تفسير انجيل متى 20 – الأصحاح العشرون – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 20 – الأصحاح العشرون – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح العشرون
مستحقُّو الملكوت
بعد أن تحدّث عن مدعُوِّي الملكوت قدّم لنا الإنجيلي مفهومًا جديدًا للاستحقاق للملكوت المسيحاني:
- مثَل العاملين لحساب الملكوت 1-16.
- الملكوت والصليب 17-19.
- الملكوت وأم ابنيّ زبدي 20-28.
- الملكوت والاستنارة 29-33.
- مثَل العاملين لحساب الملكوت:
يشبّه السيِّد ملكوت السماوات برجلٍ رب بيت خرج يستأجر فعَلَة لكرمه، فاتِّفق معهم في الصباح على دينار في اليوم وأرسلهم إلى كرمه، وخرج أيضًا في نحو الساعة الثالثة ليستأجر آخرين قيامًا في السوق كبطّالين وأرسلهم إلى كرمه، وهكذا في نحو الساعة السادسة والساعة التاسعة فعل ذلك، وتكرّر الأمر نحو الساعة الحادية عشر حيث سأل الواقفين كل النهار بطّالين عن وقوفهم هناك، فأجابوا: “لأنه لم يستأجرنا أحد”. وفي المساء استدعى رب البيت وكلائه ليعطيهم الأجرة، مبتدئًا من الآخرين إلى الأوّلين. وإذ أعطى فعَلَة الساعة الحادية عشر دينارًا دينارًا، وجاء دور الأوّلين ظنّوا أنهم يأخذون أكثر فأخذوا هم أيضًا دينارًا دينارًا. وفيما هم يأخذون تذمّروا على رب البيت.
ويلاحظ في هذا المثل الآتي:
أولاً: يقول السيِّد: “فإن ملكوت السماوات يشبِه رجلاً رب بيت خرج مع الصبح ليستأجر فعَلَة لكرْمه” [1]. من هو هذا الرجل رب البيت الذي يستأجر الفعلة إلا “كلمة الله الحيّ” الذي هو رب السماء والأرض، يرى في خليقته السماويّة والأرضيّة بيته الذي يدبّر أموره ويهتمّ به؟! أمّا كرْمه فهو القلب الذي فيه يُقيم مملكته، كقوله “ملكوت الله في داخلكم”. إنه يزرع برّه فينا بروحه القدّوس مُعلنًا ذاته في داخلنا. ملكوته هو تجلّيه فينا!
ثانيًا: ما أجمل تعبير السيِّد عن ملكوت السماوات وهو يشبهه برجلٍ رب بيت يخرج من ساعة إلى ساعة عبر النهار كلّه يستأجر فعَلَة من السوق ليعملوا في كرمه. إنه يخرج في الساعات الخمس حسب الترتيب اليهودي باكر والثالثة والسادسة والتاسعة والحادية عشر للعمل طوال اليوم خلال الفَعََلة في كرْمه.
ما هي هذه الساعات إلاّ مراحل حياة الإنسان عِبر كل حياته، فباكر تُشير إلى الطفولة، والثالثة إلى الصبوّة، والسادسة حيث وقت الظهيرة تُشير إلى الشباب، والتاسعة تُشير إلى الرجولة، والحادية عشر إلى الشيخوخة، أي إلى الساعة الأخيرة من حياتنا. هكذا يدعونا الله للعمل منذ طفولتنا المبكّرة مشتاقًا أن يكون كل العمر مكرسًا لحساب ملكوته ويبقى يدعونا فاتحًا ذراعية بالحب لنا حتى اللحظات الأخيرة من عمرنا فإنه لا ييأس قط منّا، مشتاقًا أن نستجيب لدعوته، ونعمل لحسابه. إن الكرم مفتوح لنا والصوت الإلهي لا يتوقّف مادام الوقت يُدعى اليوم، ومازلنا نحمل نفسًا ولو كان الأخير! لهذا يقول الرسول بولس: “عظوا أنفسكم كل يوم مادام الوقت يُدعى اليوم لكي لا يُقسَّى أحد منكم بغرور الخطيّة“ (عب 3: 13).
هكذا يخرج السيِّد إلينا ليدعونا للعمل، مشرقًا علينا بنوره ليجعل يومنا كلّه نهارًا بلا ليل، فنعمل بلا توقف، إذ يقول: “ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. مادمتُ في العالم، فأنا نور العالم” (يو 9: 4، 5). إنه يخرج إلينا ليدعونا لا بالكلام وإنما بالعمل، إذ يعمل فينا أعمال أبيه ليجتذبنا إليه مادام الوقت نهار، ونوره مشرق فينا، لئلاّ نوجد مُصِرّين على عدم قبوله، فنختم حياتنا بليْلٍ قاتمٍ حيث لا يقدر أحد أن يعمل.
إن كان الله قد وعد الكل بالدينار، هذا لا يعني أن يؤجِّل الإنسان توبته وطاعته للعمل في كرم الرب، وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [هل أولئك الذين استأجرهم في كرْمه، عندما جاءهم صاحب الكرم في الساعة الثالثة كمثال قالوا له… انتظر إننا لا نذهب حتى الساعة السادسة؟ أو أولئك الذين وجدهم في الساعة السادسة، هل قالوا: إننا لسنا ذاهبين إلاّ في الساعة التاسعة؟… إذ نعطي الكل بالتساوي، لماذا نذهب ونُتعب أنفسنا أكثر ما يلزم؟… فإنه ما كان يعطيهم لو لم يذهبوا… بل يجاوبهم: ألا تريدون أن تعملوا الآن يا من لا تعرفون إن كنتم ستعيشون حتى تكبروا في السن أم لا؟ لقد دُعيتَ في الساعة السادسة، تعال، حقًا إن صاحب الكرم يعدك بدينار، إن أتيت في الساعة الحادية عشر، لكنّه لم يعدك أنك تعيش حتى الساعة السابعة؛ لا أقول الحادية عشرة بل ولا السابعة. إذن لا تؤجّل، فإن الذي دعاك يؤكّد لك المكافأة، لكن الأيام غير مؤكدة[1].]
ويقول القدّيس أغسطينوس أيضًا: [إن السيِّد في هذا المثل قد فتح الباب للجميع، فلا ييأس أحد، إنه يكرّر الدعوة قابلاً الجميع، لكن لنبدأ أيضًا لئلا نتحطّم بالرجاء الفاسد خلال التأجيل، إذ يقول: لا تؤجل، لا تغلق أمامك الباب المفتوح الآن. هوذا واهب المغفرة فاتح الباب أمامك، فلماذا تؤجِّل؟ لتبتهج، فإن الباب مفتوح وأنت لم تقرع، لكن هل يبقى مفتوحًا إلى الأبد بالنسبة للذين سيقرعون ويبقون خارجًا؟… إنك لا تعلم ما سيحدث غدًا[2].]
ثالثًا: دعوة السيِّد لنا للعمل في كرمه ليست فقط دعوة عمليّة ومستمرّة عبر كل حياة الإنسان من طفولته حتى شيخوخته، وإنما هي أيضًا دعوة للإنسانيّة عِبر التاريخ كلّه من مهدِه حتى نهايته على الأرض. يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [لا يوجد زمن توقّف فيه الرب عن إرسال فعَلَة للعمل في كرْمه، أي تعليم شعبه[3].]
الله ينزل إلينا عبر التاريخ كله، من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل، وكأنّه من ساعة إلى أخرى، يطلب فعَلَة يستأجرهم من السوق، لكي يدخل بهم إلى كرْمه الإلهي، ليهبهم المكافأة الأبديّة عند مساء حياتنا الزمنيّة.
لقد نزل إلينا في الصباح الباكر للبشريّة عندما بدأ التاريخ الإنساني بخليقته آدم، الذي أقامه ليعمل في الجنّة، وكان يأمل فيه أن يحمل على الدوام صورته ومثاله، يسيطر على حيوانات البرّيّة وطيور السماء وأسماك البحر (تك 1: 28)، لكنّ سرعان ما خرج هزيلاً يحني ظهره للعصيان، فقد سلطانه على أفكاره وأحاسيسه وعواطفه وكل جسده! ولم يتركه الرب هزيلاً مختفيًا وراء أوراق التين التي تجف فتفضحه، بل قدّم له الثوب الجلدي ليستر جسده، ويقدّمه له خلال الوعد بذبيحته المقدّسة لستر حياته الداخليّة.
ونحو الساعة الثالثة عندما بدأ تاريخ البشريّة من جديد، وذلك خلال فلك نوح ومعموديّته بالطوفان الإلهي، نزل الرب يطلب له فعَلَة يعملون في كرمه، مقيمًا ميثاقًا مع نوح ومع نسله من بعده (تك 9: 8).
ونحو الساعة السادسة، إذ بدأت البشريّة المؤمنة تاريخًا جديدًا خلال أب المؤمنين إبراهيم، نزل إليها الرب ليقطع عهدًا معها في شخص إبراهيم ليجعله أبًا لجمهور من الأمم (تك17 : 4-8)، ووضع له علامة العهد في جسد كل ذكر من نسله خلال الختان، فظهر فعَلَة جبابرة من الآباء مثل اسحق ويعقوب.
وفي نحو الساعة التاسعة أيضًا عندما تسلّمت البشريّة المؤمنة الناموس المكتوب بإصبع الله على جبل سيناء على يدي موسى، طلب الله فعَلَة له، هم أنبياء العهد القديم الذين يعملون لحساب ملكوته.
أخيرًا في وقت الساعة الحادية عشرة، أي الساعة الأخيرة (1 يو 1: 28)، في ملء الزمان نزل الرب متجسّدًا لكي يجمعنا نحن الذين كنّا بطّالين طول النهار، ضمّنا من الأمم التي لم تكن تعرف الله كل أيامها، كما من السوق لم يستأجرها أحد من قبل، ودخل بنا إلى كرْمه الإلهي لنعمل بروحه القدّوس لحساب ملكوته السماوي.
هذه هي الساعات الخمس لنهار البشريّة كلها الزمني، وقد جاءت بنا أواخر الدهور لننتظر مجيئه الأخير، ونقبل المكافأة من يديه مع كل أحبّائنا الفعَلَة الذين سبقونا في العمل.
- يا لهذه النعمة العظيمة التي لا توصف! إبراهيم المؤمن لم يدخل بعد الفردوس… أمّا اللص فدخله. وموسى لم يدخل، أمّا هذا اللص فدخله بالرغم من مخالفته الناموس.
وهذا ما يقوله القدّيس بولس الرسول مندهشًا: “حيث كثرت الخطيّة ازدادت النعمة جدًا” (رو 5: 20). إن هؤلاء الذين احتملوا ثقل النهار وحده لم يدخلوا بعد، أمّا صاحب الساعة الحادية عشرة فدخل. فلا يتذمّر أحد على رب البيت لأنه سوف يقول له: يا صاحب ما ظلمتَك؛ أو ما يحلّ لي أن أفعل ما أريد بمالي؟[4]
القدّيس كيرلّس الأورشليمي
رابعًا: وللعلامة أوريجينوس تفسير رمزي لهذه الساعات الخمس، فإنها وإن كانت تُشير إلى الحقبات الخمس السابقة (آدم، نوح، إبراهيم، موسى، السيِّد المسيح)، لكنها تمثّل دعوة الله لنا خلال الحواس الخمس لكي ما يدخل إلى قلبنا ويقيم مملكته فينا.
فالمرحلة الأولى التي تبدأ بآدم تمثل دعوة الله لنا خلال حاسة اللمس، فقد قالت حواء للحيّة “قال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا” (تك3: 3). فإن كان الله قد أوصاهما ألا يمسَّا ثمرة الشجرة حتى لا يتعرّضا للسقوط، فبالروح القدس يستخدم الله اللمس كطريق لأكل ثمرة شجرة الحياة والتمتّع بالملكوت الداخلي. لقد لمست المرأة نازفة الدم هُدْب ثوب المسيح، فتمتّعت بقوة خرجت منه، إذ يقول السيِّد: “قد لمسني واحد لأني علمت أن قوّة قد خرجت منّي” (لو 8: 46). إن كانت حواء قد فقدت الملكوت باللمس، فإن الأمم في شخص نازفة الدم تمتّعت بالملكوت خلال اللمس!
والمرحلة الثانية التي تبدأ بنوح ترمز للتمتّع بملكوت السماوات خلال تقديس حاسة الشمّ. فإنه إذ قدّم نوح ذبيحة شكر لله بعد تجديد الخليقة بالطوفان “تنسَّم الرب رائحة الرضا” (تك 8: 21)… هكذا يتنسَّم الله رائحة الرضا خلال ذبيحة المسيح عنّا، ونحن أيضًا نتنسَّم خلاله رائحة محبّته الفائقة، فننجذب إليه، ونتَّحد معه في الابن الوحيد الجنس.
والمرحلة الثالثة التي تبدأ بأب الآباء إبراهيم، هذا الذي أضافَ الله وملاكين على مائدته فصار رمزًا لتقديس حاسة التذوّق.
والمرحلة الرابعة التي يشار إليها بموسى النبي الذي ارتفع على جبل سيناء ليسمع صوتًا يدوي في الأعالي عند استلامه الناموس صار رمزًا لتقديس حاسة السمع.
والمرحلة الأخيرة يُشار إليها بمجيء ابن الله متجسّدًا، فرأيناه بعيوننا (1 يو 1: 1) فتقدّست حاسة النظر.
هكذا ملكوت الله الداخلي وهو يفوق الحواس، إنّما ينطلق فينا لنعمل لحسابه خلال تقديس حواسنا بالروح القدس.
خامسًا: في هذا المثل يضم السيِّد فعَلَة الساعة السادسة مع فعَلَة الساعة التاسعة إذ يقول: “وخرج أيضًا نحو الساعة السادسة والتاسعة وفعل كذلك” [5]، لأن فعَلَة هاتين الساعتين يمثّلان دعوة الشعب اليهودي للعمل، السادسة تمثل عهد الآباء يبدأ بإبراهيم فاسحق ثم يعقوب والتاسعة تمثل عهد الأنبياء يبدأ بموسى حتى ما قبل مجيء السيِّد المسيح. لكن الدعوة لم تكن في كل مراحلها هكذا، ففي المرحلة الأولى دُعيت البشريّة كلها للعمل في شخص آدم، والثانية أيضًا في شخص نوح، والأخيرة انطلقت الكرازة للأمم خلال كنيسة العهد الجديد. إن كان في الساعتين السادسة والتاسعة قدّم عهوده ووعوده ونبوّاته وناموسه خلال الآباء والأنبياء للشعب اليهودي، فقد حانت الساعة الأخيرة ليجد في السوق “آخرين قيامًا بطّالين” [6]، يسألهم: لماذا وقفتم ههنا كل النهار بطّالين؟! إنهم جماعة الأمم الذين عاشوا كل نهارهم في حالة بِطالة لا عمل روحي لهم، أضاعوا كل عمرهم في العبادات الوثنيّة الباطلة، فصاروا بطّالين كآلهتهم. لكنهم في تواضعٍ وانكسار قلبٍ قبلوا دعوة السيِّد المسيح، معترفين بحالهم: “لأنه لم يستأجرنا أحد” [7]. كانوا في شوقٍ للدعوة والعمل، فوجدوا في الصليب دعوتهم، وفي الروح القدس قوّة للعمل!
سادسًا: يكرّر السيِّد في هذا المثل كلمة “خرج” [ع 3، 5-6]؛ وقد كرّر معلّمنا متّى هذه الكلمة كثيرًا حينما تحدّث عن عمل الله مع البشريّة. وكأنه أراد أن يؤكّد لنا حقيقة هامة، وهي أن الله في حبّه للبشريّة لم ينتظرها ترتفع إليه، إذ تعجز عن فعل هذا، ولا طلب مبادرتها بالاعتذار عن خطئها، وإنما دائمًا وأبدًا هو الذي يبدأ بالخروج إليها بطريقة أو أخرى. خرج إليها في كل ساعة من ساعات النهار، وكأن لا عمل له غير خلاص الإنسان ومصالحته. إنه خرج إلينا بأعمال محبّته خلال خلقته كل شيء لأجلنا، وخرج إلينا بتقديمه ناموسه الإلهي، وخرج إلينا بإرساله الأنبياء وأخيرًا جاء إلينا بنفسه. خرج إلينا خلال تخلِّيه عن أمجاده، وخرج إلينا إلى الجلجثّة ليلتقي بنا على الصليب فيحملنا إليه خارج المحلّة.
سابعًا: الدينار الذي قدّمه السيِّد المسيح للعاملين في كرمه – في رأي العلاّمة أوريجينوس – هو الخلاص[5]. فقد وهب لأصحاب الساعة الحادية عشرة نعمة الخلاص، الأمر الذي تمتّع به أيضًا السابقون.
ويرى القدّيس أغسطينوس أن الدينار الذي يوهب للفعَلَة إنّما هو الحياة الأبديّة، قائلاً: [في هذا الأجر نتساوى جميعًا، يكون الأول كالآخر، والآخر كالأول، لأن ذلك الدينار هو الحياة الأبديّة، وفي الحياة الأبديّة الكل متساوون. بالرغم من اِختلاف ما يبلغ إليه القدّيسون فيضيء البعض أكثر والآخر أقل، إلاّ أن عطيّة الحياة الأبديّة متساوية للجميع، فلا تكون طويلة لواحد وقصيرة لآخر هذه التي هي أبديّة للجميع بلا نهاية[6].]
ويرى القدّيس جيروم: “الدينار” يحمل صورة الملك، لذلك إذ تذمر الأوّلون وهم يتسلّمون المكافأة كان يوبّخهم، [إذ تتسلّمون المكافأة التي وعدت بها أي صورتي ومثالي، فماذا تطلبون بعد؟!] أخيرًا يمكننا القول أن المكافأة هي التمتّع بالسيِّد نفسه فينا!
لكن هل الذي ينال المكافأة أي الخلاص أو الامتثال بالسيِّد المسيح نفسه خلال التمتّع به داخلنا يتذمر؟ إن ما قاله السيِّد مجرّد مثال ليكشف جوانب معيّنة أو فكرة معيّنة. فما عناه السيِّد هو نزع أنانيّة اليهود الذي يظنّون أن الخلاص لهم وحدهم والمسيّا قادم لهم دون غيرهم، فلو أنهم علموا أن ما يتمتّعوا به لا يمكن أن ينالوا ما هو أكثر منه [10]، لما تذمروا على فتح باب الخلاص للأمم وتقديم المسيّا حياته للجميع. لكن في المساء لا يوجد حسد ولا غيرة بل هي “ملكوت الحب”.
ثامنًا: كان السيِّد رقيقًا للغاية في عتابه بالرغم من الكلمات الجارحة التي سمعها من المتذمرين الذين قالوا:” هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة، وقد ساويْتهم بنا نحن الذين احتملنا ثِقل النهار والحر” [12]. فمن جهة دعوا إخوتهم “هؤلاء الآخرون” كمن يستنكفون منهم، أمّا السيِّد فيجيب أحدهم: “يا صاحب”، وكأنه يتحدّث معه كصديق مع صديقه يتحاجج معه، وليس كرّبٍ يأمر عبده؛ ومن جانب آخر يتذمَّرون أنهم احتملوا ثقل النهار وحرّه مع أن أعمالهم باطلة إن قورنت بالمكافأة الأبديّة المعدّة لهم.
تاسعًا: سرّ التذمر هو الحسد، فقد أخذوا مالهم، ما اتفق به السيِّد معهم، لكن ما أحزنهم أن ينال اخوتهم مثلهم. لم يقم حزنهم على حرمانهم من شيء، وإنما من أجل الخير الذي ناله الغير. لهذا وبّخهم السيِّد: “يا صاحب ما ظلمتك، أمّا اتّفقت معي على دينار؟ فخذ الذي لك واذهب، فإني أريد أن أعطي الأخير مثلك، أو ما يحلّ لي أن أفعل ما أريد بمالي؟! أم عينك شرّيرة لأني أنا صالح؟! هكذا يكون الآخرون أوّلين والأوّلون آخرين” [13-15].
عاشرًا: يختم السيِّد المسيح حديثه: “هكذا يكون الآخرون أوّلين، والأوّلون آخرين، لأن كثيرين يُدعون، وقليلين يُنتخبون” [16].
الملكوت والصليب
إذ كان السيِّد يقترب إلى أورشليم ليقدّم نفسه حملاً للفصح كان يبرز مفهوم ملكوت السماوات والدعوة إليه والاستحقاق له. خلال أعماله الخلاصيّة من صلب وموت وقيامة. فإن لا ملكوت بغير الصليب، ولا حق لنا للتمتّع به والعمل لحسابه خارج دم السيِّد المسيح غافر الخطايا. لهذا بعدما عرض الإنجيلي المثل السابق الخاص بالمدعوّين للملكوت خلال كل التاريخ البشري من يهود وأمم قال: “وفيما كان يسوع صاعدًا إلى أورشليم أخذ الاثني عشر تلميذًا على انفراد في الطريق، وقال لهم. ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت. ويسلّمونه إلى الأمم لكي يهزءوا به ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم” [17-19].
لقد أخذ تلاميذه على انفراد ليحدّثهم عن الأسرار الخاصة بالملكوت التي لم يكن ممكنًا للجماهير اليهوديّة في ذلك الحين أن تتقبّلها، وحتى التلاميذ كانوا غير مدركين لها. ففي المظهر الخارجي تجتمع المدينة لاستقباله كملك، أمّا هو فعيناه تتطلّعان إلى الصليب بكونه طريق الملكوت الأوحد، وكأن السيِّد يُشير إليهم أنه قادم للصليب بإرادته، يعمل ما هو ذاهب إليه، وبهذا يشجّعهم أيضًا على حمل الصليب معه.
- سبق فأخبر تلاميذه عن آلامه حتى إذ يتيقّظون متوقّعين حدوثها يستعدّون لملاقاتها[7].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- بهذا يتعلّمون أنه يعرف مقدّمًا آلامه العتيدة، وأنه كان يمكنه بسهولة أن يتجنّبها، لكنّه ذاهب ليلتقي بها بإرادته. لقد أخبرهم أن كل هذه الأمور التي سبق فأعلنها الأنبياء القدّيسون يدبّرها الله حتى لا يتعثّر أحد عندما تتحقّق[8].
القدّيس كيرلّس الكبير
- لأنه محب البشر فقد رحَّب بالموت الذي بدونه لهلك العالم في خطاياه[9].
القدّيس كيرلّس الأورشليمي
- الملكوت وأم ابني زبدي
بينما كان السيِّد يتَّجه نحو أورشليم ليقدّم حياته فدية عن البشريّة، فيتأهَّل الجميع للتمتّع بالملكوت السماوي تقدّمت إليه أم ابنيّ زبدي، وقد أدركت كيف اهتزّت قلوب الكثيرين تطلب السيِّد المسيح ملكًا، فاشتاقت أن يجلس ابناها واحد عن يمينه والآخر عن يساره في الملكوت. كانت أم ابنيّ زبدي تمثل الفكر اليهودي، فتطلب لابنيها المُلك الزمني بطريقة ماديّة ملموسة، تحمل السلطة والعظمة، ولم تعلم أن الملكوت الخفي هو في الصليب الحامل لقوة القيامة.
هنا يوجِّه السيِّد حديثه نحو ابنيها ليكشف لهما طريق العظمة الحقيقيّة، قائلاً: “لستما تعلمان ما تطلبان؛ أتستطيعان أن تشربا الكأس التي سوف أشربها أنا؟! وأن تصطبغا بالصبغة التي اَصطبغ بها أنا؟! قالا له: نستطيع. فقال لهما: أمّا كأسي فتشربانها، وبالصبغة التي اَصطبغ بها أنا تصطبغان، وأما الجلوس عن يميني وعن يساري، فليس لي أن أُعطيه إلا للذين أُعِدّ لهم من أبي” [22-23]. لقد وجَّه أفكارهما إلى كأس الصليب وصبغة الألم، يشربان كأسه ويُدفنان معه في معموديّته (صبغته) ليقوما معه. وإذ ظنَّا أنهما يستطيعان ذلك لم يحطِّم نفسيَّتِهما، وإنما وجَّهها إلى الآب الذي يُعد الإكليل لكل أحد. وكأنه أراد أن يقول لهما: وأنتما تظنّان أنكما قادران على شرب كأسي والدخول معي إلى معموديّة موتي، إنّما تحتاجان إلى قوّة من الأعالي لكي تستحقّا المجد الإلهي. إنكما ستشربان كأسي وتُدفنان معي، لكن هذا ليس عملكما الذاتي، إنّما هو عمل إلهي يوهَب لكما مجانًا.
يقول القدّيس أمبروسيوس: [يمكننا أن نفهم “ليس لي أن أعطيكم” بمعنى آخر وهو أنّني قد جئتُ لكي أعلِّم التواضع..، ما جئتُ لأُظهِر العدل بل لأقدّم حنوًا (أي أنه ليس وقت لتقديم الإكليل[10]).]
ليتنا نتقدّم إلى حضرة ربّنا يسوع المسيح كأم ابنيّ زبدي، فيقدّم كل منّا روحه وجسده كابنين له، لا ليطلب لهما راحة زمنيّة أو كرامة باطلة مؤقّتة، وإنما لكي يدخل بهما روحه القدّوس إلى كأسه فيشربانها ويتمتّعا بالدفن معه، ويقوما حاملين سِمات المُقام من الأموات سرّ مجد لهما. عندئذ ينتظر الإنسان الإكليل الأبدي.
يُعلّق العلاّمة أوريجينوس على كلمات السيِّد لأم ابنيّ زبدي، قائلاً: [من يشرب الكأس التي شربها الرب يسوع سوف يجلس ويملك ويحكم إلى جانب ملك الملوك. هذا هو كأس الخلاص، من يأخذه يدعو باسم الرب. وكل من يدعو باسم الرب يخلُص (يؤ 2: 32، أع 2: 21، رو 10: 13)[11].]
يشجّعنا القدّيس جيروم على الجهاد لننال مجدٍ أعظمٍ في الحياة الأبديّة خلال التواضع، قائلاً: [لو أننا جميعًا نكون متساوين في السماء فباطلاً نتّواضع هنا لنصير عظماء هناك[12].]
أخيرًا يرى القدّيس أمبروسيوس في تصرُّف هذه الأم جانبين، الأول أنها أخطأت في طلبها، أمّا الثاني فيغفر لها خطأها أنها بقلب الأم المملوء محبّة لم تفكر في نفسها بل في ابنيها[13].
لا طريق للمجد الأبدي خارج الصلب معه والدفن أيضًا. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هكذا يليق بنا أن نسلك في نفس الطريق حتى نشاركه المجد والكرامة… ما أمجد الآلام! بها نتشبّه بموته.] لكننا لا نقدر أن ندخل هذا الطريق بأنفسنا، لذا يؤكّد لنا السيِّد أنه اختارنا (يو 15: 16)، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [الفضل هنا هو لصاحب الدعوة، وما على المدعوّين إلاّ الطاعة [14].] كما يقول: [لا نقدر أن نجري في طريق الله إلاّ محمولين على أجنحة الروح[15].] [الذين يعاقبون فمن أجل العدالة، أمّا الذين يكلّلون فمن أجل النعمة. فلو أنهم مارسوا ألف عمل صالح إنّما يتمتّعون بالسماء والملكوت مقابل هذه الأعمال الصغيرة لأجل حرّية النعمة، فيرتفعون إلى ما لا يقاس[16].]
أما ما يستدر حنو الله فيوهب لنا بلا كيل فهو تواضعنا، إذ يقول الإنجيلي: “فلما سمع العشرة اغتاظوا من أجل الأخويْن. فدعاهم يسوع، وقال: أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم، والعظماء يتسلّطون عليهم، فلا يكون هذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيمًا، فليكن لكم خادمًا. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبدًا. كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين” [24-28].
لم يكن سهلاً على التلاميذ حتى هذه اللحظات أن يتفهّموا سرّ الملكوت السماوي، لهذا اغتاظوا من أجل الأخويْن، وعِوض أن يفرحوا ويتهلّلوا بكل نفسٍ تلتقي مع الملك لكي تملك معه اغتاظوا. كان الملكوت حتى هذا الوقت سباقًا نحو المجد الأرضي وحب السيطرة، لكن السيِّد وجَّه أنظارهم إليه هو بكونه ما جاء ليخدِمهُ الآخرون بل يخدِم الآخرين، مقدّمًا حياته فِدية عنهم. لم يأتِ ليسود مع أنه هو السيِّد، وإنما جاء كعبدٍ ليمد يده فيغسل الأقدام المتّسخة. فالملكوت في جوهره هو اتّحاد مع الله في ابنه يسوع المسيح، وبروحه ندخل في سِباق نحو اِحتلال الصفوف الأخيرة، كعبيد نخدم الآخرين لنرفعهم بالروح القدس من عبوديّة الخطيّة إلى مجد أولاد الله خلال اتّحادهم بابن الله الوحيد! ما أجمل تعبير الرسول بولس: “اسْتعبَدت نفسي لكثيرين”. ما كان يمكنه أن يقبل هذا، ولا استطاع أن ينفّذ ما لم يتّحد في الابن الوحيد الذي صار عبدًا من أجلنا! بقدر ما تُصلب الأنا ويرفض الإنسان الكرامة ينطلق بالروح القدس نحو أمجاد الملكوت السماوي، متنعّمًا بثماره أيضًا هنا كمجدٍ داخليٍ ونعمٍ إلهيّة لا تُقدر.
يقدّم لنا القدّيس أغسطينوس تعليقًا على كلمات السيِّد بخصوص خدمة الآخرين والبذل من أجلهم، هكذا: [كل واحد هو خادم للمسيح على نفس الطريقة التي بها المسيح أيضًا خادم. ومن يخدم المسيح هكذا يكرمه أبوه كرامة عظيمة، إذ يجعل ابنه معه، ولا يعوزه شيئًا من السعادة الأبديّة[17].] ويكمّل القدّيس حديثه عن الخدمة والخدّام، قائلاً: [لا تفكّروا فقط في الأساقفة والكهنة الصالحين، وإنما كونوا أنتم أيضًا خدّاما للمسيح بالطريقة الخاصة بكم، خلال حياتكم الصالحة وتقديم الصدقة والكرازة باسمه والتعليم قدر ما تستطيعون. فكل أب عائلة يعرف خلال هذا اللقب العاطفة التي يحملها كوالد لهذه العائلة. لينذِر كل أهل بيته، ويعلّمهم وينصحهم ويُصلِح من أمرهم من أجل المسيح ومن أجل الحياة الأبديّة. بهذا يمتلئ البيت من العمل الكنسي ويقوم الأب بنوع من العمل الأسقفي، خادمًا المسيح ليبقى معه إلى الأبد. فإنه حتى خدمة الآلام السامية جدًا قد مارسها كثيرون من طبقتكم (أي من الشعب). فإن كثيرين من الشبَّان والعذارى، من الرجال والنساء، آباء وأمهات، ليسوا أساقفة ولا كهنة خدموا المسيح بتسليم حياتهم للاستشهاد من أجله، فكرَّمهم الأب بقبول أكاليل مجد متزايدة[18].]
- الملكوت والاستنارة
إن كنّا قد رأينا الله نفسه رب البيت هو الذي اختارنا لملكوته، ودعانا كفعَلَة في كرْمه، موضّحًا لنا أنه لا يمكن أن نتمتّع بملكوته خارج صليبه، ومؤكِّدًا التزامنا بالصليب معه كعطيّة إلهيّة، فنحمل صليب ربّنا بروح الخدمة في تواضع، فإن الإنجيلي يختم الحديث بتفتيح عينيّ الأعميين الجالسين على الطريق عند أريحا قبل دخوله أورشليم ليُصلب.
لعلّ هذه هي آخر معجزة علنيّة صنعها السيِّد قبل دخوله أورشليم ليُصلب ليؤكّد حاجة البشريّة – اليهود والأمم – إلى البصيرة الداخليّة كعطيّة شفاء إلهي حتى يعاينا الملكوت السماوي. لقد عاش اليهود زمانًا طويلاً كنسل إبراهيم حسب الجسد، يحفظون الناموس ويسجّلون النبوّات، ومع هذا كانت بصيرتهم الداخليّة قد أصابها العمى الروحي بسبب تفكيرهم الحرفي والمادي. وكأن الأمم أيضًا قد قضوا زمانهم في العبادة الوثنيّة التي ثقَّلت نفوسهم بالظلمة، فلا يطلبون غير متعة الجسد وكرامة العالم. لقد وقف الجميع – اليهود والأمم – كأعميين في الطريق لم يدخلا بعد إلى أورشليم، غير قادرين على معاينة الأمجاد، حتى يتقدّم ابن داود الملك المسيّا الذي تنتظره البشريّة، يسألهما: “ماذا تريدان أن أفعل بكما؟” [32].
في الوقت الذي فيه يُعلِن متّى البشير تفتيح أعين الأعميين إشارة إلى استنارة بصيرة المؤمنين من اليهود والأمم، اكتفي الإنجيليّان مرقس ولوقا بذكر أعمى واحد ممثِّلاً البشريّة في قبولها الإيمان ككنيسة واحدة بلا تمييز بين يهودي وأممي.
يقول القدّيس أغسطينوس: [من هما الأعميان الجالسان على الطريق؟ إنهما هذان الشعبان اللذان جاء المسيح ليشفيهما!… اليهود والأمم، محقّقًا ما وعد به إبراهيم “ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض” (تك 22: 18). لذلك ذهب أيضًا الرسول بعد قيامة الرب وصعوده إلى الأمم عندما ازدرى بهم اليهود… لذلك أيضًا دعا السيِّد حجر الزاوية (1 تس 2: 20) “الذي جعل الاثنين واحدًا” (أف 2: 14)، إذ يضم حجر الزاوية حائطين في اتّجاهين مختلفين. وأي اِختلاف مثلما كان بين المختونين والغُرْل، فقد أقام حائطًا من اليهود وآخر من الأمم، جمعهما معًا حجر الزاوية، لأن “الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأسًا للزاوية” (مز 118: 22)… إذن، فالأعميان اللذان كانا يصرخان إلى الرب إنّما هما الحائطان في هذا المثال[19].]
ويعلّل الأب غريغوريوس (الكبير) ذكر هذه المعجزة قبل دخول السيِّد أورشليم ليُصلب، قائلاً: [إذ كان التلاميذ لا يزالوا جسديّين لم يستطيعوا فهم كلمات السرّ، لذلك تمّم المعجزة. لقد فتح عينيّ الأعمى لكي يثبت إيمانهم خلال علامات من السماء[20].]
إن عدنا للأعمى أو الأعميين، فإنه ما كان يمكن أن يتمتّع بتفتيح عينيّه ما لم يدرك أولاً حاجته إلى النور وإدراكه لقوة السيِّد المسيح الشافي النفس والجسد.
يقول البابا كيرلّس الكبير: [وُجد أناس كثيرون حول يسوع… لكن الأعمى شعر بحضرته وتمسَّك به في قلبه هذا الذي لم تستطع عيناه الجسديَّتان أن تراه.] أمّا سرّ شفائه فهو صوت المسيح واهب النور، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [صوت المسيح نور للأعمى، لأنه كلمة النور الحقيقي.]
عند شفائهما يقول الإنجيلي: “وقف يسوع وناداهما” [33]. إذ اقتربا إليه بقلبيهما بالإيمان نعِما بالاقتراب إليه أيضًا بالجسد وسمعا صوته. الإيمان يُحضرنا إلى السيِّد المسيح حتى نستحق الوجود معه وسماع صوته.
كان الأعميان يصرخان، قائلين: “ارحمنا يا سيّد يا ابن داود” [30]، ومع هذا يسألهما: “ماذا تريدان أن أفعل بكما؟” إنه يقدّس الإرادة الإنسانيّة التي كلَّلنا بها. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [الله لا يقيِّد رغباتنا أو إرادتنا بعطاياه، لكن ما نكاد نبدأ ونُظهر الاستعداد حتى نجده يعرض علينا فرصًا عديدة للخلاص[21].]
أما الصرخات التي يلزمنا أن نقدّمها للسيّد أثناء اجتيازه، فهي صرخات الإيمان العامل. يقول القدّيس أغسطينوس: [من أجل محبّة هذا النور أريد أن أحثِّكم أيها الأحباء إنه يلزم أن تصرخوا بالأعمال الصالحة عندما يجتاز يسوع، فيسمع صوت إيمانك ويقف يسوع غير المتغيِّر… يفتح أعينكم[22].]
- حب المسيح!
اُطلب النور الذي هو المسيح!
إن كان الأعمى يحبّ نور الجسد، كم بالأكثر يلزمنا أن نتوق إلى نور النفس؟ لنصرخ إليه لا بكلمات وإنما بالحياة الفاضلة…
الجماهير تنتهر الأعمى لكي لا يصرخ! يوجد مسيحيّون ليسوا بقليلين، هؤلاء يطلبون أن يعوقوننا عن الحياة، وذلك كالجمهور الذي سار مع المسيح وأعاقوا الصارخ للمسيح. كان الأعمى جائعًا للنور من حنوّ المسيح.
يوجد مسيحيّون كهؤلاء لكي نغلبهم ونحيا في الفضيلة، فتكون حياتنا هي الصوت الصارخ للمسيح. لنحيا الحياة الفاضلة؛ بهذا نصرخ إليه![23]
القدّيس أغسطينوس
- عملنا جميعه في هذه الحياة أيها الإخوة أن تُشفى عينا القلب اللتان بهما نُعاين الله! هذا هو غاية احتفالنا بالأسرار المقدّسة، وهدف البشارة بكرم الله!
- أيعطيك الله العين التي بها ترى الشمس التي خلقها، ولا يهبك تلك التي بها تراه هو نفسه خالقها، وقد خلقك على صورته؟ لقد وهبك إيّاها أيضًا! لقد أعطاك كليهما، لكن بمحبتك للعينين الخارجيّتين أكثر من العين الداخليّة، وباحتقارك للأخيرة صرت مريضًا وجريحًا[24].
القدّيس أغسطينوس
[1] Ser. on N. T. 37:8.
[2] Ser. on N. T. 37:11.
[3] PL 76:1153-1159.
[4] Lect 13:31.
[5] In Matt. 10.
[6] Ser. on N. T. 37:6.
[7] In Matt. hom 66.
[8] PG 123:1017.
[9] Cat. Lect 13.
[10] On Christian Faith 5:6.
[11] إلى الشهداء: فصل 4 (ترجمة موسى وهبة).
[12] Adv. Jovan. 2:33.
[13] On Christian Faith 5:5.
[14] In 1 Cor PG 61:12,13.
[15] PG 57: 30; 53:328.
[16] In Acts PG 60:124.
[17] In Ioan 51:12.
[18] In Ioan 51:13.
[19] Ser. on N. T. 38:10.
[20] In Evang, hom 2.
[21] De Mut. nom PG 51:143.
[22] Ser. on N. T. 38:16.
[23] PL 39:1539.
[24] Ser. on N. T. 38:5,6.