قيام المجمع اليهودي
قيام المجمع اليهودي
كان السبي البابلي تأديبا إلهيا لجأ إليه الله ليرد الشعب عن قساوة قلوبهم التي جعلتهم يعبدون الأوثان وهم يأكلون ويشربون من خيرات الله في الأرض التي منحها لهم مجانا، دون أن يقدموا له واجبات الشكر والحمد والتسبيح، كما كان ينتظر منهم. وفي غربتهم أحوا بالمذلة والعار والعبودية. ولما تابوا، حرك الله قلب كورش ملك فارس، فأمر برجوعهم في القرن الخامس قبل الميلاد، وتم تنفيذ هذا الأمر في عهد ارتحشستا الملك.
وبعد أن تم بناء سور الهيكل بصورة متواضعة وقف الشعب كله كرجل واحد أمام باب الماء، ودعوا لعازر الكاهن والكاتب لقراءة شريعة موسى، أي التوراة (خمسة أسفار موسى)، فوقف على منبر من الخشب، وكل الشعب آذانه نحو الشريعة. وبعدما قرأوا في شريعة الله ببيان، وفسروا المعنى وأفهموهم القراءة، قالوا للشعب اليوم يوم فرح «اذهبوا كلوا السمين، واشربوا الحلو، وابعثوا أنصبة لمن لم يعد له، لأن اليوم إنما هو مقدس لسيدنا. ولا تحزنوا، لأن فرح الرب هو قوتكم» (نح ١٠:٨).
هذه هي النواة التي نشأت منها المجمع اليهودي كضرورة حتمية، حيث يجتمع اليهود صباح كل سبت وفي المواسم والمحافل والأهلة… إلخ، لسماع قراءة من الشريعة. وأضيف إليها فيما بعد قراءة من الأنبياء ninan “هفتوره، كالتي سجلها لنا إنجيل القديس لوقا عن السيد المسيح في الأصحاح الرابع: لما دخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ، فدفع إليه سفر إشعياء النبي ولما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبا فيه: «روح الرب علي، لأنه مسحني لأنشر المساكين، أرسلني لأنني المنكسري القلوب، لأنادي المأسورين بالإطلاق وللعني بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة.» (لو ٤: ١٦-١٩).
يجدر الذكر هنا أن اليهود عندما عادوا من سبي بابل، احتفظ منهم سبطان فقط (يهوذا وبنيامين) بهويتهما اليهودية، أما الأسباط العشرة الباقية فقد اختلطت بالأمم، ودخلت إليها شعوب غريبة تزاوجوا معهم وكونوا شعب السامرة الذي رفض عزرا الكاهن ونحميا الوالي اشتراكه معهم في بناء وتجديد المدينة والهيكل. وقد بقيت جماعة كبيرة من يهود السبطين في بابل، ودرسوا هناك الشريعة والأسفار، وأخرجوا لنا التلمود البابلي الذي كان أقوى وأكبر من التلمود الأورشليمي أو الفلسطيني.
أما اليهود العائدون، فقد فقدوا اللسان العبري، لأنهم استخدموا لغة أهل البلدان التي سبوا إليها، أي “اللغة الآرامية، واستطاعوا أن يتكلموا بها، ويشرحوا ويقرأوا الأسفار المقدسة على أساس وجود “الترجمان” أي المفسر أو المترجم، ومن هذه القراءات والشروحات تكون “الترجوم” الأرامي. وبذلك رجع اليهود من السبي ومعهم هذه الشروحات وهذه المحصلة التي حافظوا عليها واستعملوها في مجامع فلسطين.
يهود الشتات في الوقت الذي كان فيه يهود فلسطين ينظرون إلى السبي باعتباره تأديبا الهيا، كان يهود الشتات يحسون بالمسؤولية تجاه الأمم، ويدركون أن الوقت قد جاء ليعكسوا ضياء ناموسهم وشريعتهم وعباداتهم على الأمم، تكميلا لوعد الله في النبوات وعلى الأخص إشعياء النبي، فإسرائيل هو نور للأمم، وإليه ستتجه كل الشعوب كمصدر للنور والشريعة.
لذلك كانت ترجمة أسفار العهد القديم موضع إعجاب شديد وترحيب بالغ بين يهود الشتات، وبالأخص يهود الإسكندرية الذين جعلوا تذكارها يوم احتفال وعيدا سنويا تجتمع فيه الشعوب لشكر الله فلأول مرة تقرأ الشريعة اليهودية وتقام كل العبادات والصلوات بلغة تفهمها جميع الشعوب (اللغة اليونانية). ويشهد بذلك القديس بولس: «هو ذا أنت تسمى يهوديا، وتتكل على الناموس، وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته، وتميز الأمور المتخالفة، متعلما من الناموس. وتيق أنك قائد للعميان، ونور للذين في الظلمة، ومهذب للأغبياء، ومعلم للأطفال، ولك صورة العلم والحق في الناموس.» (رو2: 17- 20).
فهل هذه الكلمات موجهة إلى يهودي في وسط جماعة يهودية، أم في مجتمع وثني؟ ويعقوب الرسول أيضا في مجمع أورشليم (حوالي سنة ٤٢ م يقول: «الآن موسى منذ أجيال قديمة له في كل مدينة من يكرز به، إذ يقرأ في المجامع كل سبت» (أع ١٥: ٢١).
عداء اليهود للترجمة السبعينية بعد ظهور المسيحية
لما خرج الرسل للتبشير حسب وصية الرب: «اذهبوا وتلمدوا جميع الأمم وعمدوهم…». مت (28: 19)، كانت الترجمة السبعينية في أيدي يهود الشتات. فأخذ الرسل يثبتون بها لليهود أن يسوع هو المسيا، فما كان من اليهود إلا أن وصموا الترجمة السبعينية بعدم الدقة.
فعلى سبيل المثال، في حوار يوستينوس الشهيد (سنة ١١٠-١٦٥م) مع تريفو اليهودي فصل ٣١ يقول: إن معلميكم يرفضون الاعتراف بأن الترجمة التي قام بها السبعون شيخا في عهد بطليموس ملك مصر هي صحيحة … وفي سبيل ذلك يستشهدون بالآية: «ها العذراء تحبل» (إش 7: 14)، ويقولون إنه ينبغي أن تقرأ “الفتاة أو الشابة الصغيرة” “עלמה علمه”
لكن امتعاض الربيين اليهود ونفورهم (9) من الترجمة لم يكن يرجع إلى أسباب جدلية أو عدم دقة الترجمة، بل سببه هو المدرسة الفريسية الجديدة للتفسير اليهودي التي قامت عقب فشل ثورة اليهود الثانية على يد زعيمهم ابن كوكب (سنة ١٣٢-١٣٥م). فقد انتهى اليهود كأمة وشعب ليتحولوا إلى جماعة دينية (طائفة) تجاهد للحفاظ على نفسها ضد عوامل الانحلال والدوبان في التيار المسيحي الجارف، الذي راح يغزو العالم الوثني ويجتذب كثيرا من المفكرين والفلاسفة وعلية القوم في القرنين الأول والثاني. لذلك اضطلعوا هم بترجمة يونانية خاصة بهم، عن طريق أحد الدخلاء (أمي منضم لليهودية) وهو أكويلا.