده على كلسوس” أو كتاب “المبادئ”.

وإذا استثنينا كتابه عن سفر النشيد فأن أهم ما كتبه أوريجينوس عن اتحاد النفس بالله وأكثرها آثرًا هي العظة 27 على سفر العدد، وهي جزء من عظاته كلها، والتي نقدم منها الأربعة عشر عظة الأولى، في هذا الكتاب وسوف ننشر بإذن الله قريبًا ترجمة باقي العظات في جزء ثاني.

سفر العدد عند أوريجينوس لا يمثل أحداثًا متفرقة بل يمثل جزءًا من التاريخ الإلهي “تاريخ الخلاص”. وله هدف محدد فهو سرد للرحلة نحو أرض الميعاد أي رحلة النفس، لأن أوريجينوس يطبق كل أحداث العهد القديم على الكنيسة والإنسان المسيحي.

وهذا التفسير لمسيرة التاريخ الإلهي يختلف عن تفسير فيلون الإسكندري وبولس الرسول وأكليمنضس. فبالنسبة لهؤلاء تكون الحادثة الرئيسية بعد الخروج بالشعب من مصر هي إعلان سيناء وإعطاء الوصايا، بينما أوريجينوس يرى أن دخول أرض الميعاد هو الشئ الأساسي (نرى أن الخلاف ليس في جوهر الأمر بل في طريقة رؤيته).

فسيناء ليست نهاية الرحلة بل هي محطة. والهدف النهائي هو الأردن.. هو أرض الميعاد، وهنا يأخذ تاريخ الخلاص عند أوريجينوس لونًا آخر. فالخروج ليس هروبًا بقدر ما هو ارتحال. فالأرض التي “تخرج لبنًا وعسلاً” تلقى بضوئها على رمال الصحراء… والطريق في سيناء والتوقف فيها ليس إلا محطات.

سفر العدد يمثل لأوريجينوس سفر الحركة، سفر الرحلة الإلهية، سفر رحيل النفس ومسيرتها نحو الله. وهو أيضًا سفر الصحراء والعنوان العبري للسفر معناه “إلى الصحراء” وهو الأكثر مناسبة.

منهج أوريجينوس التفسيري

أول خطوة في طريق فهم الأسفار عند أوريجينوس هي التفسير التاريخي أو الحرفي. ولكن أوريجينوس يعتبر أنه لا يليق أن تُحضر كلمة “الله” في مجرد أحداث وتفاصيل صغيرة سواء تاريخية أو جغرافية بدون أهمية مباشرة لنا. فإذا كان موقف موسى في الصحراء قد تم بناءً على أوامر الرب فهذا تم أيضًا لأجل تعليمنا ولأجل إعدادنا نحن لرحلات خروج أخرى مشابهة لما فعله موسى.

فالهدف الحقيقي وراء سفر العدد هو رحلة النفس الروحية ومحطاتها المختلفة، أي درجات تصل إليها في نهاية الحياة الروحية والتقدم الذي نحققه خلال هذه الرحلة من خلال الانتقال من مرحلة إلى أخرى.

الظروف الفلسفية واللاهوتية (وقت إلقاء أوريجينوس لعظاته) من 244 إلى 24م.

هناك مبدأ هام يحسن مراعاته عند دراسة أي نص آبائي يرجع إلى القرون الأولى وهذا المبدأ هو محاولة فهم “كلما أمكن ذلك” الظروف التاريخية والاحتياجات الروحية التي صاحبت بل ونقول أدت إلى ولادة هذا النص. وعدم بذل هذه المحاولة سيؤدي بنا إلى عزل النص عن بيئته مع ما في ذلك من خطورة إسقاط مفاهيمنا عليه أو فهمه فهمًا جزئيًا وربما أدخلنا النص في جدل معاصر لم يكن أصلاً في ذهن الكاتب حينما عالج موضوعه، من النص بعض الفقرات التي تبرر تعليمًا خاصًا لا يتفق وكل الفكر الآبائي والكنسي.

تحول مفاجئ أم نمو متدرج

هذا السؤال لا يعتبر سؤالاً جديدًا فلقد حاولت الفلسفات القديمة أن تعالجه. هناك فلسفة كانت ترى أنه يجب الاختيار بين طريق الحكمة وطريق الجنون وليس هناك خيار أو درجات في هذا. وهم يرون الحياة عبارة عن تحول بالحكمة إلى عقل خالص، وليس نموًا هادئًا من درجة لأخرى وهذه هي الفلسفة الرواقية.

هذا لا يلغي أن الرواقيين قد آمنوا بجدوى التعليم ولجأوا إلى إدخال فكرة التعليم والنمو التي هي فكرة أفلاطونية.

في المناخ الفكري الإسكندري في القرن الثالث بعد الميلاد كانت نظرية التقدم الأخلاقي درجة بعد أخرى هي الأكثر شيوعًا وهذا بفضل فيلون الإسكندري وأفلوطين المصري. ولكن لم يكن هناك بعد نظام متجانس وواضح.

الفكر المسيحي

عاش الفكر المسيحي في القرون الأولى تطورًا مماثلاً، وقد أخذ طريقًا غير طريق الفلسفة. فقد كان لا يميل إلى عدم التركيز على الثنائيات، فرغم أن مثل حبة الحنطة والخميرة التي تخمر العجين يوضحان طريقًا تربويًا متدرجًا. إلا أن معظم صور العهد الجديد وأمثاله تتجه نحو القطيعة مع الماضي والبداية من جديد، أي يجب أن “تبيع كل ما تملك” أو “أحمل صليبك” أو حقيقة فكرة الولادة من فوق. أو فكرة الطريقين في كتاب (الديداكي). إن مسيحي القرون الأولى كانوا مشغولين بتغيير الحياة أكثر من النمو التدريجي، ونلاحظ أن الرسول بولس يقبل الفروق الفردية بين المؤمنين في الكنيسة من جهة النمو التدريجي (1كو 3 : 1 3؛ أف 4 : 13 16)، ويرى (دي لوباك) عالم الآباء الفرنسي أن أساس التمييز بين مراحل النمو الروحي عند أوريجينوس موجود عند الرسول بولس.

ولكن نلاحظ أن خبرة الرسول بولس الشخصية وطريق دمشق تحركان أفكاره. وهو يفكر عن طريق المتضادات، الإيمان أو الناموس، الإنسان الجديد أو الإنسان العتيق، المسيح أو العالم.

فما يعنيه هو نشر الإيمان والتحول للمسيح وانسكاب المواهب على الكنائس التي أسسها. والذي يهمه بالدرجة الأولى هو الدخول إلى الإيمان بحسم وجدية وبعد ذلك يحتاج الإنسان إلى الصبر انتظارًا للمجيء الثاني.

تربية الله للبشرية

ولكن في القرن الثالث لم تكن خبرة طريق دمشق هي المنهج السائد لسببين:

أولاً: تأخر المجيء الذي كان متوقعًا وتكلم إيرينيؤس عن منهج الله في تربية البشرية وبداية لاهوت التشبه بالله، فالمسيحي يبدأ غير كامل ثم ينمو.

ثانيًا: إن المسيحيين لم يعودوا هم المتحولين من الوثنية بل مولودين من أسر مسيحية. بما يعنيه ذلك من ضرورة تبني منهج التربية الأسرية وتسليم الإيمان، والتدرج في فهم أسرار الإيمان وهذا جعل المسيحيين يفهمون أن الروح يعمل ببطء أكثر من يوم الخمسين.

وأوريجينوس هو مثال لطفل مولود في أسرة مسيحية ولهذا كان يجب تعميق فكرة الولادة الروحية عند بولس وهناك ثمر للحياة في المسيح…

وهنا ظهرت فكرة النمو الروحي ودرجاته في الكنيسة وظهر هذا المنهج أولاً عند إيرينئوس ووجد صدى عند أكليمنضس وأوريجينوس. فأفلاطون وبسودنيوس وفيلون كانوا يؤكدون الخبرة المسيحية.

أوريجينوس ودرجات النمو الروحي

في هذا المناخ اللاهوتي والفلسفي كان أوريجينوس يعلم في الكنيسة. وعند أوريجينوس يكون النمو في الدرجات الروحية لا يخص فقط المؤمن في الكنيسة، بل إن كل التاريخ ومراحله هو رمز للمسيح. ففي تاريخ إسرائيل في أدق تفاصيله نرى المسيح متجسدًا. وإسرائيل الجديد هو الكنيسة، وتاريخ إسرائيل يخص أيضًا كل نفس. فإسرائيل والمسيح والكنيسة وأورشليم السمائية والإنسان الباطن هي ملامح كثيرة لواقع واحد، ولا يمكن تناول إحدى هذه الملامح بدون الإشارة إلى الأخرى، ولهذا فكل ما كتبه عن إسرائيل يمثل إلى جانب المعنى التاريخي بعدًا نبويًا ينطبق على المسيح والكنيسة. وبعدًا أسخاتولوجيًا يعلن الدهر الآتي، وبعدًا داخليًا يعلن النسك والأسرار.

ولهذا فأوريجينوس يوظف كل هذه المعاني في شرحه، فهو ينتقل من المعنى التاريخي إلى المعنى النبوي أو إلى الأسرار والنسك الشخصي، أو ينتقل من الكلام عن الكنيسة إلى النفس الإنسانية لأن الكنيسة والنفس عند أوريجينوس هما وجهان لحقيقة واحدة.

وهذا ينطبق على فكرة أوريجينوس عن درجات النمو الروحي فكل شئ عنده درجات. وهذا نلاحظه من أول صفحات سفر العدد، أنه اتجاه عزيز على نفس أوريجينوس. فإسرائيل عُزِلَ من الأمم ولكنه أي إسرائيل يمثل درجة في معاملات الله مع البشر، ولكنه يحمل نظامًا متميزًا وهو اللاويين. اختلاف أعداد القبائل عند أوريجينوس هو درجات الكرامة، درجات القرابة في الميراث، درجات الطقوس في العهد القديم.

العظات على سفر العدد تقدم لنا مفتاح روحانية أوريجينوس. السفر هو سفر الصحراء والهجرة والترحال، وقد صار هذا السفر عند أوريجينوس هو أتون التجارب والتنقية للمرور من درجة روحية إلى درجة أعلى فهو سفر المسيرة نحو الله.

ما هي ملامح هذه الروحانية؟

  • الإيمان هو للضعفاء، الذين بالإيمان بالمسيح المصلوب يخلصون.
  • الأعمال: النسك بكل درجاته وهي عبارة عن الجهاد والنمو وتعلم العفة والفضائل والتوبة عن الخطايا والاتضاع ورفض المظاهر. وهناك من يجاهدون ليس عن أنفسهم فقط بل عن آخرين.
  • القدسة: القديسون يختارون من بين المجاهدين بالأعمال، والقداسة ليست هي حالة عدم الخطية ولكنها تقديم الإرادة والنية “proairesis”. القديس لا يختلف عن الآخرين إلا في أنه في موقع مختلف، فهو مفرز، لقد ترك كل ماله… وشئون الدنيا ليتكرس لله بالكامل، وهذا هو تعريف القديس عند أوريجينوس. ولكنه أحيانًا يستعمل تعبير قديس كمرادف للفظ كامل… هناك ترابط بين الاثنين… القداسة هي التجرد الكامل، والقديس يصير قديسًا بممارسة القداسة… فنحن ندعو طلبة الطب أطباء وطلبة الفلسفة فلاسفة قبل أن ينتهوا من دراستهم وطالبوا القداسة يدعون قديسين حتى ولو لم يكونوا قد وصلوا إلى نهاية طريق القداسة. يكفي أن عندهم النية الداخلية وقد خطوا الخطوات الأولى، والكمال يأتي بعد ذلك.
  • الكمال: أوريجينوس يستعمل هذه الكلمة كثيرًا وهي لا تعني غياب الخطأ أو العصمة بل تعني الذي أنهى عملاً. فالكمال هو الهدف النهائي، الكمال هو رؤية الله، والكمال يستلزم المعرفة إلى جانب الأعمال.
  • المعرفة: المعرفة هي الجزء الأساسي من الروحانية عند أوريجينوس… حتى ولو لم يستعمل اللفظ علانية، فكل مرة يتحدث عن الحكمة أو عن الأسرار أو الإعلان الإلهي، فهو يتحدث عن المعرفة ورغم أن هذا العلم أو المعرفة لا يعني المعرفة بمعناها المعاصر الآن إلا أنها تشتمل على جانب “اقتناء المعارف”: المعارف الدنيوية والثقافة والطب والفلسفة من ناحية، ومن الناحية الأخرى المعارف الكنسية أي معرفة تراث الكنيسة والكتب المقدسة والبحث في التقليد العبراني وقراءة مؤلفات علماء المسيحية الأوائل وحتى كتب الهراطقة ينصح أوريجينوس بقراءتها.

ونحن نعرف أن أوريجينوس كان يلزم تلاميذه بعمل دراسات ثقافية وفلسفية ضخمة. ودراسات موسوعية لكي يعدهم للتأمل في الكتب المقدسة، فرغم أن معرفة علوم الدنيا وثقافاتها تعتبر في نظر أوريجينوس كعلوم إعدادية إلا أنها لا يمكن الاستغناء عنها لفهم الإيمان.

أما عن العلم في ذاته فهو عند أوريجينوس يعني اقتناء حقائق إلهية. مثل أن الله غير مادي، وحدة العهدين، حضور اللوغوس في كل الخليقة.

العلم عند أوريجينوس يرتبط بنظرته للإنسان. فالإنسان ليس عقلاً خالصًا كما يقول “كانتKant” والذكاء هو أقرب إلى الحدس “Intuition”.

فالذكاء عند الأقدمين يفترض الحرية من الأوجاع “Apathia” وبدون العفة لا يوجد ذكاء. والعفة مرتبطة بالحب. والحب لا ينفصل عن الصلاة وتقديم الذات لله.

إسرائيل والإسرائيليون في تفسير أوريجينوس

كان أوريجينوس مثله مثل كل آباء الكنيسة في القرون الأولى يفسرون كلمة إسرائيل والإسرائيليين بحسب النظرة الروحية الدينية المحضة. ولهذا فهم يقارنون بين الإيمان بالله وقوة عمله في التاريخ كما أعلنت في العهد القديم وبين الألوهية المشوهة في الديانات الوثنية عند اليونانيين أو المصريين وغيرهم من شعوب الشرق، والتي كانت تخلط بين الله وصور المخلوقات. ولذلك نجد أوريجينوس في هذه العظات يتحدث عن الإسرائيلي دون أن يكون هناك تحديد عنصري أو عرقي أو أي معنى سياسي بل يطبق كل ما هو في سفر العدد على المؤمنين في العهد الجديد والذين ليسوا من إسرائيل بحسب الجسد. لأن إسرائيل بحسب الرسول بولس وآباء الكنيسة هي كنيسة المسيح وهي شعب الله الحقيقي. ولا تزال الكنيسة الأرثوذكسية حتى الآن تلتزم بهذا التفسير. وقد أعلنه بابا وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر قداسة البابا شنودة الثالث في خطابه الجامع بنقابة الصحفيين عام 1968 عن “المسيحية وإسرائيل” وفي يوم 5 ديسمبر 1971 والذي نشر في كتاب بنفس العنوان.

الترجمة الفرنسية لعظات سفر العدد

تمت ترجمة هذه العظات في السلسلة الفرنسية لنصوص الآباء “Sources Chretiennes” (المصادر المسيحية) المجلد رقم (29) المنشور في باريس سنة 1951. وهذه الترجمة الفرنسية ترجمت عن النص اللاتيني الذي ترجمه الراهب روفينوس عن الأصل اليوناني سنة410م.

الترجمة العربية لهذه العظات

قام أحد أصدقاء “مركز دراسات الآباء” بترجمة هذه العظات الأربعة عشر عن الفرنسية، وتولى المركز مراجعتها وحاول ضبطها على النص الفرنسي بأقصى ما يمكن من جهد، وإضافة بعض الملاحظات ثم كتابة المقدمة.

ويسرنا أن نجرى طباعة هذه الترجمة العربية لعظات أوريجينوس على سفر العدد في نفس الوقت الذي ينعقد فيه “المؤتمر الدولي السادس للدراسات الأوريجنية” وموضوعه هذا العام “أوريجينوس والكتاب المقدس” ويعقد هذه المرة في فرنسا في الفترة من 30/ 8/ 1993 إلى 2/ 9/ 1993.

فليجعل الله هذه العظات بركة وبنيانًا لكنيسة المسيح في البلاد الناطقة بالعربية. ولإلهنا القدوس الآب والابن والروح القدس كل المجد وسجود وتسبيح الآن وإلى الأبد. آمين.

 

القاهرة في 2 أغسطس 1993م

الموافق 26 أبيب 1079ش.

نياحة القديس البار يوسف النجار

مركز دراسات الآباء

مؤسسة القديس انطونيوس

عنه

د. نصحي عبد الشهيد

 

 

العظة الأولى: التعداد 1

1 ليس كل الناس يستحقون أن يحسبوا ضمن الأعداد الإلهية. لكن يوجد نظام محدد لتعيين الذين يجب أن يكونوا ضمن أعداد الله.

التعداد – والتاريخ

سفر العدد يقدم لنا حجة ساطعة، عن هذا النظام، وقد ورد به أنه بناءً على أمر الله، لا تحسب النساء في هذا العدد، وذلك طبعًا بسبب الضعف الأنثوي.

كذلك لا يحتسب أي عبيد بسبب دناءة حياتهم وطبائعهم حتى من المصريين، كما لم يحصَ أحد من الذين قد امتزجوا مع الشعب، لأنهم من الغرباء والبرابرة. ولم يحسب سوى الإسرائيليون وليس الكل، لكن من سن 20 سنة فما فوق، ولا يعمل اعتبار للسن فقط بل يبحث أيضًا لمعرفة ما إذا كان الرجل قويًا لخوض الحرب حيث إن ما فرضته كلمة الله “يحسب كل الذي يسير في القوة”. إذًا لا يُطلْب من الإسرائيلي السن، بل القوة أيضًا. والطفولة لم تحتسب وهي غير معتبرة في التعداد الإلهي، إلا إذا كان الأطفال من ضمن الأبكار أو من أصل السلالة الكهنوتية من سبط لاوي (عد 3: 4)، هؤلاء فقط هم الأطفال الذين قد حسبوا في التعداد دون إدخال سيدة واحدة.

النص بالمعنى الروحي

ماذا نقول؟ لا يمكن أن يكون في هذه الفقرة سر؟ وهل سنكتفي بأن الروح القدس عندما أوحى للكاتب لم يقصد إلا تعريفنا أي جزء من الشعب قد أُحصىَ وأي جزء ظل خارج العدد؟ وما هي الفائدة التي يمكن أن يستخرجها الذين يبحثون لكي يتعلموا من الكتب المقدسة؟ وما الفائدة التي تعود علينا من تعلّمنا هذا؟ وما الفائدة للنفس[2] ولخلاصها من معرفتها بأن جزءًا من الشعب قد أحصى في الصحراء، وأن جزءًا آخر من الشعب لم يحصىَ؟

الشروط اللازمة لكي نُحسب أمام الله

إذا تتبعنا مبدأ الرسول بولس نجده يقول إن “الناموس روحي” (رو 7: 14). وإذا تفهمنا محتوياته روحيًا، سنستخلص من النص فوائد عظيمة للروح.

القراءة الحالية تعلمني بأنه إذا اجتزت مرحلة سذاجة الطفولة، أي أبطلت ما للطفل من أفكار الطفولة[3]، أي “لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل” (1كو 13: 11)، إذا قلت لقد صرت “حدثًا قادرًا على غلبة الشرير” (1يو 2: 13)، سيكون ذلك تأهيلاً لي أن أكون من ضمن الذين ينطبق عليهم المكتوب “كل الذين يسيرون في القوة في إسرائيل”. وسأكون مؤهلاً للتعداد الإلهي، لكن طالما بقى لأحد من بيننا أفكار صبيانية، متأرجحة أو طالما بقى لأحد من بيننا صفات الضعف والفتور، وإذا سلكنا بطريقة مصرية بربرية[4] لا نستحق أن نكون محسوبين أمام الله في سفر العدد الطاهر والمقدس “لا يحصى عدد” الذين يهلكون كما قال سليمان، وبالعكس الذين خلصوا قد أحصوا جميعًا.

هل تريد الدليل بأن عدد القديسين أحصى أمام الله؟

اسمع ما يقوله داود النبي عن كواكب السماء “فإن الله هو الذي يحصى كثرة النجوم يدعو كلها بأسماء” (مز 147: 4)، ولم يكتف المخلص بتحديد عدد التلاميذ الذي اختارهم، بل قال أيضًا شعور رؤوسكم محصاه “حيث شعور رؤوسكم جميعها محصاة” (مت 10: 3)، وهو لا يريد بذلك أن يقول إن الشعور التي نقصها بالمقص والتي نلقيها في الزبالة، أو الشعور التي تسقط وتموت مع تقدم السن كانت محصاة، ولكن الذين أحصوا أمام الله هم الذين من الناصرة، حيث سكنت فيهم قوة الروح القدس التي سمحت بغلبة الفلسيطنيين. قوى النفس وكثرة الأفكار التي تنبع من ملكة الإدراك والفهم، والتي يرمز إليها برأس التلاميذ، هذا ما يسميه النص “بشعور الرأس” ولقد تكلمنا عن هذا الموضوع بطريقة عرضية فلنعد الآن إلى حديثنا.

قوة إسرائيل وقوة الأجانب

2 “وكلم الرب موسى في برية سيناء” قال له ما قد سبق تلخيصه وأمره بأن يحصى من ابن عشرين سنة فصاعدًا كل من يحسب للقوة في إسرائيل. كل من يحسب “للقوة”، وليست أية “قوة” ليس في قوة مصر، وليس في قوة الآشوريين (الكلدانيين)، ولا في قوة اليونان، لكن الذين هم في قوة إسرائيل سيحصون أمام الله.

توجد فعلاً قوة النفس التي يعلّمها الفلاسفة اليونانيون، ولكن ليس لها صلة مع تعداد الله. وهي ليست لله، لكن تعمل للمجد البشري[5] الباطل. أيضًا توجد قوة الآشوريين أو قوة الكلدانيين الخاصة بالدراسات الفلكية، لكن لم تكن هي القوة الإسرائيلية لذلك ليس لها صلة بالله. توجد أيضًا قوة المصريين ويدّعون أنها أوهام حكمتهم السرية. لكن هذه الحكمة لم تحسب في حسابات الله. القوة الإسرائيلية هي الوحيدة المعتبرة أمام الله، هي القوة التي أعلنت من الله، والتي تلقن من الكتب الإلهية والمنقولة بالإيمان الإنجيلي والرسولي[6] لهذا يقول الرب لا تحصوا إلا “الذين يسيرون في القوة الإسرائيلية”.

التقدم نحو الكمال

لكن لنفحص أيضًا هذا السؤال:

لماذا لم يحصَ الشعب منذ الخروج من مصر؟[7] وهذا لأن فرعون كان يتعقب هذا الشعب (خر 14: 15)، ولم يحصَ بعد العبور عبر البحر الأحمر، عندما وصل للصحراء لأن الإسرائيليين (خر 16) لم يُجرَبوا بعد ولم يهاجمهم الأعداء بعد، لقد حاربوا مع عماليق، وحصلوا على النصر (خر 17) لكن لا تكفي نصرة واحدة لشعب يصبو نحو الكمال ويحصلون على طعامهم من المن ويشربون الماء من “الصخرة التي كانت تتبعهم” (خر 16: 14)، لكنهم لم يحصوا بعد لأن العناصر الحقيقية للعدد مازالت غير نامية فيهم (خر 17: 6؛ 1كو 10: 1). خيمة الاجتماع نصبت، أيضًا وقت التعداد للشعب لم يكن قد آتى بعد، لكن الشريعة قد أعطيت لموسى، وطريقة تقديم الذبائح قد رسمت، طقوس التطهير قد وضعت، والشرائع وأسرار التقديس قد وضعت، حينئذ حسب أمر الله قبل الشعب في التعداد (عد 1: 2). “انقش” أيها السامع، هذه التعاليم على قلبك (انظر أم 7: 3)، من نسختين ومن ثلاث نسخ.

تطلع إلى التجارب التي يجب أن تجتازها ومدى الآلام الواجب تحملها، وبعد كم درجة من التقدم والنمو، ومدى التجارب والمعارك الواجب تحملها والانتصار فيها، حتى يكون الإنسان معدودًا أمام الله. ولكي يعتبر جديرًا بأن يحسب مع الأسباط المقدسة. لكي يستطيع أن يكون مذكورًا في سجلات التعداد بواسطة كهنة الرب، هارون وموسى. يجب عليك أولاً أن تستلم شريعة الله، شريعة الروح القدس، تقديم الذبائح، إتمام التطهير، إتمام وصايا شريعة الروح القدس لتتمكن في النهاية من الانتماء للتعداد الإسرائيلي.

تصنيف المختارين

3 أجد أيضًا موضوعًا كبيرًا للتأمل في سفر العدد هذا وهو موضوع توزيع الأسباط وتمييز الرتب، وتجمع الأسباط، وكل ترتيب المعسكر (المحلة) يشكل لي أسرارًا عظيمة بفضل الرسول بولس الذي علمنا بذور المعنى الروحي. 

تصنيف القائمين أو رتب القيامة

فلنتطلع لمعنى الأسرار الموضوعة في حساب التعداد وفي الأماكن المختلفة التي أشير إليها. فنحن ننتظر بثبات قيامة الأموات، اللحظة التي فيها لا يسبق الأحياء الباقين على الأرض الراقدين (1تس 4: 14)، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن نفس ساعة مجيء المسيح سيخطف الأحياء في السحب بالروح لملاقاة المسيح في الهواء، وبالتالي سنترك فساد هذا المكان الأرضي الذي هو مسكن الموتى وسنكون كلنا الأحياء والذين رقدوا “في الهواء” كما نادى بولس، والبعض سينتقل إلى الفردوس أو إلى مواضع أخرى مختارة من ضمن منازل الآب الكثيرة (يو 14: 2).

ولكن هذه المواضع وهذا المجد الخاص ستعطى حسب استحقاقات وأعمال كل واحد، وكل واحد سيكون في الرتبة التي وضعته فيها استحقاقات أعماله كما يؤكد بولس الرسول قائلا عن الذين يقومون “كل واحد في رتبته المسيح أولاً ثم الذين هم له” (1كو 15: 23)، ومن ثم سيسجل كل واحد حسب المقاييس الروحية فمثلاً سيسجل واحد في سبط رأوبين RUBEN لأنه شابه رأوبين في العادات والطباع والأعمال أو الحياة.

ويسجل آخر في سبط شمعون بسبب طاعته، وآخر في سبط لاوي، لأنه أكمل وظائفه الكهنوتية حسنًا أو حصل فيها على درجة الكمال. ويسجل آخر في سبط يهوذا لأنه يملك في ذاته مشاعر ملوكية، وقد قاد الشعب قيادة حسنة بأفكار عقلانية وعواطف قلبية، وبذلك فكل واحد سيكون شريكًا ومنتسبًا للسبط الذي تميزه به أعماله وطبائعه. سيوجد إذًا رتب عند قيامة الأموات كما نفهم من الرسول، وصورة وشكل هذه الرتب تبدو لي موضحة مسبقًا في كتاب سفر العدد هذا. وحقيقة أن المعسكر (المحلة) يوضع ويرسم بين الأسباط وبعض التجمعات هو مرتبط أيضًا بقيامة الأموات. أما أن تكون ثلاثة أسباط قد وضعت من ناحية الشرق، وثلاثة من ناحية الجنوب، وثلاثة من ناحية البحر (الغرب)، والثلاث الأخيرة نحو الشمال التي تكون “ريح باردة”، وأما أن يكون سبط يهوذا، وهو السبط الملكي، قد أقيم في الشرق من حيث “قد أشرق ربنا”، وأن يشارك يساكر وزبولون، وأما أن يكون العدد ثلاثة منسوبًا لأربعة أقسام المحلة. ومع أن لكل سبط مميزات في وضعه الخاص، ومع ذلك فالكل يدخل تحت عدد الثالوث القدوس.

وأننا نجد دائمًا في الأربعة أجزاء هذه نفس العدد ثلاثة، لأنه قد أحصى باسم الآب والابن والروح القدس دون غيره، سكان أربعة أجزاء العالم الذين يدعون باسم الإله “ويتكئون مع إبراهيم وأسحق ويعقوب في ملكوت السماوات” (متى 8: 11). وهذه وقائع لا يمكن إهمالها. لقد أعطينا هذه البيانات المختصرة للذين يريدون أن يأخذوا لمحة سريعة عن المحتوى الرمزي لكل هذا السفر المقدس، حتى ننتهز هذه الفرصة للوصول إلى المعنى الروحي للموضوع ونتابع أبحاثًا من هذا النوع. أو أيضًا إذا منح الله نوره بأكثر سخاء لكي نصل إلى أبحاث أعظم. أما بالنسبة لي، فإني أجد نفسي عاجزًا فعلاً عن وصف الأسرار المتضمنة في سفر العدد هذا، وليس فقط أسرار سفر العدد بل أني أشعر بنفس الشعور وأكثر حيال الأسرار الكامنة في سفر التثنية.

تقسيم الأرض

لذلك يجب علينا الإسراع لنصل إلى يسوع (يشوع[8])، وليس لإبن نون ولكن يسوع المسيح. لكن أولاً يجب أن نضع أنفسنا في مدرسة موسى، فلنتخلص عنده “من جيل الأطفال” (1كو 13: 11)، ثم فلنسر نحو كمال المسيح، فموسى لم يخمد كل الحروب، ولكن يسوع (يشوع) قد أطفأ كل الحروب وقد أعطى السلام لكل الناس. مثلما نتبينه من هذا النص “واستراحت الأرض من الحرب”[9] (يش 14: 15). أرض الميعاد، أرض الميراث “الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً” (خر 23: 3)، قد قسمت من قبل يسوع (يشوع) “طوبى للودعاء (لأنهم بفضل يسوع) يرثون الأرض” (مت 5: 5).

هذا التقسيم أيضًا نجده معلنًا بواسطة صور وأمثلة فإنه يجب أن نعرف أن البعض سيحصلون بالتقسيم على الأرض الواقعة وراء نهر الأردن. والبعض الآخر على الأرض الواقعة عن جانب نهر الأردن، هذا أي أنه يوجد ورثة من الدرجة الأولى والثانية وأيضًا الثالثة. وأنه حسب الترتيب سيصير تقسيم الأرض حيث كل واحد “يجلس تحت تينته وتحت كرمته بدون أن يأتي أحد يعكر صفوه” (ميخا 4: 4). كل هذه المناظر المصورة من قبل بأسرار فائقة سيعملها الرب المسيح بنفسه في يوم مجيئه، ليس في مرآة ولغز لكن وجهًا لوجه (1كو 13: 12)، حسب استحقاقات كل واحد، التي يعرفها هو الذي يفحص القلوب الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين.

 

 

العظة الثانية: تنظيم المحلة

تنظيم المحلة

1 تعلمنا من الدرس الأول للعدد أن جيش الله، بعد خروجه من مصر وسفره وسط الصحراء، قد فحص، بمعنى أنه أحصى وعد من قبل موسى وهارون ووزع بين الأسباط، وهذا الجيش كان مقدرًا بعدد معين، وقلنا عندما شرحنا هذا التعداد بالنسبة لمشمول الكتاب، بأنه يصف الطريقة التي بها ذهب شعب الله خارجًا من هذا العالم نحو أرض الميعاد، أي نحو أرض السلاطين. أو نحو مجد ملكوت السموات ونحو حيازته، لقد كان منقادًا حسب بعض التصنيف وحسب درجة الاستحقاق لكل واحد ويوضح ذلك بمراسيم الشريعة وتخطيط “ظل” لمعاني “الخيرات العتيدة” (عب 10: 1).

الترتيب بموجب موسى وبولس الرسول

اليوم يعلمنا الدرس الذي قُرئ بأية طريقة قد نصب خدام الله ترتيب المحلة بواسطة الذين “لا يختلطون بأمور العالم”. وكلم الرب موسى وهارون قائلاً بأن يجلس بنو إسرائيل في المحلة كل واحد على حسب رتبته، وبحسب رايته، وعلى حسب بيوت آبائهم، وبأن بني إسرائيل “يجلسون قبالة خيمة الاجتماع وحولها”، وبأن كل رجل يتقدم في المحلة على حسب رايته وعلى حسب بيت آبائه” (انظر عد 2: 1 2).

قال بولس الرسول من ناحيته “وليكن كل شئ بلياقة وبحسب ترتيب” (1كو 14: 40). ألا يبدو بأنه هو نفس روح الله الذي تكلم به موسى؟ وتكلم به بولس الرسول، موسى أمر بأن يسيروا بترتيب في المحلة، وبولس يعطي التعليم لكل شئ بحسب ترتيب في الكنيسة. موسى الذي كان يخدم الناموس يأمر بأن يحفظ الترتيب في المحلة، بولس الرسول خادم الإنجيل يريد أن يحترم المسيحي الترتيب ليس فقط في أعماله بل وأيضًا في ملابسه. قال أيضًا “كذلك النساء يزين ذواتهن بلباس الحشمة” (1تي 2: 9)، وأختم بأنهما لا يريدان فقط بأن يحفظ الترتيب في تتميم  الواجبات وفي الملبس، بل يعنيان أنه يوجد أيضًا ترتيب للنفس، وعلى هذا الترتيب ينطبق النص، كل واحد يتقدم بحسب رتبته.

هذه الرتبة تعرف خاصة بثمارها، بالأعمال إلا أننا نعرفها أيضًا بعظمة الأفكار حيث إنه كثيرًا ما يحدث بأن شخصًا ما ليس عنده إلا أفكار دنيئة ووضيعة ويتلذذ بالماديات الأرضية، ويصل بحيلة لرتب مرتفعة في الكهنوت أو في منبر المعلمين، وأن شخصًا آخر روحانيًا متحررًا من الانشغالات الأرضية ويستطيع أن يفحص كل شئ “ولا يحكم فيه من أحد” (كو 2: 15)، يشغل أقل رتبة في الكهنوت أو يكون معدودًا مع عامة الشعب، وهذا في نفس الوقت هو احتقار لتعاليم الناموس وتعاليم الإنجيل، ولا يكون هذا العمل بحسب ترتيب.

ونحن أيضًا إذا كنا منزعجين ومهتمين بالمأكل والمشرب ولا ننشغل إلا بمنافع هذا العالم، إذا كنا لا نعطي لله إلا ساعة أو ساعتين كل يوم في الذهاب إلى الكنيسة للصلاة أو لسماع كلمة من كلام الله إذن نحن نعمل على الأخص لإشباع احتياجاتنا العالمية، ولإرضاء احتياجات المعدة. وبذلك لا نتمم التعليم الذي يقول “يسير كل واحد على حسب رتبته”، أو التعليم الذي يقول “وليكن كل شئ بلياقة وبحسب ترتيب”. فالترتيب الذي وضعه الرب المسيح هو أن “نطلب أولاً ملكوت الله وبره” (مت 6: 33)، وأن نؤمن بأن “كل هذه سيزيدها الله لنا”، وإن كل إنسان “يسير حسب رتبته”.

أتعتقد بأن الذين لهم لقب قسوس، الذين يفتخرون بإنتسابهم لرتبة الكهنوت، يسيرون على حسب رتبتهم ويعملون كل ما يصلح لرتبتهم؟ على هذا النمط أتعتقد بأن الشمامسة يسيرون على حسب رتبة الشماسية لخدمتهم؟ إذن من أين يأتي ما نسمعه أحيانًا من أناس مجدفين يقولون أنظر هذا الأسقف. هذا القسيس. هذا الشماس؟ ألا يقال كل هذا عندما نشاهد الكاهن أو خادم الله يقصر في واجبات رتبته ويخالف الرتبة الكهنوتية ورتبة اللاويين؟

ماذا سأقول عن العذارى، وعن النساك، أو عن كل الذين يقومون بخدمة دينية؟ إذا قصروا من جهة الحشمة والاحتشام، والرزانة، ألم يتهمهم موسى في الحال ويقول لهم “بأن كل رجل يسير على حسب رايته” (عدد 2: 2)، إذن كل واحد يعرف رايته، بأن يفهم ما يلزم للرتبة التي يشغلها بأن يزن أعماله، وينظم أيضًا كلماته وتصرفاته وأيضًا ملابسه لكي تتفق مع مقتضيات الرتبة التي انتسب إليها، حتى لا نسمع قول الله الذي يقول “أسمى يجدف عليه بين الأمم بسببكم” (مز 36: 20 23).

العلامات، درجات الاستحقاق

2 انظروا من وجهة أخرى ما تعنيه “وعلى حسب رايتة” ومن رأيي أن الرايات هي العلامات التي يتميز بها كل فرد من الأفراد، مثلاً كل الرجال يتشابهون لكن توجد علامة خاصة مميزة لكل واحد، وفي تقاطيع وجهه، في القوام، في الهيئة، في الملبس، وهذه المميزات هي التي تميز بولس عن بطرس. أحيانًا أيضًا ليس من الضروري أن يظهر المرء نفسه لكي نرى العلامة المميزة له. فمن صوته، من نبرات حنجرته، يُعرف الشخص، وكل واحد يُعرف بعلامة خاصة. خارجًا عن كل رؤية جسدية بنفس الطريقة أعتقد أنه توجد في النفوس علامات مختلفة.

إحداها: عندها حركات عذبة لذيذة جدًا، ساكنة، هادئة، متساوية. الثانية لها علامات منزعجة، فخورة، خشنة أكثر شدة، أكثر غضبًا. الواحدة يقظة، حكيمة بصيرة واعية، نشطة؛ والأخرى كسولة مسترخية، مهملة، غافلة. والبعض يكون لهم علامات أكثر والآخرون يكونون أقل. ويمكنني التأكيد أنه ربما يوجد اختلاف بين النفوس البشرية كما يوجد اختلاف بين الوجوه مثلما يبينه هذا القول، الذي خطر ببالي من سليمان الحكيم: “كما الوجوه تختلف عن الآخر كذلك قلوب الناس تختلف” (أم 27: 19). لكي تتفق مع سبعينية.

“كل واحد” كما يقول موسى “يسير على حسب رايته” بمعنى أن الذي له علامات سفلية ودنيئة يسير بأكثر فجر أو أكثر غطرسة والتي لا تناسب علامات روحه. لكي نوضح أيضًا هذا الاختلاف للعلامات، سنضيف هذه المقارنة. كل الذين قد تعلموا القراءة والكتابة يعرفون جيدًا 24 حرفًا، إذًا درسوا أصول الكتابة باليونانية و 23 حرفًا إذا درسوها باللاتينية. أنهم يستخدمون في الكتابة كل ما لديهم للكتابة. ومع هذا فالألفا A في كتابة بطرس تختلف عن الألفا في كتابة بولس. وكذلك سنجد بأن كل رجل يعرف الكتابة له علامات خاصة به في الكتابة لكي ينسخ كل حرف من حروف الهجاء. أيضًا نستطيع التعرف على بعض العلامات وعلى بعض الإشارات لليد التي كتبت حرف الهجاء. فالحرف B واحد، ولكن في تشابه الحروف يسجل اختلاف العلامات.

لو ظهر لك المثال واضحًا فأنه يمر خلال تحركات العقل ونفوس الذين يكونون وسائل الأعمال، انظر “الصك المكتوب علينا” (كولوسي 2: 14)، وانظر مثلاً كيف أن روح بولس تميل نحو الطهارة، وروح بطرس كذلك. لكن طهارة بولس لها مميزات خاصة به وطهارة بطرس لها مميزات أخرى، حتى لو ظهرت أنها نفس الطهارة وطهارة الواحد تلزم أقماع الجسد “وتستعبده” وقال أيضًا “خوفًا من”[10] فطهارة الآخر لا تخشى ما معناه “خوفًا من” (1كو 9: 27).

كذلك البر له بعض من الخواص لبولس ولبطرس. كذلك الحكمة وكل الفضائل، إذن حتى عند الذين قد ذكرناهم كمثال. توجد اختلافات شخصية مع أن الفضائل هي واحدة من قبل روح الله. فكل الرجال الآخرين لهم علامات خاصة بهم في شعورهم وفضائلهم، هذا لأن موسى كان ينظر ذلك بطريقة رمزية فكتب في الشريعة “بأن كل واحد يسير في المحلة على حسب رايته” (عدد 2: 2).

لكن يمكن أن يحدث بواسطة الأعمال الحسنة والغيرة أن نعبر من العلامات السفلى إلى العلامات العليا والأكثر عظمة. والواقع إذا فهمنا جيدًا إن كل محتويات الشريعة هي “ظل الخيرات العتيدة” (عب 10: 1)، أي الزمن الذي نترجي فيه حدوث القيامة، وحينئذ تكون لدينا الثقة، خاصة وإذ نحن في الحياة الحاضرة، نشتاق إلى خيرات أفضل بحسب مثال الرسول الذي قال “ننسى ما هو وراء ونمتد إلى ما هو قدام” (في 3: 13). لكي يمكننا في وقت قيامة الأموات، الذي سيكون فيه اختلاف بين استحقاقات الناس كما “أن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد” (1كو 15: 41)، أن ننتقل من العلامات السفلى إلى العلامات العليا والأكثر مجدًا حتى نتساوى مع الكواكب الأكثر بريقًا. فالطبيعة البشرية يمكن أن تنمو في الحياة حتى نتساوى عند القيامة من الأموات، ليس فقط بمجد النجوم، لكن أيضًا ببهاء الشمس. حيث أنه كتب “حينئذ يضئ الأبرار كالشمس في ملكوت الله” (مت 13: 43)، من هنا يأتي أيضًا الذين كانوا في درجات سفلى الذي يقول عنهم موسى “بحسب رايته بحسب بيت آبائه” (عدد 2: 2).

العائلات والأبوة

أما بالنسبة للكلمة “بحسب بيت آبائه”، نفس الكلمة قد استعملت باليونانية في النص الذي فيه قال الرسول “بسبب هذا أحنى ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح الذي منه تسمى كل عشيرة (أو أبوة) في السموات وعلى الأرض” (أف 3: 14  15)، الذي يسميه بولس الرسول أبوه يسميه المترجم اللاتيني عائله، لكن الكلمة هي نفسها باليونانية هذه الأبوة (العائلات) التي قد أشار إليها بولس الرسول في السموات. بينما موسى يشير إليها على الأرض. تحت رموز الشريعة؛ أنه ينصحنا بأن نسير بحسب هذه العائلات حتى نستطيع أن نكون منضمين للأبوة السماوية. يوجد حقًا، كما أعلن بولس الرسول آنفًا، أبوة أو عائلات في السماء بينما يمكن أن نجد الأبوة في نص آخر ما يسميه بولس الرسول “كنيسة أبكار مكتوبين في السموات” (عب 12: 23)، سنكون فيها إذا سرنا بحسب الترتيب، وإذا عملنا كل شئ بلياقة وبحسب ترتيب؛ إن لم يوجد فينا أي شئ مشوش، أي شئ قلق، أي شئ من العار. إذًا “سيضيئون كضياء السماء” ونحن سنضئ مثل النجوم ومثل الشمس أيضًا” (دا 12: 3)، في ملكوت الله بفضل المسيح ربنا الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

 

العظة الثالثة: اللاويون

كيفية الاستفادة من كلمة الله

1 لقد كتب في موضوع المن في ذلك الزمن أنه إذا التقطوه حسب الشروط التي أمرهم بها الله، كان صالحًا للأكل: لكن إذا أرادوا أن يلتقطوه بطريقة مخالفة للأوامر الإلهية وبخلاف الطريقة التي عينها الله، في هذه الحالة كان لا يصلح أبدًا لحفظ الحياة وكانت تكثر فيه الديدان. إذًا نفس النوع من المن لا يعطى للبعض إلا الديدان والعفن. بينما كان يقدم للآخرين طعامًا لحفظ الحياة. والكلمة الإلهية هي مَن بالنسبة لنا؟ والكلام الإلهي، عندما يأتي إلينا، فأنه يجلب للبعض السلام، ولكن لآخرين اللعنة، لذلك فأنه يبدو لي أن الرب والمخلص الذي هو “كلمة الله الحي” (1بط 1: 23)، كان يقول مصداقًا لذلك “لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمي الذين يبصرون” (يو 9: 39). فمن الأفضل للبعض أن لا يسمع أبدًا كلمة الله، بدلاً من سماعها بنية سيئة أو سماعها بنفاق، نقول كان من الأفضل من وجهة النظر الأقل سوءًا. لكن الأفضل والأصح من وجهة الصواب والكمال، هو أن المستمع لكلمة الله يسمعها بقلب نقي بسيط، يسمعها بقلب مستقيم ومتهيئ جيدًا، لكي تثمر وتنمو كما في الأرض الجيدة.

قلنا هذا بطريقة تمهيدية لبعض السامعين الذين يأتون بأذهان تفتقر للبساطة والإيمان. أريد أن أتكلم عن بعض طالبي العماد (الموعوظين) الذين يجب أن يضاف إليهم بعض المُعَّمدين “لأن ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون” (رو 9: 6)، وكل الذين قد عمدوا في الماء لم يعمدوا في نفس الوقت بالروح القدس. وبالعكس في عداد طالبي العماد، ليس الجميع غرباء عن الروح القدس. أجد حقًا في الكتب الإلهية أن من طالبي العماد من استحقوا الروح القدس وآخرين بعدما عمدوا كانوا غير مستحقين لعطايا الروح القدس. كرنيليوس كان من طالبي العماد، وقبل أن ينزل في الماء استحق أن يحصل على الروح القدس، وسيمون اعتمد، لكن لأنه اقترب للبر بمكر، فقد حرم من موهبة الروح القدس، فلا نشك في هذه الأمور. يوجد الآن في الشعب طالبو عماد، مثل كرنيليوس الذين هم مستحقون أن نقول عنهم “صلواتك وصدقاتك صعدت تذكار أمام الله” (أع 10: 4)، وبالعكس يوجد ضمن شعب المؤمنين أناس مثل سيمون يجب أن يُقال عنهم بجرأة “رجل ممتلئ كل غش وكل خبث ابن إبليس وعدو كل بر”[11] (أع 13: 10)، إنني أقول هذا لإصلاح نفسي كما لإصلاح الحاضرين، حيث أني أنا أيضًا واحد من الذين يسمعون كلام الله.

النص

2 لكن فلنسمع الآن بماذا كلم الله موسى: “وكلم الرب موسى قائلاً وها إني قد أخذت اللاويين من بين بني إسرائيل، بدل كل بكر فاتح رحم من بني إسرائيل فيكون اللاويون لي لأن لي كل لي بكر يوم ضربت كل بكر في أرض مصر قدست لي كل بكر في إسرائيل من الناس والبهائم لي يكونون أنا الرب” (عد 3: 11 13)، اللاويون تم اتخاذهم بدلاً من الأبكار، مع إنهم ليسوا أبكارًا قط. لاوي كان الابن الثالث من ليئة، رأوبين كان الابن الأول، شمعون كان الثاني، لاوي كان الثالث رجال ليسوا أبكارًا بحق الولادة قد تم تبنيهم كأبكار.

من هم الأبكار

هل ينبغي أن نعتقد بأن هذه التفاصيل المذكورة في ناموس الله ليس لها فائدة؟ ألا يعلمنا هذا بأن الذين اعتبروا أبكار أمام الله ليسوا هم أبكارًا بالميلاد الجسدي، بل الذين اختارهم الله أبكارًا نظرًا لحسن استعدادهم، هذا مثلما صار يعقوب بكرًا حسب أمر الله وقد حصل على بركات البكورية بسبب عمى والده بترتيب الله حيث إنه بسبب حسن استعداد قلبه الذي رآه الله فيه “قبل أن يولد في هذا العالم أيضًا وقبل أن يعمل أعمالاً سيئة أو حسنة يقول الرب عنه أحببت يعقوب وأبغضت عيسو” (ملاخي 1: 2، 3)، إذن فأبناء اللاويين ليسوا إذن هم الأبكار بحسب الجسد، لكنهم تم تبنيهم كأبكار، وذلك امتياز كبير أن نكون مُتبنين كأبكار دون أن نولد أبكارًا.

استقامة اللاويين

“ها إني قد أخذت اللاويين من وسط بني إسرائيل”. نستطيع أن نقول بأكثر بساطة “إني قد أخذت اللاويين من بين بني إسرائيل” لماذا نضيف من وسط بني إسرائيل؟ من أي وسط؟ لاوي كان الثالث من أبناء إسرائيل، كما ذكرنا أعلاه. من أي وسط أخذ اللاويون؟ أريد أن أعرف. ذلك أجده في الكتابات المقدسة، أن الشونمية الطوباوية التي أطعمت ذات يوم نبيًا أجابت بيقين نبي إسرائيل، النبي أليشع الذي أراد أن يمنحها مكافأة، “أنا ساكنة وسط شعبي”. لكني أرى نصًا أمجد وأكثر جمالاً في إنجيل ربنا يسوع المخلص عندما قال يوحنا “في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه” (يو 1: 26)، نستطيع أن نقول عنه بأنه “لم يمل أبدًا يمينًا ولا يسارًا، وأنه قائم في الوسط” (عد 20: 17)، “الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر” (1بط 2: 12). لهذا السبب قيل عنه بأنه قائم دائمًا، بأنه في الوسط. لكن لم يذكر عن كل الذين يقتدون به أى عن القديسين، والمرأة الطوباوية التي ذكرناها أعلاه، بأنهم قائمون في الوسط. لأنه من المستحيل أنهم لا يميلون أحيانًا سواء يمينًا أو يسارًا. ليس أحد طاهرًا من كل النجاسة حتى ولو كانت حياته يومًا واحدًا، ولكن قيل أنها ساكنة في وسط شعبها “واللاويون إذًا قد أخذوا من وسط أبناء إسرائيل”.

حقًا اللاويون هم الذين لم يعرفوا يمينهم ولا يسارهم، لكن باتباع موسى أي ناموس الله لم يحابوا أبًا ولا أمًا. أما وأنت عندما تأتي التجربة، عندما تأتي النصرة على الخطية إذًا “لم تمل يمينًا ولا يسارًا” (عد 20: 17).

إذا لم تنحرف عن ناموس الله، إذا أقمت في الوسط راسخًا وغير متزعزع. إذا لم تحن الركب أمام الخطية، إذا لم تصبح تابعًا لرأس حاشية، صورة للغباوة[12] والحماقة ستكون “مأخوذًا من وسط أبناء إسرائيل وستكون محسوبًا مع أعداد الأبكار هذا حسب النص “وسآخذ اللاويين من وسط أبناء الإسرائيليين” (عد 3: 12).

ترتيب اللاويين في المحلة

لكن إذا أردتم فلنرجع مرة أخرى في الشرح عن القصة المذكورة في التعداد، ولنفحص في سر الأبكار أين وكيف يجب أن نرتب أبحاثنا. فلنتذكر بأكثر تدقيق عن الطريقة التي فيها كان الاثنى عشر سبطًا موزعين ثلثة بثلاثة في أربع مجموعات واستقروا في الأربع جهات الرئيسية. فنجد يهوذا ثبت في الشرق مع يساكر وزبولون، رأوبين في اليمين (الجنوب) مع شمعون وجاد، في الغرب أفرايم مع بنيامين ومنسى، في الشمال دان مع نفتالي وأشير، بينما كانوا متوزعين في محيط دائرة لأربع جهات، فاستقر اللاويون في وسطهم، حول خيمة الاجتماع لأنهم هم الأكثر قربًا من الله. في محلة يهوذا موسى وهارون يأخذان مكانًا. في محلة رأوبين، جرشون في محلة بنيامين قهات، هناك حيث استقر دان، أبناء مراري أيضًا اللاويون يبدو أنهم استقروا في الدائرة من جميع نواحيها، في وسط أبناء إسرائيل، مختلطين مع الآخرين ومتداخلين معهم.

هذا ما تعرضه لنا الشريعة، حتى أننا نحصد محصول الأسرار وحتى نستخدمها كدرجات لنصعد من الأشياء السفلى إلى الأشياء العليا، ومن حقائق الأرض إلى حقائق السماء. والآن أيها السامع، أصعد إذا استطعت، أصعد فوق الأفكار الأرضية هذا بفضل التأمل العقلي وبفضل القلب البصير إنسَ الأرض لبعض الوقت، أصعد إلى سحب السماء بمجهود ذكائك أبحث عن خيمة الله[13]، حيث يسوع قد دخل “لكي يعد لنا الطريق” (عب 6: 20)، وحيث “يظهر أمام وجه الله” ليشفع فينا. أبحث هناك عن هذه الرايات الأربع، وعن هذه المواضع التي للمحلة. أنظر إلى الجيش الإسرائيلي والحرس المكون من القديسين، وأبحث عن أسرار الأبكار موضوع بحثنا الآن.

 

الرتب الأربع في السموات

لكن لا أجرؤ على الصعود فيها وحيدًا، ولا أجرؤ أن ألقي بنفسي في هاوية أسرار عميقة جدًا بدون أن أكون مسنودًا بسلطة عالم عظيم.. لا أستطيع أن أصعد إلى السماء إن لم يسبقني بولس، وإن لم يدلني بولس على الطريق لهذه الرحلة المجهولة الصعبة.

إذًا بولس هو الرسول العظيم، هو الذي يعرف بأنه يوجد على الأرض، كذلك في السموات، عدد كبير من الكنائس والتي لم يذكر منها يوحنا الرائي سوى سبعة. بولس الرسول هو الذي يشير بأنه يوجد على وجه الخصوص “كنيسة للأبكار” (عب 12: 18 23)، قال في رسالته للعبرانيين “لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار، لكن قد أتيتم إلى جبل صهيهون، إلى أورشليم السمائية إلى كنيسة أبكار، إلى مدينة الله الحي، وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات”. موسى يقسم شعب الله ويوزعه إلى أربع جهات على الأرض. والرسول يميز أربع رتب من القديسين في السموات من الواحد أو الآخر الذين يقول عنا بأننا ندنو منهم. حيث أن كل العالم لا يأتي إلى كل الرتب. الواحد يأتي إلى “جبل صهيون” والذين يكونون أفضل بعض الشئ يأتون إلى أورشليم السمائية، مدينة الله الحي والذين يكونون أكثر علوًا يدخلون إلى “ربوات هم محفل ملائكة” والذين يكونون فوق كل هذا يدخلون إلى “كنيسة أبكار مكتوبين في السموات”. إذن إن فهمت من هذا النص ما هي رتب الأبكار وما هو السر المختبئ في هذا العنوان. استعد واجتهد بكل قوتك أن تنمو وتتقدم في أعمالك في حياتك في عاداتك، في إيمانك في طريقة تصرفاتك لكي تستطيع أن تأتي إلى “كنيسة الأبكار التي هي مكتوبة في السماوات”. إن لم تستطيع، إن كنت أقل من هذه الدرجة اقترب من ربوات الذين هم محفل ملائكة، أن لم تستطيع أن تصعد إلى هذه الدرجة، اجتهد على الأقل أن تصل إلى مدينة الله الحي أورشليم السمائية. لكن إذا كنت أيضًا غير قادر على ذلك حاول على الأقل أن تتوجه نحو جبل صهيون (تك 19: 17). لكي تخلص على الجبل يكفي أنك لا تبقي على الأرض أنك لا تسكن في الوديان، بأنك لا تبطئ في الأراضي المغمورة.

بذلك يبدو لي بأنه يجب أن نفهم الاختيار لرتبة الأبكار أبناء اللاويين، خدام الله الذين يؤدون الخدمة الهيكلية في الخيمة ويتممون الخدمة الإلهية بيقظة لا تنقطع.

فاتح الرحم

أما من جهة ما قد قيل “عن كل بكر الذي يفتح الرحم”، هذا لا يبدو سهلاً في فحصه وفي شرحه. حيث أن كل طفل فاتح رحم لا يجب على الفور أن يكون مستحقًا للرتبة المقدسة كرتبة البكر إذ أننا نقرأ في جزء آخر في المزامير بأنه “زاغ الأشرار من الرحم ضلوا من البطن متكلمين كذبًا” (مز 58: 3). ويجب أن لا ندرك هذا بالمعنى الحرفي.كيف نستطيع فعلاً أن نضل عن طريق الله بمجرد الخروج من أحشاء الأم؟ أو كيف يستطيع أن يكذب، الطفل الذي ولد لساعته، كيف يستطيع أيضًا أن ينطق بأية كلمة؟ بما أنه من المستحيل أن يضل منذ الخروج من أحشاء الأم، أو أن يكذب، يجب إذًا أن نبحث عن أحشاء أو رحم يمكن أن ينطبق عليها هذا الكلام. زاغ الأشرار من الرحم ضلوا من البطن متكلمين كذبًا، هذا الرحم سيكون المفتوح بواسطة كل بكر مكرس لله. فتح الله يومًا رحم ليئة الذي كان مغلقًا وولدت للعالم آباء، كذلك فتح رحم راحيل لكي ترزق أيضًا بأطفال، راحيل التي “كانت حسنة الصورة وحسنة المنظر” سنجد نصوص كثيرة أخرى في الكتاب المقدس عن فتح الرحم.

إذا درست هذه النصوص مع مقارنتها ببعضها ستكتشف أي معنى ينطبق على النص “زاغ الأشرار من الرحم” بينما كان الآخرون بافتتاح الرحم، مكرسين لرتبة الأبكار.

أبكار الله وأبكار السوء

قال الكتاب المقدس “واللاويون سيكونون للرب لأن لي كل بكر يوم ضربت كل بكر في أرض مصر، قدست لي كل بكر”. نعلم المعنى التاريخي لهذا النص، نعرف كيف ضرب كل بكر في أرض مصر، عندما خرج الشعب الإسرائيلي من مصر، هذا هو معنى النص، أبكار إسرائيل لا يتكرسون سوى مرة واحدة عندما ضرب أبكار المصريين، سبب تقديسهم هو موت وأبادة المصريين، ونستنتج من ذلك بأنه يوجد أيضًا أبكار في مصر[14]، بمعنى عند الرياسات المضادة نوع من المختارين للخبث، أوائل من الأبالسة. فإن لم يبددوا أبكار المصريين لكان من غير المستطاع إطلاقًا أن يتقدس أبكار الإسرائيليين، إذًا من هو الذي ضرب “رياسة وسلاطين الأبالسة” (كو 2: 15)، ألم يكن ربنا يسوع المسيح بكر كل خليقة الذي تسلط على الرياسات والسلاطين المضادين، بعدما ظفر عليهم على الصليب. لكن لكي يعطينا بركات الأبكار فقد صار أولاً بكرًا من الأموات لكي يكون الأول في كل شئ وأيضًا حتى يعتبرنا نحن الذين نؤمن بقيامته، كأبكار ويضعنا في رتبة الأبكار، إذًا يجب أن ننظر إلى البركات راسخين حتى النهاية، مؤيدين برحمة ربنا يسوع المسيح نفسه الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

 

العظة الرابعة: إحصاء اللاويين وواجباتهم

المعنى اللفظي

1 سفر العدد الذي يقرأ لنا، يحتوى على أعداد كثيرة[15] مختلفة منسوبة إلى أبناء الإسرائيليين. بعد إحصاء أبناء الإسرائيليين، يأتي إحصاء اللاويين، وهم بدورهم قد أحصوا أيضًا. أنهم لم يحصوا مع أبناء الإسرائيليين. وعددهم لحد ما معزول، إنه عدد ممتاز، أنهم كما يقال لنا، 22 ألفًا لا أكثر ولا أقل.

بنفس الشروط التي للاويين، أي من سن شهر واحد فما فوق، ونحصل لأبكار أبناء الإسرائيليين على العدد 22272.

من هذه التفاصيل هل تعتقد بأن موسى أراد أن يعلمنا القصة فقط، وأنه لم يخبئ بحسب عادته سرًا في هذه الأعداد المختلفة؟ هل سنعتقد بأنه قال بدون أي سبب إن عدد الأبكار الإسرائيليين يعطي فائضًا بعدد 273، وأن عدد اللاويين ليس له فائض ولا نقص بالنسبة لعدد 22 ألفًا.

الأعداد

بدراسة الكتب الإلهية، سنجد فيها غالبًا العدد 22 الذي يشير لمكنون مهم. الحروف العبرانية عدد 22 حرفًا ثم نذكر 22 أبًا منذ آدم حتى يعقوب التي تشير إلى أصل الأسباط الأثنى عشر. ويقال أيضًا أن كل أنواع خليقة الله عددهم 22 وبالبحث بأكثر تدقيق، سنجد في اللاويين أي خدام الله، والأبكار أبناء الإسرائيليين الفخر بهذا العدد العجيب والمقدس. العدد 273 أضيف لأبناء إسرائيل، وهذا لا يبدو لي بدون قصد، بل لا أرى من السهل حل السؤال إذا لم يتنازل السيد الرب ويظهر لنا أسرار قلبه، وأن نرفع البرقع المطروح بواسطة موسى على ما كتب في هذا الجزء. فالجنين في الجنس البشري، حسب العارفين يحفظ في الرحم تسعة أشهر، لكن لا يبدأ أن يظهر بالولادة قبل أن يمضي ثلاثة أيام من الشهر العاشر وبذلك يظهر أن العدد 273 هو مجموع الأيام كلها أي مجموعة التسعة أشهر مع ثلاثة أيام من الشهر العاشر وهي الأيام الممسوح بها للجنس البشري حتى يدخل في هذا العالم.

وبالتالي العدد يبين مجازيًا مجموع جميع الخليقة مجتمعة والمزيد الذي نجده للأبكار في إسرائيل يوضح سر توالد البشرية.

 

رتب اللاويين ووظائفهم

وبعد ذلك قسموا أبناء لاوي إلى 3 رتب وكل رتبة أحصيت تحت أسم العشيرة. هنا أيضًا يلاحظ اختلافات تخبئ أسرارًا. فرتبة أبناء قهات هي التي أحصيت أولاً، السبب هو لأنه من هنا قد خرج موسى وهارون الذي تسلم الكهنوت الأعظم. لأنه من قهات قد ولد عمرام، ومن عمرام ولد موسى وهارون. جرشون يأتي ثانيًا مع أنه الأول بالميلاد إلا أنه وضع بالصف الثاني، وينص الكتاب المقدس فعلاً هكذا “أبناء لاوي، جرشون وقهات ومراري” أبناء قهات قسموا إلى رتبتين: أولاد هارون يتولون الكهنوت والآخرون لخدمة الكهنة. ولهذا السبب قسمت واجبات اللاويين إلى 4 أجزاء هارون وأولاده يقومون بالكهنوت. أعضاء عشيرة قهات الآخرين يحملون الأقداس على أكتافهم. أولاد جرشون ينشغلون بما يختص بخيمة الاجتماع أو ملحقاتها، وبالجلود، البساط، وبكل ما هو أقل صلابة وأكثر خفة للحمل. أولاد مراري يحملون “أعمدة الخيمة” قاعدتها، قضبانها، التي تساعد على قفل الخيمة. لهذا السبب نبه الكتاب المقدس في تعدادهم على أن تحصى قوة مراري حيث إنه يجب توافر القوة لحمل مثل هذه الأحمال.

الأربع رتب في السماء

2 ولكن فلنرجع لبولس الرسول الذي إذ كان ينظر كل هذا بأعين بصيرة مستقلة من الآن فصاعدًا وغير مرتبك بأي تعصب، خالعًا ضباب العهد القديم وهو يقول إن في هذه المساكن كان شعب الله السابق لا يخدم سوى صورة وظل الحقائق السمائية. وبقوله هذا تكون الأربع رتب في المحلة ليست إلا صورة وظل للأربع رتب التي قصدها بولس في رسالته إلى العبرانيين. وتضاف إلى أربع رتب المحلة الإسرائيلية، أربع رتب اللاويين. فإنه ليس من الضروري أن نبسط وأن نوضح هذا، يكفي أننا أدركنا هدفه، مع افتراضنا بأن البعض يأتون هنا بأفكار نقية، خالية من هموم العالم.

أبناء قهات

قال الكتاب المقدس “خذ عدد بني قهات من بين بني لاوي” (عد 4: 2)، إذن يأتي أبناء لاوي، برتبة من الأعداد الأخرى وهم قد أحصوا “من ابن شهر فصاعدًا”. نحسب الآن أبناء لاوي “من سن 25 سنة” وليس كالآخرين من سنة 25 سنة فصاعدًا، ولكن حتى سن الخمسين. وهذا العدد عدد ممتاز، عدد مختار، حيث إن الكتاب المقدس يضيف “كل رجل في الجند ليعمل عملاً في خيمة الاجتماع” مثل الذين يكونون عددًا عظيمًا وممتازًا. هكذا بالنسبة لأبناء إسرائيل قد قيل “كل خارج للحرب يحصى مع أبناء إسرائيل” وأيضًا قد قيل هنا كل واحد خارج ليخدم في أعمال خيمة الاجتماع (عد 1: 45؛ 4: 3).

 

أعمال الخيمة

ثم توصف ما هي أعمال “أبناء قهات من بين بني لاوي، حسب عشائرهم يعملون” في خيمة الاجتماع. “يأتي هارون وبنوه عند ارتحال المحلة وينزلون حجاب السجف ويغطون به تابوت الشهادة” (عد 4: 5)، ثم دونت سبعة من الأشياء التي يجب أن تكون مغطاة:

أولاً: الأثمن من الكل “تابوت الشهادة” سيغطي “بالحجاب” الذي سيخفي من الأمام ويجعلون عليه غطاء “من الجلد باللون الاسمانجوني”.

ثانيًا: “المائدة” التي ستغطي.

ثالثًا: “منارة الضوء”.

رابعًا: “مذبح الذهب”.

خامسًا: جميع أمتعة الخدمة التي يخدمون بها في “القدس”.

سادسًا: “أمتعة المذبح” التي توضع مع أغطية أخرى.

سابعًا: “المناضح”. ولا يترك شئ من كل ذلك مكشوفًا وبدون حجاب.

أخيرًا قد أضاف التعليم “لا تحذف من سبط عشيرة قهات” حتى يعلموا أنهم يجب أن يخدموا. إذًا لمسوا هذه الأشياء لنقلها إن لم تغط أولاً من الكهنة فأنهم يموتون.

 

 

تخصيص للكنيسة لحفظ الأسرار

(تطبيق على الكنيسة)

نعود الآن لهذه الخيمة التي هي “كنيسة الله الحي” وننظر كيف يجب أن نتمم كل هذه التعاليم بواسطة كهنة المسيح. إذا كان أحد منكم كاهنًا بالحقيقة التي عهدت إليه بالإناء المقدس، وهذا يعني أسرار الحكمة السرية، فليتعلم من هذا النص وليلاحظ الطريقة التي يجب أن يحفظ بها هذا الإناء المقدس تحت حجاب الضمير وأن لا يعرضها بسهولة للشعب. فأن كان ملزمًا أن يعرضها وأن يسلمها للمرؤوسين أي للجهلاء فعليه أن لا يعرضها بدون غطاء وأن لا يظهرها كذلك بدون غطاء وأن لا يعرضها بسعة، وإلا أرتكب جريمة القتل ويحذف شعبه من الجماعة. لأنه حقًا يحذف كل إنسان يلمس الأسرار بدون أن يكون قد حمل رتبة كهنوتية باستحقاقاته وبعلمه. حيث أنه لا يسمح بهذا إلا لأولاد هارون، هذا يعني أن الكهنة يرون علنًا وبطريقة مكشوفة تابوت الشهادة ثم المائدة ثم منارة الضوء وكل الأشياء التي قد سبق أن دونت. أما الآخرون فإنهم يرونها مغطاة أو بالأحرى يحملون هذه الأشياء “محجوبة على أكتافهم” (عد 7: 9).

درجات كهنوتية

أولاد قهات رغم أنهم لم يكونوا كهنة، ولكنهم مناسبون جدًا، ويستطيعون أن يحملوا هذه الأشياء على أكتافهم، والآخرون يضعون أثقالهم وأشياء كهنتهم ليس على أكتافهم. بل على عجلات. ولكن نستطيع مطالعة هذا النص، والتكلم عما ذكر فيه عن العجلات نقول أنه قد أعطى لكل سبط عجلات، فأخذ أولاد مراري أربع عجلات وأخذ جرشون أثنين. لكن الذين هم في درجات أعلى لا يأخذون عجلات.

تأمل إذن الطريقة التي وزعت بها وظائف كهنة الله، الأشياء المقدسة لا تعطي للحيوانات ليحملوها، فإنه يجب أن الإنسان العاقل هو الذي يحمل على أكتافه الأواني التي تستخدم في قدس الأقداس. الأشياء الأكثر ثقلاً وأكثر صلابة تعطي لحملها لا لكائنات عاقلة بل للحيوانات. في هذه الحالة الثانية، يوجد أيضًا تمييز يجب وضعه في الاعتبار. فالذين في الخدمة المختصين بالأشياء الأكثر ثقلاً وأكثر صلابة لديهم حيوانات أكثر عددًا. فلقد أعطيت أربع عجلات لبني مراري لكن عجلتان تكفيان لبني جرشون. الذين يشبهون بني قهات، ويتبين من ذلك أن الأعمال الأكثر صلابة ونوعًا ما أكثر خشونة لها عدد أكثر من الحيوانات لكن من ضمن الذين يكونون مثقفين وعالمين بهذه الأمور، عدد بسيط منهم فقط يقوم بالنشاط  الخاص بالكائن الحي حيث لا يحق “للإنسان الطبيعي” (1كو 2: 14)، أن يقترب من الأشياء السرية، والتي لا تكون منظورة إلا للكهنة، لكن حتى هؤلاء لا يقتربون منها كلهم، إلا الذين لهم بعض الدراية ولكن لم يصلوا بعد باستحقاقاتهم وسلوكهم إلى كمال نعمة الكهنوت. وعلاوة على ذلك فإنهم لا يرونها إلا “في مرآة وفي لغز”، فهم يتسلمونها مغطاة ومحجوبة وسيحملونها على أكتافهم، حتى لا يعرفوها أكثر في فعل الأعمال أكثر من اكتشافها بالعلم.

إذًا بما أن هذه هي الطريقة التي بها يوزع الله أسراره وينظم عمل كهنوته للأشياء المقدسة، يجب علينا نحن أن نكون أهلاً لرتبة الكهنوت، حتى لا يفرض علينا أثقال ثقيلة مثل الكائنات غير العاقلة بل كأناس عاقلين ومقدسين، نكلف بوظائف كهنوتية لأننا “أمة مقدسة كهنوت ملوكي وشعب اقتناء” (1بط 2: 9)، بشرط أن نتلاقى باستحقاقات حياتنا مع النعمة المعطاة لنا وأن نكون أهلاً للكهنوت المقدس، حتى نكون بعد خروجنا من هذه الحياة، مستحقين أن نؤخذ، كما قلت أعلاه من ضمن كهنة الله، وأن نكون ضمن خدمة تابوت العهد، بمعنى الأسرار الغير معلنة، ونتأمل مجد الله بوجه مكشوف وندخل في الأرض المقدسة التي سيعطينا إياها ربنا يسوع المسيح كميراث لنا والذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

 

العظة الخامسة: وظائف اللاويين في خيمة الاجتماع

4 يقول الرب لموسى وهارون اللذين يستشيرانه “لا تحذفا من سبط عشائر القهاتيين من وسط أبناء اللاويين، عشيرة قهات، لكن أفعلاً لهم هذا فيعيشوا ولا يموتوا عند اقترابهم من قدس الأقداس” (عد 4: 18). فلنفهم المعنى الحرفي من القصة، وبمساعدة المسيح الرب ننتقل من المعنى الحرفي إلى المعنى الروحي.

المعنى الحرفي

إذًا فلنفهم أولاً تجهيز خيمة الاجتماع، تخيل أيضًا قدس الأقداس، المنفصل عن القدس بواسطة حجاب، ولا يسمح لأي إنسان بالدخول فيه و النظر إليه إلا إذا كان كاهنًا، بعد ذلك نفهم كيف كانت الخيمة تطوى عند ارتحال المحلة. وكيف كان الكهنة – هارون وأولاده في داخل قدس الأقداس، يغطون كل شئ بمفارشه وأغطيته، ثم يتركونها في أماكنها، وبعد ذلك يدخل أولاد قهات المخصصين لهذا الواجب ويجعلونهم يحملون على أكتافهم كل الأشياء التي قد غطتها أياديهم الكهنوتية، ولهذا السبب قد قال السيد الرب “لا تحذفوا من سبط اللاويين عشيرة قهات” (عد 4: 18)، لأنه كان يجب أن يحذفوا إذا لمسوا أشياء قدس الأقداس مكشوفة وبدون غطاء، وهو غير مسموح ليس فقط أن تلمس بل أن لا ينظر إليها أيضًا، إلا محجوبة.

السر: الأعمال والعلم

إذا فهمت القصة، إصعد الآن نحو بهجة السر، وتأمل نور الشريعة الروحية، إذا كانت عين إدراكك نقية. كل من هو ضمن كهنة الله، فهو مستحق بأن يكشف الأمور الإلهية وأن يرى الأسرار التي لا يكون غيرهم مؤهلين للتأمل فيها، وهو الذي يستطيع أن يدخل حيث لا يستطيع الآخرون الدخول. هذا بالنسبة لنا هو هارون أو أحد أبناء هارون. بالنسبة لمثل هذا الإنسان فقط يكون تابوت العهد مكشوفًا بدون حجاب، ويرى القسط الذي فيه المن، ويتأمل ويفهم “الكفارة” أنه يتطلع على “الشاروبين الاثنين”، والمائدة المقدسة والمنارة المضيئة، ومذبح البخور، أنه يتأمل ويفهم كل هذا بالروح. إننا نعني الذي يهتم بكلام الله بأسرار الحكمة ولا ينشغل إلا بالله وبأدواته المقدسة[16].

ففي هذه الحالة ألم يحمل على الأكتاف قدس الأقداس مغطى بأحجبة[17]؟ لكي ندرك هذا بأكثر وضوح، سنقتبس أمثلة من الكتاب المقدس، فموسى بلا شك كان يعلم معنى الختان الحقيقي وكان يعلم معنى الفصح الحقيقي. وكان يعلم معاني أعياد الهلال الحقيقية والسبوت الحقيقية[18]. ومع أنه علم كل هذه الحقائق جيدًا بالروح. إلا أنه كان يحجبها تحت المظهر وظل الأشياء الجسدية، وبينما كان يعلم بأن “الفصح الحقيقي” الذي يجب أن يذبح، هو المسيح. كان يأمر بأن يذبح حمل الفصح الجسدي، وبينما كان يعلم بأن عيد الفطير يجب أن يحتفل به بفطير “الإخلاص والحق” (1كو 5: 7، 8)، كان يأمر بعمل الفطير من الدقيق، كذلك قدس الأقداس، كان موسى يعطيه للآخرين لحمله بمعنى أنه كان يأمرهم بواجبات الأعمال ليتمموها. لكن سلمها لهم مغطاة ومحجوبة. أما الأكتاف فقد أظهرنا مرارًا بأنها في كثير من نصوص الكتاب المقدس، رمز الأعمال أيضًا من ضمن حفظ القوانين الكنسية، ألا يجب بأن يتممها الكل بدون أن يعلموا السبب. مثلاً وضع الركوع في الصلوات[19]، والاتجاه نحو الشرق بخلاف كل اتجاه آخر[20]. اعتقد بأنه ليس سهلاً، معرفة السبب بالعقل أيضًا بالنسبة لإدراك سر الافخارستيا، أو شرح الطقوس في تأدية هذا السر، أو طقوس سر المعمودية، مع مراسيمه ورموزه، والأسئلة والأجوبة الخاصة بها. من الذي يستطيع أن يشرح ذلك بدون صعوبة؟ لكن بينما نحن نحمل هذه الأثقال على أكتافنا مغطاة ومحجوبة، وعندما نتبع هذه الوصايا مثلما تسلمناها من الكاهن الأكبر وأولاده، إذن عندما نخضع لمثل هذه الأوامر بدون أن ندرك المعنى، فأننا نرفع على أكتافنا ونحمل السر الإلهي مغطى وملفوفًا إلا إذا وجد هارون أو أحد أبناء هارون، الذي له الحق في أن يراها عريانه ومكشوفة. وذلك غير مسموح لهم إلا بشرط أن يعرفوا واجبهم بأن يحجبوها ويغطوها، عندما يراد بأن تعطى للآخرين وتسلم لتتميم الأعمال.

أعمال الأعمال

2 بعد ذلك قيل للاويين بأنهم في الخدمة من بداية سن 25 سنة حتى خمسين سنة. “كل لاوي” يقول الكتاب المقدس “الذي يتقدم لعمل الأعمال وللأعمال التي تجلب من خيمة الاجتماع والذي يعمل عمل الخدمة فيها” (عد 4: 47).

تأمل هنا دقة الألفاظ في الكتاب الإلهي عندما تكون مسألة أعمال أولاد إسرائيل، أنه لا يقول عمل الأعمال، لكن الأعمال فحسب. عندما تكون خدمة اللاويين، أنه لا يقول الأعمال فقط، لكن أعمال الأعمال. كذلك أيضًا بجانب الأشياء المقدسة، يوجد “قدس الأقداس”، وبالمثل بجانب الأعمال يوجد “عمل الأعمال”، من هنا استخلص بأن موسى كان مدركًا بأنه توجد أعمال مرئية، لكن مليئة بمعنى سرى ومخفي عبر عنها ليس فقط بكلمة أعمال لكن “عمل الأعمال”، وتلك التي أدركها موسى بأنها عامة ومحدودة في الوقت الحاضر، قد دعاها ببساطة أعمال. إذًا يوجد “عمل الأعمال” بمعنى حسب رأيي كل التي كتبت سواء في النص الحاضر أو في سفر الخروج أو في أي كتب أخرى بموجب أسرار مختفية. والتي تتم جزئيًا في العهد الحاضر، وجزئيًا في العهد المستقبل. وفي غضون ذلك كما قلنا، عمل الأعمال ليست مخصصة لكل شخص لكن للاويين فقط.

العددان 25، 50

واللاويين أنفسهم لم يستدعوا لهذه الأعمال إلا من سن 25 سنة حتى خمسين. في العددين 25، 50 الرموز المقدسة ليست غائبة[21]

العدد 25 يعني كمال الخمس حواس بعملية ضرب 5× 5. هذا ما يثبت أن الإنسان الذي دعى لإنجاز عمل الأعمال في الأسرار هو الإنسان الكامل من كل نواحيه، بواسطة التعدد وطهارة الحواس. أما العدد 50 فإنه يتضمن رمزًا مقدسًا للعفو، والرحمة، وتوجد نصوص كثيرة عنه في الكتاب القدس أعطتنا مرارًا إثباتات عديدة عنه: فإنه في السنة الخمسين الذي تدعى عند العبرانيين “اليوبيل”، السنة التي يتم فيها إسقاط الملكية وحق الاستخدام، والديون كذلك اليوم الخمسون بعد الفصح قد أعطى كيوم عيد في الشريعة. كذلك عندما كان المسيح الرب في الإنجيل يعلم مثل العفو والرحمة، وضع في المثل مديونين الواحد مدين بخسمين والآخر بخمسمائة دينار. إذًا 50، 500 عددان نسبيان، حيث أن 50× 10 – 500 لكن هذا العدد هو مقدس لسبب آخر إذ  السبع سبعات نضيف إليها كمال العدد واحد، سنحصل على خمسمائة. كذلك إذا أضفنا لسبعين سبعة كمال العدد عشرة سنحصل على خمسمائة، وإذا أردنا أيضًا أن نجمع أمثلة أكثر للسر المتضمن في العددين 50، 500 نجد في هذا الكتاب أيضًا أعدادًا بين يدينا البعض يقدم لله ال 50 من الغنيمة، أي الذين لم يذهبوا للحرب، البعض يقدم خمس الخمسات، وليس بدون سبب هنا يوجد العددان 50، 500 وفي سفر التكوين عندما طرح الله موضوع المغفرة لسدوم، فرئيس الآباء إبراهيم، لإدراكه هذه الأسرار بدأ بعدد 50 متضرعًا لله لصالح سدوم وقال: “عسى أن يكون خمسون بارًا في المدينة ألا تصفح عن المدينة من أجل الخمسين بارًا الذين فيها؟” (تك 18: 24).

 

 

الاحجبة

3 ولكن فلنعد لموضوعنا يجب على اللاويين أن يهتموا بالأشياء المقدسة حتى “سن الخمسين”. الذين في الدرجة الأقل يقومون بالأعمال، والأحسن يقومون “بعمل الأعمال”، بينما الذين هم أكثر سموًا فأنه يجب عليهم أن يخدموا الأعمال الروحية، ويدخلوا “قدس الأقداس” (عد 4: 34)، هنا الأغطية التي يجب أن يغطي بها، وإعطاءه لأولاد قهات لحمله على أكتافهم وأخذه بأيديهم بينما الآخرون يرتبون كل واحد حسب رتبته. كما شرح كل هذا من قبل عدة مرات. ولكن لكي لا يسبب هذا الحذر الزائد للأغطية والاحجبة اليأس والحزن لدى السامعين سنحاول أن نكشف بعض النقاط التي نستطيع أن نعلنها بدون خطر والتي نستطيع أن نتأمل فيها بدون تجديف، لأننا قد دعينا مثلما قلنا من قبل: “جنس مختار وكهنوت ملوكي أمة مقدسة شعب إقتناء” (1بط 2: 9).

أمتعة الخيمة:

القديسون

فلنفهم إذن أن خيمة الاجتماع هي مجموعة القديسين الذين يشملهم عهد الله. يوجد في هذه الخيمة شخصيات أكثر استحقاقًا وعلوًا في البر، بعضهم قد دعوا “منارة الضوء” هم بلا شك الرسل أنفسهم لأنهم يضيئون إلى الذين يقتربون إلى الله، ولكن آخرون أيضًا، في خيمة الله هذه يشيرون لكل الذين يدخلون نور المعرفة والحكمة، هؤلاء يحملون اسم المنارة الرمزي. وآخرون سيكونون “المائدة المقدسة” فهم كل الذين يمسكون خبز الله، الذي يجدد ويغذي النفوس “الجائعة إلى البر” (مت 5: 6).

آخرون سيكونون “مذبح البخور” فهم كل الذين ينشغلون ليل نهار في هيكل الله في أصوام وصلوات، والذين لا يصلون لأنفسهم فقط بل أيضًا لأجل كل الشعب، الذين قد أوكل الله لهم هذه الأسرار قد سمّوا “تابوت العهد”. والذين في ثقة قوية، بواسطة تقدمة الصلوات وفي تقريب الابتهالات والتضرعات، يصالحون الله مع الناس ويتوسلون إلى الله لأجل عصيان الشعب فهؤلاء سيدعون “مذبح الذهب”. والذين قد استحقوا فيض العلم وكثرة ثروة معرفة الله يستطيعون أن يكونوا “شاروبيم” حيث إن الشاروبيم تترجم إلى لغة آخرى: غزارة المعرفة.

المحمولون بواسطة الملائكة

لكن كل الذين قد قدموا بالرموز المتعددة أعلاه يجب أن يحملوا، ويحملوا على الأكتاف. لذلك فالملائكة “الذين أرسلوا للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14)، هم في رأيي الحاملون لكل الذين قد ذكرناهم. حقًا عندما تطوي هذه الخيمة مرة أخرى، وعندما نبدأ الدخول هناك في القدس ونرحل نحو بلاد الموعد فالذين هم حقيقة قديسون يعيشون في قدس الأقداس وسيتقدمون موآزرين بواسطة الملائكة، وحتى تنصب خيمة الله مرة أخرى سيكونون محمولين على أكتاف الملائكة ومرفوعين على أيديهم.

وأمام هذه الصورة قال النبي بالروح “لأنه يوصى ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك، على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك” (مز 91: 11 12).

الشيطان اعتقد بأنها يقصد بها المخلص، ولكن أعمته شراسته، فلم يفهم هذا الكلام السري لأن المخلص لم يكن في حاجة إلى الملائكة لكي لا تصدم بحجر رجله. الشيطان يجدف على الكتاب الإلهي بتطبيق هذه الكلمات على المخلص، أنه ليس لأجله، لكن لأجل جميع القديسين، قيل إن الله قد أعطى أمرًا لملائكته إكرامًا لشعبه لكي لا تصدم بحجر رجله. كل هذا المزمور ينطبق على الأبرار أكثر من انطباقه على المخلص. فالذي يحفظه الرب من “الهلاك ومن شيطان الظهيرة” (مز 91: 6)، ليس هو المخلص، هذه الفكرة بعيدة عنا، حاشا لله لأن كل إنسان مبرر، والأبرار هم الذين في حاجة إلى عون ملائكة الله، حتى لا تسحقهم الأبالسة، وحتى لا يحرق قلبهم “السهم الذي يطير في الظلمات”.

يؤكد بولس بنفس السر بأن البعض يجب أن يكونوا محمولين من الملائكة على السحب “لكن نحن الأحياء، الباقين سنخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء” (1تس 4: 16). فالذين قد قبلوا تنقية عميقة وقد أصبحوا منخفضين من أثقال الخطية سوف يختطفوا بواسطة الملائكة، أما الذين مازالوا مثقلين ببعض بقايا النجاسة فسوف يحملون ركائز الخيمة والأروقة وكل الأشياء التي قد عددت بواسطة الكتاب المقدس فهل تحمل إذًا بواسطة اللاويين وليس بواسطة الإسرائيليين لسبب سبق أن أوضحناه بطريقة عابرة فقط، حتى نترك لأفكار السامعين الذي أوقدت فيهم الرغبة الحارة لكي يغتنوا باشتعال أنفسهم بنور العلم، وليكتشفوا الحقائق الكبيرة بنظرة خارقة. أما نحن فنطلب من الرب أن يجعلنا محمولين أو مرفوعين بواسطة أمثال هؤلاء الحمال، وأن نكون محفوظين من السهم الذي يطير في الظلمات ومن الهلاك ومن شيطان الظهيرة، حتى لا تصدم رجلنا بحجر “حتى نصل إلى مكان الموعد بنعمة ربنا يسوع المسيح”. الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

 

 

العظة السادسة: موسى والسبعين شيخًا

زواج موسى والحبشية

في كثير من النصوص قرأت جملة لضيق الوقت وعظمة الأسرار لا تسمح لنا أن نتحدث عنها كلها. ولكن سنستطيع حينئذ أن نقطف بعض الأزهار في هذه السهول الواسعة، وليس كل الأزهار التي تستطيع أن تقدمها الأرض، لكن بقدر ما يكفي حتى نشتم الرائحة العطرة. كذلك عندما نذهب إلى الينابيع، فلا يجب أن نأخذ كل الماء الذي يُسال من مصدر فياض. لكن فقط ما يلزم لكي يقتل عطش حنجرة جافة، أنه لا يجب أن نشرب من الماء العذب بإفراط وإلا يكون ضارًا.

موسى والشيوخ

1 قال الكتاب المقدس “خرج موسى وكلم الشعب بكلام الرب” (عد 11: 24)، طالما يصغى موسى لكلام الرب ويأخذ تعاليمه منه، فهو بالداخل، أنه يمكث بالداخل ويعيش في الخلوة الأكثر سرية. لكن عندما يتكلم للجموع والشعب وعندما يمارس خدمته نحو الناس فأنه لا يستطيع أن يمكث بالداخل يقول الكتاب المقدس فليخرج للخارج، ما هي الفكرة المتضمنة في هذا الكلام؟ إذا علم معلم الكنيسة أسرارًا عميقة لحد ما، إذا ألقى بعض الخطب السرية والخفية عن حكمة الله “بين الكاملين” مادام يظل في الأفكار العميقة، يجب أن نقول بأنه بالداخل وأنه يمكث بالداخل.

لكن عندما يكلم الجموع ويعلن ما يكفي للإنسان العادي وما يمكن أن يفهمه عامة الناس نقول بأنه خرج للخارج وأنه كلم الشعب بكلام الله. بولس كما يتراءى لي عمل هذا أيضًا أنه كان بالداخل عندما قال “نعلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سر الحكمة التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر” (1كو 6: 8)، انظر بولس وهو في الداخل كيف أطلع على الأسرار الداخلية الإلهية، عندما استلم هذه التعاليم. لكن عندما يذهب للجموع اسمع ما يعلمه “لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم” “لا يسرق السارق فيما بعد” “لكل واحد امرأته ولكل واحدة رجلها” هذه الكلمات وكل الكلمات الأخرى التي بنفس الطريقة هي تعاليم بولس الرسول “خارجًا للخارج” والتي يعلمها للشعب كما فعل موسى النبي.

الروح المشترك للشيوخ

2 لكن فلننظر إلى إصحاح آخر: أنه يحكي فيه بأن “موسى اختار سبعين رجلاً من شيوخ الشعب وأوقفهم حول الخيمة وأخذ الله من الروح الذي على موسى وجعل على السبعين شيخًا، ولما حل عليهم الروح قال الكتاب: الكل تنبأوا”، الكتاب قال بأن الله أخذ من الروح الذي على موسى وأعطى منه للسبعين شيخًا. وليس المعنى أن الله أخذ من جوهر موسى الجسدي والمادي وجزأه على سبعين جزء وأعطى لكل شيخ قسم صغير، أنه يكون من عدم التقوى أن ندرك طبيعة الروح القدس بهذه الطريقة.

لكن فلنفهم أيضًا الرمز المكتوب في هذا النص الغامض، موسى والروح الذي عليه هما مثل مصباح ساطع جدًا وأنار الله منه السبعين الآخرين، فلمعان النور الأول قد بسط على المصابيح الأخرى بدون أن يضعف المصدر من هذه المشاركة، وبهذه الطريقة ينسب للنص معنى مقدس “الله أخذ من الروح الذي على موسى، وأعطى منه للسبعين شيخًا” (عد 11: 25).

الشروط الواجب توافرها لحلول الروح القدس في النفس

3 لكن فلننظر إلى ما يلي “روح الله حل عليهم والكل تنبأوا” الروح في الكتاب المقدس لا يحل على أي إنسان، لكن فقط على القديسين والطوباويين، روح الله حل على الذين لهم قلب نقي وعلى الذين يطهرون أنفسهم من الخطية، وبالعكس أنه لا يسكن في جسد تتسلط عليه الخطية، حتى ولو سكن في هذا الجسد وقتًا معينًا. الروح القدس لا يمكنه احتمال الشركة مع روح الشر، فإنه بكل تأكيد في لحظة الخطية نجد أن روح الشر هو الذي يكون في داخل نفس الخاطئ وهو يلعب دوره فيها وذلك عندما نترك روح الشر يدخل وعندما نستقبله فينا بواسطة أفكار دنسة ورغبات دنسة فالروح القدس حينئذ يكون مليئًا بالحزن وبالضيق أن أمكنني أن أتجرأ وأعبر بهذا التعبير. لذلك الرسول وهو عالم بأن الأشياء تحدث أيضًا بهذا الشكل قد أعطى النصيحة “لا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء” (أف 4: 30). إذًا بالخطية نجعل الروح القدس يحزن، بالعكس بحياة صالحة ومقدسة، سنمهد للروح القدس مكانًا فينا ليستريح. أيضًا مما قد قُص علينا الآن بأن الروح القدس قد حل على الشيوخ السبعين، ألم يمجد حياتهم وألم يظهر لهم عن فضائلهم، كما أن الروح القدس قد حل عليهم بسبب نقاوة قلوبهم، وصفاء نفوسهم واستعدادهم للفهم، فهو يحل فيهم حالاً، أنه لا يرضى أبدًا بالتأخير إذ يجد هناك أرضًا مستحقة لأعماله. الكتاب المقدس يقول بالحقيقة “روح الله حل عليهم والكل تنبأوا”(عد 11: 25).

الروح القدس حل على يسوع المسيح

إذن حل الروح القدس على الذين تنبأوا، ولكنه لم يستقر كما استقر على المخلص. لذلك قد كتب عنه “ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الرب روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب” (أش 11: 2 3). لكن ربما تقولون إنك لم تذكر لنا من قال عن المسيح أكثر مما قيل عن الناس الآخرين، حيث إنه قد قيل عن الآخرين إن الروح قد حل عليهم، وذلك كما قيل عن المخلص “روح الله حل عليه” لكن لاحظ جيدًا أنه غير مكتوب في أي مكان أن روح الرب قد حل على أشخاص آخرين بهذه القدرة. هذا نلاحظه في هذه النبوة، أننا بكل تأكيد نجد أن جوهر روح الرب نفسه الذي لا يمكن أن يكتب تحت اسم موحد قد بين بكلمات عديدة، وقد حل على “الأصل” الذي من ذرية يسى. عندي أيضًا شاهد آخر يمكنني به أن أثبت وأؤكد بأن الروح قد حل على سيدي ومخلصي بطريقة خارقة وبطريقة مختلفة عن الأشخاص الآخرين، وهو يوحنا المعمدان الذي قال عنه “الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقرًا عليه، فهذا هو…” (يو 1: 33).

فلو أن الله قال “سترى الروح نازلاً” بدون أن يضيف، ومستقرًا عليه فقد يكون المسيح غير مميز عن الآخرين ولكنه أضاف، ومستقرًا عليه، حتى يكون المخلص مميزًا بهذه العلامة التي لا نستطيع أن نجدها في مكان آخر. فأنه غير مكتوب إطلاقًا عن الأشخاص الآخرين أن الروح القدس قد استقر على أحد منهم.

واستقر عليه وحده:

فلا تعتقد بأني أقلل من شأن الأنبياء، فهم أنفسهم يعلمون أني لم أصغرهم بوضع ربي يسوع المسيح فوقهم، فالكل يتذكر هذه الكلمات ولا يجد أي شخص آخر قيل عنه: “الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر” (1بط 2: 22)، فلأنه هو الوحيد الذي لم يفعل خطية استقر الروح عليه ومكث فيه. فإنه بالحقيقة قد قيلت عنه هذه الكلمات الوحيدة والعجيبة التي ذكرت أعلاه: “لم يفعل خطية” فمن الواضح بأن كل الأشخاص الآخرين فعلوا الخطية. وإذا كان الكل خطاة فبالضرورة يكون الأنبياء أيضًا، وكيف نستطيع أن نقول إنه في لحظة الخطية يمكث الروح القدس؟

وأنه يبدو لك بأنه غير معقول أن الأنبياء بعدما حل عليهم الروح القدس قد اخطأوا؟ فلنرجع لموسى نفسه الذي نتكلم عنه والذي يعتبر الأكبر والأعجب من بين الأنبياء. أنه كتب عن نفسه، أنه شهد على نفسه هذه الشهادة بأنه أخطأ بقوله: “اسمعوا أيها المردة. أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء” (عد 20: 10)، بهذه الكلمات لم يقدس الرب بماء الخصام، وبمعنى آخر إنه لم يكن لديه ثقة بقوة الله، وبدلاً من أن يقول: “الله يستطيع أن يخرج ماء من هذه الصخرة، نجده أجاب بعدم يقين، أمن هذه الصخرة نخرج لكم ماء؟”

حيث إن الله حسب له هذه الكلمات خطية. فبكل تأكيد أنها لم تأت من الروح القدس ولكن من روح الخطية. وإن كان الكتاب المقدس يبين أن أحد الأنبياء الكبار مثل موسى كان أحيانًا حاصلاً على الروح القدس وأحيانًا في وقت الخطية غير حاصل عليه، فبكل تأكيد يجب أن نفكر بنفس الطريقة عن الأنبياء الآخرين. ماذا نقول عن داود؟ أنه يعتبر أن الروح القدس ممكن أن يسحب ويؤخذ منه فهو يصلي حتى لا يؤخذ منه بقوله “لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدس لا تنزعه مني” وفي الآية التالية يطلب داود الهبة التي قد سحبت منه بسبب الخطية قائلاً: “رد لي بهجة خلاصك وبروح مقتدرتك أعضدني”.

لماذا نتذكر سليمان؟ شخص لم يقل بأنه يرجح أحكامه أو يبني هيكل الله بدون حضور الروح القدس، وبالعكس فإنه مع وجود الروح القدس قد شيد الهياكل لأبالسة وفتح ذراعيه للنساء والأثمة.

والنبي الذي قد دون في الكتاب الثالث من كُتب الملوك قد أرسل إلى بيت إيل بأمر الله، فبواسطة روح الرب قد نطق بكلمات الله، لكن لا يجب أن نصدق أنه بواسطة روح الرب خالف أمر الرب، بأن لا يأكل خبزًا في بيت إيل وأنه بسبب الخطية قتل بواسطة أسد (1مل 13: 11)، ولكن سيطول بنا الحديث لو استعرضنا كل الأنبياء.

بدون أن نؤكد ذلك تمامًا، اعتقد بالنسبة لي أن بعض أفعال الناس العادية، توجد فيها الأشياء التي حتى ولو أنها خالية من الخطية تبدو مع ذلك غير مستحقة لوجود الروح القدس. فمثال الزواج الشرعي هو خالي من الخطية ومع ذلك في الأثناء التي تتم فيها الأعمال الزوجية لا يعطي وجود الروح القدس حتى ولو كان كما يبدو لي أن الذي يتمم أعمال التناسل هو نبي. وهناك أعمال أخرى لا تكفي القوة البشرية لإتمامها وليس من الضروري أو ليس من المناسب أن يكون الروح القدس موجودًا فيها. إننا بنوع من الاستطراد بحثنا هذه النقطة ولكننا نريد فقط أن نبين بأنه فقط في ربي ومخلصي يسوع المسيح روح الرب يمكث دائمًا عليه “استقر عليه” أما على القديسين والشيوخ السبعين. الذين قد ذكرناهم، فلم يحل عليهم روح الله ولم يؤثر فيهم إلا لمدة محدودة والتي تتناسب مع تنفيذ عمله بواسطتهم، والتي تعتبر مفيدة للذين كان عملهم لخدمته.

المرأة الكوشية وكنيسة اليهود

الدرس الذي قرأناه يبين لنا أن موسى تزوج من حبشية كوشية. ومريم وهارون عاتبًا موسى لزواجه من هذه الحبشية بقولهما “هل كلم الرب موسى وحده ألم يكلمنا نحن أيضًا؟” ويقول الكتاب المقدس “الرب سمع ثم أمرهم أن يخرجوا إلى خيمة الاجتماع، وجاءت عليهم دينونة، فمريم أصبحت برصاء”، وبعد ذلك دعيت للمحلة (انظر عد 12: 1 15). لكن نشرح ذلك باختصار نقول بأن مريم هي رمز الشعب البداني، موسى رمز لشريعة الله، وهو الذي تزوج من امرأة كوشية منبئًا باتحاد جميع الأمم بالرب.

موسى هو الذي يرمز إلى الشريعة الروحية، إذن باتخاذها زوجة له نبوة لقبول الأمم، ومريم التي هي جماعة اليهود الحاليين[22]، وسخطت هي وهارون في نفس الوقت، بمعنى آخر الكهنة والفريسيين أيضًا. إذن الشعب القديم مازال ينقصه الاحترام نحو موسى إلى الآن الذي هو رمز لمخلصنا وهو لا يعلمنا ختان الجسد وحفظ السبت والتقدمات الدموية ولكن أمرنا بختان القلب وبطلان الخطية. وأن نحتفل بالأعياد بفطير الإخلاص والحق ونقدم ذبائح الشكر وليس ذبائح من البهائم.

الرب إذًا أدانهما وأيد الزواج من الكوشية، والرب سمح لموسى أن يسكن معها وأن يستقر معها، ولكن حجز مريم خارج المحلة، وجعلها زيادة على ذلك تخرج خارج خيمة الاجتماع. وهارون قد طُرَد معها. فضلاً عن ذلك مريم أصبحت برصاء. انظر الآن هذا الشعب انظر البرص الذي تركته له الخطية، أي ظلام قد ملأه، أي عبادة شنيعة، أي منظر مخيف هو فيه، ومع ذلك هذا البرص لن يمكث دائمًا لكن عند اقتراب الزمان من نهايته، سيدعي للمحلة حقًا، وفي نهاية العالم عندما يدخل ملء الأمم “حينئذ سيخلص جميع إسرائيل” (رو 11: 25)، وفي تلك اللحظة سيترك البرص وجه مريم وستحصل على مجد الإيمان وعظمة معرفة المسيح، وسيرجع وجهها مرة أخرى إلى لمعانة عندما تتحد الرعيتان معًا حينئذ لا تكون إلا رعية واحدة وراعٍ واحد، وحينئذ يجب أن يقال حقًا “يالعمق غنى الله وحكمته وعلمه الذي أغلق على الجميع معًا في العصيان لكي يرحم الجميع…” (رو 11: 32، 33) في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد إلى أبد الآبدين آمين.

 

العظة السابعة

معاقبة مريم ومجد موسى

 الجواسيس في كنعان

حادث مريم: المعنى الحرفي

1 يقول الرسول “هذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً وكتبت لإنذارنا” (1كو 10: 11)، إذًا أبحث عن الإنذار المستخرج من الدرس الذي سبق أن قُرئ “هارون ومريم احتقرا موسى” ولهذا الحادث قد عوقبا، حتى أن مريم أصيبت بالبرص وهذا العقاب له أهمية كبرى لأنه على مدى الأسبوع الذي كانت مريم فيه مصابة بالبرص كان شعب الله لا يتابع رحلته نحو أرض الموعد وخيمة الاجتماع لم تنتقل من مكانها (انظر عد 12: 10).

الدرس الروحي: ضد الإدانة

التعليم الأول التي استخرجه منه: تعليم نافع وضروري، هو أنه لا يجب أن “تحتقر أخاك” (مز 50: 20)، أو قريبك، ولا تفتح فاك لتشتم، أني لا أقول فقط عن القديسين لكن أي من كان، عندما أرى مقدار غضب الله ومقدار الانتقام الذي وقعّه. ففي المزامير نرى أن الله يغضب بنفس الطريقة ضد هذه الخطية عندما يقول “تجلس تتكلم على أخيك ولابن أمك تضع معثرة” (مز 50: 20)، وأيضًا في مزمور أخر نتعلم أن هذا يحزن الله فوق كل شئ إذ يقول “الذي يغتاب صاحبه سرًا هذا أقطعه” (مز 101: 5).

بمساعدة كل هذه الوصايا من الكتاب المقدس “كمثل سيف ذو حدين” (رؤ 1: 16)، اقطعوا هذه الرذيلة، نتجنب أن ندين وكل من يتكلم بالسوء على أخيه يصاب بالبرص.

المعنى السري: النمامون ضد موسى

ليس اليهود فقط هم الذين احتقروا موسى بل الهراطقة أيضًا، الذين لم يقبلوا الشريعة والأنبياء، فمن عاداتهم أن يتهموه بقولهم أن موسى كان قاتلاً لأنه قتل المصري. يطعنونه هو والأنبياء بتجاديف أخرى فاضحة بسبب هذه الانتقادات، أصيبوا بالبرص في نفوسهم، اصبحوا برصًا في الإنسان الداخلي ولهذا السبب قد “طردوا من المحلة”، من الكنيسة، إذًا الهراطقة الذين يسبّون موسى، وكذلك أعضاء الكنيسة الذين يحتقرون اخوتهم ويدينونهم، هم بدون شك يصابون بالبرص في أنفسهم. بشفاعة هارون الكاهن الأكبر شفيت مريم في اليوم السابع، لكن نحن إذًا أصبنا بالبرص في أنفسنا بسبب الدينونة، سنظل برصاء ودنسين حتى آخر الأسبوع من هذا العالم[23]. أي ليوم القيامة إن لم نصلح أنفسنا في زمن التوبة بأن نرجع بأنفسنا إلى الرب يسوع ونتضرع له ونطهر من البرص بالتوبة.

 

المفسرون الجسديون

لكن في رأيي أنه ليس شعب الشريعة القديمة ولا الهراطقة فقط هم الذين يحتقرون موسى، بل أيضًا كل مفسر يفهم كتب موسى بطريقة سيئة، والذي يفهم هذه الشريعة جسدانيًا يسبّ موسى بأن يستخرج من كلام الروح تعاليم جسدية. هل سمعتم أي حكم، أي لوم يصيب الشتامين والنمامين؟ اسمع الآن ما هي الفوائد التي يحصل عليها الذين يعاب في حقهم، لم نجد الله مطلقًا يمدح موسى خادمه بمدح هذا مقداره إلا عندما أُهين موسى.

مديح خاص لموسى

2 إذا فلنسمع المديح الذي منحه الروح القدس لموسى، يقول الكتاب المقدس “نزل الرب في عامود سحاب ووقف في باب الخيمة، ودعا هرون ومريم فخرجا كلاهما، فقال لهما: اسمعا كلامي إن كان منكم نبي للرب، فبالرؤيا استعلن له. في الحلم أكلمه وأما خادمي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي فما إلى فم، وعيانًا أتكلم معه لا بألغاز. وشبه الرب يعاين فلماذا لا تخشيان أن تتكلما على عبدي موسى؟ فحمى غضب الرب عليهما ومضى. فلما ارتفعت السحابة عن الخيمة إذا مريم برصاء كالثلج” (عد 12: 5 10)، فلننظر أي عقاب قد جلب على النمامين وأي مديح قد استحقه ذلك الذي انتقدوه، لهما الخجل، وله الكرامة، لهما البرص وله المجد، لهما الخزي وله العظمة، هذا ما قد حصل عليه.

ألغاز وحقائق

لكن قبل أن يتزوج موسى المرأة الكوشية لم يكتب بأن الله كلم موسى “بالحقائق وليس بالألغاز” (عد 12: 8)، لكن عندما تزوجها، حينئذ قال الله “فما إلى فم وعيانًا أتكلم معه لا بالألغاز” حقًا أخيرًا عندما آتي موسى إلينا، واتحد بكوشية[24]، حينئذ انتهى إعلان شريعة الله لنا على شكل أمثال وصور بل في اكتمال الحقائق. فالذي كان يعلن أولاً “بالألغاز” أصبح يتم واقعيًا وحقًا. لذلك يقول مفسر الحقائق السرية بأمثال “نعلم أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم اجتازوا في البحر وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعامًا واحدًا روحيًا وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح” (1كو 10: 1 4). إنك ترى كيف فسر بولس الرسول غوامض الشريعة وعلم الحقائق التي تضمنتها، أنه يقول إن الصخرة كانت بالرمز عندما قبل موسى أن يتحد بالمرأة الكوشية التي تمثلنا، وأن الصخرة الآن إنما هي بالحقيقة المسيح، لأن الله الآن يتكلم في الشريعة فما لفم. قديمًا كانت المعمودية بالرمز في السحابة وفي البحر، والآن الميلاد الثاني يتم بالحقيقة بالماء والروح القدس. في القديم كان المن طعامًا بالرمز والآن جسد كلمة الله هو الطعام الحقيقي كما يثبت ذلك من كلام الله “جسدي مآكل حق ودمي مشرب حق” (يو 6: 55). لأجل ذلك، الآن أنتقل إلينا موسى وتزوج من الكوشية فلا يكلمنا بعد بالألغاز بل بالحقيقة.

موسى رأي مجد الرب

أضاف الله أيضًا: “أنه يعاين مجد الرب”، متى رأى موسى مجد الرب؟ أقول عندما ظهر موسى مع الرب على الجبل كان بجانب الرب مع إيليا، وكانا يتكلمان معه. لهذا السبب يمكن للرب أن يضيف بعد ذلك “وكيف لم تخشوا أن تتكلموا على عبدي موسى؟” وذلك موجه حقًا إلى الذين يبدو عليهم أنهم قبلوا الإنجيل ولكنهم يهينون موسى، فإنهم يستحقون تمامًا هذا العتاب. فرغم أنهم قد تعلموا بالإنجيل أن موسى قد رأى مع إيليا مجد الرب، فإنهم بجسارتهم يهينون الشريعة والأنبياء. لا نحتقر إذن موسى ولا نهين الشريعة عالمين ليس فقط أن نسمع الشريعة، لكن أيضًا أن نعمل بها، حتى نستحق أن “نشترك في تمجيد موسى”.

يجب شرح الشريعة

لكن في رأيي يوجد أيضًا مجال لإهانة موسى، مثلاً عند قراءة سفر اللاويين أو العدد دون إيضاح كيف يجب أن نفهم بالحقيقة ما تحويه هذه الأسفار من رموز، أي عندما لا تشرح دروس الشريعة روحيًا. حيث إنه أمر خطير أن الذين يسمعون في الكنيسة قراءة طقوس التقدمات وشرائع السبت.. الخ يكونون في خطر أن يتعثروا وأن يقولوا: ما أهمية قراءة ذلك في الكنيسة؟ وماذا تفيدنا تعاليم اليهودية والمراسيم لشعب ذليل؟ أنها أعمال اليهود. وعلى اليهود أن ينشغلوا بها. فلكي نجنب السامعين مثل هذه العثرة، يجب الاهتمام بمعرفة الشريعة، مع وضع هذه الفكرة كأساس وهي أن “الشريعة روحية” (رو 7: 14)، ولكي تفهم كل الدروس ولئلا بسبب خطأ المعلمين وبتكاسلهم وبإهمالهم، يقوم الجهلاء ويهينون موسى وبالعكس “فلنرجع إلى الرب ويرفع عنا برقع”، الحرف (2كو 3: 16) حتى أن وجه موسى بدلاً من أن يظهر كريه المنظر يبدو ممجدًا وجميلاً، وبدلاً من أن نهينه نقدم له الاحترام والتمجيد لعظمة أفكاره.

سحابة الروح وبرص الخطية

“فحمى غضب الرب عليهما ومضيا، فلما ارتفعت السحابة عن الخيمة إذا مريم برصاء كالثلج” (عد 12: 9 10)، غضب الرب وقع على المجدفين والنمامين. لكن الكتاب المقدس يقول “السحابة عندما، ارتفعت عن الخيمة إذا مريم برصاء كالثلج” يجب أن ننتبه لهذه الواقعة بأن السحابة ارتفعت أولاً وبعد ذلك تسلط البرص على مريم، وهذا لكي يتضح أنه إذا كان أحد حاصلاً على الروح القدس ويحتقر ويدين فالروح يرتفع عنه بعد الإدانة. والبرص يتسلط على روحه. لقد حصل الشعب القديم على نعمة الله لكن بعد أن جدف على موسى الحقيقي ربنا يسوع المسيح ارتفعت عنه السحابة وانتقلت إلينا، وعندما تجلى سيدنا على جبل مرتفع، وإذا “سحابة نيرة قد ظللت تلاميذه وصوت من السحابة قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت 17: 1؛ مر 9: 2).

فإنه بعد ذلك أصبحت مريم برصاء، بيضاء كالثلج، فمادامت السحابة موجودة، لا تكون مريم برصاء لكن أصبحت برصاء عندما ارتفعت السحابة عنها. ولما كان الشعب في حضرة الله لم يكن أبرصًا لكن عندما ابتعد عن الله، غطى الخجل وجهه فلنخشَ إذًا لئلا تبتعد عنا السحابة بواسطة كلامنا السيئ وأعمالنا الدنسة وأفكارنا النجسة، حيث أن برص الخطية يظهر فينا عندما تتركنا نعمة الله.

السقط: الشعب اليهودي

3 “فالتفت هارون إلى مريم وإذا هي برصاء فقال هارون لموسى، أسألك يا سيدي لا تجعل علينا الخطية التي حمقنا وأخطأنا بها. فلا تكن كالميت الذي يكون عند خروجه من رحم أمه قد أكل نصف لحمه” (عد 12: 1 12)، الكتاب المقدس يريد أن يبين أن الشعب القديم قد تكون في رحم أمه – أي المجمع – لكن لم يستطع أن تكتمل ولادته، كذلك حقًا أن السقط هو ناتج غير تام ومشوه، هكذا هذا الشعب قد مكث بعض الوقت في رحم أمه. أي في مدرسة مجامع اليهودية، لكن بسبب خطاياه لم يستطع أن يحصل على شكله الكامل وأن يدخل في الحياة، لذلك رُفِضَ السقط غير الكامل لأن الخطية أكلت نصف لحمه، كما يقول الكتاب المقدس.

 

كلمة “سقط” بالمعنى الحسي

يحدث رغم ذلك أحيانًا أن كلمة سقط تؤخذ بمعنى طيب أنه جيد أن نقارنها مع أشياء أخرى كما يقول الجامعة “سقط خير منه”. خير من “الذي يتقدم نحو الباطل ويسير في الظلمات” (جا 6: 3؛ 9: 4). لا يقصد سفر الجامعة أن السقط يكون جيدًا بالمعنى المطلق لكنه أفضل من حياة قضيت في الباطل وفي الظلمات وفي الجهل. أنه مقارنة بين أمرين.

حياة وموت

والواقع أن سفر الجامعة يقول أيضًا في موضع آخر أن “الأموات أفضل من الأحياء” (جا 7: 1). وإذا قارنا السقط بالأحياء سنقول بأنه أفضل منهم. فإذا فحصنا من هم الأحياء ومن هم الأموات، وإذا فهمنا أن السقط أفضل منهم على أنه لم يتذوق بداية حياة هذا العالم، سندرك الدرجات المقصودة من هذه المقارنة، لاحظ أن سفر الجامعة يدعو الأحياء أولئك الذين قيل عنهم في المزمور “إنما نفخة كل إنسان قد جعل” (مز 39: 5)، إذًا كل إنسان أي الإنسان الذي هو نفخة عابرة فالسقط أفضل منه، حيث إن كل حياة مغموسة في الباطل. أي أن الحياة حسب الجسد وحسب الغواية، وملذات الأموات هي حياة الباطل، فالذي مات عن هذه الحياة، هو أفضل منه، ويستطيع أن يقول “العالم قد صلب ليَّ وأنا للعالم” (غل 6: 14). لقد قيل عنه “متم مع المسيح”. هؤلاء الأموات أفضل من الأحياء لكن يوضع فوقهم السقط الذي قد جاء شبه جسد، لكنه لم يبدأ بأنه يتعلق بأباطيل هذه الحياة، مع ذلك فسفر الجامعة يتكلم أيضًا عن آخر أفضل من السقط كما يبدو من قوله: “وخير من كليهما الذي لم يولد بعد” (جا 4: 3). بمعنى الذي لم يمر بسجن الرحم وبالميلاد الجسدي أما عن كلمة الجامعة نفسها “غبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان أكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد” (جا 4: 2)، فيتضح أن الذين ماتوا عن العالم هم أفضل، ويعلن أن الذين يعيشون بحسب هذا العالم هم أدنى منهم. وبالمعنى الحرفي كيف يكون الأموات مغبوطين أكثر من الأحياء؟ يغبط شخص ما عامة لحسن نيته، أما الموت بالمعنى العام، فهو لا يأتي من الإرادة ولا من الاختيار الواعي فكيف نكون مستحقين للغبطة عن أمر يأتي ضد إرادتنا؟ إذًا يجب أن يغبط فرعون ملك مصر الذي غرق في البحر أكثر من موسى الذي خرج من البحر حيًا، والمصريون أكثر من شعب الله الذي عبر وسط البحر بأرجل غير مبللة؟ لا تفهم الأمر كذلك، أعلم بأنه يجب أن تغتبط بأنك مت عندما يمكنك أن تقول “قد صلبت مع المسيح فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيًّ” (غل 2: 9 20)، إذا كنت قد زهدت العالم، وطرحت الرذائل، إذًا بدلاً من أن تتجه نحو الخطية، تكون أنت قد مت عنها، وتكون أفضل من الذي يعيش للخطية وموتك يكون مستحقًا للمدح حيث لا أحد يمدح على الموت الطبيعي الذي نعانيه نتيجة القوانين الطبيعية.

عودة إلى الشعب اليهودي

هذه العودة كانت ضرورية بالنسبة للنص الذي فيه يقول كلام الله أن مريم بسبب إدانتها لموسى وبطريقة العقاب قد أصبحت “سقط”.

كان يجب أن نوضح بأنه يوجد نوع جيد ونوع ردئ من السقط، حيث يقول الرسول أن في الرتب التي سبق أن قلناها توجد رتبة للسقط مستحقة للمديح إذ قال عن نفسه “وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا” (1كو 15: 8)، مريم إذن “أصبحت مثل السقط” (عد 12: 12)، حقًا هذا الشعب لم يستطيع أن يصل إلى الكمال بالشريعة كما يؤكده بولس “الناموس لم يكمل شيئًا” (عب 7: 19)، وأخيرًا يقول الرسول أيضًا عن البعض “سقط” في الإيمان، وهم الذين كان يعلمهم لكي يوصلهم للولادة الكاملة “يا أولادي الذين أتمحض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم” (فل 4: 19).

شفاعة موسى

4 “وصرخ موسى إلى الرب قائلاً: اللهم اشفها” (عد 12: 12)، من هو الشخص المناسب لكي يصلي للرب لأجل شفاء هذا الشعب إلا موسى؟ موسى يصلي لأجله فإنه ربما لأجل هذا كان يتحدث مع الرب يسوع المسيح وقت التجلي، لكي يطلب من السيد الرب أنه حينما يدخل ملء الأمم حينئذ يخلص جميع إسرائيل.

 

عقاب مريم والشعب اليهودي

فقال الرب لموسى “لو بصق أبوها بصقًا في وجهها أما كانت تخجل 7 أيام وتحجز 7 أيام خارج المحلة وبعد ذلك ترجع” (عد 12: 14)،  ماذا يعني لو بصق أبوها بصقًا في وجهها ستغطي بالخجل لمدة سبعة أيام؟

لقد أوضحنا أن مريم تمثل جماعة اليهود[25]، أبوها قد بصق في وجهها، البصق في الوجه هو علامة التخلي حيث قد كتب في الناموس بشأن إجبار الأكثر قرابة أن يتزوج أرملة قريبة فإن رفض الأكثر قربًا من الأهل الزواج يصير مخلوع النعل ويقبل “البصق في الوجه”. لدينا أيضًا معنى مخصص للبصق في نص إشعياء النبي “كل الأمم كنقطة من دلو تحسب مثل البصاق” (إش 40: 15)، هذا يبين أن هذا الشعب قد رفض مثل الأمم الأخرى التي حسبت مثل البصاق، وبالحقيقة إذا اعتبرنا عظمة هذا الشعب السابقة عندما كانت عنده رتبة الكاهن الأعظم وعلامات الكهنوت وخدمة اللاويين وجلال الهيكل ووقار النبوة، عندما كان هذا الشعب يتمتع على الأرض بالامتيازات السماوية، أي شرف وأي مجد؟ وإذا نظرنا له الآن وهو في الرعب والذلة، محروم من الهيكل والمذبح، من الذبائح والأنبياء ومن الكهنوت، وبالتالي محروم من كل حضرة إلهية مشتتًا في كل الأرض، وعائشًا في المنفى، كيف لا نعرف أن أبوه قد بصق في وجهه وغطى وجهه بالخجل؟ مريم قد منعت من دخول المحلة خلال سبعة أيام. لقد سبق أن قلنا إن السبعة أيام هذه تمثل هذا العالم، فأنه في سبعة أيام قد ظهرت كل أجناس الخليقة المرئية وُجِدَ الذي لم يكن موجودًا، لكن في أسبوع هذا العالم يطور الله بتدبير سري ومعروف لديه وحده محتوى الخليقة الأولى. وفي أسبوع برص مريم لن ينتقل أبناء إسرائيل من محلتهم ومكثوا محبوسين في نفس المكان ولم يحصل أي تقدم لديهم “حتى تطهرت مريم من البرص” (عد 12: 15).

مرحلة اهتداء اليهود مستقبلاً

5 “بعد ذلك ارتحل الشعب من حضيروت ونزلوا في برية فاران” (عد 12: 16)، حضيروت، تعني مساكن كاملة، ارتحل الشعب إذن عندما طهرت مريم من البرص ووصلوا إلى فاران التي تعني الفم المرئي. تستطيع أن تفهم كما يبدو لي معنى هذا الفم المرئي بالقول “الكلمة صار جسدًا” (يو 1: 14)، أي الغير مرئي أصبح مرئيًا، وهذا يعني أنه عندما تأتي نهاية كل شئ وكماله مما سيحدث لهذا الشعب أنه ينتقل ويأتي إلى الكلمة الذي صار جسدًا والذي لم يكن قد اعترف به من قبل.

قصة الجواسيس

“ثم كلم الرب موسى قائلاً أرسل رجالاً ليتجسسوا أرض كنعان التي أنا معطيها لبني إسرائيل” (عد 13: 1 2)، وفي باقي القصة إذًا أن الجواسيس عند عودتهم من مهمتهم أبلغوا أن الأرض جيدة وعجيبة لكن الشعب الساكن في الأرض هم بني العمالقة، لكن يشوع “يسوع” لم ييأس من هذا بل شجع إيمان الشعب باتفاق مع كالب الذي هو من سبط يهوذا وقالا “إن سر بنا الرب يدخلنا إلى هذه الارض” (عد 14: 8).

معنى آخر لطرد الأبالسة من أرض الموعد

ما هو المعنى لهذه الكورة، هذه الأرض المقدسة الجيدة لكن سكانها من غير المؤمنين؟ من هم هؤلاء الأعداء الذين يسكنون كورة القديسين؟ بأي معنى يجب أن يطردوا حتى يحل محلهم القديسون؟ لنرجع للأناجيل، لنرجع إلى الرسول. 

إن الأناجيل وعدت القديسين “بملكوت السموات” (مت 2)، والرسول يقول “فإن سيرتنا نحن هي في السموات” (في 13: 20)، إذًا الميراث الموعود للقديسين هو في السموات. ولماذا لم يكن بهذه الكورة التي وعدنا بها الآن، سكان يجب أن نطردهم؟ وكيف يستطيع السيد الرب أن يقول إن “من أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السموات يغتصب والغاصبون يختطفونه” (مت 11: 15)، حقًا إذا لم يوجد من نقاومه، أو من نطرده فكيف يقال أن “ملكوت السموات يغتصب؟” وإذا لم يوجد خصوم لمقاومتهم ولقهرهم فلماذا قال الرسول “إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف 6: 1)، كذلك يجب أن نطبق عليهم الكلام الذي قال النبي الموحي به “لأنه قد روى في السموات سيفي” (إش 34: 5). إذًا الأرواح الشريرة التي هي في رأي بولس تتجول في السماويات هم الكنعانيون الحقيقيون الذين يجب أن تقهرهم ويطردوا من السماويات حتى تسكن مكانهم.

إعلم بأنهم “عمالقة” ومعنى عمالقة في الكتاب المقدس، هم كل من يقاوم الله. إذن هم كل من يعاند الله ويخالف الحق. وذلك هو أهم نشاط للعمالقة، فهو يحمل اسم عملاق بجدارة، فأنت تدخل الملكوت بعدما تقهرهم. ألم يكن مكتوبًا عن أحدهم “هل تسلب من الجبار غنيمة؟” (إش 49: 24)، هذا أيضًا ما يشرحه كلام الرب في الإنجيل “لا أحد يستطيع أن يدخل القوى وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولاً” (مت 12: 29). ولو أن كبرياءه قد طرده من قبل من المسكن السماوي إلا أنه يشترط أن تقهره حتى تدخل في بيت القوي، ولا يكفي أن تقهره بل يجب أن تربطه، إن لم يربط فلن تكون رحلتنا في ملء الأمان في الوقت الحاضر.

فإذا قارنا بين الطبيعة البشرية وطبيعة الأبالسة سنجد أنفسنا جراد وهم عمالقة وبالأخص إذا كان إيماننا متذبذبًا إذا كان إيماننا الضعيف يجعلنا نرجع للخلف فسيكونون هم حقًا جبابرة ونحن جراد. لكن إذا تبعنا يسوع (يشوع) إذا آمنا بكلامه، وإذا نحن إمتلأنا من إيمانه فسيصيرون كلا شئ أمامنا، اسمع كيف يقوى الله اليهود “إن سر بنا الرب يدخلنا إلى هذه الأرض”، لأنها جيدة جدًا وثمارها عجيبة. لقد سبق الله وأعطى لآبائنا الرمز والشبه وأما الحقيقة فقد اكتملت لنا. لقد طردوا الأمم وأخذوا ميراثهم، إنهم قد تسلطوا على كل اليهودية وعلى مدينة أورشليم وجبل صهيون وهذا ما قد فعلوه. وأما نحن فماذا يقول لنا الكتاب المقدس “قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة” (عب 12: 22)، وفي موضع آخر يقول الرسول أيضًا “أورشليم العليا التي أمنا جميعًا” (فل 4: 26).

وإذا لم نسمع بالإيمان من الرسول عندما يتكلم عن أورشليم السماوية حينئذ يمكن أن يرفض كلامنا بل يجب أن نصدق بولس الرسول، ونعتقد بوجود أورشليم سماوية، التي ترمز لها المدينة الأرضية ونحن ننسب إلى المدينة السماوية ما هو مكتوب عن أورشليم الأرضية. إذن نحن قد اقتربنا على حسب بولس الرسول من أورشليم السماوية، وبدون أي شك أيضًا من اليهودية السماوية، لقد طرد العبرانيون الكنعانيين من المدينة الأرضية والفرزيين والحثيين والأمم الأخرى. فنحن الذين قد أتينا إلى جبل الله وإلى ملكوت السماوات يجب علينا أن نطرد القوات المضادة يجب علينا أن نطرد “أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف 6: 13).

والعبرانيون قد طردوا اليبوسيين من أورشليم والمدينة التي كانت تدعى يبوس دعيت بعد ذلك أورشليم، نحن بالمثل يجب علينا أن نطرد بأي طريقة اليبوسيين من أورشليم ونتسلط على ميراثهم، لكن العبرانيين كانوا يستخدمون أسلحة مرئية أما نحن فأسلحتنا غير مرئية هم حصلوا على النصر في معارك جسدية ونحن ننتصر في المعارك الروحية.

بولس الرسول قائد الكفاح الروحي

هل تريد أن تعلم أن بولس الرسول ليس هو فقط معلم الأمم لكن أيضًا قائد لهذه الحملة الروحية فكيف يتقدمنا في هذه المعرفة؟ اسمع ما قد كتبه عن نفسه “إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف 6: 12).

لهذا السبب جمع المحاربين لهذا الكفاح الروحي وغير المرئي، بأسلحة روحية وسهام غير مرئية ويقول “اثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق لابسين درع البر وحاذيين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة وخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح الذي هو كلمة الله” (أف 6: 14 17).

يسوع رئيس الكفاح الروحي

مع هذه الأسلحة ومع يسوع (يشوع) كقائد، لا تخف من الجبابرة، وسترى كيف أن الرب يسوع المسيح سيخضعهم لك، ومثلما داس آباؤنا رقاب الأمم فسندوس رقاب الشياطين. يسوع بنفسه يقول حقًا للذين اقتربوا منه ويتبعونه بإخلاص “ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو” (لو 10: 19)، يسوع يريد في كل مرة أن يعمل معجزات أنه يريد قهر الجبابرة بواسطة الجراد وأن يظفر بواسطة سكان الأرض على “أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف 6: 12) ربما هذا ما كان يسوع يعنيه في الأناجيل عندما قال “من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو ويعمل أعظم منها” (يو 14: 12)، هذا يبدو لي شئ عظيم جدًا حقًا. إن الإنسان سوف يقهر الجبابرة وفرق الأبالسة ورغم أن المسيح هو المنتصر فينا، إلا أنه يفضل أن ينتصر بنا وينسب النصر لنا من أن ينتصر بذاته وحده.

لنطرح عنا الشياطين

إذن لنكن دائمًا مسلحين بهذه الأسلحة ولتكن سيرتنا نحن هي دائمًا في السموات، كل مشاعرنا وكل أعمالنا وكل أفكارنا وكل كلامنا لتكن سماوية، كلما نصعد نحو السماويات بعزم كلما يهرب الأبالسة، كلما نزيد نحن ينقصون هم. إذا كانت حياتنا مقدسة وإذا كانت حسب إرادة الله فإن حياتنا هذه تجلب لهم الموت، وإذا كانت حياتنا مرتخية ومائعة فستعطيهم قدرة ضدنا وستجعلهم جبابرة. كلما نمونا في الفضائل كلما صغروا وأصبحوا ضعفاء. والعكس إذا نحن ضعفنا وبحثنا عن الممتلكات الأرضية فهم يتقوون كلما تملكنا على الأرض كلما تركنا لهم الأماكن السماوية. فلنعمل إذن بالأحرى أن نكبر حتى يصغروا هم، أن ندخل حتى يطردوا هم. لنصعد حتى يسقطوا، كما قال الرب في الإنجيل “رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء” (لو 10: 18). أننا ندوسهم حتى يدخل بنا ربنا يسوع إلى فوق ويؤهلنا للدخول إلى ملكوته في السماء له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

 

العظة الثامنة

عصيان الشعب

القصة

1 إثنا عشر من أبناء إسرائيل قد أُرسلوا ليتجسسوا الأرض “لاستطلاع أرض الموعد” ورجعوا من تجسس الأرض بعد أربعين يومًا ببيانات متناقضة. عشرة من بينهم دفعوا لشعب لليأس وكانوا يريدون سقوط موسى ليختاروا رئيسًا آخر ويرجعوا إلى مصر. الاثنان الآخران بشرا بأخبار جيدة. وشجعا الشعب بأن يتمسك بالإيمان قائلين “إن سر بنا الرب يدخلنا إلى هذه الأرض”. الشعب غير المؤمن سلم نفسه لليأس، وهجم ليرجم حاملي البشري السعيدة، لكن مجد الرب ظهر لكل الشعب، وقال الرب لموسى أني أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيّرك وبيت أبيك شعبًا أكبر وأعظم منهم (عد 12: 3،  26؛ 14:  1 12).

ليس في طبيعة الله غضب:

فإذا كان الرب قد نطق بمثل هذا التهديد ليس لأن الطبيعة الإلهية خاضعة للعواطف ولرذيلة الغضب ولكن لكي تظهر محبة موسى للشعب، ولطف الله الذي لا نستطيع أن ندركه أو نفهمه نحو كل الخطاة. مكتوب أن الله يغضب ويهدد الشعب بالموت. على الإنسان أن يتعلم من ذلك أن له مكانًا عند الله وأنه يحظى باعتبار كبير لدى الله. إذا كان الله لديه أسباب للسخط ضد الإنسان فإن هذا الغضب يهدأ بواسطة ابتهالات الإنسان وتضرعاته ويستطيع الإنسان أيضًا أن يحصل من الله على تغيير الأحكام التي سبق وأصدرها حيث إن اللطف الذي يتبع الغضب يبين مكانة موسى لدى الله ويعرفنا أن الطبيعة الإلهية لا تتفق مع رذيلة الغضب.

شعب جديد

في نفس الوقت يوجد أمر ينبغي أن يتم في المستقبل وهو مختبئ في الوعد الصادر من الله بأن يقام شعب آخر بعد أن يطرح الأول. يقول الله هنا “أني أضربهم بالوباء وأبيدهم وأصيّرك أنت وبيت أبيك شعبًا أكبر وأعظم منهم” (عد 14: 12)، وهذا التهديد ليس ناتجًا عن الغضب لكنه نبوة[26]. حيث إن أمة أخرى يجب أن تختار، وهي شعب الوثنيين لكن هذه الأمة سوف لا تختار بواسطة موسى لذا أعتذر موسى أن يصير معه هكذا[27]. فإن هذه الأمة الكبيرة الموعودة لا يجب أن تحصل على دعوة الله منه، لكن من يسوع المسيح وأن هذا الشعب لا يجب أن يحمل الاسم “موسوى” لكن يحمل الاسم “مسيحي”، لهذا السبب تضرع موسى بإلحاح لصالح الشعب. والرب يوقع العقاب مخففًا ويعلن “الشعب الذي خرج من مصر الذين أهانوني والذين ظلوا غير مؤمنين سيطرحون في القفر” (عد 14: 23). وقال الله “لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم” ولكن فقط أطفالهم الذين هم هنا معي والذين لا يعلمون الخير والشر” (عد 14: 23).

سر أكثر عمقًا

ربما يوجد سر أكثر عمقًا مختبئًا في كلمات الله هذه “أطفالكم الذين هم هنا معي” هنا التي تعني المكان. كيف يكونون “معي”؟ “من له أذنان للسمع فليسمع” (مت 11: 15).

قسوة الله ولطفه

مهما يكن نقول إن الشعب القديم تكّون من آبائنا. وأننا نحن أبناؤهم، هم قد طرحوا بسبب خطاياهم وقد سقطوا، لكن نحن أولادهم قد قمنا وانتصبنا في أماكنهم، نحن الذين لا نعلم الخير ولا الشر حيث أننا أولاد الأمم ونحن لا نعلم لا الخير الذي يأتي من الله ولا الشر الذي هو ناتج من الخطية، لكننا نأخذ المكان الذي طرحوا منه، خائفين من مثل هذه السقطة، وسامعين إنذار بولس “فهوذا لطف الله وصرامته، أما الصرامة فعلى الذين سقطوا وأما اللطف فلك أن ثبت في اللطف وإلا فأنت أيضًا ستقطع وهم أن لم يثبتوا في عدم الإيمان سيُطّعمون” (رو 11: 22 23).

مدة العقوبات

أضاف الرب “وبنوكم يكونون تائهين في القفر 40 سنة” (عد 14: 33، 34). ويشرح السر المتضمن في هذا العدد “كعدد الأيام التي تجسستم فيها الأرض 40 يومًا السنة تقابل يوم تحملون ذنوبكم 40 سنة فتعرفون ابتعادي.

أني أخشى أن أبحث غوامض هذا السر. أني أري أنها تتضمن بيان خطورة الخطية وعقابها. إذًا فكل خاطئ يجب أن يقاسي سنة من المشقة لكل يوم من الخطية. فإذا كان عدد السنين التي يجب أن تمر في العقاب مساويًا لعدد أيام الخطية، فنحن الخطاة الذين نخطئ كل الأيام، وربما لا يمر علينا يوم من حياتنا بدون خطية، وماذا أقول؟ أني أخشى أن دهر الدهور لا يكفي لكي ندفع ديوننا، الواقع إن الشعب القديم تألم في القفر خلال 40 سنة بسبب خطأ 40 يومًا ولم يستطع الدخول إلى الأرض المقدسة. هذا يظهر لنا بعض التناسب مع الدينونة المستقبلة عندما يقدم حساب الخطايا. ربما الأعمال الحسنة تجلب بعض المكافأة، كذلك الأوجاع التي يختبرها الواحد منا في حياته كما علمنا إبراهيم في موضوع لعازر. لكن المعرفة الكلية لهذه الأشياء قد حفظت “للذي قد أعطى له الآب كل الدينونة” (يو 5: 5). أما أن يوم الخطية يساوي سنة من العقاب فهذا لم يشرح في الكتاب بل نجد تعالم مشابهة في كتاب (الراعي) إذا أردنا أن نعتبر هذا الكتاب كالكتاب المقدس[28].

 

القيمة العلاجية للتأديب

ربما نعترض بأنه لا يتناسب مع لطف الله أن يفرض سنة من العقاب عن خطية يوم واحد[29]. وسوف يقال وحتى ولو كانت النسبة ليوم فسوف يظهر أن الله تنقصه الرحمة واللطف. انصت جيدًا ربما نتمكن من أن نحل الصعاب بمقارنات أكثر وضوحًا فإن كان الجسد به جروح، وإذا كان أحد العظام به كسر أو إذا كانت الأعصاب محطمة، فرغم أن جروح الجسد هذه تنتج عادة في أقل من ساعة واحدة، لكنها بعد ذلك تحتاج لكثير من الأتعاب وكثير من الوقت ليتم الشفاء. ويحدث أن يصاب الإنسان بنفس الجروح مرة أخرى أو مرات أخرى كثيرة وأن الكسور تتجدد ويلزمها كثير من الجهد لتشفي. وكثير من الأتعاب وكثير من الوقت حتى يعود ذلك الإنسان إلى كامل صحته؟ وكما أنه من الصعب أن يشفي الإنسان دون أن تتخلف لديه عاهة أو بعض آثار الجروح المؤلمة هكذا في حالة جروح النفس. النفس تكون مجروحة في كل مرة تخطئ، لاشك أنها تكون مجروحة بالخطية، كما يجرح الجسد بالسهام وبالسيوف.

فلننصت للرسول عندما ينصحنا أن نحمل “ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة” (أف 6: 16)، هل ترى؟ الخطايا هي سهام الشرير الموجهة نحو النفس لكن أنفسنا تتعرض لمخاطر أخرى علاوة على هذه الجروح: “وهي الشبكة المهيأة لخطواتنا” (مز 57: 6)، “ومحاولات قلقلتها” (مز 37: 31)، فكم من الوقت ستحتاجه النفس لتشفي من هذا النوع من الجروح؟ آه إذا استطعنا أن نرى في كل خطية كيف يكون الإنسان الداخلي مجروحًا وكم تسبب له الكلمات الرديئة من آلام ألم تقرأ: “إن السيوف تجرح أقل من اللسان”.

النفس إذًا تكون مجروحة باللسان، وتكون مجروحة أيضًا بالأفكار الرديئة والرغبات السيئة لكنها تكون مكسورة ومحطمة بأعمال الخطية. إذا استطعنا أن نرى كل شئ، إذا استطعنا أن نشعر بآثار جروح النفس المصابة، آه سنقاوم الخطية حتى الموت ولكننا نكون كإنسان به شيطان أو كمجانين لا يشعرون أنهم مجرحون، إذ لا يستعملون الحواس الطبيعية أو هم منجذبون بشهوات العالم أو سكارى بالرذائل، لا نستطيع أن نشعر بأي ضربات نضرب بها، وبأي جروح تصيب أنفسنا بالخطية. أن مدة التطبيق العملي للعقاب الذي هو في نفس الوقت علاج ودواء، قد تطول أو تقصر حسب خطورة كل جرح.

تظهر أيضًا عدالة الله ولطفه في العقوبات المحزنة المفروضة على النفس، وفي هذا التأني على الخاطئ حتى يتوب إلى الله ولا يخطئ أبدًا. حيث إن التحول هو في الحياة الحاضرة والتوبة تأتي بثمر يجلب العلاج السريع لهذا النوع من الجروح، لأن التوبة لا تشفي فقط الجرح السابق الإصابة به بل تمنع النفس فيما بعد أن تُجرح بالخطية. سأضيف أيضًا هذا إذا كنتُ خاطئًا، هل أعاقب بنفس العقاب إذا كنت لم أخطئ إلا مرة واحدة وإذا أخطأت مرة أخرى ومرة ثالثة أو أكثر من ذلك أيضًا؟ لأن العقاب يجب أن يكون متناسبًا مع نوع وعدد وكبر الخطية، حيث إن الله سيعطينا خبز الدموع ويسقينا الدموع بالكيل. هذا الكيل سيكون حسب أخطاء كل واحد إذ يقول في موضع آخر: “في يد الله كأس وخمرها مختمرة ملآنة شرابًا ممزوجًا” (مز 75: 8).

إذًا الله سيجهز لكل واحد مزيجًا والحكم سيُنطق ليس فقط على حسب الشر، لكن أيضًا حسب الصالحات التي نكون قد عملناها. ورغم ذلك فإن مزيج الخير والشر يترك رواسب رديئة لن تنتهي بحسب رأيي بشكل كامل[30].

نصيحة نهائية

كل هذا كما سبق أن قلت هو في يد الله. علينا نحن أن نسرع بتطهير أنفسنا بأن نتوب إلى الله دون مكر، بأن نبكي الماضي، وأن نحترس من المستقبل، بأن نطلب العون من الله عندما “نقترب من الله بتنهد عندئذ سنخلص حيث الذي يشفع” (إش 45: 29)، من أجلك أمام الآب، الرب يسوع هو أعظم حالة من موسى الذي “صلى لأجل الشعب” (عد 21: 7)، وقد استجاب الله، وربما لأجل هذا نقل الكتاب المقدس شفاعة موسى عن خطايا الشعب القديم حتى يكون لنا أيضًا ثقة بأن شفيعنا يسوع يحصل لنا من الآب على غفران مؤكد بشرط أن نلتجئ إليه وأن لا “يرتد قلبنا إلى الوراء” (مز 44: 18)، كما نتبع كلمات يوحنا الحبيب في رسالته “يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا” (1يو 2: 1 12)، الذي له المجد والسلطان إلى آبد الآبدين آمين.

 

 

العظة التاسعة

مجامر قورح – عصيان جديد وشفاعة

موسى وهارون – عصا هارون

المجامر: لا شئ غير نافع

ليس شئ بدون معنى أمام الله عندما يكون قد أُعطى لكي نفهمه. وما يبدو للناس مستحقًا أن يستبعد، نجده في النهاية مستحقًا أن يؤدي أعمال هامة. القراءة الحاضرة توحي إلينا بهذه الفكرة، أنها تحكي لنا حادثة مجامر قورح وعن الذين أخطأوا معه. الله يأمر بعدم طرح هذه الأشياء بل أن يعمل منها ألواح معدنية مطرقة.

وأن يحاط بها المذبح، الكتاب المقدس يضيف أنه بناء على أمر الله “ليعازر بن هارون الكاهن قد أخذ المجامر النحاسية التي قدمها ضحايا النار، وعمل منها صفائح ووضعت على الهيكل ليتذكر بنوا إسرائيل بالا يقترب أي أجنبي من غير نسل هارون ليقدم بخورًا أمام الرب، خوفًا من أن يحدث له كما حدث لقورح وجماعته حسبما أعلن الرب على فم موسى” ( عد 16: 38 40).

الهراطقة: تؤخذ منهم حسناتهم

الرب يقول في بعض الأجزاء في كلمات واضحة على فم أحد الأنبياء “أفكاري ليست أفكارهم ولا طرقكم طرقي” (أش 52: 8 9)، فإذا كان هذا السؤال مطروحًا اليوم لحكم الإنسان، فإذا وضعنا أمام رئيس الكنيسة حالة الذين علموا تعاليم مضادة لتعاليم الكنيسة والذين وقع عليهم الانتقام الإلهي إلا يحكم بأن كل كلامهم وكل تعليمهم وأيضًا كل كتاباتهم يجب أن تباد مع رمادهم. ولكن أحكام الله ليست كأحكامنا. تعلم كيف أن مجامر المعاندين التي وضعت ضد نبي الله يجب عملها صفائح وتوضع على المذبح. قورح يمثل الذين تمردوا ضد إيمان الكنيسة وتعليم الحق، فقد كتب عن قورح وجماعته أنهم كانوا يقدمون بخورًا في المجامر النحاسية موقدًا بنار غريبة، الله يأمر بأن تذرى وتبدد “النار الغريبة”، بعيدًا.

أما عن “المجامر” فيقول الرب “فأنهن قد تقدسن فليعملوها صفائح مطروقة غشاء للمذبح لأنهم قدموها أمام الرب فتقدست”. هذه الصورة تبين أن هذه المجامر التي هي حسب الكتاب المقدس مصنوعة من النحاس تمثل الكتاب المقدس نفسه. الهراطقة وضعوا في المجامر نارًا غريبة. بمعنى أنهم أعطوا شرحًا وتفسيرًا غريبًا عن الله ومضادًا للحق، وقدموا كذلك لله بخورًا لا يستحسنه بل هو مرذول. الكهنة الإسرائيليون يمثلون الكنيسة، إذا حصل عصيان وشغب من هذا النوع. فكل من يبتعد عن الحق يجب أن ينزع كلية من الكنيسة. لكن إذا وجدنا في كلام الهراطقة أفكارًا مقتبسة من الكتاب المقدس، فلا نطرحها خارجًا إنما نطرح خارجًا الأفكار المضادة للإيمان والحق. لأن الأفكار المستخرجة من الكتاب الإلهي قد تقدست وقدمت للرب.

فائدة الهرطقات للإيمان الحقيقي

لكننا نستطيع أيضًا أن نفهم بطريقة أخرى نظام خلط مجامر الخطاة وإلحاقها بالهيكل.

أولاً: كونها من النحاس لا يظهر أنه تفصيل بلا معنى، فعندما يكون الكلام عن الإيمان الحقيقي والتعليم النقي لكلام الله فالكتاب المقدس يتحدث عن أشياء من الفضة أو من الذهب. لمعان الذهب يعني نقاوة الإيمان[31] “كلام نقي كفضة مصفاة” (مز 12: 6). لكن ما هو النحاس في الكتاب المقدس. لا يعني إلا صدى الكلام وليس قوة الروح، هذا ما قاله الرسول “كنحاس يطن أو صنجًا يرن” (1كو 13: 1). فإذا وضعنا المجامر النحاسية بمعنى كلام الهراطقة على هيكل الله حيث النار الإلهية وحيث تعطي التعاليم الحقيقية عن الله فستظهر الحقيقة أكثر وضوحًا بالمقارنة بالضلالة.

فمثلاً إذا أخذت كلام (باسيليدس Basilide أو ماركون Marcion)، أو بعض الهراطقة الآخرين وفندتها بكلام الحق وشهادات الكتاب المقدس، أي نار الهيكل الإلهي أفلا يظهر كفرهم بالمقارنة؟ فإذا كانت تعاليم الكنيسة بسيطة ولم تكن محاطة من الخارج بالبدع لما ظهر إيماننا أكثر لمعانًا وأكثر صلابة، لكن هجمات المعارضين أحاطت بتعاليم الكنيسة الجامعة، حتى لا يغفو إيماننا بل يتنقى دائمًا بالتجارب.

لهذا السبب قال الرسول: “لأنه لابد أن يكون بينكم بدع أيضًا ليكون المزكون ظاهرين بينكم” (1كو 11: 19)[32]. أي “لابد أن يحاط المذبح” (عد 11: 37)، بمجامر الهراطقة حتى يلاحظ ويميز كل العالم بوضوح بين المخلصين وغير المخلصين.

حتى إيمان الكنيسة سيكون له لمعان الذهب وستلمع تعاليمها للناظرين مثل “الفضة المصفاة بالنار” كلام الهراطقة سيظهر أكثر شناعة وأكثر خزيًا تحت دناءة ثوبهم النحاسي المطفي.

ويمكن أن يُقال إن الأشياء الحسنة تظهر أحسن صفاتها بالتضاد مع السيئات فمن كان يدرك أن النور هو حسن إذا لم يختبر ظلمة الليل؟ ومن يقدر حلاوة العسل لو لم يذق أي شئ مر؟

أخيرًا فلنبد الشيطان نفسه والسلاطين المضادة التي تحاربنا وعندئذ تظهر فضائل النفس بلمعان بسبب وجود أعداء[33]. أيضًا مجد الكهنة المخلصين. لا يمكن أن يلمع إن لم يظهره عقاب وجزاء الغير مخلصين، بحسب ما قرأنا كل بار يبدو مقامه أكثر عظمة أمام الله بالمقارنة بالآخرين.  إنه قد كتب أن نوح كان “رجلاً بارًا كاملاً في أجياله” (تك 6: 9). هذا يبين أنه لا يوجد إطلاقًا رجل كامل، لكنه كان رجلاً بارًا في أجياله[34]. وإذا أعلن أنه كان رجلاً بارًا فهذا بالمقارنة مع الآخران. كذلك حسب رأيي بالنسبة للوط، كلما عظم فساد سدوم من يوم إلى يوم كان يتعظم بر لوط، في نفس الكتاب الذي في أيدينا في دعوة الجواسيس من الأرض الموعودة عندما دفع عشرة منهم نحو اليأس بكلام مرعب بينما الاثنان الآخران كالب ويشوع أعلنا أخبارًا حسنة وشجعا الشعب على الاستمرار في عزيمتهم مما جلب لهما استحقاقًا لا يفنى من قبل الرب.

هذا ليس بقدر شجاعتهما بإعلانهما الحق بل بقدر جبن زملائهما، أن قوة روحهما كانت سوف لا تلمع بهذه العظمة لو لم يظهر الجبن المخزي للعشرة الآخرين. كل هذا قد قيل بصدد مجامر المذنبين، أنها يجب أن توضع بالهيكل حتى يظهر مجد الأبرار أكثر ارتفاعًا بالمقارنة مع إسفالهم. أنه يجب أن يكون هكذا في نفس الوقت، ليكون مثالاً للأجيال التالية حتى لا يكون لأحد كبرياء الاعتماد على الذات، حتى لا يأخذ الاستحقاق الجدي بدون أن يكون قد تسلمه من الله. وحتى ننحنى أمام الذي لم يقده الغرور البشري، ولا الموهبة الفاسدة، الذي لم يغتصب مركزه بالرشوة، والذي لم يرتفع إلا بشهادة ضميره الصالح وبإرادة الله.

العصيان

2 ويكمل قائلاً “فتذمر كل جماعة بني إسرائيل في الغد على موسى وهرون قائلين: أنتما قد قتلتما شعب الرب. ولما اجتمعت الجماعة على موسى وهرون انصرفا إلى خيمة الاجتماع وإذا هي قد غطتها السحابة وتراءى مجد الرب فجاء موسى وهرون إلى قدام خيمة الشهادة” (عد 16: 41 43).

فائدة الاضطهادات

لم نقرأ في أي مكان قيل هذا أن “سحابة قد غطت الخيمة”، وأن “مجد الرب تراءى”، وجمع موسى وهرون في السحابة إلا الآن عندما ثار الشعب وأراد أن يرجمهما، فلنتعلم من هنا ما هي المنافع التي يجنيها المسيحيون من الاضطهادات: كم من البر يجلب لهم. كيف يكون الله شفيعهم وكيف يفيض الروح القدس عليهم، فنعمة الله لم تكن حاضرة بسبب انطلاق القساوة البشرية، نحن نكون في سلام مع الله عندما نقاسي من الحرب من الإنسان لأجل البر[35] “حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا” (رو 5: 20). ولما اجتمعت الجماعة على موسى وهرون انصرفا إلى خيمة الاجتماع وإذا السحابة قد غطتها وتراءى مجد الرب، مهما عظم موسى وهرون باستحقاقات حياتهما، ومهما ارتفعت فضائلهما لما كان مجد الله قد ظهر لهما، لو لم يكونا هدفا للاضطهادات وللشدائد والمخاطر حتى الموت.

لا تأمل إذًا أن ترى مجد الله إذا كنت متكاسلاً ومتراخيًا. أليس في مثل هذه الصعاب قد استحق الرسول هو أيضًا أن يرى مجد الله؟ ألا تتذكر أنه قد اجتاز أكثر من كل الآخرين في الضيقات في الأتعاب، في السجون وأنه ثلاث مرات قد ضرب بالعصى وقد رجم مرة واحدة وأنه قد عاني الغرق “بأخطار في البحر”. “بأخطار في الأنهار”، “أخطار اللصوص”، “بأخطار من أخوة كذبة”، كلما كثرت الآلام كلما جلبت مجد الله للذين احتملوها بشجاعة.

شفاعة موسى وهرون والتوبة

3 “فكلم الرب موسى قائلاً أطلعا من وسط هذه الجماعة فإني أفنيهم في لحظة فخرا على وجهيهما” (عد 16: 44 45). في سدوم قديمًا كانوا يبحثون عن عشرة أبرار حتى يستطيعوا أن ينقذوا سكان الأرض ذات الخمس المدن التابعة لسدوم، الآن إذا وجد باريين مثل موسى وهرون يكفيان ليخلصا وينقذا كل الشعب الإسرائيلي، ماذا نجد في هذين البارين؟ وما هي الفضيلة؟ وما هو الاستحقاق الذي خلّص أكبر من ستمائة ألف رجل من الموت تحت ضربات من المخرب؟ اعتقد أن شخصًا مثل موسى يمثل الشريعة التي تعلم الإنسان المعرفة وحب الله. شخص هرون يمثل الصلاة والتضرعات الموجهه لله. فإذا حدث يومًا أن غضب الله علينا أو على كل الشعب وحتى أن صدر علينا حكم من الرب، وإذا عادت شريعة الله مرة أخرى في قلبنا، تذكرنا وتعلمنا التوبة وتكفير الخطايا، والتوسل لأجل أخطائنا ففي الحال يرجع الله عن غضبه وينتهي سخطه ويعود لطف الرب من جديد.

موسى وهرون تشفعًا لأجلهم، وتوسلا من أجل الشعب بأسره. ولكن إذا عاقبنا الغضب الإلهي بعقاب شديد من أجل خطايانا، وترفض قلوبنا المحجرة بأن “ترجع إلى الرب”، وأن “نتضع قدامه” لنسكن غضبه بواسطة تعبيرات أصواتنا المتضرعة، وإذا قلنا بعكس ذلك إن الله لا يهتم بحياة بني البشر، وأنه قد تركنا منذ زمن طويل فإذا احتفظنا بهذه الأفكار في قلوبنا وإذا أخرجنا هذه الكلمات من شفاهنا، فبكل تأكيد لا يكون لنا لا موسى ولا هرون، أي لا معرفة الشريعة ولا ثمار التوبة لنتجنب الموت المؤكد. هذا ما حدث للشعب القديم عندما زاغوا، عندما فسدوا، كلهم معًا عندما لم يكن أحد يعمل صلاحًا ليس ولا واحد. فلو كان قد وُجِدَ هناك واحد، لما كان الله قد تركهم أبدًا. فلنخشّ نحن أيضًا لئلا تكون هذه حالتنا، وأني أخشى بالحقيقة من كلام سيدنا الرب والمخلص، الذي يعرف كل شئ مسبقًا والذي قال “متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض؟” (لو 18: 8).

الشفاعة – محبة موسى من روح الإنجيل

موسى وهرون إذًا أخذا الأمر بأن “يخرجا من وسط الجماعة” لكي “يفنيهم الله في لحظة”، لكن فلننظر ما فعلاه إنهما قديسان، إنهما كاملان، تلاميذ الإنجيل أكثر من الشريعة أنهما يحبان أعدائهما ويصليان لأجل مضطهديهما “بينما هم أتون لقتلهما سجدا على وجهيهما” (عد 16: 45).

لطف الله في العهد القديم

4 “وقال موسى لهرون خذ المجمرة واجعل فيها نارًا على المذبح وضع بخورًا واذهب بها مسرعًا إلى الجماعة وكفر عنهم لأن السخط قد خرج من قبل الرب وقد ابتدأ الوبأ” (عد 16: 46). وبما أننا وصلنا إلى هذا النص أريد أن أذكر لتلاميذ المسيح لطف الله، لكي لا يتزعزع أحد بينكم بتأثير الهراطقة فهم يقولون إن رب الشريعة ليس محبًا لكنه عادل[36]، وإن شريعة موسى لا تعلم المحبة بل العدل.

فلينظروا هؤلاء المحاربون لله، والمحاربون للشريعة كيف أن موسى نفسه وهرون هذان الرجلان في العهد القديم قد خضعا مقدمًا لتعاليم الإنجيل. موسى “أحب أعداءه وصلى لأجل مضطهديه”. هذا ما علمّته بكل دقة تعاليم المسيح في الأناجيل. لنتعلم حقًا كيف سجدا ووجههما للأرض، وصليا لأجل الثائرين الذين أرادوا أن يقتلوهما. إذًا نجد قوة الإنجيل في الشريعة والأناجيل لا تفهم إلا على أساس الشريعة.

 

 

الكتاب المقدس جديد دائمًا

إني لا أدعو هذه الشريعة عهدًا قديمًا إن فهمتها بالروح. الشريعة لا تصبح عهدًا قديمًا إلا للذين يريدون أن يفهموها جسديًا. حقًا لهؤلاء قد أصبحت قديمة، وسبب قدمها أنهم لم يستطيعوا أن يحفظوا قوتها، بالعكس عندما نفهمها ونشرحها بالروح وبمفهوم الإنجيل نجدها دائمًا جديدة، العهدان يكونان لنا عهدًا جديدًا لا لسبب التاريخ الزمني لكن بسبب تجديد المعنى. ألم يقصد يوحنا الرسول ذلك عندما قال في رسالته “يا أولادي الصغار إني أعطيكم وصية جديدة هي أن تحبوا بعضكم بعضًا” (1يو 2: 8)، أنه كان يعلم أن وصية المحبة قد سبقت أن أعطيت منذ زمن بعيد في الشريعة لأن “المحبة لا تسقط أبدًا”، وأن وصية المحبة لا تعتق أبدًا. وصية المحبة تجدد بالروح إلى الأبد الذين يعملون بها والذين يحتفظون بها، أما للخطاة فبالعكس، ولأجل الذين لم يحافظوا على عهد المحبة فبالنسبة لهؤلاء حتى الأناجيل أيضًا تعتق، لا يمكن أن يكون هناك عهد جديد للذي “لا يخلع الإنسان العتيق ويلبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله” (أف 4: 24).

طقس الشفاعة

موسى دعا إذًا الكاهن الأعظم ليقدم بخورًا في المحلة وليصلي لأجل الشعب، لأن موسى قد قال “الوباء ابتدأ”. فموسى يرى بالروح ما يحدث أنه قد رأي سلطانًا[37] خرج نحو المحلة ليضرب الخطاة  ويبيدهم لهذا السبب دعا موسى الكاهن الأكبر أن يأخذ مجمرة ويضع فيها نارًا من على المذبح ويضع فيها بخورًا ويخرج ويقف بين الموتى والأحياء ليمتنع الوباء. أو بالأصح حسب تعبير الكتاب المقدس “الكسور”.

القصة

لكن قبل كل شئ إذا أردتم فلنعرض الصورة[38] المتضمنة في القصة، حتى بعد عزل ظواهر الحادث، نبحث أن كان يوجد هنا أسرار، ذلك بأن نتصور شعب إسرائيل مرتبًا في المحلة على حسب رتب العشائر والأسر. فهناك قوة مرسلة من قبل الله قد ابتدأت تقتل الشعب. أنها ليست مجرد صدفة لكن ابتداء من مكان معين، انظر إلى الوباء الذي يتقدم، ثم الكاهن الأعظم لابسًا الحلة الحبرية وحاملاً “المجمرة والنار والبخور”. ويتوجه نحو المكان الذي حدث فيه الموت الآتي من الملاك المهلك ويقف في المكان الذي فيه يحصد ضحاياه الأولين، ويقترب من الآخرين.

تأمل في الحبر واقفًا، وهو بتوسطه يفصل الموتى عن الأحياء، وشفاعته والقدرة السرية للبخور، هما اللذان يعملان على تراجع الملاك المهلك وها الموت يتوقف والحياة تأخذ مجراها مرة أخرى. 

يسوع الكاهن الأعظم والشفيع

إذا فهمت نتيجة القصة إذا استطعت أن ترى بعينيك “الكاهن الأعظم واقفًا بين الأحياء والموتى”، فلنصعد الآن نحو الدروس الجليلة المتضمنة في هذا النص، لنرى كيف أن الكاهن الأعظم الحقيقي يسوع المسيح بعدما أخذ الجسد البشري كمجمرة، بعدما وضع فيها النار من على المذبح، أي نفسه الثمينة التي تجسد بها، بعدما وضع بخورًا أي الروح القدس الذي بلا دنس[39] وقف بين الأحياء والموتى وأبطل بالموت ذلك الذي قال عنه الرسول “له سلطان الموت أي إبليس، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (عب 2: 14؛ يو 3: 16)، هذا هو السر الذي يرعب الملاك المهلك مقدمًا، حيث إنه قد عرف الصورة المتضمنة في المجمرة والنار والبخور. وأنه رأى مقدمًا ما هي الذبيحة التي كان مزمعًا أن يقدمها لله بواسطة الذي يقف بين الأحياء والموتى. هؤلاء خلصوا برمز النبوة، أما نحن فقد صار لنا “الخلاص حقيقة” فليست حلة الكاهن الأعظم المنسوجة من الأرجوان ومن الصوف ومن البوص هي التي أرجعت الملاك المُهلك لكنه أدرك ما ستكون عليه زينات حلة الكاهن الحقيقي التي يجب أن تخضع لها كل الخلائق وتقهر أمامها.

في المجئ الثاني

هذه الصورة قد تحققت عند المجئ الأول لسيدنا يسوع ومخلصنا وفي رأيي أنها ستكون كذلك بدون أي شك في المجئ الثاني. حيث إن ابن الإنسان سيأتي مرة أخرى[40] وفي مجيئة سيجد بكل تأكيد موتى وأحياء. هذا ما قد نستطيع أن نفهمه لأول وهلة. فالبعض سيكونون على قيد الحياة، حيث نحن الآن وآخرون كثيرون يكونون قد سبقوهم بالموت. ويمكن أن نفهم ذلك بطريقة أخرى، فنعني بالموتى الأجساد، وبالأحياء النفوس. والأحياء هم الذين ثبتوا في أعمال الحياة. في هذين المعنيين كاهننا الأعظم ومخلصنا سيقف في يوم المجئ الثاني بين الأحياء والأموات. لكن يجب أن نقول أيضًا بأنه سيقف بين الأحياء والأموات عندما سيقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره. ثم يقول الملك للذين عن يمينه: “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم… ثم للذين على اليسار اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته لأني لا أعرفكم” (مت 25: 33 41).  الموتى إذًا هم الذين قد أرسلوا إلى النار الأبدية والأحياء هم الذين أدخلوا إلى الملكوت.

الكسور

6 “والوباء قد امتنع” (عد 16: 5)، أو بالأحرى حسب نص آخر سبق أن ذكرناه “الكسور قد امتنعت”.

هذا يتفق أفضل مع الشرح الحقيقي. أنه يقصد بالكسور مثل تلك التي تصيب الأوعية الخزفية. الخطاة يصبحون أواني خزفية مثلما يشير إليه ارميا النبي في المراثي: “بنو صهيون الكرماء الموزونين بالذهب النقي كيف حسبوا أباريق خزف عمل يدي فخاري؟” (مراثي أرميا 4: 2)، والرسول يقول: “في بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط بل من خشب وخزف أيضًا وتلك للكرامة وهذه للهوان” (2تي 2: 20)، أيضًا الأباريق أشياء للهوان ويمكن أن تنكسر وتحتقر.

أواني للكرامة وأواني للهوان

لكن لنختبر بأكثر إصغاء ما قاله الرسول بعد ذلك عن الأواني الخزفية: “فإن طهر أحد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدسًا نافعًا لسيده مستعدًا لكل صالح” (2تي 2: 21)، ومنها يستنتج بأن الإبريق الذي عمل والصانع الذي صنعه يشيران لشخص واحد، إرادة الإنسان توجد في الصانع الذي يصنع أما باقي الإنسان فهو الإبريق المصنوع أما للهوان أو للكرامة. عندما نختار ما هو حسن، بتفكيرنا ويقودنا هذا نحو حياة صالحة فهو يعمل منا إناء صالحًا لكن عندما تكون إرادتنا متراخية وتنحرف عن الخير نصير إبريقًا محتقرًا. إذا كانت أذهاننا أرضية ولا تفكر إلا في الأرضيات وفي الأشياء الأرضية نصبح “إناء خزفيًا عمل يدي فخاري”، فالإنسان الذي من هذا النوع الذي اعتاد أن يفكر بالتفكير المنحط الأرضي، هو الذي يلومه الرسول لتقديمه تساؤلات تفوق قامته ويقول “لماذا يلوم بعد؛ من يقاوم مشيئته” (رو 9: 19 20). الرسول يجاوبه على ذلك باعتباره مثل إناء من الأرض، من أنت الذي تجاوب الله؟ العل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟ الإناء الخزفي في الكتاب المقدس هو أيضًا جسدنا وهو أيضًا حرف الشريعة[41]. في كلمة الرسول “لنا هذا الكنز في أواني خزفية” (2كو 4: 7). المعنيان مقبولان في هذا النص، فمن ناحية بينما نحن في الجسد فقد وهبنا كنز النعمة بالروح القدس، ومن ناحية أخرى كلام الشريعة رغم أنها أهينت واعتبرت رديئة، لأن كلمات الشريعة لم تكن قد نقحت حسب فن اللغويين، إلا أنه يخفي كنز الحكمة ومعرفة الله، ونستطيع بثقة أن نقول أنها تحوي “المذخر فية جميع كنوز الحكمة والعلم” (كو 2: 3). هذا ما لدينا من قول عن الكسور التي يتحدث عنها الكتاب المقدس بأنها قد توقفت، والآن فلنقل بعض الكلمات عن باقي القصة وهي حادث العصى.

 

عصا هرون

7 “فكلم الرب موسى قائلاً: كلم بني إسرائيل وخذ منهم عصا لكل بيت أب من جميع رؤسائهم حسب بيوت آبائهم اثنتى عشرة عصا واسم كل واحد تكتبه على عصاه واسم هرون تكتبه على عصا لاوي لأن لرأس بيت آبائهم عصا واحدة. وضعها في خيمة الاجتماع أمام الشهادة حيث اجتمع بكم فالرجل الذي اختاره تفرخ عصاه فاسكن عني تذمرات بني إسرائيل التي يتذمرونها عليكما” (عد 17: 1 5). “وضعها في خيمة الاجتماع أمام الشهادة حيث اجتمع بكم فالرجل الذي اختاره تفرخ عصاه فاسكن عني تذمرت بني إسرائيل التي يتذمرونها عليكما” (عد 17: 1 5). كل رئيس عشيرة وكل رئيس شعب له عصا لا يستطيع أحد أن يقود الشعب إن لم يكن لديه عصا. لهذا السبب فبولس الرسول الذي كان رئيسًا لشعب يقول “ماذا تريدون؟ أبعصا آتي إليكم أم بالمحبة وروح الوداعة؟” (1كو 4: 21). كل رئيس عشرة يجب إذًا أن يكون لديه عصاه، لكن لا يوجد إلا واحد، كما يعلمنا الكتاب المقدس، الكاهن الأعظم هرون هو الذي أفرخت عصاه وقد أوضحنا مرارًا أن المسيح هو الكاهن الأعظم الحقيقي وأنه هو الوحيد، وعصاه التي هي الصليب لم تفرخ فحسب لكن أيضًا أزهرت وأنتجت الثمار في كل الشعوب المؤمنة.      

 

 

اللوز: ثلاثة صور للكتاب المقدس

إذًا ما هي الثمار التي آتي بها؟ “لوز”. يقول الكتاب أن ثمرة قشرتها الأولى مرة ثم أنها محصنة ومصونة بالقشرة الثانية وقابلة للأكل ومغذية بعد نزع القشرة الثالثة. هذا ما يبدو في مدرسة المسيح من تعاليم الشريعة والأنبياء[42].

الوجه الأول هو الحرف وهو لحد ما مر[43]. إنه يفرض ختان الجسد وقواعد تقديم الذبائح وكل ما يعني “الحرف الذي يقتل” (2كو 3: 6).

أطرح كل هذا مثل قشرة اللوز المرة، ثم بعد ذلك ستصل في المكان الثاني لحماية القشرة التي تشير إلى تعاليم الأخلاق أو فروض التطهير. هذه الأشياء ضرورية لصيانة ما في الداخل لكنها بلا شك ستختفي في يوم ما. وكمثال للامتناع عن الأكل وإماتة الجسد، أنها ضرورية بكل تأكيد مادمنا في هذا الجسد الخاضع للفساد وللشهوات، لكن بعد أن يموت الجسد ففي القيامة، فإن القابل للفساد يصبح غير قابل للفساد والحيواني يصير روحيًا أنه سوف لا يخضع لأي فساد، ليس نتيجة مجهودات أو إماتة أو امتناعات بل لطبيعته الخاصة. لذا فطريقة الامتناع تبدو في نفس الوقت ضرورية الآن ولكنها لن تكون ضرورية فيما بعد.

ثالثًا: سنجد معنى أسرار “الحكمة والمعرفة” (كو 2: 3)، مخفيًا وهو الذي يرد أرواح القديسين ويغذيها ليس فقط في الحياة الحاضرة لكن أيضًا في الحياة المستقبلة.

إنها حقًا قمة الثمار التي يشبعون بها حسب “الوعد للجياع والعطاش إلى البر”، أيضًا كل آيات الكتاب المقدس تشير لهذا السر المثلث. والحكمة تنصحنا أيضًا بأن ننقش هذه الأشياء ثلاث مرات في قلبنا لتجيب كما يقول “جواب الحق للذين أرسلوك”.

البطريرك أسحق حفر ثلاثة آبار لكن الثالثة فقط أخذت لتجيب اسم رحوبوت، من ناحية أخرى في رأيي إن عصا اللوز تتضمن سرًا له علاقة بالكهنة. فإرميا الذي كان من الكهنة الذين في عناثوت رأي عصا من اللوز، وتنبأ عن عصا اللوز والقدر المنفوخ. فعصا اللوز كانت ترمز للحياة، والقدر المنفوخ للموت، لأنه علينا أن نختار بين الحياة والموت. الحياة هي المسيح المخفي في سر اللوز، والموت هو الشيطان تحت صورة القدر المنفوخ، فإذا ارتكبنا الخطية نرتبط بالقدر المنفوخ وإذا مارسنا البر نسكن مع الكاهن الأعظم في محلة عصا اللوز. نشيد الأنشاد يقول أيضًا إن العروس قد نزلت إلى جنة اللوز، واكتشفت في نفس الوقت أن اللوز قد طرح ثمارًا كهنوتية كثيرة[44].

كرم الله في إنجاز وعوده

مع ذلك نحن قد قلنا في البداية إن الله قد وعد بسحب ثمرة واحدة فقط من اللوز وأنه قد أثمر فيها كثيرًا، لكن أصغ جيدًا هل نستطيع أن نتبين أن كرم الله يفوق وعوده؟ ربما نستطيع أن ندرك ونكتشف أن لطف الله الفائق الوصف مختبئ دائمًا في حروف الكتاب المقدس. وسنراه بأكثر سخاء في الإنجاز عنه في الوعود. 

8 نص الكتاب المقدس الذي نتكلم منه يقول هذا “فالرجل الذي اختاره تفرخ عصاه” (عد 17: 5). الله لم يعد إلا بشئ واحد، عصا الرجل الذي اختاره ستفرخ، لكن عندما نصل إلى اللحظة التي فيها يتبين إنجاز وعد الله، انظر كل ما يضاف إلى إنجاز الوعد حقًا يقول الكتاب المقدس: “وها عصا هرون لبيت لاوي قد أفرخت” (عد 17: 8)، فإنه هنا ببساطة حقق وعده، لكن ليس ذلك هو كل شئ “العصا دفعت الأوراق، أزهرت بالأزهار وأنتجت اللوز” الوعد لا يحمل إلا الأفراخ. انظر إلى كرم الله فبالإضافة إلى البراعم عمل على دفع الأوراق، وبالإضافة إلى الأوراق عمل أن تتفتح الأزهار، وبالإضافة إلى الأزهار عمل على إتيان الأثمار، فما الذي يجب أن نحفظه ونتأمل فيه من كل هذا؟ أولاً سر القيامة من الأموات، حقًا عصا جافة تفرخ، عندما يموت الجسد سيرجع للحياة، إذًا ما هي الخواص الأربع للجسد المقام من الأموات؟ “يزرع في فساد يقام في عدم فساد، يرزع في ضعف يقام في قوة، يزرع في هوان، ويقام في مجد، يزرع جسمًا حيوانيًا ويقام جسمًا روحيًا (كو 15: 42 44).

هذه هي الأفرخ الأربعة التي تولد على العصا الجافة لجسدنا بالقيامة. لكن سنقول ثانيًا: بما أن الله قد أعطى هنا أربعة أضعاف لوعده وقد منح أكثر بكثير عما وعد، وكذا عطايا أكثر نفعًا بكثير، هكذا أيضًا في نصوص الكتاب المقدس التي تحتوي على وعد الله، بشرط أن نستحق أن ننال منه إتمام العمل الذي يعد به. والعمل الذي يعمله سيتجاوز عدة مرات ما قد أعلنه. وبذلك سيتمم حقًا ما قاله الرسول “ما لم تره عين ولم تسمع به إذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه” (1كو 2: 9).

تعجب إذًا ما هي عظمة ونوعية حسناته، فنحن ليس فقط لا نستطيع أن نرى أو نسمع، لكن أيضًا لم تخطر على القلب، أي على فكر الإنسان. ففيما يختص بالأرض وبالسماء وبشمس هذا العالم وبهاء الضوء المرئي، العين قد رأت كل هذا والآذن قد سمعت كل هذا. أما ما سوف يكون فهو ما لم تر عين وما لم تسمع آذن ولم يخطر على بال إنسان. تجاوز كل هذا وارتفع فوق كل ما تراه وكل ما تسمعه وكل ما يخطر على بالك، وإعلم أن مكافأة الذين يحبون الله هي ما لا يمكن لقلبك أن يدركه. لذا يبدو لي أننا لا يجب أن نتخيل أي شئ جسدى في هذه الوعود. طبعًا إن المادة الجسدية لا يمكن أن تغيب كلية من إدراك الأفكار البشرية. لكن المنافع الموعود بها هي مما لا يمكن أن يخطر على بال أو قلب إنسان ولا يمكن إدراكها إلا بحكمة الله[45]. لكن كما أن الحسنات المعطاة تجاوز الوعود. هكذا أيضًا العقوبات المعلنة للخطاة ستطبق بزيادة العذابات، كما شرحنا سابقًا عن عقوبة سنة ليوم من الخطية، إلا إذا فكرنا في حالة ثالثة، أو إذا وجدنا بعض التعزية من التهديد الموجه ضد داود بأن وباء قد أعلن لثلاثة أيام، وفي وقت العذابات قد خفض إلى ست ساعات. لكن لا نستطيع أن نعتبر هذا المثال إلا في حالة منح وقت للتوبة وإمكانية الرجوع.

مع أنه قد كتب أن الله يصب غضبه على الأشرار حتى “الجيل الثالث والرابع”، وأنه يحسن إلى الأبرار ليس فقط للجيل الثالث والرابع لكن، يقول الكتاب المقدس “إلى ألف جيل” (خر 20: 5؛ تث 7: 9).

درجات النمو للمؤمنين

فلنرجع إلى ما قد بدأنا قوله عن العصا، نستطيع أيضًا أن نشرح فروق الأفراخ التي نمت على العصا بالطريقة الآتية: كل إنسان يؤمن بالمسيح يموت ثم يولد مرة أخرى. العصا الجافة التي تخضر مرة أخرى تمثل المؤمن، الإفراخ الأول هو أول اعتراف للمؤمن بالمسيح ثم تظهر الأوراق عندما يولد ثانية، فهو قد نال عطية نعمة الله بفعل الروح القدس. ثم ينتج الأزهار عندما يبدأ في النمو ويتزين بعذوبة الطبائع الحسنة، وينشر عطر الصفح واللطف، وأخيرًا ينتج أيضًا ثمار البر، التي بواسطتها ليس ينال الحياة فقط، لكنه يعطي الحياة للآخرين، وعندما يصل إلى الكمال فهو يخرج من نفسه كلام الإيمان، وكلام معرفة الله، ويعمل على استفادة الآخرين. هذا يعني أنه يحمل الثمار لكي يغذي بها الآخرين. إذًا فكل مؤمن إنما ينمو على عصا هارون، الذي هو المسيح. هذه الدرجات الأربع المختلفة هي التي رُمز إليها في نصوص أخرى من الكتاب المقدس بالأحقاب الأربع التي ميزها يوحنا الرسول بصفة سرية في رسالته وهو يقول “اكتب إليكم أيها الأولاد… أكتب إليكم أيها الأحداث … أكتب إليكم أيها الشباب… أكتب إليكم أيها الآباء” (1يو 2: 12 14). أنه يميز بذلك ليس أحقاب الجسم لكن درجات الروح في النمو، بالطريقة ذاتها التي سبق أن شرحنا بها عصا هرون الكاهن الأعظم.

كل هذا لا يحدث على عصا هرون كما على العصا: “يخرج من جذع يسى وينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الرب” (إش 11: 1 2). وهنا أيضًا لا يظهر غير معنى العصا “تخرج” بينما الغصن “ينبت”. مع أنه حقًا يكون المسيح واحد بالأقنوم[46] لكنه يتنوع حسب احتياجات الذي يعمل فيه. فالذي هو أكثر ضعفًا وأكثر إهمالاً يكون المسيح له عصا تأديب وتحت شكل عصا لا نقول عنه إنه ينبت بل أنه “يخرج”، فالذي هو كسلان وضعيف يجب أن يخرج من هذه الحالة التي يكون مخطئًا في التأخير فيها. ويجب عليه العبور إلى حالة أخرى، كما بضربة بالعصا، أي بنصائح شديدة لتعاليم أكثر تدقيقًا. لكن نقول إن المسيح ينبت في الذي هو بار، حيث إن “البار كالنخلة يزهو”، لذلك فالذي يحتاج إلى ضربات يكون له عصا “يخرج” نحوه، وللذي ينمو نحو البر فهو “يصعد” مثل الزهرة إنه “ينبت” حتى ينتج البار أثمار الروح التي هي المحبة وفرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان والفضائل الأخرى في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

 

العظة العاشرة: خطايا القديسين

غفران الخطايا

1 الطوباويون دائمًا تؤخذ عليهم أخطاء وخطايا مرؤوسيهم، وفي هذا المعنى قال الرسول: “فيجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل أضعاف الضعفاء” (رو 15: 1). إذا ارتكب إسرائيلي، بمعنى علماني، خطية فلا يستطيع أن يمحوها بنفسه لكنه يبحث عن لاوي أنه يحتاج لكاهن. ماذا أقول؟ أنه يبحث عن شخص أفضل وأكثر علوًا: إنه يحتاج للكاهن الأعظم ليحصل على غفران خطاياه لكن إذا أخطأ الكاهن أو الكاهن الأعظم فهو يستطيع أن يطهر نفسه إن لم يكن قد أخطأ ضد الله. خطايا من هذا النوع نحن لا نجد بسهولة، في نص الشريعة وسيلة لغفرانها، فقد قلنا ذلك بصدد القطعة التي سبق أن قرأت “وقال الرب لهرون أنت وبنوك وبيت أبيك معك تحملون ذنب المقدس” (عد 18: 1)، نستطيع أن نشرح هذا النص هكذا: إنه يتعلق بالتقدمة المقدمة بواسطة الكاهن الأعظم لغفران الخطايا عن الجميع لتطهير الشخص الذي لأجله يقدم التقدمة، لهذا السبب قد كتب “أنت وبنوك تحملون ذنب المقدس” لكن اعتقد أنه ليس بدون قصد كتب عن ذنب المقدس.

 

المكرسون وخطاياهم

في كثير من نصوص الكتاب المقدس يوجد هذا التعبير. إذًا يجب أن نبحث كيف يستطيع هؤلاء أن يدعوا رجالاً مكرسين وتكون لهم خطايا. فالواقع أنه ليس صحيحًا كما يظن البعض أنه منذ أن يصبح الإنسان قديسًا لا يستطيع أبدًا أن يخطئ، وهكذا يعتبر كأنه معصوم من الخطية. فإن كان حقًا أن القديس لا يخطئ فإنه يكون قد كتب عبثًا “بأنكم يحملون ذنب المقدس”. فلو كان القديس معصومًا من الخطية لما كان السيد الرب قد قال بفم إشعياء النبي لملائكته “بأنهم يرسلون لمعاقبة الخطاة وأنكم ستبدأون بقديسين” (إش 9: 5). إذا كان القديسون معصومين من الخطية لما كان الكتاب المقدس قد قال أبدًا “البار يبدأ أن يتكلم باعتراف عن نفسه” (أم 18: 17)، وإذا كان القديسون معصومين من الخطية لما قال بولس الرسول أبدًا “لا تنقض لأجل الطعام عمل الله” (رو 14: 20)، ولأهل رومية قد كتب في أول رسالته “إلى جميع أحباء الله مدعوين قديسين” (رو 1: 7). الرسول نفسه في رسالته إلى أهل كورنثوس قال أيضًا “بولس المدعو رسولاً ليسوع المسيح” (1كو 1: 1 2)، وبعد ذلك بقليل يقول “إلى كنيسة الله التي في كورنثوس المقدسين في المسيح يسوع المدعويين قديسين” إذًا فهو يدعوهم المقدسين وقديسين لكن انظر بأية خطايا يوبخهم، أنه يقول بعد ذلك “بما أنه يوجد بينكم حسد وخصام فأنتم بعد جسديون وتسلكون بحسب البشر” (1كو 3: 3)، “وأيضًا أنكم قد استغنيتم ملكتم بدوننا وليتكم ملكتم لنملك نحن أيضًا معكم” (1كو 4: 8).

وأيضًا “فأنتفخ قوم كأني لست آتيًا إليكم” (1كو 4: 18)، وبعد ذلك بقليل “يسمع مطلقًا أن بينكم زنى وزنى هكذا لا يسمى بين الأمم” (1كو 5: 1 2)، وبعد ذلك “فأنتم منتفخون وبالحرى لم تنوحوا” أنه لم يستثن أحدًا، أنه يتهم البعض بالزنى والآخرين بالكبرياء، ثم بعد ذلك يعاتبهم بأنه عندهم محاكمات بعضكم مع بعض” (1كو 6: 7). وهو يتهم أيضًا الذين سماهم قديسين بأنهم يأكلون لحم المذبوح للأصنام، وينطق الحكم ضدهم بهذه الطريقة: “وهكذا إذ تخطئون إلى الأخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف تخطئون إلى المسيح”، إنه لم يتهمهم فقط بأكل لحم التقدمات بل أيضًا بأنهم يشربون من كأس الشيطان “لا تقدرون أن تشربون كأس الرب وكأس الشياطين” (1كو 10: 21)، لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة الشياطين. إنه يقول لهم أيضًا “لأني أولاً حين تجتمعون في الكنيسة أسمع إن بينكم انشقاقات أيضًا” (1كو 11: 18)، وأيضًا “لأن كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الأكل فالواحد يجوع والآخر يسكر” (1كو 11: 21)، لأجل كل هذه الأخطاء يقول “من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون. لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حكم علينا” (1كو 11: 30 31)، وعلاوة على ذلك، فهي لم تكن خطايا ضد العادات فقط بل خطايا ضد الإيمان أيضًا، فيقول “كيف يقول قوم بينكم أن ليس قيامة من الأموات” (1كو 15: 12، 17)، وأيضًا “إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم أنتم بعد في خطاياكم”.

إنه سيطول بنا الحديث وليس هنا المقام أن نثبت جميع الشواهد أن الذين قد أعلنوا قديسين لا يجب لهذا السبب أن يعتبروا معصومين من الخطايا، هذا هو رأى القراء الغافلين والسطحيين للكتاب المقدس. إذ أنه يعلمنا أنه توجد اختلافات كثيرة بين القديسين مثلما سبق أن قلنا بأكثر إسهاب في عظات أخرى. سنقول هنا فقط ما يلزم لشرح النص. فالذين يكرسون لله يدعون قديسين وهم أيضًا خطاة، وهم الذين ابتعدوا عن الانشغالات العادية لخدمة السيد الرب. فالإنسان يدعى قديسًا لأنه ابتعد عن كل أنشطة أخرى وكرس نفسه لخدمة السيد الرب، ولكن يمكن أن يحدث أنه وهو يخدم السيد الرب لا يسلك كما يجب ويرتكب أخطاء وخطايا. فالذي ينفصل ويبتعد عن كل أنشطة أخرى لمزاولة العلوم كالطب أو الفلسفة مثلاً لا يكون كاملاً، فهو عندما يتقدم لهذه الدراسات، يرتكب بعض الأخطاء أو بالأحرى يرتكب أخطاء كثيرة ولا يصل إلى الكمال إلا بمشقة كبيرة، مع أنه بمجرد أن يدخل في هذه المدارس سيحسب بدون شك من بين الأطباء أو الفلاسفة. كذلك القديسون فعندما يلتزم شخص ما بدراسات القداسة يجب منحه لقب قديس، بحسب الهدف الذي يقصده، ولكن بما أنه سيرتكب أخطاء إلى أن تنزع منه عادة الخطية، لذلك يسمى أيضًا خاطئًا، وكما قلنا أيضًا، إذا لم نقدم القداسة كهدف وإذا لم نسع لدراسات القداسة فلن نعرف أن نقدم الندامة على الخطية عندما نرتكبها، ولن نعرف أن نبحث عن الدواء للخطاة الذين ليسوا قديسين ويموتون في خطاياهم. أما القديسون فيندمون على خطاياهم ويشعرون بسقطاتهم وجروحهم ويدركونها، ويذهبون للكاهن ويطلبون منه الشفاء ويطلبون أن يتطهروا من الكاهن الأعظم.

لهذا السبب تعبّر الشريعة بطريقة حكيمة ومحددة عن هذه الفكرة بأن الكاهن الأعظم، واللاويين “لا يحملون الذنوب” (عد 18: 1) لكل شخص لكن فقط ذنوب القديسين، فالقديس هو الذي قد سلّم خطيته لعناية الكاهن الأعظم.

من الذي يغفر الخطايا

2 لكن لنرجع إلى حبرنا، إلى كاهننا الأعظم الذي اجتاز السموات يسوع سيدنا الرب، ونشاهد كيف حمل على ذاته مع أولاده الرسل والشهداء خطايا القديسين. وأولاً إن سيدنا يسوع المسيح قد جاء ليرفع خطية العالم وبموته غفر خطايانا. لا أحد يجهل هذا إذا كان مؤمنًا بالمسيح، لكن كيف يغفر مع أولاده الرسل والشهداء، خطايا القديسين. هذا ما سنحاول أن نثبته من الكتاب المقدس.

أنصت أولاً إلى ما أعلنه بولس “بكل سرور انفق وانفق لأجل أنفسكم” (2كو 12: 15). وفي موضع آخر “إني الآن أسكب سكيبًا ووقت انحلالي قد حضر” (2تي 4: 6)، إذًا بولس الرسول يقول بأنه قد انفق وقد ضحى لأجل انسبائه. حينما نقدم ذبيحة على نية شخص فأن هذا يكون لكي يحصل على غفران خطاياه. وفي موضع آخر يوحنا الرسول يكتب في سفر الرؤيا بأن الشهداء الذين قتلوا من أجل سيدنا يسوع موجودون تحت المذبح. إذًا الموجود في المذبح، أخشى أنه بأعمال كهنوتية التي هي التضرع لأجل خطايا الشعب، لذا أخشى أنه منذ اختفاء الشهداء وأبطال ذبيحة القديسين المقدمة كذبيحة لأجل الخطايا، لا نحصل على غفران خطايانا، أخشى بالتالي بأن خطايانا تبقى فينا، وأن يحدث لنا نفس الذي حدث لليهود إذ ليس لديهم مذبح ولا معبد ولا رتب كهنوتية، وبالتالي لا يقدمون بعد الذبائح لخطاياهم ولذلك فخطاياهم باقية والغفران لا يأتي بعد. ونحن أيضًا يجب أن نقول بما أن الشهداء لم يقدموا بعد كضحايا لأجلنا، فخطايانا تبقى فينا. أننا لا نستحق أن نكون مضطهدين لأجل المسيح ولا أن نموت لأجل اسم ابن الله[47]، لهذا السبب أيضًا فالشيطان الذي يعرف أن الخطايا تغفر بواسطة الشهداء، لا يريد أن يثير ضدنا الاضطهادات الوثنية الرسمية حيث إنه يعرف أننا إذا كنا نقدم أمام السلاطين والحكام لأجل اسم المسيح “للشهادة” “أمام اليهود والأمم” سنشعر بفرح وببهجة “لأن أجرنا يكون عظيمًا في السموات”. فالعدو لا يثير الاضطهادات سواء لأنه يضمر الشر لمجدنا، أو ربما لأن الذي يرى كل شئ والذي يعرف كل شئ مقدمًا[48] يعلم أننا لم نكن جديرين بأن نتحمل الاستشهاد، “يعلم الرب الذين هم له” (2تي 2: 19). والذين ليسوا من أهله. هم كنوز عنده، حيث إن الله لا يرى بنفس طريقة الإنسان. إنه لا يوجد شك أنه يوجد في هذا الجمع من يعرفهم الله وحده. والذين قد اصبحوا شهداء أمامه بشهادة ضميرهم وهم مستعدون إذا طلب منهم أن يسكبوا دماءهم لأجل اسم السيد الرب يسوع المسيح، لا شك أنه يوجد من قد أخذوا صليبهم وتبعوه. هذا الاستطراد يبدو أنه ضروري لكي نفهم كيف يتم بواسطة الكاهن الأعظم وأولاده غفران الخطايا.

الكهنوت

3 بعد ذلك تأتي الكلمات “أنت وبنوك تحملون ذنب كهنوتكم، وأيضًا أخوتك سبط لاوي سبط أبيك قربهم معك فيقترنوا بك ويوآزروك أنت وبنوك قدام خيمة الشهادة فيحفظون حراستك وحراسة الخيمة” (عد 18: 1 3)، تنفيذ الوصايا بانتباه هو أمر واجب خصوصًا بالنسبة للذين لهم نعمة الكهنوت، “أي الأساقفة”، يجب عليهم أن يعلموا ما تعطيهم الشريعة الإلهية لتتميمه “أنت وبنوك معك، قدام خيمة الشهادة، احفظ حراسة المذبح والخيمة”، إنها أوامر ملزمة وواضحة يجب أن نحفظ حراسة الخيمة والمذبح والكهنوت. لكن من هو الذي يتمم ويقوم بخدمة واجبات الكهنوت؟ من هو الذي له رتب ومنصب الكهنوت بدون أن يتمم الأعمال ورسالة الكهنوت؟ هذا يستطيع أن يعرفه “فاحص الكلي والقلوب” (مز 7: 10).

الواجب لا يتضمن فقط حفظ الوصايا الخارجية “لكن تحفظون كهنوتكم مع ما للمذبح وما هو داخل الحجاب” (عد 18: 7).

هذا ما نقوله إن الكهنة ينشغلون في نفس الوقت بأن يتمموا وصايا الشريعة الإلهية ونفحص انتباههم إلى أسرار الله المختبئة والمحجوبة. من جهة أخرى إذا أردنا أن نطلق على الإنسان ما قد قيل عن خيمة الاجتماع كما يعطي بولس اسم الخيمة لجسد الإنسان، عندما يقول: “فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها” (2كو 5: 4)، إذا طبقنا على الإنسان ما قد قيل عن الخيمة، سنقول إن الجزء المغلق بواسطة الحجاب الذي يغطي الأشياء التي لا يمكن الاقتراب منها، هذه هي أهم خواص القلب الذي وحده يستطيع أن يستقبل أسرار الحق ويحوي وحده أسرار الله.

بينما بالنسبة للهيكلين الداخلي والخارجي، فإن الهيكل هو رمز الصلاة، وهذا كما أظن هو معنى ما قاله الرسول “أصلي بالروح كما بالذهن” (1كو 4: 15)، عندما أصلي حقًا من القلب أقترب من الهيكل الداخلي. وهذا هو ما قاله أيضًا السيد الرب في الإنجيل “أما أنت فمتى صليت فأدخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصلي إلى أبيك الذي في الخفاء” (مت 6: 6)، إذًا فالذي يصلي بالطريقة التي قلتها يقترب من مذبح البخور الذي هو في الداخل. لكن عندما يرفع صلاته نحو الله بصوت عال وبكلام واضح لكي يجذب السامعين، فهو يصلي في الهواء. وتقدم الصلاة بطريقة ما صحيحة على المذبح المقام في الخارج للمحرقة للشعب، ويجب إذًا أن تكون عناية القسوس وسهرهم متجهة بالأخص إلى ما هو مغطى بالداخل خلف الحجاب حتى لا يوجد شئ دنس أو شئ غير طاهر، بمعنى أنه يجب الاهتمام بالإنسان الداخلي وبالأجزاء المخفية بالقلب حتى تكون بدون عيوب. أما الكاروبان والمائدة فتعني معرفة الثالوث، لأن الكاروبان تعني كثرة أي كمال المعرفة. وهل يوجد كمال المعرفة أكثر من معرفة الابن والروح القدس. فعلى القسوس إذًا السهر على حفظها بدون دنس ولا أذى من أي نوع.

التابوت الذي فيه الغذاء السماوي من المن هو كنز الكلمة الإلهية – تابوت الذهب حيث يوجد لوحا الشهادة. هما بحسب رأيي عقلنا حيث يجب أن ننقش فيه شريعة الله، هذا العقل يجب أن يكون من ذهب أي نقي وثمين. لأن شريعة الله منقوشة دائمًا عليه، وكما يقول الرسول: “مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحي لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية” (2كو 3: 3). وهذا ما يقوله بولس عن البعض “الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبًا في قلوبهم” (رو 2: 15). إذًا من الذي كتب في القلوب؟ الله هو الذي كتب بأصبعه في كل الضمائر الشريعة الطبيعية التي أعطاها للجنس البشري. فيها نبدأ وبها نأخذ بذور الحق للتعمق، هذه البذور التي إن اعتنينا بزراعتها تأتي فينا بأثمار جيدة بالمسيح يسوع الذي له المجد والقوة إلى دهر الدهور آمين.

 

العظة الحادية عشر

الباكورة

1 تأمر الشريعة بأن يقدم للكهنة باكورة كل الثمار وكل الحيوانات: كل من يملك حقلاً أو كرمًا أو بستان زيتون، أو حديقة وكل من يشتغل في الأرض، كل من يربي أي ماشية، يقدم لله كل الإنتاج الأول (الباكورة) بأكمله إلى الكهنة. حيث يقول الكتاب المقدس إن ما قد أعطى للكهنة قد قدم لله. وبذلك نتعلم من الشريعة أنه لا يكون هناك انتفاع شرعي من ثمار الأرض، أو “من الحيوانات” الأليفة الصغيرة إن لم تقدم باكورة الكل لله أي للكهنة، وفي رأيي يجب أن نتمم هذا الناموس مثل كثير من النواميس الأخرى حتى بالمعنى الحرفي[49].

التفاسير الثلاثة للكتاب المقدس

يوجد حقًا وصايا من الناموس تلزم تلاميذ العهد الجديد أيضًا بإتمامها. وإذا أردتم فلنتكلم أولاً عن وصايا الناموس التي ألزمتنا بها الأناجيل، وبعد توضيح هذه النقطة نبحث عن ما هي المعاني الروحية التي يجب أن نراها فيها. البعض يقول: إذا وجد أي شئ لإتمامه حسب الحرف فلماذا لا نحفظ الكل؟ وبالعكس فالبعض الآخر يقول يجب أن نُخْضِع محتوى الناموس للمعنى الروحي، وأنه لا يجب أن نفسر شيئًا حسب الحرف لكن الكل حسب الروح.

لكن نحن بعد تخفيف المبالغة لهذين الوضعين المتباعدين سنحاول أن نعرف بعض القواعد التي يجب أن نتبعها بالنسبة لنصوص الشريعة هذه معتمدين على نصوص الكتاب المقدس في المزمور 19، قد كتب: “وناموس الرب  بلا عيب يرد النفوس، شهادة أمينة تعطي الحكمة للصغار، “وصايا الرب مستقيمة تفرح القلب، أمر الرب طاهر ينير العينيين، خوف الرب نقي ثابت إلى الأبد، أحكام الرب حق عادلة كلها فيما بينها أشهى من الذهب والإبريز الكثير وأحلى من العسل وقطر الشهادة” (مز 19: 8 10)، فلو لم تكن هذه الأشياء متمايزة لما أعطى الكتاب المقدس لكل واحدة فضائل خاصة، ولا نسب خصائص مختلفة لناموس الرب، لتعاليمه، لعدله لأحكامه، إنها إذًا أشياء مختلفة مثلما أظهرناها وهي الشريعة، التعاليم، الشهادة، البر والدينونة، يظهر الفرق بين التعبيرات كما نرى بدقة في النص الآتي “الشهادات، الفرائض والأحكام” (تث 4: 44، 45) التي كلم بها الرب موسى. والناموس نفسه أعطى الحكم للشريعة نفسها أنها هكذا تكون، أن تميز بذلك الواحدة عن الأخرى. نحن يجب أن نعطي انتباهًا أكثر لقراءات الشريعة، لأنه حيث يقرأ مثلاً “هذه هي الوصايا”.

كلمة “الوصية” لا يجب أن تفهم بمعنى كلمة “الشريعة”. عندما نقرأ “هذه الشهادات” فلا يجب أن نعتبر الشهادات مثل “الشريعة”، أو “الوصية”، كذلك عندما نقرأ “الشهادة” أو “الحكم” لا يجب أن نخلط هذه العبارة مع الأخرى لكن يجب أن نميز كل واحدة منها.

الناموس ظل الخيرات العتيدة

فإذا قرأنا أن “الناموس إذ له الخيرات العتيدة” (عب 10: 1)، فلا يجب أن نعتقد بذلك أن “الوصية” أو “الشهادات” تكون ظل الخيرات العتيدة، أخيرًا لكي نأخذ مثالاً من ضمن أمثلة كثيرة فإنه لم يكتب “هذه هي وصية الفصح”. ولكن “هذا ناموس الفصح”. وكما أن الناموس هو ظل الخيرات العتيدة، أي أن ناموس الفصح له أيضًا هذا الظل بدون أي شك. عندما أصل للنص الذي يتناول موضوع الفصح يجب عليَّ إذًا أن انظر في الحمل الجسدي، ظل الخيرات الآتية وأفهم بأن “فصحنا المسيح قد ذُبح لأجلنا” (1كو 5: 7). ستجد نفس التعبير في الفطير وحفظ القوانين الأخرى لأيام العيد، بما أن كل هذه قد رتبت تحت عنوان “الناموس” في فروض “الناموس” وبما أن الناموس يشير إلى الخيرات الآتية خلال ظل الحاضر، يجب أن أبحث عن ما هو فطير الخيرات الآتية. وأجد أن الرسول يقول لنا “إن نعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق” (1كو 5: 8). وعن الختان أيضًا يقول “هو ناموس الختان” حيث إن الختان قد رتب تحت طقس الناموس، وإن “الناموس هو ظل”، أبحث إذًا أي ظل للخيرات الآتية يستطيع أن يحتويه الختان حتى أن بولس الرسول يقول لنا إننا إذا مكثنا في ظل الختان: “إنه إن أختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئًا” (غل 5: 2)، وأيضًا “الختان الذي في الظاهر في اللحم لا يعتبر ختانًا” (رو 2: 28 29)، اليهودي ليس الذي ختانه في الظاهر في اللحم لكن “اليهودي هو الذي في الخفاء”، الختان هو ختان القلب حسب الروح وليس بحسب الحرف، “ومدحه لا يأتي من الإنسان لكن من الله”. تقريبًا كل ما أعلنه الرسول لا يصلح أن تتممه بحسب الحرف ولكن سنجده قد رتب عند موسى تحت عنوان “الناموس”.

وصايا تفهم حرفيًا

لكن عندما يقول موسى “لا تقتل، لا تزن، لا تسرق… الخ” سنجد بأنه لم يعطها عنوان “الناموس”. لكن بالأحرى “الوصايا”. إذًا هذا الجزء من الكتاب المقدس لم “ينقض” لكن بالأحرى قد تمم بواسطة تلاميذ الإنجيل، ولأني قلت أنه ليس “الوصية” لكن “الناموس” هو الذي ليس إلا “ظل الخيرات الآتية”، بالتالي يجب علينا أن نتمم هذه التعاليم حسب الحرف، وفي موضع آخر يقول: “لإن هذا صالح ومقبول أمام الله” (1تي 5: 4) أي يوجد احتياج هنا أن أبحث عن رمز في الرسالة التي هي مجرد قدوة.

إذًا نحن قد بينا أنه توجد تعاليم للناموس لا يجب أن تتمم بحسب الحرف، كما أن الرمز لا يجب أن يحول كلية، لكن يجب أن يتمم مثلما كتب في الكتب المقدسة. أبحث الآن هل يوجد شخص يستطيع أن يتمم الناموس بالمعنى الحرفي وفي نفس الوقت يجب أن نبحث فيه عن الرمز، فلننظر إذًا إن كنا نستطيع أن ندعم أقوالنا بكتابات الرسول أو الإنجيل.

وصايا تفهم حرفيًا ورمزيًا

كتب في الشريعة “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدًا واحدًا” (تك 2: 24)، توجد هنا أسرار رمزية. بولس الرسول يعلنها عندما يقول في رسالته بعدما ذكر هذا النص “هذا السر عظيم ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة” (1تي 5: 32).

يجب أن يتمم هذا التعليم أيضًا بالمعنى الحرفي. فالسيد الرب والمخلص علمه بنفسه “وقال كتب من أجل هذا أن يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان الاثنان جسدًا واحدًا إذًا ليس بعد اثنين بل جسد واحد فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان” (مت 19: 5 6). هذا يبين جيدًا أنه تعليم يجب أن يتمم بالمعنى الحرفي. لذلك يضيف “ما جمعه الله لا يفرقه إنسان”، لكن في نص آخر عندما يقول الرسول “كان لإبراهيم ابنان واحد من الجارية والآخر من الحرة” (غل 4: 22)، من يجعلنا نشك أن ذلك يجب أن يفهم حرفيًا، فبكل تأكيد إبراهيم كان له أسحق من سارة وإسماعيل من هاجر، ولكن الرسول يضيف “وكل ذلك رمز” وأنه يربطهما بالعهدين داعيًا نسل سارة الزوجة التي وضعت لأجل الحرية، أولاد العهد الجديد، ونسل هاجر الجارية التي وضعت لأجل العبودية أولاد أورشليم الأرضية.

اعتقد أننا بينا بواسطة الكتاب المقدس أن من ضمن تعاليم الشريعة ما لا يجب على تلاميذ الإنجيل أن يعملوها حسب الحرف، وأن يستبعدوها وألا يهتموا بذلك بالمرة، وتعاليم أخرى يجب أن تنفذ بتدقيق كما كتبت. وأخرى لها حقائق بحسب الحرف لكن من المفيد والضروري بأن ينسب لها أيضًا المعنى الرمزي.

سيكون إذًا كاتب متعلم في ملكوت السموات ذلك الذي يخرج من كنزه جددًا وعتقاء، إذا عرف في نص الكتاب المقدس، كيف تارة يطرح كلية “الحرف الذي يقتل” باحثًا في كل الكتاب عن “الروح الذي يحيي”، وتارة بتأييد معرفة الحرف وتأكيد معناها النافع والإجباري، وتارة بالاحتفاظ بالمعنى التاريخي وإضافة المعنى السري إليه في حينه.

الباكورة يجب أن يقدمها المسيحيون لكهنتهم

هذا ما يجب أن يعمل يبدو لي في النص الذي بين أيدينا أنه عادل ونافع أن تقدم الباكورة لكهنة الإنجيل حيث إن الرب أمر “أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون، والذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح” (1كو 9: 13 14) بقدر ما يكون هذا مستحقًا ومناسبًا. وبالعكس فإني أحكم أنه مخالف وغير مستحق وخاطئ ذلك الرجل الذي يعبد الله وينضم إلى الكنيسة والذي يعلم أن الكهنة والشمامسة يقفون في الهيكل ويكملون واجباتهم في خدمة كلام الله وفي خدمة الكنيسة، ولا يقدم للكهنة باكورة ثمار الأرض الذي أعطاه إياها الله “فإنه يشرق شمسه ويمطر أمطاره” (مت 5: 45). إنه يبدو لي بأن روح هذا الرجل في نسيان لله، وهو لا يفكر ولا يعتقد أن الله هو الذي أعطاه الثمار التي حصدها وأنه يعمل كما لو أن الله ليس له شئ في هذا المحصول، فلو كان يعتقد أن الله هو الذي أعطاه هذا المحصول لعلم إنه عندما يقدم للكهنة أنه يكرم الله من عطاياه وتقدماته.

ولكي نتبين أيضًا جيدًا من كلام الله أنه يجب أن نتمم تعاليمه بحسب الحرف أيضًا، سنعطي لذلك أدلة أخرى فيقول السيد الرب في الأناجيل “ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تعشرون النعنع (بمعنى الذي يعطي عشور النعناع)، والشبت والكمون وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان. يا مراؤون كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك” (مت 23: 23). تأمل جيدًا كلام الرب الذي يريد بأن نكمل النقط الأكثر أهمية في الناموس بدون أن نترك ما أوصى به بالحرف.

لعلك تقول أن هذا موجه للفريسيين وليس للتلاميذ؟ أنصت له وهو يخاطب تلاميذه “إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات” (مت 5: 2). فإنه يريد أن ما يعمله الفريسيون يتممه التلاميذ أيضًا وبأكثر سعة، فما لا يريد لتلاميذه أن يعملوه لا يفرضه أيضًا على الفريسيين. لكن كيف يريد أن تلاميذه يعملون أكثر من عمل الفريسيين؟ أنه يبين ذلك عندما يقول “قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل” (مت 5: 21)، والفريسيون يتممون هذا التعليم لكنه يقول للتلاميذ “وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم” (مت 5: 22)، أيضًا قد سمعتم إنه قيل لا تزن ولكنه يريد أن بر تلاميذه يتعدى بر الفريسيين لدرجة “أنهم لا ينظرون إلى امرأة ليشتهوها” (مت 5: 28). من هذه الأفكار التي سبق أن ذكرناها نجد الأشخاص ذوو الغيرة في دراسة الكتاب المقدس يستطيعون بسهولة أن يجدوا أمثلة أخرى لهذه الميزات، حيث يسمعها الحكيم فيزداد علمًا غير مكتف بأن يمجدها. ماذا سيزداد؟ إنه سيميز في كل إصحاح من الناموس متى يجب أن يبتعد عن الحرف ومتى يجب أن يتعلق به ومتى سيكون النص القصصي مطابقًا للشرح السري حيث “المسيح افتدانا من لعنة الناموس” (غل 3: 13)، أنه لم يفتدينا من لعنة الوصية ولا من لعنة الشهادة ولا من لعنة الأحكام لكن فقط من لعنة الناموس. نحن لم نخضع للختان الذي في اللحم وحفظ السبت ولا للفروض الأخرى من هذا النوع حيث يجب أن نقول أنها تتعلق بالناموس وليس بالوصايا. إذًا كيف يزيد برنا على  الكتبة والفريسيين. فبينما هم لا يجرؤون أن يذوقوا ثمار أرضهم قبل أن يقدموا البكور للكهنة ويعطوا ما يخص العشور للاويين، أما بدون أن أعمل ذلك فإني أتمتع بثمار الأرض بينما الكاهن لا يراها ويجهلها اللاوي، ومذبح الله لا علم له بها!

 

 

معنيان لكلمة “الناموس”

مع أنه يجب أن نحدد أن كلمة الناموس قابلة لمعنى مزدوج. فما يدعي “الناموس” هو كل هذه “التعاليم” كل هذه “الوصايا” “أفعال البر” “الشهادات” “الأحكام”. لكن يوجد جزء من تعاليم “الناموس” التي تدعى بالأخص “النواميس” وهي التي سبق أن درسناها أما الناموس بوجه عام فهو ما قال عنه المخلص “أنه لم يأتي لينقض الناموس بل ليكمله” (مت 5: 17)، وأيضًا في موضع آخر “فالمحبة هي تكميل الناموس” (رو 13: 10). الكاتب يسمى الناموس مجموعة الكتابات المكتوبة في الناموس، قد قلنا ذلك لنشرح أن الوصية بتقديم الباكورة من المحاصيل ومن القطيع يجب أن تطبق أيضًا بحسب الحرف.

المعنى الرمزي ماذا تبين البكورية

3 فلننظر الآن كيف يحمل أيضًا معنى رمزي بمعنى آخر روحي. فلنبحث إذًا النصوص من الكتاب المقدس بخلاف ما سبق أن تحدثنا عنه حيث نتحدث عن الباكورة “كل دسم الزيت وكل دسم المسطار والحنطة أبكارهن التي يعطونها للرب لك أعطيتها” (عد 18: 12). أتبحث الآن أين تتحدث النصوص عن الأبكار خارج هذا النص لأنه إذا كانت الأبكار تخص الكاهن الأعظم فيجب علينا أن نبحث عن كاهن أعظم تخصه الأبكار الواردة في النصوص الأخرى من الكتاب المقدس.

 

يسوع وشخصيات أخرى

قبل كل شئ نقرأ عن الرب يسوع المسيح نفسه الذي هو بكر من الأموات. إذًا هو بكر من نوع معين، نجد أيضًا أن الرسول عند ذكره بعض الأشخاص يسميهم “باكورة آسيا” وآخرين “أبكار أخائية” حيث يظهر أن في كل كنيسة يوجد بعض المؤمنين الذي اختبرتهم روح الرسول، يدعون أبكارًا. أضع بينهم كرنيليوس الذي نستطيع أن نسميه بكر كنيسة قيصرية مع الذين استحقوا معه نوال الروح القدس، ولا يجب أن ندعو كرنيليوس بكر لهذه الكنيسة فقط، بل أيضًا لكل الأمم، لأنه هو الأول الذي آمن من الأمم والأول الذي امتلأ من الروح القدس من الأمم إذًا نستطيع أن نسميه بكر الأمم.

من الذي يقدم الأبكار

أ الملائكة

ربما نتساءل من الذي يقدم هذه الأبكار لله؟ ومن هو الكاهن الأعظم الذي نعود إليه. على حسب كلام الرب يبدو أن هذا العالم هو “حقل”. هذا الحقل لا يحوي الأرض فقط، لكن أيضًا قلب كل إنسان يزرعه ملائكة الله. إنهم يحفظون ثمار عملهم بمعنى الذين يخضعون “لأوصياء ووكلاء” ولم يصلوا بعد إلى الكمال لكن كل الذين كانت قلوبهم موضع عنايتهم الحريصة، واقتادوهم إلى الكمال، هذه النخبة وهذا الاختيار من ضمن الآخرين هم الأبكار الذين يقدمون للكاهن الأعظم حيث نقرأ بأن كرنيليوس قبل أن يأخذ من بطرس تعاليم كلام الله ونعمة المعمودية، علم من ملاك أن “صلواته وصدقاته صعدت تذكارًا أمام الله” (أع 10: 4)، إذًا الملاك قد قدم كرنيليوس لله كبكر. 

ب – الرسل

نستطيع أن نقول أيضًا إن بطرس وبولس والرسل الآخرين يقدمون الأبكار من بين الذين يقبلون الإيمان بواسطتهم مثلما يوضحه الرسول عندما يقول “من أورشليم وما حولها إلى الليريكون قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح ولكن كنت محترصًا أن أبشر هكذا، ليس حيث سمى المسيح لئلا أبني على أساس لآخر” (رو 15: 19 20). لاحظ إذًا أن بولس يقدم ثمارًا من كل الذين تعلموا منه، الذين بشرهم، الذين بدأوا معه في النمو في الإيمان، وكان يبحث كل الأيام عن حقول جديدة ليحرثها، أرض بور جديدة ليزرعها. ولهذا السبب قال للبعض “قصدت أن آتي إليكم ليكون لي ثمر فيكم أيضًا كما في سائر الأمم” (رو 1: 13)، أقول ملاحظًا ومميزًا نخبة من ضمن هذه الثمار ومعلنًا كما قلت إن البعض “هم باكورة آسيا” وآخرين “هم باكورة أخائية” (رو 16: 5)، ملاحظًا وهو يختار أبكارًا لكل كنيسة ويقدم لله هذه الباكورة. وله ربما أيضًا باكورات، لكن اعتقد أيضًا أنه يوجد معهم من هم أقل منهم الذين لا يستطيع أن يقدمهم كأبكار ولا كباكورة لكن كعشور فقط.

 

ج كل حكيم

أقول أيضًا بأن كل حكيم عند تعليمه، عند تبشيره سامعيه، يشبه حارثًا في الكنيسة التي يعلم فيها بمعنى حارث قلوب المؤمنين، وهذا أيضًا له ثماره، وفي مجموع ثماره يجد بكل تأكيد رجلاً مختارًا ليقدمه كبكر. يوجد إذًا منهم من يقدم كباكورات وآخرون كالعشور، وإن لم يكن من التهور التقدم في مثل هذا الموضوع، لكننا نستطيع بلا شك أن ندعو الباكورات أنهم الذين كتب عنهم “الذين لم يتنجسوا مع النساء لأنهم أبكار وظلوا بتولين” (رؤ 14: 4). ونستطيع أيضًا أن ندعو كذلك الشهداء أبكارًا. وتحت اسم الباكورة أيضًا نستطيع أن ندخل عذارى الكنيسة. أما بالنسبة للعشور فهم الذين بعد الزواج عاشوا في الزهد والطهارة.

عودة للملائكة: دينونة الملائكة

لقد سبق أن بدأنا بالتحدث عن الباكورة التي قدمت بواسطة الملائكة خدام الجنس البشري، ثم تحولنا للتلاميذ وللحكماء عمومًا، فلنرجع لنقطة البداية. كل ملاك عند نهاية الأزمنة سيقدم للدينونة آخذًا معه الذين قد وجههم وساعدهم وعلمهم بسبب أنهم “كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات” (مت 18: 10). هنا أظن أنه سيطالب عما إذا كان الملاك اهتم بتعليم الإنسان أو إذا كان الكسل البشري لم يستجب لعمل الملاك، كما أنه سوف توجد أيضًا دينونة لأرواح “الذين قد أرسلوا للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14).

وإذا كان بسبب جبن في حياتهم تحصل سقطات عديدة في الحياة البشرية. إذا كان الأمر كذلك فأنه سوف توجد أيضًا دينونة من الله بين الملائكة والإنسان. ربما بعض الملائكة سيدانون مع حراثهم بولس، يقارن حراثهم مع حراثه ويقارن حصادهم مع حصاده الذي حصده من جماعة المؤمنين، لهذا سمح له أن يقول “ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة” (1كو 6: 3). ليس بولس نفسه هو الذي يدين الملائكة، لكن الأعمال التي تممها بولس في البشارة بالإنجيل، وبخصوص نفوس المؤمنين. هنا سيدين الملائكة ليس كلهم لكن البعض منهم. وربما أيضًا لأجل ذلك قال بطرس “التي تشتهي الملائكة أن تطلع عليها” (1بط 1: 12). ولكن الرسل أيضًا يأخذون المساعدة من الملائكة لأداء رسالتهم في التبشير والقيام بأعمال الإنجيل بنجاح. بهذا المعنى قيل في أعمال الرسل إنه “كان ملاك بطرس يقرع على الباب”. بنفس الطريقة فبما أنه يوجد ملاك لبطرس، فيلزم أن يكون ملاك لبولس أيضًا، وللآخرين بقدر عدد الرسل، وهكذا كل واحد على حسب رتبته أو بحسب استحقاقاته. هؤلاء الملائكة عليهم أن يلعبوا دورًا في أعمال الرسل وتعليهم أو تعاليم الحكماء الآخرين الذين يأتون بعدهم مع معاونيهم الذين يحضرون أمام الرب حصاد النفوس التي عمل هؤلاء الآخرين على نموها، عندما يجمع الحصاد، أي عندما يتم الاختيار بين المؤمنين المؤمن الأفضل من أي كنيسة سيقدم بواسطة الملاك كعشور والذي يكون أفضل منه سيقدم كبكر.

ملائكة الأمم

أيضًا كل ما قد رسم في الناموس كظل، مادام “الناموس له ظل الخيرات العتيدة” (عب 10: 1)، يتمم بطريقة ما في حقيقة “الخيرات العتيدة” بواسطة خدمة الملائكة. هذا ما قد كان من قبل في إسرائيل. المدعو إسرائيلي بحسب الجسد، سيتمم بالنسبة للإسرائيليين الحقيقيين السماويين حيث إن اسم إسرائيل قد رفع إلى رتبة الملائكة، أو بالأحرى إنهم هم الذين لهم أكثر صفة لحمل اسم إسرائيل لأنهم حقيقة أكثر أرواح تعاين الله. هذه هي ترجمة لكلمة إسرائيل. أيضًا في رأيي بعض أسماء الشعوب أو الملوك التي نقرأها في الكتب المقدسة تنتمي بدون أي شك لملائكة أشرار أو للسلاطين المضادة مثل فرعون ملك مصر ونبوخذنصر ملك بابل وآشور. كذلك يجب أن ننسب للملائكة القديسين وللسلاطين الصالحين ما كتب عن القديسين وعن الشعب المقدس. ولكي أقنعك بأن الكتاب المقدس يجعل علاقة بين ملك لآمة منافقة وبين سلطان شرير. إسمع ما يقوله أشعياء عن نبوخذنصر “إني أعاقب ثمر عظمة قلب ملك أشور وفخر رفعة عينيه لأنه قال بقدرة يدي صنعت وبحكمتي لأني فهيم ونقلت تخوم شعب ونهبت ذخائرهم وحطمت الملوك كبطل” (إش 10: 12 13). أيضًا في موضع آخر بخصوص ملك لأمة ما قال إشعياء النبي “كيف سقطت من السماء يا زهرة الصبح كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم” (إش 14: 12). فإذا كانت الحقيقة تلزم بأن ينسب كل هذا للملائكة ذوي السلطان الماكر، أفلا يجب لنفس السبب أن ننسب للملائكة وللخدام المزينين بسلطة حسنة كما قلت ما كتب عن الملوك أو الشعوب المناضلة؟ وأظن أن سفر التكوين يتحدث عن الملائكة عندما يقول “هلم ننزل ونبلبل ألسنتهم” (تك 11: 7).

ألا يجب أن نفكر بأنهم ملائكة مختلفون هم الذين أنشأوا عند الناس ألسنة ولهجات مختلفة؟ فمثلاً إن ملاكًا هو الذي علم الإنسان اللغة البابلية، وملاكًا آخر هو الذي علم اللغة المصرية، وملاكًا آخر هو الذي علم الإنسان اللغة اليونانية (بلا شك أن كاشفي اللغات واللهجات اصبحوا ملوكًا لشعوب مختلفة). أما اللغة التي أعطيت في الأصل بواسطة آدم وهي العبرية حسب ما نعرف، قد ظلت في هذا الجزء من البشرية ولم تكن نصيبًا لأي ملاك ولا لأي ملك ولكن ظلت “نصيب الله”.

ملائكة الكنائس

مع ذلك نحن قد بدأنا بالقول أن كل من الملائكة يقدم أبكارًا من شعبه واعتقد أيضًا أن كل واحد منهم يقدم أبكار كنيسته.

لهؤلاء الملائكة يكتب يوحنا في سفر الرؤيا عندما كتب مثلاً إلى ملاك الكنيسة التي في أفسس، إلى ملاك الكنيسة التي في سميرنا إلى ملاك الكنيسة التي في اللادوكية، وإلى ملائكة الكنائس الأخرى. إذًا كل ملاك يقدم أبكار الكنيسة أو الشعوب التي أؤتمن عليها.

ربما يوجد أيضًا ملائكة آخرون يجمعون المؤمنين من كل الأمم ففي مدينة حيث لم يولد بعد مسيحيين إذا حضر إنسان وبدأ في التعليم وعمل وقاد الناس إلى الإيمان أنه يصبح فيما بعد أسقف على الذين علمهم[50]. فلنعتبر أيضًا أن الملائكة القديسين سيصبحون في الدهر الآتي ملوكًا على الذين جمعوهم من ضمن الشعوب المختلفة، والذين قد جعلوهم يتقدمون بأعمالهم ووظيفتهم. لهذا السبب بالأحرى فإن الملك المسيح قد دعى “ملك الملوك” (رؤ 19: 16).

وبالأحرى إن الرب دُعِىَ “رب الأرباب” (رؤ 19: 16)، لأنه إن كان الملائكة ملوكًا على الذين يرعونهم ويجعلوهم يتقدمون، فهم يقدمون بعضًا منهم للكاهن الأعظم، والبعض الآخر لأبنائه أي للسلاطين العليا ولرؤساء الملائكة، والبعض أيضًا للاويين أي للملائكة الأقل رتبة. ولقد كان من المنطق أذًا أن نميز بين الملائكة، نفس الرتب الموجودة عند الإسرائيليين حسب المبدأ بأن الإسرائيليين كما يقال هم “ظل” السماء الحقيقية وصورتها.

 

توزيع الحصاد الروحي

إذًا نستطيع أن نقول إنه عندما يجمع كل الحصاد، على السطوح. فالبعض سيكون من نصيب الكاهن الأعظم، الكاهن الأعظم الحقيقي، المسيح. وآخرون، سيكون لهم نصيب اللاويين، كما قلنا، ويخصصون للملائكة أو للسلاطين السماوية الأخرى. وسيكونون أيضًا من ضمنهم، وأعتقد أنهم سيكونون نصيب الأشخاص الذين كانوا في هذه الحياة من الحكماء، وعملوا على نشر كلام الله. وهذا على ما اعتقد ما قد عناه السيد الرب عندما قال للذي قد وكل له الوزنة وربح عشرة “ليكن لك سلطان على عشر مدن” (لو 19: 17)، وللذي قد وكل له وزنة أخرى ربح خمسة “ليكن لك سلطان على خمس مدن” (لو 19: 19). ماذا يجب أن نفهم من السلطان على المدن. أليس هو قيادة الأرواح؟ كذلك لم يكن بلا معنى كما يبدو لي بأن من ضمن الملائكة أنفسهم البعض لهم سلطان وسيادة على الآخرين، والآخرون يكونون مرؤوسين وخاضعين لسلطانهم. كذلك الذي قد أخذ سلطان على “عشر مدن” أو على “خمس مدن” لم يحصل على هذا إلا باستحقاق ما قد ربحه بتضاعف الفضة التي وكلت لعنايته، لأن عند الله كل شئ يعمل لسبب وبحساب وليس اعتباطًا، لكن بحسب الاستحقاق أن الواحد يملك على شعوب عديدة والآخر يكون خاضعًا لسلطة.

ربما نلاحظ أننا استطردنا في حديث طويل، لكن لشرح الأبكار كان يجب الدخول في هذه التفاصيل لأن هذه الكلمة لها مجد في الكتاب المقدس هذا مقداره. إن المسيح نفسه قد دعى “باكورة” “وباكورة للذين رقدوا”. ومثلما هو “ملك الملوك ورب الأرباب” “راعي الرعاة” “رئيس رؤساء الكهنة”، نستطيع إذًا أن نسميه باكورة الأبكار باكورة لم تقدم للكاهن الأعظم ولكن لله، حيث أنه “أسلم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحة لله” (أف 5: 2). وبعد قيامته من الأموات “جلس عن يمين الله”. لكن قد سُمِىَ “باكورة وبكر لكل الخليقة”، هل يجب أن نعطي لهذه التسمية أي “بالنسبة لكل الخليقة” نفس المعنى الذي نعطيه بالنسبة للإنسان في التسمية “باكورة الراقدين”. ألا يجب أن نرى فيها معنى أكثر علوًا إلهيًا؟ ليس هذا هو مقام بحث هذا الموضوع.

5 فلنرجع إذًا للباكورة: فأنها تقدم كما قلنا بواسطة الملائكة وأنها تحصد من حقل هذا العالم. أما حقل الملائكة فهو قلوبنا. كل واحد منهم إذًا يقدم لله باكورة الحقل الذي يزرعه. إذا كنت استحق أن أعبر عن فكرة كبيرة لائقة بالكاهن الأعظم. إذا لوحظ في كلامنا وتعاليمنا فكرة لائقة ترضى الله، فسوف يختار الملاك الموكل على الكنيسة واحدة من كلماتنا ويقدمها للسيد الرب بصفة الباكورة لحقل قلبي، لكني أعرف أنني لا أستحق ذلك، وأنا متيقن أن الملاك في أعماله حولنا سوف لا يجد فيَّ فكرة مستحقة لتقدم للسيد الرب كباكورة الثمار.

أتمنى أن يكون كلامنا وتعاليمنا غير مستحقة أن يحكم عليها. هذه النعمة ستكفينا. إذًا الملائكة تقدم الباكورة المحصودة من حقلنا، كل ملاك يزرع الذين بغيرته وبأعماله يبعدهم عن أخطاء الوثنيين ويهديهم إلى الله. كل إنسان ينتسب لملاك يكون موكلاً لعنايته. وفي بدء هذا الجيل “حين فرق الله بني آدم نصب تخومًا لشعوب حسب عدد ملائكة الله وكل أمة قد خضعت لملاكها. الأمة الإسرائيلية فقط قد اختيرت وأصبحت نصيب السيد الرب” (تث 32: 9)، “وقسمة لوارثيه” واعتقد أيضًا أنه في نهاية هذا العالم وفي بداية الجيل الجديد، سيعمل العلى على تقسيم جديد بأبناء آدم.

والذين لا يستطيعون أن يكون لهم “قلب نقي” “لكي يروا الله” ويكونوا من نصيبه، سيرون على الأقل الملائكة القديسين وسيوزعون “بحسب عدد ملائكة الله”. لكن طوبى لمن يكون مستحقًا في الحياة المقبلة أن يكون “نصيب السيد الرب”، أن يكون “يعقوب” شعبه “وإسرائيل” قسمة لورثته.

فلنترجَ إذًا كما قلنا إن كل واحد ينمي ما لديه من وزنات لكي يكون مختارًا من ضمن الأبكار أو من ضمن الباكورة، أي أن يُقَّدم لله وأن يكون نصيب السيد الرب، وإلا فليستحق على الأقل أن يكون من نصيب الملائكة القديسين. لكن لا يكون في عداد الذين كتب عنهم “فيدخلون في أسافل الأرض يدفعون إلى يدي السيف يكونون نصيبًا للثعالب” (مز 63: 1 11). أنك ترى أن في وقت القيامة عندما العلي “سيفرق الأمم ويقسم لبني آدم” (تث 32: 8)، بحسب استحقاقاتهم، سيوجد منهم الذين يدخلون في أسافل الأرض، والذي سيصبح نصيبًا للثعالب أي للشياطين، حيث إن الثعالب هي التي تفسد الكروم. وهيرودس هو أيضًا منهم عندما قال عنه المسيح “اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب”. فلنطرح إذًا تصرفاتنا الأرضية وأفكارنا الجسدية خوفًا من أن نُثّقل بأفكار الأرض. وندخل في أسافل الأرض ونكون نصيبًا للثعالب حيث إن الذين يدخلون في أسافل الأرض هم الذين يعطون لناموس الله ووعوده معنى أرضيًا بدلاً من أن يحثوا نفوس السامعين على انتظار الخيرات السمائية وعلى التأمل في الحقائق التي من فوق.

يقول الرسول حقًا “فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله اهتموا بما فوق لا بما على الأرض” (كو 3: 1 2). أنه قال هذا للذين هم مربوطين بنواميس أرضية ويقولون “لا تأخذ لا تمس ولا تذق ولا تجس” (كو 2: 21، 22). وقد أضاف الرسول “التي هي جميعها للفناء في الاستعمال حسب وصايا وتعاليم الناس”.

حراسة الباكورة

6 الكتاب المقدس يكمل “وكلم الرب هارون قائلاً وهأنذا قد أعطيتك حراسة رفائعي” (بعض نسخ اللاتينية كتب “ليتمموها”)، لكن “لحراستها” هي أكثر دقة. يجب أن نبحث ماذا يعني حراسة الباكورة في الناموس حيث إن الكهنة لا يحصلون عليها لكي يحفظوها لكن لكي يستهلكوها. يقول الكتاب المقدس إذًا “اعطيتك حراسة الباكورة” أنه بكل تأكيد يقصد أن هذا التعليم لا يمكن أن يكون مخصصًا للناموس الحرفي لكن للناموس الروحي حيث إن الباكورة الروحية التي سبق أن تكلمنا عنها يمكن أن تكون محروسة، وليست الأخرى. وإذا كان المسيح كما يقول الرسول هو “باكورة” إذًا هذه الباكورة قد أعطيت لنا لكي نحرسها، أي مسرة حقًا تضاهي مسرة النفس التي أخذت المسيح وتحتفظ به دائمًا وتمتلكه دائمًا ساكنًا فيها؟ مثل هذه النفس قد حصلت حقيقة على الباكورة “لتحرسها” حيث إن الباكورة والتي كانت تقدم في الناموس كانت تستهلك كطعام، وبعد أن “يمضي إلى الجوف” مثل ما جاء في الإنجيل “يندفع إلى المخرج” (مت 15: 17).

ماذا أقول؟ بل يزداد دائمًا أنه إذًا كما يقول الرسول “طعامًا روحيًا” كلما نأخذ منه كلما يزداد، فكلما نأخذ من كلمة الله أي كلمة نأكل أكثر من هذا الطعام كلما نجده بوفرة. هذا بالنسبة لما كُتِبَ أعطيتك الباكورة لحراستها.

القداسة الضرورية لتقديم الباكورة

هذه هي التكملة “مع جميع أقداس بني إسرائيل” (عد 18: 9)، هذه الكلمات تحوي سرًا. الله لا يريد أن يأخذ الباكورة إلا من أقداس بني إسرائيل. يمكن أن يحدث أن نجد عند الوثنيين أعمالاً تليق بالله، فالبعض منهم قد زرعوا فضائل الروح والفلسفة قد أعطت نتائجًا عند البعض منهم، لكن الله لا يريد أن تقدم هذه الباكورة. الله لا يريد أن يأخذ تقدمات إلا من الذين يرونه بالروح، والذين تقدسوا لله بالإيمان. حتى وإن كان يبدو أن الوثني لديه بعض الشئ من الشرف وحسن العادات ولكنه لا ينسب فضائله لله لكن ينسبها لكبريائه، فإن هذا لم يتقدس ولم يؤخذ مع الباكورة.

ومن وجهة نظر الحرف يظهر أن الناموس أيضًا يبعد الدخلاء من هذا النوع من التقدمات فالناموس يريد فقط المقدسين من بين بني إسرائيل أن يقدموا الباكورة. اعتقد أننا نستطيع أن نتعرف على إسرائيلي من أنه سمح له أن يدخل في جماعة (كنيسة) الله حيث قد كتب “لا تكره أدوميًا لأنه أخوك لا تكر مصريًا لأنك كنت نزيلاً في أرضه الأولاد. الذين يولدون لهم في الجيل الثالث يدخلون منهم في جماعة الرب” (تث 23: 7 8).

مادام المصري أو الأدومي لا يحمل ثمارًا ولم يولد منه جيل واحد، وجيليين وثلاثة أجيال من الأبناء، فإنه لا يستطيع أن يدخل في جماعة الرب، لكن ولادة أولاده تجعله يدخل إلى هذه الجماعة. على قارئ الكتب المقدسة أن يكرس كل انتباهه وأن لا يفهم كلمات الكتب المقدسة بحسب مزاجه فعليه أن يفحص كل كلمة، فإنه يقال “إنه إذا ولد من أبناء أو بنات” “لكن إذا ولد له من أبناء في الجيل الثالث سيدخلون إلى جماعة الرب”. وأسأل نفسك إن استطعت لأي سبب بالمعنى الرمزي الأبناء فقط وليس البنات سيدخلهم الآباء في جماعة الرب، ستجد أن القديسين الذين يعطي الله عنهم الشهادة بوضوح نادرًا ما ينجبون بنات لكن بالأحرى أبناء فإبراهيم لم يكن له بنات. كذلك إسحق أيضًا، يعقوب فقط قد أنجب أبنه واحدة لكن كانت عبءً لأخوتها وأسرتها، ودنست بواسطة شكيم ابن حمور وسببت العار لأسرتها وجلبت لأخوتها غضب الانتقام وفي موضع آخر “جميع الذكور” يجب “أن يتقدموا للرب ثلاثة مرات في السنة” (خر 23: 17)، لكن المرأة لم تدع لتتقدم أمام الرب.

وأي شخص يدرس الكتب المقدسة بانتباه سيكتشف أنها ليس بدون سبب تضيف البنات للأبناء. ولم يذكر هناك في النص الذي ندرسه، فالباكورة يجب أن تقدم بواسطة “أبناء بني إسرائيل المقدسين” وليست في نفس الوقت بواسطة البنات. يجب أن يطبق ذلك بالمعنى الروحي وليس للتمييز بين الجنسين، لكن للتمييز بين النفوس.

الباكورة الأبدية

حيث قد أعطيتك هنا لك ولأبنائك امتيازًا شرعيًا أبديًا “لك” لمن؟ ستجيب لهرون أليس كذلك؟ لكن الكلمات التالية لها تدعوك أن تفهم بالحرى “للكاهن الأعظم الحقيقي المسيح وأبنائه الرسل معلمي الكنيسة”، حيث يحملون “شرعية أبدية”. كيف يمكن أن تكون الأشياء المرئية أبدية؟ ألم يقل الرسول “الأشياء التي ترى وقتية وأما الأشياء التي لا ترى فأبدية”. إذا كانت الباكورة التي قدمت لهرون مرئية، وهي فعلاً مرئية، فلا يمكن أن تأخذ صفة أبدية. بنفس الطريقة، الختان المرئي، الفطير المرئي، الفصح المرئي، كلها لا يمكن أن تكون أبدية لكن وقتية “حيث الأشياء التي ترى وقتية”. وبالعكس كل “الأشياء التي لا ترى فأبدية”. الختان غير المرئي وفي الخفاء (رو 2: 29)، هو أبدي. “فطير الأخلاص والحق” هو أيضًا كذلك. مادمت قد تحدثت عن الأشياء التي لا ترى فهي أبدية بنفس الطريقة فهذه الحسنات موضوعنا هذا، هي حق وأبدية، ليس لليهودي بحسب الظاهر لكن لليهودي حسب الحقيقة الخفية. والتي تتم “بالروح وليس بالحرف. بحسب الإنسان الباطن” (رو 7: 22).

قداسة مكتسبة وقداسة طبيعية

8 “هذا يكون من كل شئ ما هو قدس مقدس” (عد 18: 9). بالنسبة للتقدمات، أني تساءلت أحيانًا عندما مررت على هذا النص عن معنى “قدس ومقدس؟” إنه يبدو لي أن الكتاب المقدس هنا يميز ما هو قدس مقدس على ما هو قدس بدون أن يكون مقدسًا. اعتقد حقًا أن الروح القدس هو قدوس بدون أن يكون قد تقدس. فالروح القدس لا تتأتى له القداسة من الخارج من آخر. ليتقدس شئ ما معناه أن القداسة لم تكن موجودة فيه من قبل، والروح القدس كان دائمًا قدوسًا وقداسته ليس لها بداية، ويجب أيضًا أن نفكر بنفس الطريقة عن الآب والابن حيث إن جوهر الثالوث هو الوحيد الذي لم يتقدس بأخذ القداسة من الخارج، بل قدوس بطبيعته ذاتها. وبالعكس كل الخليقة ستكون “قدس مقدس” بنعمة الروح القدس أو بسبب استحقاقاتها. كذلك نقرأ “تكونون لي قديسين لأني قدوس أنا الرب” (لا 20: 26). هذا لا يعني أن قداسة الله يمكن مقارنتها بقداسة الإنسان. إنه يقال عن الله أنه قدوس أما الإنسان الذي لم يكن دائمًا قديسًا يجب أن يصبح قديسًا، حيث إن باليونانية بدل “كونوا قديسين” نقرأ الكلمة التي تعني بالأحرى “صيروا قديسين”، لكن مترجمينا استعملوا بدون تمييز “كونوا” ل “صيروا” في اليوم الذي فيه خضع كل واحد منا لمخافة الله وحصل فيه على التعاليم الإلهية، في اليوم الذي فيه سلم إرادته بين يدي الله أي سلمها فعلاً له بكل إخلاص، في هذا اليوم يصبح قديسًا، لكن نستطيع أن نقول عنه فقط أنه “قدس مقدس”. الله فقط هو حقيقة دائمًا قدوس بالحقيقة.

أتريد أن أبين بواسطة الكتب المقدسة تاريخيًا هذا الاختلاف الصغير، أنصت لبولس الذي يكتب للعبرانيين “لأن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد” (عب 2: 11)، من هو الذي يقدس؟ المسيح بدون أي شك. ومن هم الذين يتقدسون؟ هم الذين يؤمنون بالمسيح.

بكل تأكيد قداسة الذي يقدس لابد بأن تكون دائمًا قدوسة لكن الذين تقدسوا لا يجب أن نسميهم “قدس” باختصار، لكن “قدس مقدس” على أنه لا يجب أن نعتقد أن هذا البحث يكون مناقضًا لما نقرأه عن المسيح “فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم” (يو 10: 36)، في هذا النص الأخير الذي قد قدسه الآب هو المسيح بحسب الجسد، ليس المسيح بحسب الروح. أنه في نفس الوقت قدوس بحسب الجسد وبحسب الروح ثم أن المسيح قد قال “لأجلهم أنا أقدس ذاتي” (يو 17: 19). عندما يعطي (القداسة) يكون المسيح بحسب الروح وعندما يتقدس المسيح لأجل تلاميذه يكون المسيح بحسب الجسد مع أنه لا يوجد إلا مسيح واحد، الذي تارة يعطي التقديس بالروح وتارة يتقدس بحسب الجسد.

ثمار الروح وباكوراتهم

من كل الثمار يجب إذًا تقديم باكورة طاهرة ومقدسة، لكن يجب أن تقدم هذه الثمار للكاهن الأعظم الروحي. من أي ثمار ستقدم إذا الباكورة الروحية؟ من كل الثمار التي ذكرها بولس الرسول “وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة…الخ” (غل 5: 22) أي باكورة المحبة التي هي أول ثمار الروح يجب تقديمها للكاهن الأعظم. باكورة المحبة هي كما اعتقد أن “احب الرب إلهي من كل قلبي ومن كل نفسي ومن كل أفكاري”، هذه هي الباكورة وأي جزاء آخر من هذه الثمار كمحبة القريب يجب أن تتراجع إلى المكان الثاني أن “أحب قريبي كنفسي”. باكورة المحبة تقدم لله بواسطة الكاهن الأعظم الأعمال الثانية متروكة لي لاستعمالي الخاص.

من هذه الثمار يوجد أيضًا عمل يبدو لي أنه يجب أن يوضع في الصف الثالث “أحب أعدائي”. حاول أن تجد بنفس الطريقة باكورة من الثمر الروحي الآخر. من ثمار الروح الثانية التي ذكرت في الكتاب المقدس، الفرح فإذًا “في الرب تبتهج نفسي”، إذا ابتهجت نفسي بالرجاء، إذا ابتهجت نفسي باحتمال الظلم لأجل اسم الرب، في كل المناسبات من هذا النوع، أكون قد قدمت للرب باكورة الفرح بواسطة الكاهن الأعظم الحقيقي إذا احتملت “سلب أموالي بفرح” (عب 10: 34). إذا ابتهجت نفسي بأن تعاني الضيقات، الفقر، وكل أنواع الإهانات، هذه هي الدرجة الثانية من ثمار الروح. فهذا فرح للروح وإذا استخلصت فرحًا من حسنات هذا العالم شرف أو غنى، هذا ثمر مزيف والذي ليس أصله إلا “باطل الأباطيل”، إذا ابتهجت نفسي بالشر وإذا سررت ببؤس الآخرين هذا ليس فقط فرح باطل، لكن فرح شيطاني ماذا أقول؟ أنه لا يجب أيضًا أن نتحدث هنا عن الفرح “ليس سلام قال إلهي للأشرار” (إش 57: 21)، لكن أريد أيضًا أن أبحث عن ثمر آخر من الفرح. أو بالأحرى يكون باكورات أخرى عن الفرح إذا وجدت فرحي في كلام الرب، إذا ابتهجت بمعرفة أسرار الله، إذا ابتهجت بأن أكون محسوبًا ومستحقًا بأن أعرف أسرار حكمة الله.

إذا ابتهجت بأني بعد أن أترك كل حسنات العالم، النافعة منها والغير نافعة، الضرورية والباطلة. أن أكون قد جعلت نفسي فقط خادمًا لكلمة الله وحكمته، هذه هي باكورة الفرح التي اعتقد أنها ستعطي فرحًا وسرورًا لله له عندما تقدم له لكن فلنترك كل واحد يكتشف بتأني ما نجده بالنسبة للثمار الأخرى من الروح، حتى لا نطيل بإفراط في هذه العظة.

باكورة التقدمات المقدمة لله

9 “مع كل تقدماتهم”  يقول الكتاب المقدس فمن قدم تقدمه لله، يجب أنه من هذه التقدمة يقدم مرة أخرى، للكاهن الأعظم. في رأيي يمكن شرح هذا رمزيًا بالكيفية الآتية: إذا أعطيت للمعوزين إذا تممت بعض الأعمال الحسنة تكون قد قدمت لله تقدمة بحسب الوصية، لكن تقدم الباكورة من هذه التقدمة مثلاً، علاوة على الطعام أو النقود التي تعطي وتختبر في هذا شعور الرحمة والحنان. هذا ما ينتظره الله من الإنسان حقًا أن الله هو بنفسه يدرك من امتلئوا إحساسًا بشعور الرحمة والحنان.

باكورة الذبائح

“… وكل الذبائح”

الذبائح الروحية وهي الذبائح التي نقرأ عنها “أذبح لله حمدًا وأوفي العلي نذورك” (مز 50: 14)، إذًا من يقدم الذبائح يجب أن يحمد الله ويقدم له نذور الصلاة، لكن باكورة هذه الذبائح ستقدم بواسطة الكاهن الأعظم. إذًا نحن لا نصلي فقط بالكلام لكن أيضًا بالذهن والقلب بحسب نصيحة الرسول “أرتل بالروح وأرتل بالذهن أيضًا” (1كو 14: 15)، حيث إن ملائكة الله زراع وحراث قلوبنا، حاضرون بيننا ويبحثون بيننا عن من له ذهن منشغل ومنتبه بحيث أنه يحصل على كلام الله باشتياق مثل حصاد إلهي، هؤلاء الملائكة يبحثون إذا كان كلام الله قد نتجت عنه ثمار بمجرد أن قمنا للصلاة بمعنى إذا كنا نصلي لله بتجميع وتركيز أفكارنا.

إن لم يشرد ذهننا وإن لم تتشتت تأملاتنا، فبينما يكون جسدنا منحنيًا للصلاة لا تتشتت أفكارنا في اتجاهات مضادة، بمعنى أن الواحد يشعر بأن تضرعاته هي تحت أنظار الله وفي حضرة الله وفي حضرة نوره الذي لا يطمس، وإذا أكثر من “صلاته وتضرعاته وطلباته وتشكراته” (1تي 2: 1)، بدون أن يكون قلقًا بأي تخيلات خارجية فليعلم أنه بواسطة الملاك الموجود في الهيكل، يكون قد قدم باكورات ذبائحه للكاهن الأعظم الحقيقي المسيح يسوع سيدنا الرب الذي له المجد إلى أبد الآبدين آمين.

 

العظة الثانية عشر: البئر – سيحون

البئر – افتقار الحرف

قد قرئ على مسامعنا في سفر العدد دروس البئر والنشيد الذي رنمه إسرائيل حول البئر. وكالعادة نرى فيها أسرارًا. فإنه يفيض أكثر من ذي قبل “ومن هناك إلى بئر وهي البئر حيث قال الرب لموسى اجمع الشعب فأعطهم ماء” (عد 21: 16)، في هذا النص القصة بالمعنى الحرفي لا تبدو أنها تقدم قيمة كبيرة. ما هذا؟ السيد الرب يصّر بأن موسى يجمع الشعب ويعطيه ليشرب من ماء البئر، هل الشعب لم يكن ليأتي من نفسه للبئر لكي يشرب منه؟ لماذا إذًا الإصرار على النبي حتى بواسطة غيرته وبواسطة جهده الشخصي يجمع الشعب ويجعله يشرب من البئر؟

الآبار في الكتاب المقدس

الكلمة الإلهية – المعنى الروحي

فقر المعنى الحرفي يدعونا أن نبحث في اتساع المعنى الروحي. وأن نلتقط ما جاء في أجزاء من الكتاب المقدس عن أسرار الآبار، حتى ينكشف بالمقارنات العديدة معنى النص الحاضر. يقول روح الله بصوت سليمان في سفر الأمثال “أشرب مياهًا أوانيك ومياها جارية من بئرك، لا تفض ينابيعك إلى الخارج سواقي مياه في الشوارع” (أم 5: 15، 16)، بمعنى أن مياهك لك وحدك وأن لا أحد آخر له نصيب فيها.

كل واحد منا، بحسب الرمز، له في نفسه بئر، بل يقول إن كل واحد منا له في داخله ليس بئر واحد بل أكثر من بئر، ليس إناء ماء واحد، لكن أواني كثيرة، لأن الكتاب المقدس لم يقل إشرب مياهًا من إنائك لكن “من أوانيك”. لم يقل من مصدر بئرك لكن قال “من مصدر أبارك” أيضًا لقد سبق أن قرأنا إن الآباء كان لهم آبار، إبراهيم كان له آبار. أسحق أيضًا ويعقوب كان لديهم آبار. إرحل من هذه الآبار تصفح كل الكتاب المقدس في البحث عن الآبار وتوصل إلى الأناجيل، ستجد أن البئر الذي استراح مخلصنا عن نهايته عندما تنتهي الرحلة، وترى المرأة السامرية التي أرادت أن تملأ الدلو من هذا البئر، وكيف يشرح عن فضائل البئر أو الآبار ويعمل مقارنة بين مختلف المياه، ويظهر لها أسرار السر الإلهي عندما قال لها “إذا شرب أحد من المياه المعطاة من الآبار الأرضية سيعطش أيضًا أما الذي يشرب من الماء الذي يعطيه يسوع يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية” (انظر يو 4: 6).

لماذا إذًا في نص آخر من الإنجيل، لا يتعلق بالينابيع ولا بالآبار لكن ببعض الأشياء الأكبر أهمية كما جاء في الكتاب “من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي” (يو 7: 38)؟ ترى إذًا أن من آمن به يملك لنفسه أكثر من بئر، آبارًا وأكثر من ينبوع، أنهار، ينابيع وأنهار لا تفيد هذه الحياة البائدة، لكن تظل للأبدية. مما سبق ومما جاء عن موضوع الآبار والينابيع، يجب أن نفهم أنها تتعلق بكلمة الله، آبار حيث تخفي أسرار عميقة، ينابيع: وهي التي تفيض على الشعوب وترويهم.

آبار وينبوع:

الثالوث والوحدة

لكن يجب أن نبحث باهتمام كيف نستطيع أن نشرح أن الآبار مكتوبة بصيغة الجمع، والينبوع بصيغة المفرد، حيث الحكمة تقول في سفر الأمثال “أشرب مياهًا جارية من آبارك” من أي بئر؟ يقول لنا أنه ليس لديه إلا ينبوع واحد. في رأيي أن معرفة الآب غير المولود يمكن أن تكون مثل البئر – ومعرفة ابنه الوحيد يجب أن تكون بئرًا آخر، حيث إن الآب هو مميز عن الابن، والابن ليس هو الآب كما يقول في الأناجيل “الذي يشهد لي هو آخر” (يو 8: 18)، أي الآب فإنه يبدو لي أننا نستطيع أن نرى أيضًا بئرًا آخر في معرفة الروح القدس، حيث إنه مميز عن الآب والابن كما يؤكد الإنجيل “الآب سيرسل لكم معزيًا آخر… روح الحق” (يو 14: 16 17). إنه إذًا التمييز لثلاثة الأقانيم في الآب والابن والروح القدس هو الذي يشرح صيغة الجمع في الآبار. لكن من هذه الآبار يوجد ينبوع واحد، حيث الوحدانية هي الجوهر، وطبيعة الثالوث. وأيضًا هل لا نجد التمييز الموضح في الكتاب المقدس “من ينبوع آبائك” (أم 5: 15)، أنه قد استعمل بكل دقة الاصطلاحات الرمزية وتكلم بالجمع عن الأشخاص، وبالتالي يتناسب المفرد مع الجوهر.

الآبار والمعرفة

نستطيع أيضًا أن نرى الآبار في الأشياء كما في الحديث عن المعرفة التي بها يمتلئ الإنسان من حكمة الله، قائلاً “إنه هو الذي أعطاني المعرفة الحقيقية للكائنات التي عرفتني يقينًا تكوين العالم، وقوات العناصر، بداية ونهاية ووسط العصور، تغير الأزمنة وتحولها، دورات السنين وأوضاع الكواكب، وطبائع الحيوان، وغرائز الوحوش وقوة الأرواح وأفكار الناس وأنواع النبات، وقوة الجذور” (حكمة سليمان 7: 17 20). هل ترى كيف تنفتح الآبار في معرفة الطبيعة؟ إن علم النباتات مثلاً هو بئر وربما تكون لطبيعة كل نبات بئر خاص بها. ويوجد بئر آخر وهو علم الحيوانات، وربما لكل نوع منها بئر خاص. كما أن نظام الأزمان وثوراته وتغيراته بئر آخر. إن العلم في كل هذه الأشياء عميق، لهذا السبب يمكن أن يسمى بئرًا بالمعنى المجازي “مادام سر المسيح ظل مكتومًا منذ الدهور ومنذ الأجيال” (كو 1: 26). المعرفة بهذه الأشياء يمكن أن تحمل اسم الآبار، لكن عندما نقرأ كلمة القديس بولس “الله قد أعلنه للمؤمنين بروحه” (1كو 2: 10)، فكل هذا يصبح ينابيع وأنهار: العلم لم يحتفظ بسريته لكن قدم للجموع على أنه يروي المؤمنين ويشبع ظمأهم.

هذا هو السبب في كلام المخلص لتلاميذه “من يؤمن بي”  ويشرب من ماء تعليمه فإنه سوف لا يكون له بئر وينبوع فقط، بل ستكون “أنهار ماء حي” (يو 7: 38)، التي “تولد فيه” أيضًا من البئر الوحيد الذي هو كلام الله، تولد آبار وينابيع وأنهار لا تحصى. كذلك نفس الإنسان التي خلقت على صورة الله تستطيع أن يكون لها داخلها آبارًا وينابيع بل وتنتجها أيضًا.

حافرو الآبار

في الحقيقة تحتاج آبار نفوسنا إلى بيار لحفرها ينظفها وينزع منها كل ما هو أرضي، حتى تعطي الأفكار الحكيمة التي خبأها الله لكي تعطي شبكات من الماء النقي الخالص. ومادامت الأرض تغطي الماء وتخفي المجرى الخفي، فالماء النقي لا يمكن أن يجري. لهذا السبب قد كتب “وجميع الآبار التي حفرها عبيد أبيه في أيام إبراهيم أبيه، ردمها الفلسطينيون وملئوها ترابًا” (تك 26: 15)، لكن إسحق الذي أخذ البركة من أبيه “حفر الآبار مرة أخرى ونبش آبار الماء” التي طمها الفلسطينيون في كراهيتهم وكانوا يلقون التراب فوق الماء. ولقد لاحظنا أيضًا في سفر التكوين حيث يوجد هذا النص الذي قد استخرج منه، أنه في أثناء حياة إبراهيم لم يجرؤ الفلسطينيون أن يردموا الآبار ولا أن يرموا فيها التراب، وبعد موته رفعوا رؤوسهم وتعدوا على آباره. ولكن إسحق بعد ذلك أصلحها وعادت إلى طبيعتها.

الزوجات حول الآبار: الفضائل

من جهة أخرى في أثناء رحلة إسحق لكي يتزوج فقد وجد خادم إبراهيم رفقة التي أسمها يعني “الصبر” عند البئر، وأنه ليس في جهة أخرى بل عند البئر وجدت امرأة أسحق. وعندما جاء يعقوب إلى بلاد ما بين النهرين (بني المشرق) لكي يطيع الأمر الأبوي بأن لا يأخذ امرأة من خارج شعبه أو من خارج دمه فعند الآبار أيضًا وجد راحيل. وكذلك موسى وجد صفورة. إذًا عند الآبار قد فهمت ما هي الزيجات المقدسة. إذا كنت أنت أيضًا تريد أن تتزوج الصبر والحكمة والفضائل الأخرى التي تمثلها، وتقول ما قالته الحكمة “لقد بحثت عنه جيدًا لكي أتزوجه” حاصر هذه الآبار بلا انقطاع وستجد هناك زوجة مثلها، حيث إنه بجانب المياه الحية أي بجانب مجاري الكلام الحي، هناك تسكن كل الفضائل بكل تأكيد.

يسوع المسيح البئر الأوحد

إذًا يوجد كثير من هذه الآبار التي سبق أن قلنا عنها في داخل النفس. سنكتشف أيضًا كثيرًا من الآبار الأخرى في كل خطوة نخطوها في قراءة أو في تفسير الكتاب المقدس. لكن هناك بئر يفوق كل الآبار الأخرى، بئر عجيب، البئر الذي يتحدث عنه الكتاب المقدس في هذا النص: والحفارون الذين حفروه لم يكونوا رجالاً عاديين لكن “رؤساء” وأيضًا شرفاء الشعب الذين يدعون “ملوك”. لهذا السبب “غنى نشيدًا لله” عند هذا البئر. ولهذا السبب قد كتب “ومن هناك إلى هذا البئر وهي البئر التي قال الرب لموسى اجمع الشعب فأعطيهم ماء” (عد 21: 16)، موسى أمر بأن يجمع الشعب حتى يجتمعوا حول البئر ويشربوا الماء. في موسى يجب أن نرى الشريعة وقد سبق أن أوضحناها في كثير من المرات. إنها إذًا شريعة الله التي تدعوك لتأتي إلى البئر. إلى أي بئر؟ أن لم يكن إلى ذلك الذي سبق أن قلنا عنه أي يسوع المسيح ابن الله القائم في جوهره الذاتي، والذي هو مع الآب في اللاهوت الواحد. والشريعة تدعونا إذًا لهذا البئر أي للإيمان بالمسيح.

لقد قال هو نفسه “موسى كتب عني” لأي هدف يجمعنا؟ لكي نشرب الماء ولكي نرنم له نشيدًا بمعنى أن القلب يؤمن به للبر وفمنا يعترف به للخلاص (رو 10: 10).

البئر والبكر

2 “يقول الكتاب المقدس ترنم له نشيد البئر” هذا هو المعنى. ضع البئر في بداية كل شئ، حيث يقول الرسول “أنه الأصل وهو بكر كل الخليقة” (كو 1: 15، 16). نستطيع أيضًا أن نفهم هذا بمعنى آخر فمن المفروض أن هذه الكلمات موجهة من موسى للشعب فهو يشجع الشعب ويقول له أعط البداية لقلبك أي بأن تبدأ في فهم ما هو هذا البئر حيث يجب أن نغترف الماء الروحي، وحيث يجب أن يصلح الشعب المؤمن. “رنم إذًا له” بمعنى أن لإسرائيل “نشيد البئر” حتى أن كل إنسان يرى الله في قلبه يستطيع أن يغترف المعنى الرمزي “السري”.

يجب أن نمر بواسطة موسى

فإذا دعا موسى بمعنى أن الشريعة تدعو، لتجمعنا لهذا البئر، أنه ليس كلامًا باطلاً فأنه يستطيع أي منا أن يدعو للمجئ لهذا البئر، لكن إن لم يكن قد استدعي لهذا البئر بواسطة موسى فسوف لا يكون مقبولاً من الله. ماركيون يعتقد أنه قد جاء لهذا البئر، وباسيليدس وفالنتيوس، لكن لأنهم لم يحصلوا على الشريعة والأنبياء فإنهم لا يستطيعون أن يمدحوا السيد الرب لأجل ينابيع إسرائيل. مثل هؤلاء الأشخاص لا يأتون للبئر التي “قد حفرها رؤساء وحفرها شرفاء”.

آبار الهراطقة

هل تريدون أن تروا من الكتاب المقدس إلى أي بئر يأتون؟ أنه “وادي من الملح”، حيث تبدأ “آبار حمر كثيرة” (تك 14: 10). كل هرطقة وكل خطية، تكون في وادي من الملح. الخطية والآثم لا تعلو نحو العلو، لكنها تنزل دائمًا نحو الأماكن المنخفضة السفلى. كل فكر هرطوقي، وكل فعل، وكل فعل الخطية هي موجودة في وادي، أنه مالح ومر. أية عذوبة، وأية حلاوة تستطيع أن تقدمها الخطية؟ لكن يوجد ما هو أسوأ إذا سقط إنسان في آراء الهراطقة، إذا سقط في مرارة الخطية فهو قد سقط في “آبار حمر كثيرة”، الحمر هو غذاء، هو طعام النار. فإذا تذوقنا ماءًا من هذه الآبار، إذا قبلنا آراء الهراطقة إذا قبلنا مرارة الخطية، فإننا نهيئ في أنفسنا مادة للنار وحطبًا لجهنم. لهذا السبب فإن الذين لا يريدون الشرب من ماء البئر المحفور بواسطة الرؤساء والملوك فأنهم يشربون من البئر الموجود في وادي الخطية، التي تغذي النار، فإنه يقال “اسلكوا بنور ناركم وبالشرار الذي قد أوقدتموه” (إش 50: 11).

رؤساء وملوك:

درجات العمق في معرفة الكتب المقدسة

ما هو إذًا النشيد المرنم حول البئر؟ فلنبدأ بلحن “نشيد” البئر “بئر حفرها رؤساء، حفرها شرفاء الشعب”، نستطيع أن نرى نفس الشخصيات في الرؤساء والملوك؛ لكن إن كان يجب أن نميزهم، فالرؤساء تعني الأنبياء. أنهم خبأوا المسيح وغطوا عليه بنبواتهم في أعماق الحرف، ولهذا السبب قال واحد من الأنبياء “إن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة” (أر 13: 17).

وقال نبي آخر للسيد الرب “تسترهم بستر وجهك من مكايد الناس. تخفيهم في مظلة من مخاصمة الألسن” (مز 31: 20). إذًا الرؤساء هم الذين حفروا هذا البئر، الملوك هم الذين نقبوه. ينقب بمعنى يقطع أو يهذب الحجر، الشرفاء وهم أقل من الملوك، يحفرون الآبار، بمعنى يعمقون في الأرض، يحفرون إلى عمق معين. لكن الذين دعوا ملوكًا هم أكثر قوة وأكثر علوًا لا ينقبون فقط سمك الأرض، ولكن ينقبون أيضًا صلابة الصخر، لكي يصلوا إلى الماء الأكثر عمقًا. والأكثر فحصًا إذًا نستطيع أن نقول أيضًا إلى أغطية الهاوية، عالمين برحمة الله “ما أكرم رحمتك يا الله” (مز 36: 7).

إذًا نستطيع أن نقول إن هؤلاء الملوك الذين لهم المقدرة أن يصلوا إلى مثل هذه الأعماق، وإلى مثل هذا الفحص من البئر، هم الرسل. وكان أحدهم يقول “فأعلنه الله لنا نحن بروحه، لأن الروح يفحص كل شئ حتى أعماق الله” (كو 2: 10). وبما أنهم يستطيعون بفضل الروح القدس فحص أعماق الله بأنفسهم واختراق أعماق أسرار البئر، فهم في هذا النص، الملوك الذين نقبوا هذا البئر في الصخر، ليصلوا إلى أسرار المعرفة الصلبة والصعبة. وأما بالنسبة للرسل أيضًا فيمكن أن يدعوا ملوكًا، إذ يمكن استنتاج ذلك بسهولة مما قيل عن كل المؤمنين: “أنتم جنس مختار وكهنوت ملوكي أمه مقدسة” (1بط 2: 9)، فإذًا هم دعوا ملوكًا أولئك للذين آمنوا بواسطة كلمتهم. نستطيع بسهولة استنتاج ذلك من هذا: إذا كان الملوك هم الذين يحكمون، فكل الذين يديرون كنائس الله يستحقون أن يدعوا ملوكًا، لكن بأكثر استحقاق يدعون ملوكًا أولئك الذين يوجهون بواسطة كلامهم وكتاباتهم الذين يديرون الحكام.

لهذا السبب دعى حقًا السيد الرب “ملك الملوك” (رؤ 19: 16). وإن كان الرسل وتلاميذهم ليسوا ملوكًا، لما ظهر أن الله ملك الملوك. بولس الرسول نفسه يقول لأهل كورنثوس لتبكيتهم بطريقة توبيخية “أنكم ملكتم بدوننا وليتكم ملكتم لنملك نحن أيضًا معكم” (1كو 4: 8). أنه يؤكد بأن أهل كورنثوس يجب أن يدعوا ملوكًا وأنه يريد أن يملك معهم، ولكنه يظهر أن عندهم كبرياء لا يتناسب مع الشرف الذي يطلبونه.

ها هم الملوك الذين يحفرون البئر “وحفرها رؤساء” (عد 21: 18)، الرسل حقًا هم بكل فخر ملوك الأمم بالتمام، لقد جمعوهم في طاعة الإيمان وفتحوا لكل العالم معرفة المسيح “المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم” (كو 2: 3)، وذلك بذهابهم إلى العالم أجمع حسب وصية السيد الرب، وبتنفيذهم الأمر الذي أعطاهم إياه “تلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 28: 19 20). بهذا قد حفروا البئر، بمعنى أنهم أعلنوا العلم وأعطوا المعرفة لكل الأمم.

هذا الكتاب الذي بين أيدينا، هذا الدرس الذي قُرئ علينا، هما بئر. وفي نفس الوقت كل الكتاب المقدس والشريعة والأنبياء، والكتابات الإنجيلية والرسولية يكونون مجموعة “بئر” واحد، ولا يمكن أن يحفر ولا أن يفحص إلا إذا وُجِدَ ملوك ورؤساء حيث إنه يجب أن ينظر إليهم كملوك حقيقيين ورؤساء حقيقيين، أولئك الذين يمكنهم أن ينظفوا أرض البئر، أي رفع سطحية الحرف، وسطحية “الصخرة” الداخلية حيث يوجد “المسيح” ويعملون على تدفق المعنى الروحي. إذًا فالملوك أو الرؤساء هم الذين يستطيعون أن يعملوا على تدفق المياه، ولقد دعوا ملوكًا لأنهم عزلوا الخطية من تملكها على الجسد، وشيدوا في أعضائهم ما هو للبر.

فلكي نعلم الآخرين يجب علينا أن نمارس أولاً ما نعلّمه، كما يؤكد الكتاب “من عمل وعلم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السموات” (مت 5: 19). والذي هو عظيم في مملكته فهو ملك. إن “ملوك الأمم” يقول الكتاب “قد حفروها في مملكتهم، وقد ملكوا عليها” (عد 21: 18). في الحقيقة هم لا يستطيعون أن يحفروا هذا البئر ولا أن يكشفوا الأغطية المختبئة في الماء الحي، إن لم يتأسسوا بواسطة سيادتهم على الأمم البربرية. لأنهم إن قهروا واخضعوا لسلطة النفس المملوكة، إن سادوا على كل ما هو فيهم من وحشية في أفعالهم، وما هو بربري في عاداتهم، لكي يسلكوا فيما بعد بحسب الشريعة وليس كالوثنيين، فهؤلاء يكونون حقًا ملوكًا يفحصون أعماق البئر وأعماق أسرار كلمة الله.

أربع مراحل من بدء البئر:

المرحلة الأولى العطايا

3 بعد ذلك يقول الكتاب المقدس “من البئر إلى متانة، ومن متانة إلى نحليئيل ومن نحليئيل إلى باموت، ومن باموت إلى الجواء التي في صحراء موآب عند رأس الفسجة التي تشرف على وجه البرية” (عد 21: 18 20). هذه الأسماء تبدو أسماء أماكن، لكن إذا اعتبرنا المعنى الذي تقدمه في اللغة الأصلية، نجد أنها مجموعة من الحقائق السرية أكثر من كونها أسماء أماكن[51].

“رحلوا من البئر ووصلوا حتى متانة” (متانة تعنى عطاياهم) بمعنى إذا شرب أحد من البئر “المحفور من الملوك والرؤساء” فهو يكسب من ذلك امتلاك عطايا يمكن أن يقدمها لله؟ أما ما يمكن للإنسان أن يقدمه لله فهو كما كتب في الشريعة “عطايا وتقدمات”.

إنه إذًا من الحسنات المعطاة من الله أن يقدم الإنسان قرابيننا لله. وما هي العطية التي أعطاها الله للإنسان؟ هي معرفة نفسه. وما هي التقدمة التي يقدمها الإنسان لله؟ هي إيمانه وحبه. هذا ما يطلبه الله من الإنسان، لأنه مكتوب “فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب إلهك إلا أن تتقي الرب إلهك. لتسلك في كل طرقه، وتحبه، وتعبد الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك” (تث 10: 12). هذه هي التقدمات، هذه هي العطايا التي يجب أن نقدمها للسيد الرب. أي نحن نقدم له هذه العطايا من قلوبنا بعد أن نكون قد عرفناه، وبعد أن نكون قد شربنا معرفة صلاحه من أعماق بئره.

 

حرية البشر وبر الله

لاحظ إذًا كيف يقول موسى النبي “فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب إلهك؟” (تث 10: 12). فليخجل من هذا الكلام، الذين يدّعون أن خلاص الإنسان لا يتعلق به. كيف يمكن لله أن يطلب من الإنسان إن لم يكن في مقدرة الإنسان أن يعطي ما يطلبه الله منه، والذي عليه أن يقدمه له؟ يوجد إذًا نصيب الله ونصيب الإنسان. فمثلاً كان في مقدرة الإنسان أن يربح عشر وزنات أو خمس وزنات من وزنة واحدة. لكن الله وحده يمكن أن يعطيه وزنة واحدة وفي استطاعة الإنسان أن يرد له عشرة وزنات. 

ولكن مرة أخرى عندما قدم العشر وزنات أخذ من الله ليس المال ولكن القدرة والملك (السلطان)، على عشر مدن. طلب الله من إبراهيم أن يقدم له أبنه أسحق “على الجبل الذي يختاره الله له” (عب 11: 17)، فقدم إبراهيم ابنه الوحيد بدون تردد، ووضعه على المذبح وأخذ السكين ليذبح أبنه ولكنه أوقفه في الحال وًاعطِىَ كبشًا من الرب لكي يقدمه كضحية بدلاً من ابنه. أنت ترى إذًا ما نقدمه لله يبقى لنا، لكن ما يطلب منا هو لكي يختبر حبنا نحو الله وإيماننا به وفيما يخص أبناء إسرائيل سبق أن قلنا “رحلوا من البئر ووصلوا إلى متان” (عد 21: 19)، التي تعني عطاياهم.

 

المرحلة الثانية: عطايا الروح القدس

من متان نصل إلى “نحليئيل” التي تعني “من الله”. ما هو الذي من الله؟ بعد أن نقدم له إيماننا وحبنا فهو يعطينا مختلف عطايا الروح القدس كما يقول الرسول “الذي منه جميع الأشياء” (1كو 8: 6).

المرحلة الثالثة: موت عن العالم

من نحليئيل نصل إلى “باموت” التي تعني مجئ الموت أي موت، أن لم يكن من النوع الذي به “نموت مع المسيح” لكي “نحيا معه” وبواسطته. يجب علينا أن “نميت اعضائنا التي على الأرض” (كو 3: 5)، وقد قيل أيضًا “لقد دفنا معه بالمعمودية للموت” (رو 6: 4). فإذًا دعنا نتابع المراحل لهذه الرحلة نحو الخلاص، فيجب أن نمر بكل هذه المحطات التي ذكرناها، ونصل بعد كثير من الجهد لهذا المكان الذي يعني “مجئ الموت”. وحسب تعليم الكتب المقدسة يوجد بالفعل موت عدو وموت صديق، لنرى ما هو من المسيح. هنا إذًا ليس مسألة موت العدو، لكن الموت الذي قيل “آخر عدو يبطل هو الموت”، بمعنى الشيطان. ولكن ما هو هذا الموت الذي بواسطته نموت معه، لكي نحيا أيضًا معه، ما هو هذا الموت الذي يقول عنه الله “أنا أميت وأحيي” (تث 32: 39). أنه يميت حقًا لكي “نحيا مع المسيح”. ويحيي لكي “نحيا معه”. إذًا يجب علينا أن نشتهي أن نصل إلى الموت، وأن نشتهي بأقصى سرعة حلول هذا الموت السعيد حتى نستحق أن نحيا مع المسيح.

المرحلة الرابعة: فردوس وكمال

ومن “باموت” يقول الكتاب المقدس “إلى الجواء التي في صحراء موآب عند رأس الفسجة التي تشرف على وجه البرية”. بذلك نكون قد أكملنا هذه المرحلة، التي بحسب شرحنا تصف تقدم النفس أكثر من وصفها أسماء أماكن. بعد كل هذه المراحل نصل إلى الغابة، أو بتعبير آخر إلى جواء التي تعني مطلع أو قمة الجبل. وبمرورنا بهذه المراحل نصل إذًا إلى الغابات الشاسعة الإلهية: الجنة، وإلى الإقامة الأولى الجميلة، أو على الأقل إلى قمة الكمال، وإلى فيض البهجة، بحيث يستطيع المؤمن أن يقول “وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع” (أف 2: 6). أرأيت أين نصل اعتبارًا من بدء البئر؟ أرأيت ما هي المراحل أو بالأحرى ما هو تقدم النفس ورحلتها نحو السماء التي قد أُعدْت من قبل إذًا تستطيع بفحص نفسك وتقدمك اليومي أن تعرف أين أنت، وقربك من ملكوت السموات، كما قال السيد المسيح “لست بعيدًا عن ملكوت الله” (مر 12: 34).

سيحون

4 قصة أخرى تلي القصة السابقة. وأرسل موسى أو بالأحرى “أرسل إسرائيل رسلاً إلى سيحون ملك الأموريين قائلاً دعني أمر في أرضك لا نميل إلى حقل ولا إلى كرم ولا نشرب ماء بئر. في طريق الملك نمشي حتى نتجاوز تخومك فلم يسمح سيحون لإسرائيل بالمرور في تخومه بل جمع سيحون جميع قومه وخرج للقاء إسرائيل إلى البرية فأتي إلى هايص وحارب إسرائيل فضربه إسرائيل بحد السيف وملك أرضه” (عد 21: 21 24).

سيحون هو الشيطان

القصة واضحة، لكن فلنصل للرب حتى يرينا بعض الأشياء التي تكون مناسبة لمعاني داخلية. سيحون له معنيان: شجرة عقيمة أو متكبرة. أرسل إسرائيل إذًا رسلاً إلى سيحون، إلى هذه الشجرة العقيمة، هذه الشجرة المتشامخة والمتكبرة. أما سيحون هذا فهو ملك الأموريين بمعنى مرشدًا إلى المرارة، أو متحدثًا. “موسى أرسل رسلاً إلى سيحون قائلاً دعني أمر في أرضك”، نحن قلنا حسب التفسير الروحي أن الملك سيحون يمثل الشيطان لأنه متكبر وعقيم. اعتقد أننا لا يجب أن نندهش إذا دعوته ملك حيث إن سيدنا ومخلصنا قال عنه في الإنجيل “رئيس هذا العالم يأتي وليست له في شئ” (يو 14: 30)، وأيضًا “الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا” (يو 12: 31). إذا كان قد دعي رئيسًا لهذا العالم كله في الأناجيل فهل من غير المناسب أن نقارنه بسيحون ملك الأموريين أو بأي ملك من الأمم الأخرى.

هو قد دعى رئيسًا لهذا العالم ليس لأنه قد خلق العالم، بل لأن الخطاة كثيرون في العالم. وبما أنه رئيس الخطاة فقد دعى رئيس العالم أي رئيس الذين لم يتركوا بعد العالم لكي يتجهوا إلى الآب. بنفس المعنى قد قيل إن “العالم كله قد وضع في الشرير” (1يو 5: 19). ماذا يفيدنا أن نقول إن المسيح هو رئيسنا إذا كنا مقتنعين بأفعالنا وأعمالنا ونحن تحت سلطة الشيطان؟ هل لا نعرف بوضوح إلى أي رئيس ينتمي الفاجر، الفاسق، الظالم؟ رجل من هذا النوع هل يستطيع أن يقول أنه وُضِعَ تحت سلطان المسيح، ولو كان في الظاهر قد أحصى تحت اسم المسيح؟ حيث إن المسيح رئيسنا، لا يرتكب أبدًا لا النجاسة ولا البغى، ولا يوجد فيه مكان أبدًا لشهوة الظلم. وفي هذا المعنى. أنه يجدر بنا أن نقول إن المسيح هو رئيس الفضائل، والشيطان رئيس الشر وكل ظلم.

كبرياء الشيطان

إذًا “أرسل إسرائيل رسلاً إلى ملك الأموريين، ملك من الذين يقودون إلى المرارة. ملك عقيم، ملك متكبر. كيف نعرف الكبرياء، كبرياء الشيطان؟ أنه هو الذي قال “بقدرة يدي صنعت وبحكمتي لأني فهيم ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحطمت الملوك كبطل فأصابت يدي ثروة الشعوب كعش” (إش 10: 13، 14). أنه يقول أيضًا هذا الروح المتكبر والمتشامخ “اصعد إلى السموات أرفع كرسي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال أصعد فوق مرتفعات السحاب أصير مثل العلي” (إش 14: 13، 14)، هل مازلت تسأل هل هو متشامخ ومتكبر؟ نعم هو متشامخ ومتكبر.

إنه كذلك والذي كتب عنه “لا يخدعنكم أحد على طريقة ما لأنه لا يأتي إن لم يأت الارتداء أولاً ويستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يدعي إلهًا أو معبودًا حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه أنه إله” (2تس 2: 3، 4). إذًا كل كائن متكبر متشامخ هو ابن لهذا الروح المتكبر، أو تلميذه ومقتدي به، لهذا السبب قال الرسول عن بعض الناس “لئلا يتكبر فيسقط في دينونة إبليس” (تي 3: 6)، مبينًا من هنا أن كل كبرياء ستحاكم بدينونة مماثلة للدينونة التي سيحاكم بها إبليس.

جحد الشيطان

إذًا نحن الذين نريد أن نمر خلال هذا العالم لنصل إلى الأرض المقدسة إلى الأرض الموعود بها للقديسين، ونحن “أرسلنا بكلمات سلام لسيحون” مع وعد بأننا “لا نمكث في أرضك وبأننا لا نتأخر معه” (عد 21: 21)، بأننا في طريق الملك نمشي حتى نتجاوز تخومك بدون أن نميل إلى حقل، ولا إلى كرم ولا نشرب ماء بئر. فلنتأمل متى أعطينا هذه الوعود، هذا العهد للشيطان؟ على كل مؤمن أن يتذكر عندما تقدم لمياه المعمودية[52]، عندما أخذ أول ختم الإيمان وجاء إلى مصدر الخلاص فليتذكر الكلمات التي نطق بها حينئذ، يتذكر جحد الشيطان إنه وعد ألا يستعمل فخاخه، ولا أعماله، ولا يخضع أبدًا لعبوديته ولا لإغراءاته. وهذا ما يقدمه لنا “ظل” كلمات الشريعة، “إسرائيل لا يميل إلى أي حقل ولا إلى كرم” (عد 21: 22). أنه وعد أيضًا بأنه لن يشرب من ماء أي بئر، المؤمن لا يأخذ أي نقطة من علم الشيطان، من علم الفلك من السحر، من أي معلومات مضادة للتقوى نحو الله، لأنه له ينابيعه الخاصة، أنه يشرب من ينابيع إسرائيل، أنه يشرب من ينابيع الخلاص، أنه لا يشرب من بئر سيحون “ولا يترك ينبوع الحياة” (إر 2: 13)، لينقر في الآبار المشققة، لكنه يعلن أنه يتبع طريق الملك. ما هو طريق الملك؟ بكل تأكيد طريق الذي قال “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو 14: 6). أنه طريق ملوكي حيث قال النبي عنه “اللهم أعط أحكامك للملك” (مز 72: 1). يجب إذًا أن نتبع طريق الملك بدون أن نميل إلى أي جانب ولا إلى أي حقل ولا إلى كرم، بمعنى أن إدراك المؤمنين لا يجب أن يميل نحو الأعمال أو نحو الأفكار الشيطانية.

عبور العالم في سلام:

كيف إذًا نريد أن نعبر أرض مملكة الأموريين بسلام؟ نستطيع أن نقبل سلام الأموريين غير المؤمنين الذين في العالم. لكن إسمهم يعني كما سبق أن قلنا، مرشدًا إلى المرارة أو متحدثين يقودون الكفار وغير المؤمنين إلى المرارة؟ ليس من الصعوبة شرح ذلك. بالنسبة للذين يتحدثون نستطيع أن نفهمه كما يلي: إن كل الكفار والذين هم تحت سلطان إبليس لا يعرفون إلا أن يتحدثوا، لكنهم يتحدثون بلا شئ ويشهد عليهم كتابهم، وهم المنجمون وبعض الفلاسفة أيضًا الذين لا ينطقون إلا بكلمات باطلة وفارغة. على العكس ذلك “ملكوت المؤمنين الذي من الله ليس بكلام بل بقوة” (انظر 1كو 4: 20).

الاضطهاد:

نحن نريد أن نعبر العالم في سلام، لكن هذا يغضب رئيس هذا العالم، فهو عندما يسمعنا نعلن أننا لا نريد أن نمكث معه، وعندما يعرف أننا لا نريد أن نتأخر ولا أن نلمس أي شئ من الأشياء التي يملكها، كل هذا يزيد كراهيته وكبرياؤه، وغضبه فيسلط علينا الاضطهادات ويضاعف من الأخطار ويكثر من الآلام. لهذا السبب قال الكتاب المقدس “جمع سيحون جميع قومه وخرج للقاء إسرائيل” (عد 21: 23). ها هم كل هؤلاء القوم الذين مع سيحون، يجتمعون ضد إسرائيل؟ إنهم رؤساء وحكام هذا العالم، كل عبيد الشر الذين يهاجمون بلا انقطاع شعب الله ويضطهدونه[53].

إتمام الوصايا:

ماذا يفعل إسرائيل؟ “إنه يأتي” يقول الكتاب المقدس إلى “ياهص”، وياهص تعني “إتمام الوصايا”، فإذًا نحن نأتي أيضًا إلى هذا المكان، بمعنى إلى إتمام الوصايا، متى تقدم ضدنا الشيطان المتكبر والمتشامخ مع جميع جيش سيحون، ومهما شرع في القتال ضدنا وحرض ضدنا كل أبالسته، سيكون لنا النصرة عليه، إن أتممنا وصايا الله، حيث إن إتمام الوصايا يعني أن يكون لنا النصرة على إبليس وكل جنوده وحينئذ يتم لأجلنا الكلام الذي قاله الرسول “وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا” (رو 16: 20)، وكلام السيد الرب “ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضركم شئ” (لو 10: 19). كل ذلك لا يمكنه فعلاً أن يؤذينا “إذا أتينا إلى ياهص” (1بط 4: 11)، بمعنى إذا حفظنا وصايا وتعاليم سيدنا يسوع المسيح الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

 

العظة الثالثة عشر

الانتصار على سيحون “تابع”

الانتصار على باشان – حادثة بلعام

سيحون:

هزيمة الشيطان أمام كلمة الله

1 قد سبق أن قلنا كيف إن ملك الأموريين سيحون، هذا المتكبر هذه الشجرة العقيمة، شرع في القتال ضد إسرائيل وهُزِمَ، يقول الكتاب المقدس حرفيًا بإنه “قد ضربة للموت بالسيف” (عد 21: 24)، أو بحسب صورة أخرى “بحد السيف”. إذا أردنا أن نعرف بكل دقة أي سيف ضرب هذه الشخصية العقيمة والمتكبرة “أرز لبنان”، فلنتعلم ذلك من بولس الرسول الذي يقول لنا “كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين” (عب 4: 12)، وفي نص آخر “سيف الروح الذي هو كلمة الله” (أف 6: 17). أنه الموت الصادر من هذا السيف الذي ضرب سيحون الروحي أي الشيطان.

الفتوحات الروحية:

“وأبناء إسرائيل ملكوا على كل أرضه” (عد 21: 24)، كل هذه البقعة الأرضية كانت تدعي بلد سيحون لكن المسيح وكنيسته ملكًا على كل كورة سيحون “وملكوا من أرنون إلى يبوق”. أرنون ويبوق كانتا مدينتين في مملكة سيحون التي كانت تبدأ من أرنون وتنتهي في يبوق. لهذا السبب قيل إنهم ملكوا إلى يبوق. أرنون تعني لعناتهم أي أن مملكة سيحون المتكبرة والعقيمة تبدأ باللعنات. والنهاية في يبوق التي تعني صراع. كل من يريد أن يخرج من مملكة الشيطان ويهرب منها سيجد الصراع، خدامه وأعوانه سيشعلون الحروب ضده. فإذا حارب وانتصر ستكف يبوق عن أن تكون مدينة لسيحون بل ستصبح مدينة لإسرائيل. هذا ما قرأناه عن البطريرك يعقوب “عندما أتي إلى مكان ما كان يصارعه إنسان لم يقدر عليه، وكان متمسكًا جيدًا وكان قويًا مع الله فأخذ اسم إسرائيل” (تك 32: 24 28). “فأخذ إسرائيل كل هذه المدن وأقام إسرائيل في جميع مدن الأموريين” (عد 21: 25). إنه إسرائيل الجديد بحسب المسيح، ليس إسرائيل بحسب الجسد، ولا “اليهودي في الظاهر” (رو 2: 28)، الذي يسكن كل مدن الأموريين عندما تنتشر كنائس المسيح في المسكونة. كل واحد منا كان أولاً أيضًا، مدينة للملك سيحون، الملك المتكبر كان يملك علينا الجنون والكبرياء والكفر وكل ما ينبع من إبليس، لكن عندما يربط القوي ويُهْزم، عندما تكون “أمتعته قد نهبت” نصبح نحن مدن إسرائيل وميراث القديسين، بشرط أن يكون السلطان الذي كان متسلطًا علينا قد هُزم تمامًا أولا،ً وقطعت هذه “الشجرة العقيمة”، هزم هذا “الملك المتكبر” وأصبحنا رعية الملك الذي يقول “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29).

ويعطي الكتاب المقدس بعد ذلك تفاصيل عن مدن الملك العقيم المتشامخ سيحون يقول الكتاب “وفي كل تخومها” لماذا تدعي عاصمة ملك سيحون حشبون؟ حشبون تعني الأفكار وفي هذه الأفكار يكمن الجانب الأعظم من مملكة الشيطان وأساس قدرته، وقال المسيح “لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة، زنى، فسق، قتل، سرقة، طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شريرة، تجديف، كبرياء، جهل، وجميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان” (مر 7: 21 23). لذلك لابد أن يضرم النار في هذه المدينة وتحرق، بأي نار؟ بكل تأكيد النار التي يقول عنها المخلص “جئت لألقي نارًا على الأرض فماذا أريد لو اضطرمت” (لو 12: 49).

نبوة على حشبون

2 ثم بعد ذلك يقال عن هذه المدينة “لذلك يقول أصحاب الأمثال إئتوا إلى حشبون فتبني وتصلح مدينة سيحون لأن نارًا خرجت من حشبون لهيبًا من قرية سيحون أكلت عار موآب” (عد 21: 27، 28). سيحون سبق أن قلنا إنه الملك الذي كان يملك على مدينة حشبون. يجب أن تفهم باقي الأفكار كالآتي، هؤلاء أصحاب الأمثال يقولون إئتوا حتى نبني ونصلح حشبون التي هي مدينة سيحون.

 

أصحاب الأمثال:

الشريعة والأنبياء:

فلنبحث الآن من هم “أصحاب الأمثال” ما يدعي مثالاً هو الحديث الإستعاري. إذًا الذين يدعون أصحاب الأمثال. هم يتحدثون بالاستعارة، ولكن من الذي تحدث بالأمثال، أليس هو الناموس والأنبياء؟ اسمع إذًا كيف يعبر داود النبي “أفتح بمثل فمي أذيع ألغازًا منذ القدم” (مز 78: 2). إشعياء كاتب آخر بالألغاز يعلن هو أيضًا “وصارت لكم رؤيا الكل مثل كلام السفر المختوم الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين إقرأ هذا فيقول لا أستطيع لأنه مختوم. أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له إقرأ هذا فيقول لا أعرف الكتابة” (إش 29: 11، 12). أنه مختوم لأنه مملوء بالأمثال ومغلف بالألغاز.

إعادة البناء على الخراب:

هؤلاء أصحاب الأمثال يقولون “إئتوا إلى حشبون فتبني” (عد 21: 27). حشبون الأولى قد سقطت، ماذا أقول؟ إنها ضربت واحترقت، يجب أن تبني مرة أخرى، تبني حشبون أخرى، كيف سيكون هذا؟ فلنوضح هذا بمثال: إن رأيت وثنيًا يعيش في العار والضلال الديني فستقول عنه بدون تردد أنه مدينة حشبون في مملكة سيحون، حيث يتسلط الملك العقيم والمتكبر على أفكاره، فإن اقترب هذا الرجل من إسرائيل، بمعنى من ابن للكنيسة. إذا ألقى مطارد كلام الله، وسحب ضده “سيف الروح” (أف 6: 16)، يخرب فيه كل المتاريس، التي هي عقائد الوثنيين ويحرق كبرياء أفكاره في نار الحق. يجب أن نقول عنه إنه مدينة الملك سيحون، حشبون التي دمرت. ولكن لا تترك صحراء مهجورة، كالإنسان الذي أقلعت عنه عقائد الوثنيين. فإنها ليست قاعدة في بني إسرائيل أن تترك المدن التي دمرت في خراب. فعندما يسقطون ويدمرون الأفكار السيئة والمشاعر الغير صالحة في الإنسان ويبنون في قلبه الأفكار الحسنة والشعور بالتقوى ويضعون فيه مبادئ الحق ويعلمونه الطقوس الدينية، ومبادئ الحياة، ويبنون له العادات بحسب الشريعة وطرق مراعاتها، حينئذ حقًا سيقول أصحاب الأمثال الواحد للآخر “إئتوا إلى حشبون فتبني التي هي مدينة سيحون” (عد 21: 27). أبناء الكنيسة قد دعوا هم أيضًا أصحاب الأمثال، لأنهم يفهمون بالروح رموز الشريعة والألغاز هذا ما يقصده أرميا النبي في حديث رمزي أيضًا عندما قال له السيد الرب “ها قد جعلت كلامي في فمك أنظر قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتنقض وتبني وتغرس” (أش 1: 9، 10). ماذا يقلع وماذا يهدم؟ مدينة حشبون التي كان يملكها ملك سيحون. ماذا يقلع وماذا يهدم فيها؟ أفكار الكفر والنجاسة، ماذا يبني فيها مرة أخرى ويغرس؟ أفكار التقوى والعفاف. حشبون يجب أن تكف عن أن تكون مدينة الأموريين لتصبح مدينة أبناء إسرائيل.

باشان العار

3 لكن إذا أردنا أن نتعمق أكثر، فليس لدينا الوقت الكافي لشرح ما سبق أن قُرئ عن بلعام. إن صعوبة هذه النقطة تظل باقية إلى أن نتمكن من الأمر ونعرض سير القصة. فنحن نقابل صعوبة عند شرح المعاني الروحية. لأن أول وجه للحرف مغلف بصعوبة هذا مقدارها ولكن بما أن رغبتنا تدفعنا لكي نشرح النقط الأكثر ظلامًا فلا يجب أن ننسى كلية التاريخ الذي يساعدنا للوصول إلى المعنى. بعد أن تسلط بنو إسرائيل على مدن الأموريين “تحولوا أو صعدوا في طريق باشان” (عد 21: 33 35)، لكن لم يتنازلوا أو لم يرسلوا له سفراء ولم يطلبوا منه المرور في أرضه، لقد شرعوا في الحال في المعركة معه وهزموه هو وبنيه إذًا فلنر ما هي باشان. باشان تعني العار، أنهم إذًا لم يرسلوا سفراء لهؤلاء القوم ولم يطلب المرور في أرضه. حيث لا يجب أن يكون لنا أي ممر أو أي طريق يوصلنا إلى العار، يجب من الآن أن نهاجمها ونحترس منها في كل الحالات. من ناحية أخرى عوج الذي هو اسم ملك باشان، يعني مانع وهو يمكن أن يمثل الخليقة الجسدانية والمادية التي أحبها والرغبة فيما يمنع النفس كعائق ويبعدها عن الله. الحرب ضد عوج يجب أن تشهر بطريقة لم يسبق لها مثيل. يقول الكتاب المقدس “أي كائن حي” (عد 21: 35)، بما في ذلك أي من أبناء إسرائيل لا يجب أن يترك لكي يعيش في مملكة العار والخزي لكن يجب أن تقطع قوة إسرائيل ويلغي العار وتبني في النفس مرة أخرى كل صور التقوى، فيزرع فيها جذور الأمانة والدين. في مملكة حشبون لم يكتب بأن أي كائن حي لا يجب أن يعيش. وكذلك في مملكة موآب ربما يكون لنا الحاجة إلى البعض من سكانها. ربما يكون البعض لازمًا لكفافنا ولتدريبنا في هذه الحياة “وإلا فيلزمكم أن تخرجوا من العالم” (1كو 5: 10). لكن من باشان بمعنى من العار، ليس لدينا أي حاجة إليها، لا نترك أي شئ ليعيش يجب إزالة كل شئ، إزالة كل أعمال العار، لأنه لا يمكن أن يكون العار صالحًا عند أي شخص.

بلعام

4 “وأرتحل بنو إسرائيل ونزلوا في عربات موآب من عبر أردن أريحا، ولما رأي بالاق بن صفور…. الخ” (عد 22: 1، 2). كل ما يتعلق ببلعام وأتانه هي قصة مليئة بالصعاب. لكن المعنى الداخلي به صعوبة أكثر وأني لا أدري إن كان من السهل شرح المعنى التاريخي كذلك، وبفضل الله سنلخص التفسيرات التي نستطيع أن نعطيها.

غرابة القصة

الحرب تهدد ملك بالاق بن صفور من بني إسرائيل الذي كان عددهم حوالي “ستة مئة ألف رجل” (عد 26: 51)، مسلحين سوف يتسلطون على أرضه. فيجب عليه أن يجهز سلاحه، ويجمع جيشه وأن يفكر في محاربتهم حتى يستطيع أن يتقدم إلى الأمام بقوة متماسكة ضد عدو مازال بعيدًا “فأرسل رسلاً إلى بلعام بن بعور” (عد 22: 5، 6)، وقال له سوف يكرمه إكرامًا عظيمًا ووعده بهدايا كثيرة. ووضع كل أمله في مجئ بلعام وفي الكلمات التي سينطقها وفي اللعنات التي سيرسلها كالسهام. أنه يحاول أن ينتصر بكلام بلعام على الشعب الذي لم يتمكن الجيش الملوكي بأن يكون له الغلبة عليه.

ما الذي تقدمه هذه القصة؟ أنه لسلوك غريب؟ أين ومتى شوهد هذا؟ من هو الملك الذي أمام معركة أكيدة، ينسى الحرب ويتجاهل جيشه لكي يلجأ إلى خدمات عراف أو ساحر. لذلك يجب علينا أن نطلب من الله النعمة لكي لا نتبع أبدًا هنا خرافات يهودية، وأن نشرح هذا بمعنى موافق للعقل ولائق بالشريعة الإلهية.

قدرة الصيغ السحرية

أولاً يجب أن نقر أنه في بعض الحالات تكون الصيغ أكثر فاعلية وقدرة من المادة، فما لا يستطيع أن يعمله جيش لأمم كثيرة جدًا، ما لا يستطيع أن يحصل عليه الجيش بالحديد وبالسلاح، يصل إليه بالصيغ، لا أقول بالصيغ المقدسة أو بكلام الله لكن ببعض مراسيم محفوظة عند الإنسان. لا أعرف كيف تدعى وهي مرتبة بحسب فن باطل. سِمّها كما تريد. الواقع يوجد كما قلت نتائج يستطيع الإنسان أن يحصل عليها بالصيغ، هذه النتائج يستحيل على الإنسان أن يحصل عليها بالطبيعة بمجهودات جسدية مهما كانت كبيرة. فلنأخذ مثلاً. كان في مصر رقاة وسحرة، من هو الإنسان الذي يمكنه بواسطة القوة الجسدية وحدها أن يغير العصا إلى ثعبان؟ لكن الرقاة والسحرة المصريين غيروها. موسى غيرها أولاً لكن ملك مصر كان يعلم بأن هذا ممكن حدوثه بواسطة فن كلمة بشرية يستخدم الصيغ. وقد اعتقد أن موسى هو أيضًا قد عمل هذه المعجزات بواسطة عملية سحرية وليس بواسطة القدرة الإلهية، واعتقد بأنه يتظاهر بأن ينسب للقدرة الإلهية عملاً كله بشري. فقد جمع حالاً رقاه وسحرة مصر. لقد حدثت مباراة بين الذي يعمل المعجزات بقدرة الله والذين يستعينون بالشياطين. القدرة المضادة تحول العصا إلى ثعبان مثلما فعلت قدرة الله. لكن الثعابين التي عملت بقدرة الله ابتلعت وافترست كل الثعابين الخارجة من العصا بتحويل السحر. قدرة الشيطان لم تتمكن من إعادة الكائن الحسن الذي سبق أن حولته إلى كائن ردئ. أنها استطاعت أن تحول عصا إلى ثعبان. ولكن لم تستطع إعادة الثعبان إلى عصا. لهذا السبب فقد هلكت كلها بالعصا المحولة إلى ثعبان بقدرة الله. بعد ذلك أعيدت بقدرة الله إلى أصلها معترفة برب الكون. الرقاة المصريون توصلوا أيضًا إلى تغيير الماء إلى دم. لكنهم لم يستطيعوا مرة أخرى أن يحولوا الدم إلى ماء. وبالعكس فإن قدرة الله غيرت إلى دم ليس الماء فحسب، لكن النهر كله، وبصلوات موسى أعادت المياه إلى حالتها الصافية الطبيعية. السحرة المصريون اخرجوا أيضًا البعوض. لكنهم لم يتمكنوا من طرده. موسى أخرج بعوضًا وأعاده إلى أصله لأن إلهنا يؤلّم ويجدد. القدرة المضادة تستطيع أن تعمل الشر لكنها لا تستطيع أن تعيد الأشياء لحالتها الأولى. لقد بدأنا بعرض هذه المبادئ لكي نفهم أعمال بلعام أي كلماته. يوجد فعلاً أنواع مختلفة من السحرة تتفاوت قدرتهم. بلعام هذا كان مشهورًا في فنه السحري، وليس له مثال في سحره المؤذي ليس في فنه صيغ البركة بل صيغ اللعنة، حيث يدعو الشياطين ليلعن وليس ليبارك. لهذا السبب كان يعتبر عند كل أصحاب الشريعة ساحرًا قديرًا.

فلو أن الملك لم يلاحظ فعلاً قبل ذلك بأن كثيرًا من الجيوش هُزمت بواسطة لعناته، لما كان يأمل بأن يصل باللعنات إلى نتيجة كان سيصل إليها بصعوبة بالحديد والسلاح. إنه على هذا اليقين وهذه الخبرة المتكررة كثيرًا، ترك بالاق كل الوسائل وطرق الحرب لكي يرسل رسلاً ليقول له “هوذا الشعب قد خرج من مصر هوذا قد غشى وجه الأرض وهو مقيم مقابلي” (عد 22: 5).

بالاق يريد أن يهزم إسرائيل بأسلحة روحية

لكن الملك كان في رأيي مندفعًا بسبب أكثر وجاهه وأنه قد عرف كما يبدو لي أن أبناء إسرائيل يحصلون عمومًا على النصر على أعدائهم بواسطة الصلاة وليس بواسطة الأسلحة وبواسطة التضرعات أكثر من الحديد. إسرائيل لم يأخذ أبدًا أسلحة ضد فرعون لكن قيل له “الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون” (خر 14: 14). في المعركة ضد العمالقة لم تكن أيضًا قوة الأسلحة فعالة مثلما كانت صلوات موسى “وكان إذا رفع موسى يده” (خر 17: 11)، نحو الله كان عماليق ينهزم، لكن عندما كان يرخي يديه كانت الهزيمة تأتي لإسرائيل. بالاق ملك موآب قد سبق، بكل تأكيد أن سمع عن ذلك حيث إنه كُتِبَ “يسمع الشعوب فيرتعدون تأخذ الرعدة سكان فلسطين حينئذ يندهش أمراء أدوم، أقوياء موآب تأخذهم الرجفة يذوب جميع سكان كنعان” (خر 15: 14، 15). نرى إذًا أن الصوت قد وصل إليهم، كما تنبأ موسى من قبل في نشيده عند عبور البحر الأحمر. ملك موآب إذًا قد تعلم أن الشعب ينتصر بالصلوات ويحارب خصومه بالفم، وليس بالسيف. إنه فكر في ذلك وقال في نفسه بما أن الأسلحة لا تستطيع أن تقاوم صلوات وتضرعات هذا الشعب، على أن أجد تضرعات وأسلحة شفاهية وصلوات يمكنها أن تتغلب عليهم. هذه كانت تأملات الملك، وسنبين بالبرهان من كلمات الكتاب المقدس التي شرحها لي معلم من أصل عبراني[54]، حصل على الإيمان، أنه مكتوب “فقال موآب لشيوخ مديان: الآن يلحس الجمهور كل ما حولنا كما يلمس الثور خضرة الحقل” (عد 22: 4). وهذا المعلم من أصل عبراني، وكان يقول: لماذا هذه المقارنة لثور يلحس خضرة الحقل؟ بدون أي شك لأن الثور ينزع خضرة الحقل ويستخدم لسانه مثل منجل لكي يقطع كل ما يجده، كذلك الشعب مثل الثور يحارب بالفم وبالشفاه، أسلحته هي كلماته وصلواته. ولما علم الملك بذلك أرسل رسلاً إلى بلعام لكي يواجه الكلمات بكلمات والصلوات بصلوات.

السحر

فلا نندهش إذا كان السحر يقدم حيلاً من هذا النوع، فوجوده ثابت في الكتاب المقدس ولو أن ممارسته كانت ممنوعة. الشياطين أيضًا موجودة لكن الكتاب المقدس يمنع أن نكرمهم وأن نلجأ إليهم. أنه يمنع أن نمارس السحر لأن عملاء السحرة هم الملائكة المعاندين، الأرواح الماكرة والشياطين النجسة. إن الأرواح المقدسة لا تطيع السحرة. الساحر لا يستطيع أن يستعين بميخائيل وروفائيل، وجبرائيل، ولسبب أكثر قوة لا يستطيع أن يستعين بالله القدير، ولا بابنه ربنا يسوع المسيح، ولا بروحه القدوس. نحن فقط حصلنا على قدرة الاستعانة بالله الآب. نحن فقط حصلنا على قدرة الاستعانة بابنه الوحيد يسوع المسيح. لكن أقول أيضًا الذي حصل على قدرة الاستعانة بالمسيح لا يستطيع أن يعود مرة أخرى إلى الاستعانة بالشياطين، والذي له نصيب في الروح القدس لا يجب أبدًا أن يستدعي الأرواح النجسة. إذا قصد الأرواح النجسة فإن الروح القدس يهرب منه. إن السحرة هم الذين يستعينون ببعلزبول. الشعب اليهودي كان يعلم هذا ولهذا السبب، وجه هذه النميمة، وهذا الكذب ضد سيدي يسوع: “أنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين” (لو 11: 15؛ مر 12: 24). المخلص يعلم أن بعلزبول هو حقًا رئيس الشياطين، أنه لم يتهمهم بالكذب على هذه النقطة، لكن أجابهم: “فإن كنت أنا ببعلزبول أخرج الشياطين فأبناؤكم بمن يخرجون؟” (لو 11: 19؛ مر 12: 27). إذًا توجد شياطين شريرة والسحرة يستعينون بهم وهي تساعدهم على الشر وليس على الخير. إنهم مستعدون للضرر ولا يعرفون أن يعملوا الخير. إن هؤلاء الشياطين هم الذين بواسطة فن معين وبعض الصيغ دخلوا في نوع من العهد مع بلعام، وعلى هذا الأساس كان يبدو عظيمًا في أعين الآخرين.

لهذا السبب أرسل الملك مسرعًا رسلاً نحوه وقال له “فالآن تعال وألعن لي هذا الشعب لأنه أعظم مني لعله يمكننا أن نكسره فاطرده من الأرض؟” (عد 22: 6). هذا الملك لا يبدو لي أنه كان له ثقة كاملة في قدرة بلعام، أنه كما اعتقد كان مرتعدًا من شهرة المعجزات التي حدثت لصالح شعب الله. لهذا السبب قال إن لعنات بلعام ربما تضرب البعض منهم، وتهزم الآخرين وتطردهم من أرضه.

السحر لا يقدر أن يعطي البركة

إنه يضيف بعد ذلك: “لأني عرفت أن الذي تباركه مبارك والذي تلعنه ملعون” (عد 22: 6)، اعتقد أن الملك لا يعرف، أن كان كل الذين قد باركهم بلعام صاروا مباركين. يبدو لي أنه يقول هذا لكي يجامله ولكي يلاطفه أكثر لصالح مقاصده بتفخيم وتعظيم فنه. السحر لا يعرف أن يبارك لأن الشياطين لا تعرف أن تفعل الخير. إسحق ويعقوب يعرفان أن يباركا، وكل القديسين كذلك أما كل غير تقي فلا يعرف أن يبارك.

حلوان العرافة

الرسل وصلوا أخيرًا عند بلعام: “فانطلق شيوخ موآب وشيوخ مديان وحلوان العرافة في أيديهم” (عد 22: 7). فن العرافة هذا ناشئ من براعة الإنسان، توجد أشياء يلقبها الكتاب المقدس بحلوان العرافة وتقاليد الوثنيين تدعوها مشاجب، مراحل أو يعطوها أسماء أخرى مشابهة: أنها كمكرسة لهذه الخدمة، يستعملها الوثنيون في العرافة. الكتاب المقدس يذكر أن للأنبياء أداة تسمى “أفود” في اللغة الأصلية: أنه ملبس للذي يتنبأون لكن في الكتب الإلهية النبوة شئ، والعرافة شئ آخر. الكتاب المقدس يقول حقًا “إنه ليس عيافة على يعقوب ولا عرافة على إسرائيل في الوقت يقال عن يعقوب وعن إسرائيل ما فعل الله” (عد 23: 23). العرافة إذًا مرفوضة تمامًا، إنها تمارس كما قلنا بعمل ووساطة الشياطين.

حضور الله

إذًا بلعام يأخذ حلوان العرافة، فمن العادة أن الشياطين تأتي إليه لكن بالعكس يرى أن الشياطين تهرب منه والله يحضر، لهذا السبب يقول إنه يسِأل الله حيث إنه لم يعد يرى بالمرة تلك الشياطين التي كانت عادة تطيعه. الله إذًا أتى بنفسه ليتقابل مع بلعام، ليس لأنه كان مستحقًا لزيارته، لكن لكي تهرب الأرواح التي كانت من عادتها أنت تحضر لكي تجلب اللعنة وأذي السحر. الله فعلاً كان ساهرًا على شعبه منذ هذه اللحظة، فأتى الله إذًا قائلاً: “من هم هؤلاء الرجال الذين عندك. فقال بلعام لله: بالاق بن صفور ملك موآب قد أرسل إلىَّ يقول هوذا الشعب الخارج من مصر قد غشى وجه الأرض تعال الآن ألعن لي إياه لعلي أقدر أن أحاربه وأطرده، فقال الله لبلعام لا تذهب معهم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك” (عد 22: 9 12).

اعتراض

7 هنا يعرض سؤال من رتبة أعلى ولا أعرف إذا كان من الملائم أن نكشف عن غرض سر عميق هكذا، وأن نقدم لأناس لا يأتون لسماع كلمة الله إلا نادرًا، ويذهبون بعد ذلك بدون أن يعطوا أنفسهم فرصة أكبر للتأمل. ولكن سنقول بعض الكلمات للذين يهتمون بذلك ولهم عطش للتعليم، الذين يستطيعون إدراك المعنى الروحي، يمكن عمل اعتراض مثل هذا: يستعين بلعام بالشياطين، إنه يلعن الشعب، أن تهلك الشياطين وتفسد بحسب قدرتها فليكن لكن هل الله لا يستطيع أن يحفظ الشعب من الشياطين ويبطل قوتهم الشريرة؟

هل كان من الضروري إن يأتي هو بنفسه ويقابل بلعام ويمنع الشياطين التي اعتادت أن تقترب لكي تجرب شعبه وتسعى لكي تؤذيه؟

 

الحرية المتروكة من الله للشياطين، تعمل الخير

سنقدم هذا الجواب الجزئي على هذا الاعتراض ومع أنه لا يجب علينا أن نقول كل ما يتعلق به: الله لا يريد أن يقضى على جنس الشياطين قبل الوقت. الشياطين أنفسهم يعلمون بأن وقتهم محدود في هذا الدهر لهذا السبب كانوا يطلبون من السيد الرب “أن لا يعذبهم قبل الوقت” (مت 8: 29)، “وبأن لا يرسلهم إلى الهاوية” (لو 8: 31). إنه لم يسحب من الشيطان لقبه أي رئيس هذا العالم. لأن عمله مازال ضروريًا لإصلاح الذين يجب أن يكللوا، لأنه مازال لازمًا للصراع الذي يعانيه الطوباويون وللنصرة التي يفوزون بها.

أيضًا بالنسبة للشياطين الآخرين فهو لا يريد أن ينزع منهم دورهم في الخطة التي وضعها قبل مجئ الوقت، لذلك منذ البداية لم يسمح أن يستعين بلعام بهم، خوفًا من أنه بعد أن يستعين بهم يهلكون قبل الوقت ويبادون في المعركة التي سيقوم بها الله لصالح شعبه. على أنه يمكن أن يحصل الشيطان من الله على إنسان ليجربه مثل أيوب ويكون له القدرة عليه إلى حد ما، أن يقول الله له مثلاً: “هوذا كل ماله في يديك وأنما إليه لا تمد يدك” (أيوب 2: 6). هذا شئ، ولكنه شئ آخر مختلف كل الاختلاف أن تكون نتيجة فعل أحد السحرة أن ينزع منهم بالتضرعات أعمالهم الشريرة بدون أي قيد.

وفي هذه الحالة الأخيرة لو كانت الحرية متروكة لهم لكانوا أبادوا شعب الله. وبالعكس لو رفعت منهم حرية التصرف لكان هذا قضاء على خليقة عاقلة، وتقديم وقت الدينونة، ويكون هناك إضرار بالذين كان في استطاعتهم أن يحصلوا على الإكليل بصراعهم ضدهم. فلو كان الشياطين محرومين من حرية التصرف، لما كان هناك أعداء لإبطال المسيح، وبدون أعداء لا تكون هناك أية معركة، وبدون معركة لا تكون هناك أية مكافئة، ولا نصرة. الله يعمل إذًا بطريقة خاصة حتى أن الشعب الذي مازال عديم الخبرة[55] والذي خرج لتوه من عبادة الشياطين، لا يقع في حبائلهم.

الله يسمح أن تحصل تضرعات الساحر على جواب وأن لا يحرم جنس الشياطين من حرية الإرادة. لهذا السبب الله يتقدم أولاً ويمنع بلعام من أن يذهب إلى الموضع ومن أن يستدعي الشياطين للنطق بلعناته، لو أنه كان قد ترك لرغبته. ولكن بما أنه أصر على حبه للمال، فإن الله يحترم حريته ويرجع عن قراره ويتركه يذهب. ولكنه يضع كلامه في فم الساحر، ويمنع أن تلفظ لعنات الشياطين، لتحل محلها البركات ويعمل أن يلفظ بلعام، بدلاً من اللعنات، بركات ونبوات تستطيع أن تبني روحيًا، ليس فقط إسرائيل، بل أيضًا كل الأمم.

بلعام سلف للمجوس

فالواقع إذا أدخلت نبوات بلعام بواسطة موسى في الكتب المقدسة ولسبب أكثر قوة جمعها سكان Mesopotamie  (بلاد ما بين النهرين)، حيث كان لبلعام شهرة كبيرة وكانوا معروفين كتلاميذه في السحر.

وإليه ترجع التقاليد في بلاد الشرق أصل المجوس الذين كانت عندهم نص جميع نبوات بلعام ومن ضمنها “يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل” (عد 24: 17). كان لدي المجوس هذا النص، لذلك عندما ولد يسوع، عرفوا النجم وفهموا بأن النبوة قد تحققت، فهم أفضل من الشعب الإسرائيلي الذي أهمل الاستماع إلى كلمات الأنبياء والقديسين[56]. وهم أدركوا بحسب المخطوطات الوحيدة التي تركها بلعام أن الوقت قد أتى، فأسرعوا يبحثون عنه ليسجدوا له ويظهروا عظم إيمانهم بإكرامهم الطفل الصغير كملك.

بقية القصة

لكن لنرجع إلى موضوعنا بلعام يزعج الله وينتزع منه تصريحًا بأن يذهب ليلعن أبناء إسرائيل وبأن يستعين بالشياطين، وهو الذي سبق أن جاء إليه الله، وهو راكب على أتانه، وأمامه يحضر الملاك الحارس لإسرائيل الذي قال عنه السيد الرب لموسى “هوذا ملاكي يسير أمامك” (خر 32: 34)، أنه يطلب أن يمر فيسمح له. وتسئ أتانه معاملته في الطريق لكن الساحر يرى الشياطين ولا يرى الملاك: “فأبصرت الأتان ملاك الرب” (عد 22: 23).

هي لم تكن مستحقة أن تراه ولم تكن مستحقة أن تتكلم لكن كان يجب أن يخذل بلعام، مثلما قيل في بعض أجزاء الكتاب المقدس أن “حمار أعجم، ناطقًا بصوت إنسان، مشتكيًا من حماقة النبي” (2بط 2: 16).

الأتان رمز الكنيسة

بعد أن تكلمنا كثيرًا في القصة ننتهي ببعض الاختصارات من التعليم على المعنى الرمزي. إذا رأينا أن قدرة العدو هي التي تحارب شعب الله، نفهم من هو الجالس على الأتان. إذا اعتبرنا كيف أن الإنسان يجتذب بواسطة الشياطين، نفهم من هو الأتان. ونفهم كذلك من الإنجيل أن المسيح أرسل تلميذيه قائلاً “تجدان أتانًا مربوطًا وجحشًا معها فحلاهما وإتياني بهما حتى أركب على ظهره” (مت 21: 2؛ مز 11: 2).

هذه الأتان بمعنى الكنيسة، كانت حاملة أولاً بلعام والآن تحمل المسيح وأنها حُلتّ بواسطة التلاميذ وحررت من الرباطات التي كانت مربوطة بها لأجل ابن الله الذي صعد عليها، والذي دخل معها في “المدينة المقدسة أورشليم السماوية” (عد 12: 22)، وأنه قد تمم ما هو مكتوب في الكتاب المقدس الذي يقول: “ابتهجي جدًا يا أبنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل منصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان” (زكريا 9: 9)، الدابة تعني أتان. هي ترمز بدون أي شك إلى المؤمنين آنذاك أي اليهود، والأتان الجديد هم الذين “أمنوا من الأمم ويعترفون بالمسيح” (أع 21: 25)، يسوع ربنا الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

 

العظة الرابعة عشر

بلعام (تابع)

يوجد كثير من النقاط التي تركناها جانبًا في شرحنا درس بلعام وأتانه… ونظرًا لأن العظة وضعت لفائدة المؤمنين في الكنيسة محدودة بوقت[57]، لذلك لم نستطع أن نفسر بالتفصيل كلمات الكتاب المقدس وشرح كل شئ بدون أن نهمل شئ. هذه الطريقة الأخيرة مخصصة بالحرى للدراسة والتعليق. لهذا السبب نعود إلى النقط التي تبدو أنها تستحق أن نتعمق فيها، فلنجتهد أن نوضحها بدراسة منتبهة ونعلن نتائج بحوثنا.

صعوبات الجانب التاريخي من النص

1 مازالت تبقى صعاب القصة نفسها “الله” يقول الكتاب المقدس، “آتى” مرة أولى “إلى بلعام” (عد 22: 9 12)، في الليل وسأله من هم الرجال الذين أتوا ليبحثوا عن بلعام، فأجاب بلعام بأنهم أرسلوا عن طريق بالاق، بن صفور، ليقولوا له: “تعال إلعن لي هذا الشعب” فقال الله “لا تذهب معهم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك”. مرة ثانية “الله آتي إلى بلعام ليلاً وقال له قم اذهب معهم، لكن بشرط أن لا تقول إلا الكلام الذي أكلمك به فقط”.

مرة ثالثة في الطريق، قطع ملاك الله الطريق عليه، وكانت الرحلة تبدو للملاك بأنها محمودة بقدر بسيط ومناسب حتى كان يريد أن يقتل النبي لولا الآتان: “الذي كان يرى الملاك”، مع أن بلعام لم يستطع أن يراه، ولم “تبتعد” ولكن بعد أن نبهه الملاك لأنه أراد تكملة الرحلة، أخذ بلعام مرة أخرى السماح بأن يكمل الرحلة على أنه يحترم كلام الله الذي كلمه به، وأن لا يلفظ إلا به وليس بأي شئ آخر. كل هذا يصعب شرحه، ومع ذلك كما قلت سأعطيكم باختصار الفرصة للفهم لكي أبرر لكم الكلام: “سمعها الحكيم فيزداد علمًا” (أم 1: 5)، “وأعط حكيمًا فيكون أوفر حكمة” (أم 9: 9).

تمييز أسماء الله:

لكن قبل أن نقدم الموضوع سوف لا نمر بدون أن نتكلم عن ملحوظة تبينت لنا عند دراسة القصة عن كثب. فقد كتب اسم الله بالحروف العبرية، اسم الله أو الرب، مكتوب بطرق كثيرة، أحيانًا هو الله، اسم عادي لكل الآلهة، أحيانًا اسم الله نفسه اسم الذي كتب عنه “اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد” “هذا الاسم لإله إسرائيل، إله واحد خالق كل الأشياء” (تث 6: 4)، كتب بعلامة مكونة من الحروف الأربعة[58] (التي تسمى عندهم Tetragrammes)، إذا كان اسم الله قد كتب بهذه الطريقة في الكتاب المقدس، فلا يوجد أي شك أنه يخص الإله الحقيقي وخالق العالم.

إذا كان قد كتب بحروف أخرى، بحروف عادية، أننا لا نعرف إذا كانت تختص بالإله الحقيقي أو عن الذي يقول عنه الرسول لأنه وإن وجد ما يسمى إلهه سواء كان في السماء أو على الأرض كما يوجد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون، ولكن لنا إله واحد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن له ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به” (1كو 8: 5، 6). إذًا الذين يقرأون العبرية يقولون في هذا النص أنهم يجدون أن كلمة “الله” لم تكن في صورة ال Tetragrammes، ومن يستطيع أن يدرس هذه المسألة فليدرسها.

سؤال صعب يتعلق بتدابير الله أمام الشر

وضع هذا السؤال بشأن كلمات الله لبلعام، عندما يسأله “من هم هؤلاء الرجال؟” (عد 22: 9)، لماذا يبدو أنه يتجاهل ذلك؟ وعن الكلام “لا تلعن الشعب لأنه مبارك” (عد 22: 12)، هل هذا يعني لا تلعن شعبي؟

2 نحن نقول بأنه بحسب حكمة الله، كل شئ مرتب في العالم بحيث لا يكون شئ غير معروف أمام الله، شرًا كان أم خيرًا. لكن فلنشرح بأكثر وضوح. الله لم يخلق الخبث، الآخرون هم الذين قد أنشأوه؛ إنه يستطيع أن يمنعه، ولم يفعل ذلك مع هؤلاء الأشرار، فالله يستخدم الخبث لأجل أغراض ضرورية. فهو بأفعالهم يمجد ويشجع الذين يبتغون مجد الفضائل. فعند محو الخبث سوف لا تقابل الفضائل أبدًا خصمًا، وبدون خصم سوف لا تلمع الفضيلة، سينقصها المجد والتجربة. فأية فضيلة لا تقاوم ولا تجرب لا تكون بعد فضيلة.

لكن كل هذا، مقدم بدون شواهد من الكلام الإلهي ويبدو فيه بالأحرى مبالغة وبدع بشرية بدلاً من أن تكون حقائق لا ريب فيها. فلنبحث إذًا إن كانت الكتب الإلهية تحوي بعض أفكار متشابهة. فنأخذ  يوسف الصديق مثالاً فإذا كنا نستبعد خبث أخوته وحسدهم، وكل تدابيرهم القاتلة لوالديه التي وضعوها ضد أخيهم حتى باعوه أخيرًا، ليحذف هذا، ولنر ما يسقط من تدابير الله. إننا سنحذف في نفس الوقت كل الأعمال التي تممها يوسف الصديق في مصر لأجل خلاص الشعب. حلم فرعون لم يكن ليفسر، فلو لم يكن بسبب حسد أخوته لما بيع يوسف الصديق ولما آتي إلى مصر ولما أدرك أحد ما أعلنه الله، ولما خزّن القمح في مصر؟ ولما عولجت المجاعة بحكمة بصيرة ولكانت مصر قد ماتت من الجوع، وكذلك البلاد المجاورة لها، ومعها إسرائيل.

وكذلك ذرية إسرائيل لما دخلت في مصر للبحث عن الخبز، ولما كان أبناء إسرائيل قد خرجوا من مصر وسط معجزات الرب ولما كانت ضربات في مصر، ولا معجزات من الله تمت بواسطة موسى وهارون ولما عبروا البحر الأحمر بدون أن تبتل أرجلهم ولما عرفت الحياة الفانية طعام المن، ولما نبعت من الصخر سيول الماء التي كانت تتبع الشعب. ولما أعطيت الشريعة من الله للناس. ولما عرف الإنسان كل محتويات أسفار الخروج واللاويين والعدد والتثنية.

ولما دخل أحد في الميراث الأبوي في أرض الموعد. فنأخذ هذا النص الذي هو بين أيدينا، ونحذف منه خبث بالاق الملك الشرير، ورغبته في أن يلعن إسرائيل، ونحذف منه الحيلة التي كان يريد بلعام بها إبادة الشعب، وبذلك نحذف في نفس الوقت تدابير الله لصالح إسرائيل ونعم حكمته الإلهية، ولما وجدنا النبوات التي خرجت من فم بلعام ووجهت في نفس الوقت لأبناء إسرائيل والأمم. وتأييدًا لهذا نجد أيضًا من العهد الجديد إذا حذفنا خبث يهوذا. وإذا نزعنا خيانته سنحذف في نفس الوقت صليب المسيح وآلامه، وإذا لم يوجد صليب “فالرياسات والسلاطين لم تكن أبدًا قد تجردت وانهزمت بخشبة الصليب” (كو 2: 15). فلو كان موت المسيح لم يحدث، فقيامته بالتالي لم تكن تحدث أيضًا، ولا يكون بذلك “بكرًا من الأموات” (كو 1: 18)، وبدون هذا البكر من الأموات سوف لا يكون لدينا أي أمل في القيامة من الأموات.

بنفس الطريقة نفرض أن الشيطان نفسه حرم من إمكانية عمل الخطية، أو نزعت عنه إرادة الشر بعد الخطية، وبهذا السبب نفقد فرصة الكفاح ضد هذه الهجمات ولما وجد انتظار “إكليل النصر للذي قد جاهد قانونيًا” (2تي 2: 5)، وأيضًا “إن كان أحد يجاهد لا يكلل، إن لم يجاهد قانونيًا” فلو لم يكن لنا خصوم لما كانت هناك معركة ولا مكافئة مخصصة للمنتصرين، ولما قدم لهم ملكوت السموات، “خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا” (2كو 4: 17). ولما كان لأحد منا أمل في المجد العظيم في الحياة الآتية نتيجة الصبر في الضيقات المحتملة.

إناء للكرامة وإناء للهوان

نتيجة لذلك لا يستخدم الله فقط الخير لعمل فعل صالح لكن أيضًا يستخدم الشر. إنه شئ عجيب الله يستخدم الشر لعمل عمل صالح، “في بيت كبير لا توجد آنية من ذهب وفضة فحسب بل توجد أيضًا آنية من خشب وخزف وتلك للكرامة وهذه للهوان” (2تي 2: 20)، لكن الكل ضروري في الحقيقة. وبما أن الآنية التي نتحدث عنها هي آنية عاقلة ولها حرية الإرادة، إنه ليس بحادث أو بالصدفة بأن نصبح إناء للكرامة وإناء للهوان. فالذي أظهر استحقاقًا للكرامة يصبح “إناء للكرامة” (أع 9: 15)، وبالعكس الذي يعيش بأفكار غير لائقة وشريرة، يأخذ صورة إناء الاحتقار نتيجة أسباب لم تأت من خالقه، لكن من نفسه. ليس الخالق هو الذي عمل من هؤلاء الناس ما أصبحوا عليه، لكنه يعطيهم بحسب اختيار إرادتهم بشريعة عادلة وفائقة الوصف من حكمته الإلهية.

فنأخذ مقارنة في المدن الكبري الناس، غير المستحقين، الذين يعيشون حياة مظلمة وشريرة قد حكموا على أنفسهم بالأعمال الأكثر دناءة والأكثر مشقة، إلا أن هذه الأعمال ضرورية للمدينة. فمثلاً يعملون كخدام للحمامات العامة لكي يمكنك أن تتمتع بفوائد أو مزايا هذه الأبنية، أو الذين ينظفون البالوعات، إنهم يقدمون أعمال أخرى من نفس النوع لكي تحيا في هذه المدينة حياة مستحبة. فإذا عملوا باختيارهم أو قاسوا جزاء ما يستحقونه فإن عملهم يستفيد منه الذين قدموا أعمال حسنة نافعة. وهذا ينطبق على موضوع حديثنا، الله لم يخلق الشر، لكن عندما نتج اختياريًا من الذين انحرفوا عن الطريق المستقيم، لم يرد أن يمحيه حيث إنه كان يري مقدمًا بأن هذا الشر الغير نافع للأشرار سينتج منه فائدة لصالح ضحاياهم لذلك يجب علينا أن نتجنب بكل الطرق أن يوجد فينا الشر، يجب علينا أن نعمل على هزيمته عند الآخرين، وليس حذفه لأن الأشرار يقدمون مساعدة ضرورية للعالم أجمع.

لا شئ محتقر، لا شئ غير نافع أمام الله، إنه يستخدم للخير عزيمة الإنسان الحسنة ويستخدم أيضًا العزيمة السيئة لأغراض ضرورية، لكن ستكون مطوبًا إذا وجدت أنه بفضل فضائلك بالأحرى في الخير أن العالم أجمع مدين لك ببعض الشئ كالذين يقول عنهم الرسول “لكي تكونوا كأنوار في العالم متمسكين بكلمة الحياة” (في 2: 15، 16). الأنوار ضرورية لمجد هذا العالم. وهل يوجد شئ أشهى وأعظم من فعل الشمس أو القمر اللذين ينيران العالم، ومع ذلك فالعالم محتاج أيضًا لملائكة تتولى أمور الحيوانات والانشغالات الأرضية. أنه محتاج لملائكة لأجل ولادة الحيوانات، والأغصان والنبات وناتجات الحقل الأخرى.

وكذلك يلزم أن يكون هناك ملائكة لترأس الأعمال المقدسة، وتعلم إدراك النور الأبدي، ومعرفة أسرار الله والعلم الإلهي. اسهر إذًا لكي لا تكون من نصيب الملائكة المخصصة للحيوانات، إذا حدث وعشت كحيوان أو من الذين يرأسون الأعمال الأرضية إذا أحببت الأشياء الجسدية والأرضية. إعمل بالأحرى لتكون مقبولاً في صحبة الملاك ميخائيل الذي يقدم لله صلوات القديسين بدون توقف، إذًا ستكون مقبولاً في عداد هؤلاء المختارين، ستكون مقبولاً في هذه الرتبة، إذا مارست الصلاة بدون توقف، وتقضي فيها سهراتك وتحقق بذلك طلبة الرسول “صلوا بلا انقطاع” (1تس 5: 17)، أو على الأقل أعمل للدخول في صحبة وخدمة روفائيل بأن تتعاون معه في واجبه، فهو الذي قد؟ أوكل إليه الطب.

فعندما ترى رجلاً مجروحًا بالخطية ومثقلاً بأسهم الشيطان فإنك ستقدم له الكلمات الشافية، ستقدم له الدواء من كلام الله، حتى تشفى بواسطة التوبة جروحات الخطية وتظهر دواء الاعتراف. وكل من يتصرف هكذا في هذا العالم، فهو يعطي نفسه للخالق ليشكله، ليأخذ في الجيل القادم صورة “إناء مختار مستعد لأي عمل صالح” (أع 9: 15). إذا عمل العكس فإنه سيصير أمام التدبيرات الإلهية “إناء الهوان” (2تي 2: 21). وهذا هو السبب في رأيي الذي لأجله قد ذكرت أعمال الأشرار مثل أعمال الصالحين في الكتب الإلهية. والكتب الإلهية مكونة من قصص الصالحين وأعمال الأشرار لكي ندرك أن أمام الله ليس شئ غير نافع، أعمال الأشرار مثل أعمال الصالحين، والآن بعد هذا الاستطراد الطويل ولكنه ضروري فلنرجع للموضوع.

تكملة القصة:

الله يستخدم بلعام

3 كان بلعام كما قلنا ساحرًا بمعنى أنه كان يستفيد من مساعدة الشياطين، وبسحره كان أحيانًا يبصر المستقبل. بالاق الملك يطلب منه أن يلعن شعب إسرائيل، وصل الرسل وأحضروا معهم حلوان العرافة في أياديهم، والأمم ينتظرون في حيرة وفي ضيق ما سيجيب به بلعام، متأكدين بأنه مستحق للمحادثة الإلهية. انظر الآن كيف أن حكمة الله تستخدم هذا الإناء المخصص للهوان ليس فقط لفائدة أمة واحدة، لكن للعالم كله. أنه لأمر مألوف للشياطين أن الله يظهر له لكي يمنعه عن طريق الشر، بلعام ضرب بالخوف ودهش من سلطة الذي يمنع لأن الشر عمومًا يحلو للشياطين. فبلعام يطلب عودة الرسل مرة أخرى قائلاً أنه لا يستطيع عمل أي شئ، إلا أن ينطق بالكلمات التي يضعها الله في فمه. الرسل رجعوا وهو يطلب من جديد ويريد أن يسمع.

فالإنسان الجشع لا يرفض أبدًا الربح من ذاته، فماذا يسمع من الله مرة أخرى “أن آتي الرجال ليدعوك فقم اذهب معهم” (عد 22: 20). الله تركه لرغبته في الربح وهكذا يتحقق ما كتبه الرب في المزمور “سلمتهم إلى قساوة قلوبهم ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم” (مز 80: 12). وهكذا اكتملت خطة الإرادة الإلهية حيث إنه قال “إنما تعمل الأمر الذي أكلمك به فقط” (عد 22: 20)، فلو كان بلعام مستحقًا لكان الله قد وضع كلمته في قلبه وليس في فمه.

لكن بما أنه كانت تسود في قلبه رغبة المنفعة وشهوة المادة. لذلك لم توضع كلمة الله في قلبه لكن في فمه، حكمة إلهية عجيبة وعظيمة تظهر هنا. بما أن النبؤات المحتواة في إطار إسرائيل يمكن أن تصل إلى الأمم، لذلك يستخدم الله بلعام الذي كان يتمتع بثقة كل الأمم، لكي يعرف الأمم أيضًا بأسرار المسيح المخبأة ويأتي لهم بكنز ثمين ليس فقط بواسطة القلب والروح بل الأكثر بواسطة الفم والكلام، لكن لا داعي لأن نتوه في التفاصيل، فليس هنا هو المقام لأن نتعمق في كل شئ، كان بلعام راكبًا على أتانه، بلعام كان يسير فسد عليه الملاك الطريق بدون أي شك، الملاك الذي كان يسهر على بني إسرائيل “ففتح الرب فم الأتان” (عد 22: 28)، حتى يكون بلعام متهمًا من الأتان وبواسطة صوت الحيوان الأخرس يخزي الذي كان يحسب إلهًا حكيمًا.

بلعام رمز لليهود:

بعد هذا يحسن أن نقدم بعض صور الرموز:

بلعام: واسمه يعني شعب باطل يبدو لي أنه يمثل “الكتبة والفريسيين” (مر 7: 8)، عند شعب اليهود.

بالاق: واسمه يعني تحريم أو أتلاف يمثل هو أيضًا إحدى أرواح السيادة المعادية التي تتسلط على هذا العالم، روح تبحث لكي تحرم ولكي تبتلع إسرائيل، ليس إسرائيل حسب الجسد، لكن إسرائيل بحسب الروح، هذه القوة الرديئة تريد أن تخرب وتخنق تمامًا إسرائيل الروحي فهي لا تأخذ وكلاء لها سوى الكهنة والكتبة والفريسيين إنها تدعوهم وتعدهم بأجر وثواب.

هم مثل بلعام يتظاهرون بأن ينسبوا كل شئ لله وأن يتصرفوا بغيرة الله ولكنهم يقولون “فتش الكتب وانظر أنه لم يقم نبي من الجليل” (يو 7: 52)، وأيضًا “لنا ناموس وحسب ناموسنا يجب أن يموت لأنه جعل نفسه ابن الله” (يو 9: 7)، في كل هذه الحالات الكتبة والفريسيون يبدون أنهم يندفعون بغيرة الله ولكنهم يتظاهرون فقط.

الأتان: المؤمنون البسطاء

أما بالنسبة للأتان التي صعد عليها بلعام، فالكتاب المقدس يقول “الناس والبهائم تخلص يارب؟” (مز 36: 6). نستطيع هنا أن نرى جزءًا عن المؤمنين الذين سواء بسبب ضعفهم الروحي، أو بسبب براءتهم قد قورنوا بالحيوانات والرسول يقول أيضًا “فانظروا دعوتكم أيها الأخوة أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد ليس كثيرون أقوياء ليس كثيرون شرفاء، بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء” (1كو 1: 26، 27). هؤلاء الرجال بحسب الكلمات الإنجيلية الذين هم رموز في عملهم، كانوا ممسوكين بنوع من العبودية والأسر بواسطة معلمين سيئين، أي الكتبة والفريسيون وقد خلصوا بواسطة السيد الرب.

ويمكننا القول أنه لم يفعل بشخصه لكن بواسطة تلاميذه، وهو يقول لهم “اذهبوا إلى القرية التي أمامكم فللوقت تجدان أتانًا مربوطًا وجحشًا معها فحلاها وأتياني بهما” (مت 21: 2). ففي الإنجيل ليس السيد الرب هو الذي حمل الأتان الجحش بنفسه بل التلميذان، وكذلك هنا فليس الله هو الذي فتح فم الأتان، بل ملاك. في الأناجيل الذين لا يبصرون يعيرون الذين يبصرون، وهنا الكائنات الخرساء تعير الذين يتكلمون.

هذا ما قاله السيد الرب: “أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال” (مت 11: 25). الكتبة والفريسيون هم الذين كانوا يركبون على الآتان ويمسكون بها مربوطة، الملاك يغضب عليهم، وإن لم تظهر له بعض احتمالات بعيدة، وإلا كان قد أباد الكتبة والفريسيين وخلص الأتان، التي رأت وخشيت من الذي “قد آتي إلى الكرم” (نش 7: 13)، وجلس في “وسط الكروم” (نش 1: 14)، حينئذ “ضغط الأتان رجل بلعام” (إش 1: 14)، سيدها بالحائط ولهذا السبب لم يستطيع بلعام أن يمشي ولا أن يأتي للذي قال “تعالوا إلىَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال”. حينئذ أتت الأتان، مقادة من التلاميذ، ودابة بلعام الجشع أصبحت دابة يسوع. فلا تندهش إذا كان إنسان سبق أن تكلمنا عنه وهو يمثل الكتبة والفريسيين يتنبأ عن المسيح.

هذا ما نجده حينما نقرأ عما فعله قيافا، عندما قال “أنه إذًا خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب” (يو 11: 49: 51). حينئذ يقول الإنجيل “لم يقل هذا من نفسه بل إذا كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة” إذًا بلعام يتنبأ عن المسيح لكي لا يفتخر أي شخص، إذا كان يتنبأ، إذا نال معرفة المستقبل، بل فليرجع لكلام الرسول الذي قال في هذا الصدد “النبوات فستبطل الألسنة فستنتهي العلم فسيبطل” (1كو 13: 8). “ماذا يبقي إذًا؟ الإيمان، الرجاء، والمحبة؟ لكن أعظمهم المحبة” (1كو 13: 4، 5).

والمحبة هي الوحيدة التي لا تسقط أبدًا لذلك فإن هذه المحبة أعظم من موهبة النبوءة، أعظم من العلم، أعظم من الإيمان، أعظم من الاستشهاد، أيضًا كما يعلمنا بولس الرسول فيجب ان نقدر المحبة ونمارسها لأن “الله محبة” (1يو 4: 16)، والمسيح هو أيضًا محبة وهو الذي تنازل وأعطانا كمال المحبة له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

[1]  هذا هو النطق الصحيح لأسم أوريجانوس رغم أن هذا النطق الأخير بالألف هو الذي شاع بالعربية.

1  سفر العدد يشير هنا إلى القداسة والكمال في نفس الوقت.

[2] إن كل شئ في الكتب المقدسة يحمل فائدة للنفس وهذا مبدأ عام عند أوريجينوس.

[3]  تعني: إذا اجتزت الصورة الأولية للحياة الدينية أي مجرد الإيمان التي هي درجة أقل من الحياة الروحية.

[4]  أي بطريقة جسدية أو شيطانية حيث أن مصر ترمز إلى الاتكال على الجسد والشياطين. وبربرية تشير هنا إلى العبيد أي المشاعر المنحطة ومن يستعبد لها. 

[5]  عتاب بلا انقطاع من المسيحيين للفلاسفة اليونانيين من جهة الاعتقاد بأن الفلسفة يمكن أن تستعمل في غاية الإتقان، لكن لا تؤدي للسلام.

[6] حيث إن الكنيسة هي إسرائيل بالحقيقة.

[7] أوريجانوس يلخص هنا التقدم المبين بارتحال العبرانيين، ههنا الكيفية التي بها نستطيع أن نفهم هذه المراحل.

أولاً: خروج من مصر انشقاق مع إبليس، لكن الشيطان (فرعون) مازال متسلطًا على النفس.

ثانيًا: عبور من البحر الأحمر ليس للتجربة كما تظهر في العظة 27 لكن ربما لأجل العماد. الدخول في الصحراء، ترسم بداية النسك والتجارب.

ثالثًا: الكفاح ضد عماليق (الشيطان) وهو يعبر عن الأعمال لصالحة.

رابعًا: والصخرة، النفس متغذية من كلام الله وتشرب من الصخرة التي هي المسيح وهذا يمثل العلم.

خامسًا: نصب خيمة الاجتماع، اقتناء الفضائل.

سادسًا: الشريعة (الروحية) المعطاة بالتطهير حسب الشريعة الموسوية، ذبائحهم (صلواتهم).

أخيرًا التبرير الذي يفصل القديس من الجماعة ويعزله عن العالم.

[8] اليونانيون والعبرانيون لا يميزون اسم يسوع عن يشوع، يشوع هو يمثل تمامًا يسوع وهو هنا يرمز للمسيح قمة الكمال، الذي يجب علينا أن نصل إليه خلال أسرار الناموس.

[9] نعم أنه من المؤكد أن أرضنا لا تستطيع أن تستريح من الحرب إلا بواسطة قدرة ربنا يسوع المسيح.

[10] أقمع جسدي واستعبده خوفًا من بعد أن أكرز للآخرين أكون أنا مرفوضًا.

[11] أوريجينوس يميز نوعين من المعمودية، معمودية الماء ومعمودية الروح القدس. أنه يعتقد بأن الأولى غير مؤثره ولكن أوريجانوس يعتبرها كعلامة لنظام مرئي ويحمل حقيقة المعمودية بالروح. المكر يقوم أساسًا على الحصول على العلامة بدون الواقع الذي تشير إليه العلامة.

[12] التلميح هنا إلى العجل الذهبي.

[13] خيمة الأزلية، تعني السماء بحصر المعنى والخيمة هي رمزها، أوريجينوس يدعو السامعين إلى الدخول إلى السماء التي هي جزء هام من فكره الأسخاتولوجي وهي موضوع العلم عنده.

[14]  مصر عند أوريجانوس هي بلاد الأبالسة.

[15]  هذه العظة حافلة بالخواطر العددية. وبهذا المعنى فهي تعتبر وثيقة هامة فيما يخص تاريخ التعامل مع الأعداد. نحن نعرف أن مبادئ هذه الطريقة تعود إلى فيثاغورس ولكن أفلاطون وأرسطو ساهموا فيها أيضًا ومن خلال الإنتاج المسمى (الأعداد اللاهوتية)، يلتقى الرواقيون مع الفيثاغورثيين.. يبدو أن الأعداد كانت شيئًا مشتركًا بين كل الطوائف فقد استعملها فيلون قبل أكليمندس وأوريجينوس في شرح الكتاب المقدس. والقديس أوغسطينوس نقل إلى العصور الوسطى عادة البحث عن المعنى في أعداد الكتب المقدسة ويمكن استعمال الأعداد في كل اتجاه. وهنا في هذه العظة يستخدم أوريجينوس الأعداد لكي يؤكد نظرته إلى الدرجات الروحية.

[16]  بمعنى الذي ليس هو فقط “قديس” مكرس لله بنعمته لكن “كامل” الذي يكون منفصلاً كلية عن الروح العالمية والجسدانية، ومنشغل كلية في رؤية الله.

[17]  تمييز بين العلم والأعمال، الكمال والأقل الأولون يعلمون السر، والآخرون لا يرون إلا مظهره وينفذون وصاياه بدون أن يفهموها.

[18]  هذه الفكرة بأن موسى كان يعرف كل السر بالروح، هجرها علم اللاهوت المسيحي في العصور التالية. واعتبر موسى مجرد مفسر جزئي للسر بينما كشف السر بملئه للمسيحي الذي أخذ من المسيح مفتاح معرفة الأسرار.

[19]  يجب ثنى الركب عندما يقر بخطاياه لله، طالبًا منه الشفاء والغفران، هذا الوضع هو رمز الإنسان الذي يخشع والذي يخضع. يجب أن نقر بأن هذه الرموز هي الأكثر بساطة في فهمها لكل مؤمن أما الوضع العادي للصلاة فكان وضع الوقوف.

[20]  كذلك من الذي لا يعلم أن الشرق يعني صريحًا بأننا يجب عند الصلاة أن ننظر لهذه الناحية وهذا رمز لنفس ناظرة نحو الشرق أي نحو النور الحقيقي.

[21]  يجب ربط هذه الخواطر حول الرقميين 25، 50 بتلك المتعلقة بالرقمين 5، 10 (عظة 22: 1؛ تكوين 16: 6).وعند فيلون الأسكندري الرقم 50 هو رقم الحرية الكاملة. وهو يقول عنه “هو أقدس الأرقام” (الحياة التأملية 8: 65)، وأكلمينضس الأسكندري يقدم تفسيرًا مماثلاً لتفسير أوريجينوس “العدد 50 هو رمز للرجاء والغفران في يوم الخمسين” (المتنوعات 6: 87).

[22] هرون يمثل الكهنوت اليهودي ومريم تمثل جماعة اليهود.

[23]  الأسبوع رمز لهذا العالم.

[24]  أي الأثيوبية التي تمثلنا وعند فيلون الأثيوبية تمثل الطبيعة البشرية بدون تغيير ونجد هذه الصورة الرمزية لأوريجينوس عند كيرلس الإسكندري في شرح سفر العدد (باترولوجيا جريكا 69، عمود 596)، ويقول المرأة العبدة أي كنيسة الأمم.

[25]  انظر نهاية العظة السادسة.

[26]  لأنه ليس تهديدًا باطلاً مثلما يكون التهديد ناتجًا عن غضب.

[27]  موسى حقًا حسب أوريجانوس يعلم الحقيقة التي نشرت في الرموز.

[28]  أوريجانوس لا يعتبر كتاب Pasteur dHermes أو الراعي لهرماس ككتاب قانوني حسب تعليم الكنيسة لكنه أعطى له قيمة كبيرة.

[29]  أتباع ماركيون يوجهون هذه الاعتراضات ضد ما يسمونه إله العهد القديم.

[30]  نرى من هذا إصرار أوريجينوس على حرية إرادة الإنسان حتى بعد نهاية الدهر الحاضر. وهذا قد يبدو متعارضًا مع ما يشاع عنه أنه كان يعتقد بالخلاص الشامل وخلاص الشيطان نفسه.

[31]  الذهب يمثل القلب، الفضة تمثل الاعتراف بالكلام.

[32]  يمكن أن نقارن بين هذا الموقف وموقف أكليمنضس الإسكندري من الفلاسفة الوثنيين (المتنوعات 6، 66) والذي نصح به أوريجينوس أيضًا (خروج عظة 11 – 7).

[33]  يقول الرسول “إن كان أحد يجاهد لا يكلل إن لم يجاهد قانونيًا” (2تي 2: 5) كيف سيكون هناك معركة لو لم يكن هناك أعداء؟ كيف سنميز جمال ولمعان النور لو لم يحل ظلام الليل؟ هل سنمجد لأجل طهارتنا إذا لم نجبر على عدم العفة؟ بالاختصار اكتشاف الأشرار يعمل على ظهور مجد القديسين أنه من المستحيل على النفس أن تعرف بأكثر وضوحًا ما هو الحسن إلا بالمقارنة مع ضده.

[34]  بمعنى من ضمن عصره وهذا لا يعني بأنني رجل كامل تمامًا لكن بالمقارنة مع الرجال في ذلك الوقت.

[35]  الاضطهاد بالنسبة للمسيحيين في الأجيال الأولى كان عصر النعمة وليس عصر الغم.

[36]  هذا هو رأي أتباع ماركيون الهرطوقي.

[37]  أنه يقصد هنا الملاك الهدام روح الشر.

[38]  حيث إن القصة هي صورة لأشياء غير مرئية ومستقبلة.

[39]  هذه النظرية في التجسد تتبع التقسيم لثلاث أقسام جسد، نفس، روح.

[40]  هذا التطابق بين مراحل الخلاص هي أحد المبادئ التي توضح لنا “التفسير الأوريجيني” فتاريخ العبرانيين يمثل المجئ الأول وسيكمل في المجئ الثاني.

[41]  الكتاب المقدس شبه بالأواني.

[42]  ينطبق هذا التقسيم على طرق فهم الكتب المقدسة يتم أولاً التعرف على الحرف ثم التعليم الأخلاقي ثم العلم وهذه المراحل الثلاثة تنطبق على أقسام الإنسان الثلاثة الجسد والنفس والروح وأيضًا ثلاث درجات الحياة الروحية الإيمان والأعمال والمعرفة كما أنها تنطبق أيضًا على ثلاثة مراحل تاريخ الخلاص وهي العهد القديم والعهد الجديد والمجد الآتي.

[43]  عن هذه المرارة التي هي مرارة الحرف انظر عظة على الخروج 7، 1 وأوريجينوس يعطي مثالاً آخر وهو الختان.

[44]  لماذا كهنوتية؟ ربما لأنها قد أعطيت بواسطة الكاهن الأعظم (عريس النشيد)، المسيح أو بالأحرى بدون شك لأنه يختص بالعنب ناتج الكرمة الحقيقية (يو 15: 1)، المسيح الذي هو أيضًا الكاهن الأعظم الحقيقي.

[45]  هذا النص الجميل هو واحد من النصوص التي تبين أن أوريجينوس كان يملك حسًا مرهفًا بأن الله لا يمكن إدراك طبيعته السرية.

[46]  نحن هنا أمام تعبير اللاهوت النيقاوي. وفي الحقيقة فأن لفط Per Substantiam لروفينوس يحتمل المعنين “حسب الجوهر” و “حسب الأقنوم”، أوريجينوس لا يقوم بهذا التفريق الذي سيصير هامًا في مجمع نيقية، ولكنه يصر على وحدة شخص المسيح، واستعماله لصور متعددة للمسيح داخل النفس لا تؤثر على وحدة شخص المسيح كما حاول البعض إتهامة.

[47]  أوريجينوس لا يقصد استبدال ذبيحة المسيح بموت الشهداء ولكن ظروف عصر الاستشهاد، واستشهاد والده شخصيًا جعلته يرى في موت الشهيد مساهمة في هدم قوة الشيطان (انظر تفسيره ليوحنا 6: 54)، وفي هدم قوة الشر نوع من أنواع الخلاص للناس وتحريرهم من سلطان القوى الشريرة التي تستعبدهم، وحينما تضع الكنيسة عظام الشهداء تحت المذبح فإنها تؤكد العلاقة الوطيدة بين ذبيحة المسيح وامتدادها إلى موت الشهيد.

[48]  بمعنى أن المسيحي في رأينا عندما يتركه الله لعمل المجرب يعطيه السماح ليضطهدنا ونكون نحن مستعدين، لكن عندما يريد الله أن يبقى لنا الاضطهاد سنعيش في سلام غريب مع هذا العالم الذي يكرهنا ونحن سنستريح بثبات في الذي قال ثقوا أنا قد غلبت العالم والذي قد غلب العالم قبلنا. لهذا السبب العالم ليس لديه استطاعة إلا في الحدود التي يريدها الذي قد غلب العالم لأنه قد سمح الآب بأن يغلب العالم.

[49]  يبدأ هنا أوريجينوس في عرض منهجه التفسيري ونلاحظ أن التفسيرين الرمزي والتاريخي أي الحرفي يتداخلان ويتكاملان.

[50]  هارناك المؤرخ يلاحظ أهمية هذا النص لدراسة تاريخ رتبة الأسقفية فاسقف الكنيسة هو مؤسسها وهذا كان الحال مع أغريغوريوس الصانع العجائب تلميذ أوريجينوس.

[51]  هكذا نستطيع أن نلخصها: (أ) البئر: معرفة المسيح والكتاب المقدس، أول سكب من الروح القدس. (ب) متانة: هو الإنسان الذي يقدم إيمانه لله. (ج) نحلئيل: الله يعطي للإنسان عطايا الروح القدس. (د) باموت: موت العالم.

[52]  الجحد العلني للشيطان ولكل أعماله قبل المعمودية يعتبر من الطقوس القديمة في الكنيسة  ولا يزال يمارس حتى اليوم في المعمودية.

[53]  عبيد الشر هم القضاة والبوليس الإمبراطوري الذين يخدمون آلهة مزيفة ويضطهدون المؤمنين بدون أي سند قانوني وكذلك الشياطين الموجودون في الأوثان وعبادتها.

[54]  يشير أوريجينوس كثيرًا إلى هذا المعلم العبراني ورغم أننا لا نعرف كثيرًا عن هذا المعلم إلا أننا نستفيد أن معلمي الكنيسة كانوا بدورهم يسعون وراء المعرفة ويحصلون عليها من المتخصصين فيها.

[55]  نجد هنا نقطة هامة أسسها أيرينئوس وأستعملها دائمًا آباء الإسكندرية وهي أن الله يتبع طريقة تربوية تدريجية في تعليم الشعب.

[56]  نلاحظ أن أوريجينوس لا يتردد عند اللزوم في مدح الوثنيين لكونهم أدركوا أمرًا إليهًا ولو جزئيًا. وهذه خاصية من خصائص لاهوت الآباء.

[57]  هذه النقطة توضح أن أوريجينوس كان يلقي عظاته في أثناء القداس ولهذا يقول إن الوقت محدد للعظة وفي موضع آخر أن الأناغنوسطس هو الذي قرأ الكتاب.

[58]  مجموعة لأربع حروفق، ييه، هيه، واو، هيه التي تكون اسم يهوه.

 

عظات على سفر العدد ج1 (1 – 14) – العلامة أوريجينوس