تفسير انجيل متى 24 – الأصحاح الرابع والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 24 - الأصحاح الرابع والعشرين - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 24 – الأصحاح الرابع والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 24 – الأصحاح الرابع والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الرابع والعشرون
علامات مجيء الملكوت
حديث السيِّد المسيح عن مجيء الملكوت السماوي يشغل أذهان الكثيرين بكونه حديثًا نبويًا، أعلن عن مجيء الملكوت الأخروي، ومجيئه في كنيسة العهد الجديد، كما يمتزج بمجيئه داخل النفس.
- هدم الهيكل القديم 1-2.
- ظهور مسحاء كذبة 3-5.
- قيام حروب وكوارث 6-7.
- حدوث مضايقات 8-10.
- ظهور أنبياء كذبة 11-14.
- رجسة خراب الهيكل 15.
- وصايا للدخول في الملكوت 16-20.
- الضيقة العُظمى 21-22.
- ظهور مسحاء كذبة 23-28.
- انهيار الطبيعة 29.
- ظهور علامة ابن الإنسان 30-31.
- مثل شجرة التين المخضرّة 32-34.
- تأكيد مجيئه 35-36.
- الاستعداد لمجيئه 37-40.
- مثَل العبد والسيِّد القادم 41-51.
- هدم الهيكل القديم
“ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل،
فتقدّم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل.
فقال لهم يسوع: أما تنظرون جميع هذه،
الحق أقول لكم أنه لا يُترك ههنا حجر على حجر لا يُنقض” [1-2].
كان اليهود يتطلّعون إلى الهيكل بكونه علامة ملكهم، فهو الموضع الوحيد الذي فيه يُعلن الله مجده ويتقبّل من أيدي مؤمنيه الذبائح والتقدمات. أينما وُجد المؤمن، وحلت به ضائقة، تطلّع نحو الهيكل لينعم بعونٍ إلهيٍ. وكانت أبنية الهيكل بضخامتها علامة عظمة ملكوتهم، لهذا أراد التلاميذ أن يُرُوا السيِّد المسيح هذه المباني، لكن السيِّد أكّد لهم: “لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض”. فماذا أراد السيِّد بكلماته هذه؟
كان الهيكل مع قدسيَّته قد تحوّل في حياة اليهود بسبب ريائهم وفكرهم المادي إلى عقبة أمام العبادة الروحيّة. فقد انشغلوا بعظمة الهيكل الخارجي عن قدسيَّة هيكل القلب الداخلي، فكانوا يهتمّون عبر العصور بإصلاح المباني لا القلب، الأمر الذي كرّس أغلب الأنبياء حياتهم لتصحيح هذا المفهوم خاصة إرميا النبي. فمن كلماته المشهورة: “لا تتّكلوا على كلام الكذب، قائلين: “هيكل الرب، هيكل الرب هو” (إر 7: 4). وجاء بعده حزقيال النبي يُعلن لهم ثمرة اهتمامهم بالمبنى دون الحياة الداخليّة أن مجد الرب يفارق البيت (حز 10: 18-19)، بل ويفارق المدينة كلها (حز 11: 22-23).
ما قاله السيِّد قد تحقّق حرفيًا عام 70م. حين أصرّ الجنود الرومان تحت قيادة تيطس على هدم الهيكل تمامًا، وكان ذلك إعلانًا عن قيام الهيكل الجديد لكنيسة العهد الجديد بمفاهيم جديدة.
على أي الأحوال، هذا هو عمل الروح القدس في مياه المعموديّة أن يحطم إنساننا القديم، فلا يترك حجر على حجر من أعماله الشرّيرة فينا، ويقوم هيكل جديد ليس من صنع أيدينا، هو الإنسان الجديد على صورة خالقنا. هذا العمل هو بداية حلول الملكوت فينا، وعربون للتمتّع بالملكوت الأخروي، خلاله ننتظر بفرح مجيء الرب كعريسٍ لنفوسنا.
- ظهور مسحاء كذبة
“وفيما هو جالس على جبل الزيتون تقدّم إليه التلاميذ على انفراد، قائلين:
قل لنا متى يكون هذا؟
وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر؟
فأجاب يسوع، وقال لهم: انظروا لا يضلّكم أحد.
فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين:
أنا هو المسيح، ويضلّون كثيرين” [3-5].
إن كان الله في إقامته للملكوت يُعلن ذاته فينا، حاسبًا إيّانا هيكله المقدّس، فإن عدوّ الخير لا يواجه هذا الأمر بالصمت، بل بالأحرى تزداد حربه ضدّنا. وكما يُقيم المسيح ملكوته فينا، يرسل الشيطان مضلِّلين مُدَّعين أنهم مسحاء لكي يقيموا مملكة إبليس داخل الإنسان.
لقد عبَّر التلاميذ بسؤالهم عن مجيء الرب الأخير عما يدور في أذهان البشريّة في كل العصور، وهو رغبتهم في معرفة المستقبل وتحديد الأزمنة. لكن السيِّد لم يحدّد مواعيد، مكتفيًا بتقديم العلامات، لا ليعرفوا الأزمنة، وإنما لكي لا يخدعهم المسحاء المضلّلون، الذي يظهرون لأجل مقاومة الحق تحت ستار الدين نفسه.
لقد تحوّل كثير من الكتاب الدينيّين ودارسي الكتاب المقدّس المعاصرين إلى الانشغال بتحديد أزمنة مجيء السيِّد، بل وقامت بعض الطوائف هي في حقيقتها غير مسيحيّة مثل شهود يهوه تحوّل كلمة الله من كلمة للخلاص والتمتّع بالملكوت السماوي، كملكوت حاضر داخل القلب إلى مناقشات فكريّة عقيمة تسحبنا إلى مجادلات فكريّة تخص تحديد الأزمنة، الأمر الذي يرفضه السيِّد تمامًا.
لقد أوضح السيِّد غاية حديثه هذا عن علامات مجيئه في نهاية الاصحاح، ألا وهو السهر الدائم وانتظار مجيء الملكوت على الدوام، أي تهيئة النفس لملاقاة العريس الأبدي لتدخل معه في شركة أمجاده.
- قيام حروب وحدوث كوارث عامة
“وسوف تسمعون بحروب وأخبار حروب.
انظروا لا ترتاعوا، لأنه لابد أن تكون هذه كلها،
ولكن ليس المنتهى بعد.
لأنه تقوم أُمَّة على أُمَّة، ومملكة على مملكة،
وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن.
ولكن هذه كلها مبتدأ الأوجاع” [6-8].
ليس عجيبًا أن تكون علامات مجيء السيِّد في مجموعها تمثِّل جوانب متعدّدة من الآلام والأتعاب والكوارث، فإن هذا هو الطريق الذي يهيئ لمجيئه، كيف؟ كلما أدرك عدوّ الخير أي الشيطان أن مملكة المسيح قادمة على الأبواب ازدادت حربه ضدّ المؤمنين لكي يقتنص ما استطاع كأعضاء في مملكته مقاومين مملكة المسيح. في هذا كلّه يزداد المؤمنون الساهرون والحكماء قوّة وثباتًا فيتزكّون، وكأنه خلال هذه المتاعب يملأ الشيطان كأس شرّه، وتمتلئ كأس المجاهدين بركة، فتقترب النهاية لكي ينال الشيطان وجنوده ثمار شرّهم ويتمتّع المجاهدون الحقيقيُّون بالإكليل.
أما بدء هذه الآلام التي يثيرها عدوّ الخير فهي تهيئة جوّ خانق للنفس من حروب وأخبار حروب وانقسامات على مستوى الأمم والممالك، وظهور أوبئة، وحدوث زلازل الخ. إنه يريد أن يحطَّم نفسيَّة الناس، فيرون إخوتهم كأشرار منقسمين يثيرون الحروب، فيعيشون في رعب خائفين من الحرب. والذين لا تلحقهم الحروب يتعرّضون للأوبئة والأمراض فيرتبكون خائفين على حياتهم الزمنيّة. وإن هربوا من الأمراض تلاحقهم الزلازل التي تتم فجأة. إن هدف عدوّ الخير أن يشغل المؤمن بعيدًا عن الفرح بمجيء المسيح، فيلهيه بالمشاكل الإنسانيّة (الحروب) والصحيّة بل والطبيعية (الزلازل)، وكأن العالم كلّه قد اسوَّد في عينيه، ليس من معين ولا من سند له.
إن تركنا المعنى الحرفي لنتأمّل في تمتّعنا بملكوت الله داخلنا، فإنّنا نلاحظ إنه ما أن يقترب المؤمن بالروح القدس نحو مسيحه حتى يجد عدوّ الخير يشغله بمشاكل كثيرة، تخص الآخرين أو جسده أو العالم المادي المنظور، فتلهيه عن خلاص نفسه وتفكيره في الملك المسيح.
- حدوث مضايقات
“حينئذ يسلّمونكم إلى ضيق، ويقتلونكم،
وتكونون مبغضين من جميع الأمم لأجل اسمي.
وحينئذ يعثر كثيرون، ويسلّمون بعضهم بعضًا،
ويبغضون بعضهم بعضًا” [9-10].
إذ يتقبّل الإنسان ملكوت الله داخله ينتقل من الضيقة العامة، أي الجو الخارجي الذي يثيره العدوّ ضدّ الملكوت بقصد إرباك المؤمنين وشغلهم عن المسيح، ليدخل بهم إلى ضيقات خاصة بهم، فيهيّج العدوّ الآخرين عليهم لمضايقتهم وقتلهم، لا لذنب ارتكبوه، وإنما من أجل “اسم المسيح”، وهذه هي جريمتهم. فالضيقة هي إحدى ملامح الطريق الأساسية للملكوت، إذ يمتلئ القلب من الداخل فرحًا بالمسيح الساكن فيه، بينما يُعصر في الخارج بالضيق.
- ظهور أنبياء كذبة
“ويقوم أنبياء كذبة كثيرون، ويضلّون كثيرين،
ولكثرة الإثم تبرد محبّة الكثيرين،
ولكن الذي يصير إلى المنتهى فهذا يخلّص.
ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم،
ثم يأتي المنتهى” [11-14].
هذا هو السهم الثالث الذي يصوِّبه عدوّ الخير ضدّ أبناء الملكوت. السهم الأول هو خلق جو عام قابض للإنسان يسحبه بعيدًا عن حياته الداخليّة، السهم الثاني هو تصويب الضيق إليه شخصيًا من أجل المسيح، أمّا الثالث وهو الأخطر فهو تصويب السهم ضدّ الإيمان، لينحرف به بعيدًا عن مسار الملكوت. فإن كان من الجانب التاريخي يظهر أنبياء كذبة يضلّلون الكثيرين، فإن هذا أيضًا يمكن أن يأخذ صورًا متعدّدة، كظهور فلسفات جديدة، ربّما تختفي وراء الدين، غايتها أن تقدّم أفكارًا برّاقة فلسفيّة وأخلاقيّة بعيدة عن الحياة مع المخلّص واختبار عمل الروح القدس الناري فينا. إنهم يلبسون ثوب النبوّة أو التديّن، لكنهم مضلِّلون يقودون النفس بعيدًا عن سرّ حياتها الحقيقي.
ويظهر ثمر هؤلاء الأنبياء الكذبة عمليًا إذ تبرد محبّة الكثيرين، فيصير التديُّن كلمات جوفاء ومعرفة ذهنيّة وفلسفات بلا روح. يفقد الإنسان قلبه، فلا يقدر أن يحب الله والناس بل يبقى كائنًا جامدًا. إن كان عمل إبليس هو بث البرود الروحي في حياة الناس، خاصة خلال الأنبياء الكذبة، فإن الله هو وحده الذي ينزع هذا البرود. وكما يقول القدّيس جيروم: [إن كان الله نارًا، فهو نار لكي يسحبنا من برود الشيطان… ليت الله يهبنا ألا يزحف البرود إلى قلوبنا، فإنّنا لا نرتكب الخطيّة إلا بعد أن تصير المحبّة باردة[1].]
هنا يقدّم لنا السيِّد وعدًا ليبعث فينا الرجاء، وهو أنه بقدر ما تنتشر الأضاليل ويخسر الكثيرون حياة الحب يعمل روح الله بقوَّة للكرازة بين الأمم في كل المسكونة. إنه صراع بين النور والظلمة، ينتهي بنصرة النور؛ مقاومة الباطل للحق تنتهي بتزكيَّة الحق ونموّه فينا.
- رجسة خراب الهيكل
في العبارات السابقة حدّثنا السيِّد عن نهاية الهيكل وخراب أورشليم بطريقة خفيَّة، أمّا هنا فيتحدّث علانيّة، إذ يقول: “فمتى نظرتم رِجْسَة الخراب التي قال عنها دانيال النبي قائمة في المكان المقدّس، ليفهم القارئ” [15]. هكذا كان السيِّد المسيح يدعوهم لقراءة سفر دانيال (9: 27)، ليتأكَّدوا من خراب الهيكل اليهودي.
ما هي رِجْسَة الخراب هذه؟
أولاً: يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [أنها تعني الجيش الذي به خربت أورشليم[2]]؛ نقلاً عن كلمات السيِّد نفسه: “ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش، فحينئذ اِعلموا أنه قد اِقترب خرابها” (لو21: 20). فقد دخل الأمم الهيكل ودنَّسوه بل وحطَّموه تمامًا، وكان ذلك علامة نهاية الملكوت الحرفي، وقيام الملكوت الروحي.
ثانيًا: يقول القدّيس جيروم: [يمكن أن تفهم عن تمثال قيصر الذي وضعه بيلاطس في الهيكل أو (تمثال) هادريان الفارسي الذي أُقيم في قدس الأقداس… في العهد القديم يُدعى التمثال بالرِجْسة، وقد أضيفت كلمة “خراب“، لأن التمثال قد وُضع في وسط الهيكل المهجور[3].] وقد أخذ القدّيس يوحنا الذهبي الفم بذات الرأي أيضًا[4].
ثالثًا: يرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه أن هذه الرِجْسَة إنّما تُشير لما يحدّث في أيام ضد المسيح إذ يقول: [أعطى الله علامة كاملة عن مجيئه الأخير، إذ يتحدّث عن أيام ضدّ المسيح. يسمِّيها رِجْسَة لأنه يأتي ضدّ الله ناسبًا كرامة الله لنفسه. إنها رِجْسَة خراب لأنه يدمر الأرض بالحروب والقتل. يقبله اليهود، فيأخذ موقف التقدّيس، وفي الموضع الذي تقام فيه صلوات القدّيسين يستقبلون الخائن كمن هو مستحق لكرامة الله. وإذ يصير هذا الخطأ شائعًا بين اليهود فينكرون الحق ويقبلون الباطل، لذلك يطلب الله (من شعبه) أن يتركوا اليهوديّة ويهربوا إلى الجبال حتى لا يعوقهم أتباعه ولا يؤثِّرون عليهم[5].]
- وصايا للدخول في الملكوت
“فحينئذ ليهرب الذين في اليهوديّة إلى الجبال،
والذي على السطح، فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا،
والذي في الحقل، فلا يرجع إلى ورائه ليأخذ ثيابه،
وويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام،
وصلّوا لكي لا يكون هربكم في شتاء ولا في سبت” [16-20].
من الجانب التاريخي إذ رأى المسيحيّون الذين في أورشليم الرومان يحاصرونها أدركوا ما سيحل بها من خراب، كقول الرب فهربوا سريعًا. وهذا ما يحدث عند مجيء ضدّ المسيح كما رأينا في كلمات القدّيس هيلاري السابقة، فإذ تراه الكنيسة قد أقام نفسه إلهًا في هيكل الرب (2تس1-4) تهرب إلى البرّيّة “حيث لها موضع مُعد من الله، لكي يعولها هناك ألفًا ومائتين وستين يومًا” (رؤ 12: 6).
وفي حياتنا الروحيّة إذ نرى هيكل الحرف ينهار في داخلنا، يلزمنا أن نهرب من اليهوديّة إلى الجبال، أي من حرفيّة اليهود في فهم الوصيّة إلى انطلاقة الروح العالية لتدخل إلى الفهم السماوي. وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [ليت الذين ينظرون هذا يهربون من حرف اليهوديّة إلى جبال الحق العالية. وإن صعد أحد إلى سطح الكلمة ووقف على قمّتها فلا ينزل ليطلب شيئًا من بيته، وإن كان في الحقل حيث يختبئ فيه الكنز فلا يرجع إلى الوراء، بل يجري من خطر خداع الكلمة الباطلة (ضد المسيح)، ويكون هذا على وجه الخصوص متى خلع ثوبه القديم فلا يرتدّ إليه ليلبسه مرّة أخرى[6].]
الجبال كما يقول القدّيس أغسطينوس: تشير إلى النفوس العالية[7] أو إلى القدّيسين حيث تستند التلال (النفوس الصغيرة) عليها. وكأن دعوة السيِّد المسيح للهروب هنا هي دعوة للالتصاق بالقدّيسين والشركة معهم.
يوصي السيِّد مَنْ كان قد ارتفع بالروح القدس من طابق إلى آخر كما من مجدٍ إلى مجدٍ حتى بلغ السطح ليرى السماء قدام عينيّه واضحة ومكشوفة، لا تعوقها الأسقف الطينيّة أي الأمور الزمنيّة، فلا ينزل ثانية لتبقى حياته في حالة صعود بلا نزول، مع انتظار على السطح لرؤية السيِّد قادمًا على السحاب فلا يعود يطلب الأمور الزمنيّة التي هي سُفليّة.
- السطح هو أعلى مكان في البيت، قمّة المبنى وكماله، لذلك من يقف عليه يكون كاملاً في قلبه، متجدِّدًا، غالبًا في الروح، ليحتفظ لئلا ينزل إلى الأمور الدنيا ويشغف بالممتلكات الزمنيّة[8].
القدّيس هيلاري أسقف بواتييه
- لنحذر في الضيقة من النزول عن المرتفعات الروحيّة ونرتبط بالحياة الجسدانيّة. ومن تقدّم لا ينظر إلى الوراء فيطلب الأمور الأولى ويتردّد راجعًا إلى الأمور السُفليّة[9].
القدّيس أغسطينوس
- من له ثوب المسيح فلا ينزل من السطح ليحضر ثوبًا آخر.
- لا تنزل من سطح الفضيلة لتطلب الملابس التي كنت ترتديها قديمًا، ولا ترجع من الحقل إلى البيت.
القدّيس جيروم[10]
- إن كان أحد على السطح، أي سبق فصعد إلى القمة حيث الفضائل العُظمى، فلا يعود ينزل إلى أعماق الأرض وهذا العالم. على السطح وقفت راحاب الزانية، رمز الكنيسة، واتّحدت في شركة الأسرار نيابة عن شعوب الأمم. خبَّأت الجاسوسين اللذين أرسلهما يشوع (يش 2: 1)، فلو نزلا إلى أسفل البيت لقتلهما الذين أُرسِلوا للقبض عليها. إذن السطح هو قمّة الروح حيث يتحصَّن الإنسان من ضعف الجسد الخائر بلا قوّة. هنا أفكر في المفلوج الذي حمله أربعة رجال ودلُّوه من السطح!… لنتبع بطرس الذي شعر بالجوع فصعد إلى سطح المنزل (أع 10: 9)، فهناك عرف سرّ نشأة الكنيسة، فما كان ينبغي له أن يحكم بنجاسة شعوب الأمم، لأن الإيمان يقدر أن يطهّرها من كل دنس… فإن كان بطرس لم يقدر أن يدرك هذا السرّ وهو أسفل، فكيف تستطيع أنت أن تفهمه (ما لم ترتفع إلى السطح)؟! لقد أدركه بطرس إذ صعد ليبشّر بالرب (إش 40: 9)[11].
القدّيس أمبروسيوس
ومن كان في الحقل الإلهي يعمل لحساب السيِّد المسيح فلا ينظر إلى الوراء، مرتبكًا حتى بضروريَّات الحياة كالأكل والشرب والملبس، إنّما ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام، ناظرًا جعالة الله العُليا. النفس التي خلعت ثوب أعمال الإنسان القديم وانطلقت إلى الحقل تعمل لحساب المسيح لا ترتد إلى الوراء لترتديه مرّة أخرى، بل تتمثل بيوسف بن يعقوب، إذ يقول القدّيس جيروم: [ليتك بالأحرى إن أمكنك أن تتمثل بيوسف، فتترك ثوبك في يد سيِّدتَك المصريَّة وتتبع ربَّك ومخلّصك عاريًا[12].]
- من كان في الحقل فلا يرجع إلى الوراء. ما هو هذا الحقل؟ لقد أعلمني إيّاه يسوع بقوله: “ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله” (لو 9: 12)… لتحرس حقلك إن كنت تريد بلوغ ملكوت الله، فيزهر لك أفعالاً صالحة خصبة، ويكون لك بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك (مز 127: 3)… ليدخل الرب يسوع في الحقل: “تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل” (نش 7: 11). فيقول: “دخلتُ إلى جنَّتي يا أختي العروس قطفتُ مُرّي مع طيبي، أكلتُ شهدي مع عسلي” (نش 5: 1). هل يوجد محصول أفضل من محصول الإيمان الذي يثمر أعمالاً صالحة ترتوي بينبوع الفرح الأبدي؟!
إن كان قد منعك من النظر إلى الوراء، فبالأحرى يمنعك من الرجوع لتأخذ ثوبك. فمن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فأترك له الرداء أيضًا (مت 5: 40)، فيليق بك لا أن تترك الخطايا فقط، بل وتمحو كل ذكرى لأعمالك السابقة، فكان بولس ينسى ما هو وراء (في 3: 13)، يخلع عنه الخطيّة ولا يترك التوبة[13].
القدّيس أمبروسيوس
خلال هذا الجهاد الحيّ الذي فيه نهرب من يهوديّة الحرف إلى حرّية الجبال المقدّسة، نرتفع على السطح لنرى السماوات مكشوفة، فلا ننشغل بغير مجيء المسيح الأخير، نعمل في الحقل ممتدِّين إلى قدَّام بلا تراجع من أجل الدخول في الأبديّة. يُعلن السيِّد الويْل للحبالى والمُرضِعات. من هن هؤلاء الحبالى إلا النفوس التي وإن عرفت السيِّد المسيح لكن ثمر الروح لم يُعلن بعد فيها، والمُرضِعات هن اللواتي يبدو ثمرهن كرضع صغار. مثل هؤلاء اللواتي بلا ثمر عملي أو قليلي الثمر لا يقدرن على مواجهة الأيام الصعبة خاصة أيام ضد المسيح قبل مجيء المسيح.
- النفس التي حبلت ولم تلد ثمرة الكلمة تسقط تحت هذا الويل، إذ تفقد ما حبلت به وتصير فارغة من رجائها في أعمال الحق. وأيضًا إن كانت قد ولدت لكن أطفالها لم ينتعشوا بعد[14].
العلاّمة أوريجينوس
ويرى بعض الآباء أن الحَبَل هنا إنّما هو الالتصاق بالخطيّة ليحمل الإنسان في داخله ثمر المُرّ، أمّا المُرضِعات فهنَّ النفوس التي أثمرت فيهن الخطيّة ثمارًا مُرّة. هؤلاء جميعهنَّ لا يستطعنَ الخلاص من ضد المسيح.
- لا يفهم هذا على أنه تحذير من ثِقل الحَبَل، وإنما يُظهر أثقال النفس المملوءة بالخطايا، التي لا تستطيع أن تهرب من السطح أو الحقل حيث يحلّ غضب الله. أيضًا ويل للمُرضِعات، إذ يَظهرنَ المتخلّفين في معرفة الله كمن يرضعْن لبنًا، ويل لهم لأنهم سيكونون ضعفاء جدًا غير قادرين على الهروب من ضدّ المسيح، غير مستعدين على مجابهته، إذ لم يتوقّفوا عن الخطيّة ولا أكلوا خبز الحياة.
القدّيس هيلاري أسقف بواتييه
- الحَبالى هم الذين يطمعون فيما ليس لهم، والرُضَّع هم الذين نالوا بالفعل ما طمعوا فيه، هؤلاء يسقطون في الويْل في يوم الدينونة.
القدّيس أغسطينوس
يطالبنا السيِّد أن نصلّي ألا يكون هربنا في شتاء ولا في يوم سبت، أي لا تكون حياتنا قد أصابتها برودة الروح القاتلة كما في الشتاء، ولا حلّ بها وقت البطالة كما في السبت. فإن النفس الباردة والبطالة تسقط في خداعات المسيح الكذاب، ولا تقدر على ملاقاة رب المجد يسوع.
- قال هذا لكي لا نوجد في صقيع الخطيّة ولا في لا مبالاة من جهة الأعمال الصالحة، فيفتقدنا العقاب الخطير.
الأب هيلاري
- عندما يصنع ضدّ المسيح أضاليل أمام أعين ذوي الفكر الجِسداني (السالكون في الشتاء) يجتذبهم إليه، لأن من يُسر بالأرضيّات لا يتردّد في الخضوع له[15].
الأب غريغوريوس (الكبير)
- الضيقة العُظمى
“لأنه يكون حينئذ ضيق عظيم
لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون.
ولو لم تُقصَّر تلك الأيام لم يخلّص جسد.
ولكن لأجل المختارين تُقصَّر تلك الأيام” [21-22].
إنها الضيقة العُظمى التي تحل بالكنيسة في أيام ضدّ المسيح، الذي يصنع لنفسه سِِمة يَختم بها شعبه على يدهم اليُمنى أو جباههم (رؤ13: 15) ولا يقدر أحد أن يشتري أو يبيع إلا من له السِمة التي هي التجديف على الله. هكذا يُحرم المؤمنون من التعامل اليومي، إذ يرفضون رسم السِمة عليهم، ويضطرُّوا إلى الهروب إلى البراري أمام ضيقات ضد المسيح.
- ظهور مسحاء كذبة
سرّ الضيقة العُظمى هو ظهور ضدّ المسيح وأتباعه. كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [يتحدّث هنا عن ضدّ المسيح والذين يدعون مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، الذين يوجدون بكثرة حتى في أيام الرسل، أمّا قبل مجيء المسيح الثاني فيوجدون بأكثر حرارة.]
“حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدّقوا،
لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة،
ويعطون آيات عظيمة وعجائب،
حتى يضلّوا لو أمكن المختارين أيضًا.
ها أنا قد سبقت وأخبرتكم” [23-25].
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن [السيِّد قد أنهى حديثه عن أورشليم ليعبُر إلى الحديث عن مجيئه والعلامات التي تصحبُه، لا لإرشادهم هم فقط، وإنما لإرشادنا نحن أيضًا ومن يأتي بعدنا[16].]
يستخدم ضدّ المسيح وأتباعه كل وسيلة للخداع، مقدّمًا آيات وعجائب هي من عمل عدوّ الخير للخداع. لذلك فالحياة الفاضلة في الرب وليس الآيات هي التي تفرز من هم للمسيح ومن هم لضد المسيح. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [يحذّرنا الرب من أنه حتى الأشرار يقدرون أن يصنعوا معجزات معيّنة لا يستطيع حتى القدّيسين أن يصنعوها، فليس بسببها يحسبون أعظم منهم أمام الله.]
حقًا إن فكر ضدّ المسيح له خداعاته، ليس فقط خلال العجائب المضلّلة، وإنما يحمل أحيانًا صورة التقوى والنسك دون قوّتها، فيظهر في البرّيّة ويلتف حوله الكثيرون، كما يتسلّل إلينا خِفية داخل القلب، معلنًا اهتمامه بنا شخصيًا، لذلك يقول السيِّد: “فإن قالوا لكم ها هو في البرّيّة فلا تخرجوا، ها هو في المخادع فلا تصدّقوا [26].
ماذا تعني البرّيّة أيضًا إلا الحياة القفر من الإيمان، والخروج عن إيمان الكنيسة الجامعة، أمّا المخادع فتعني العمل في الظلمة بعيدًا عن نور الحق. وكما يقول الأب هيلاري: [لأن الأنبياء الكذبة الذين يتحدّث عنهم سيقولون أن المسيح في البرّيّة حتى يضلّوا البشر بعيدًا بواسطة الهرطقة، وفي المجامع السرّيّة (المخادع) لكي يأسرهم بقوِّة من هو ضدّ المسيح، أمّا المسيح فلا يكون مخفيًّا في موضع معيّن، ولا خاصًا بمجموعة قليلة، وإنما سيكون حاضرًا في كل موضع ومنظورًا أمام الجميع.] هذا يشبه السيِّد مجيئه بالبرق العلني: “لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان، لأنه حيثما تكون الجثّة فهناك تجتمع النسور” [27-28].
مجيء ابن الإنسان الأخير لا تتبعه آيات ومعجزات ولا يظهر في البراري ولا خِفية، وإنما يأتي في الأعالي على السحاب فجأة، كالبرق يُشرق على المسكونة كلها، ليحملنا من كل أركان العالم، ويرفعنا إلى سماواته. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [كما أعلن أولاً عن طريقة مجيء ضدّ المسيح، هكذا بهذه الكلمات يصف طريقة مجيئه هو، وكما أن البرق لا يحتاج إلى من يُعلن عنه ويخبر به بل يُنظر في لحظة في العالم، فإنه حتى بالنسبة للذين يجلسون في بيوتهم سيأتي ابن الإنسان ويُنظر في كل موضع دفعة واحدة بسبب بهاء مجده.]
يرى القدّيس جيروم في “المشارق والمغارب” إشارة إلى الكنيسة الجامعة التي يشرق الرب فيها دائمًا ببهائه كالبرق، إذ يقول: [إن وعدك أحد بأن المسيح يوجد في برّيّة الوثنيّين أو خيام الفلاسفة أو في مجالس الهرطقة السرّيّة (المخادع) وإنه هناك يقدّم معرفة أسرار الله فلا تصدّق، وإنما آمن بإيمان الكنيسة الجامعة الذي يضيء في الكنائس من الشرّق إلى الغرب.]
ويرى العلاّمة أوريجينوس أن المشارق والمغارب إنّما تُشير إلى النبوّات التي حملت إلينا نور الحق وقدّمت لنا حياة المسيح من مشرق ميلاده حتى مغارب آلامه وقيامته. فإن أردنا أن نلتقي بالمسيح الحقيقي يمكننا أن نبحث عنه في النبوّات الخاصة به.
ماذا يعني بقوله: “لأنه حيثما تكون الجُثّة فهناك تجتمع النسور؟” إن كان السيِّد المسيح قد قدّم جسده ذبيحة حب على الصليب فإن المؤمنين كنسور قويّة هائمة في السماويات لا تستقر إلا حول الصليب، تجتمع معًا لتَشبع بذبيحة الرب واهبة الحياة. وعلى العكس حيثما توجد جثّة ضدّ المسيح كجُثّة هامدة يجتمع حولها الأشرار كالنسور تطلب ما يناسب طبيعتها. فالقدّوس يجتمع به القدّيسون والشرّير يجتمع به الأشرار.
- لنتعلّم عن المسيح خلال مثالٍ من الطبيعة نراه كل يوم، يُقال عن النسور والصقور أنها إذ ترى الجثّة وراء البحار تجتمع معًا إليها لتتغذى عليها. فإن كانت الطيور تدرك بالغريزة الطبيعيّة على مسافات كهذه أين توجد الجُثّة الصغيرة، فكم بالأكثر يُسرع جموع المؤمنين إلى ذاك الذي يكون مجيئه كالبرق، فيظهر من المشارق إلى المغارب! إنه يقصد بالجُثّة تلميحًا لآلام المسيح وموته.
- “لقد دُعوا نُسورًا إذ يتجدّد مثل النسر شبابهم” (مز 103: 5) ويحملون أجنحة ليأتوا إلى آلام المسيح.
القدّيس جيروم[17]
- يتحدّث عن النسور المقدّسة بسبب الطيران الروحي لأجسادهم مُظهرًا أن الملائكة تجمعهم معًا إلى موضع آلامه. وبطريقة لائقة ننظر مجيئه في مجد، فإنه بالنسبة لنا قد اقتنى السيِّد المجد الأبدي بتواضع آلامه الجسديّة.
الأب هيلاري
- انهيار الطبيعة
“وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس،
والقمر لا يعطي ضوءه،
والنجوم تسقط من السماء،
وقوات السماوات تتزعزع” [29].
هذه الأمور ستتحقّق بلا شك حرفيًا قبل مجيء السيِّد المسيح الأخير. هذا ليس بالأمر العجيب، فإنّنا نعلم اليوم عن تساقط بعض النجوم وعن حدوث بعض انفجارات شمسيّة، هذا يتزايد جدًا في فترة ما قبل ضد المسيح وأثناءها للإنذار[18].
حقًا إنه لابد لكي يأتي ملكوت المسيح الأبدي في كمال مجده أن ينهار هذا العالم الحاضر، كقوله: “السماء والأرض تزولان” [35]، فيملك الرب علينا وفينا إلى الأبد، كما في أرض جديدة وسماء جديدة (رؤ21: 1)، لا تحتاج إلى شمس إذ يكون السيِّد نفسه شمسها، أمامه تفقد كل شمس بهاءها، ولا تحتاج إلى قمر حيث يُعلن بهاء الكنيسة كالقمر، ويُحسب المؤمنون ككواكب منيرة.
- الآن نهاية كل الحياة الزائلة، وكما يقول الرسول، تزول هيئة هذا العالم الخارجي ليتبعه عالم جديد؛ وعِوض الكواكب المنظورة يضيء المسيح نفسه بكونه الشمس الخليقة الجديدة وملكها. عظيمة هي قوّة هذه الشمس الجديدة، وعظيم هو بهاؤها، حتى أن الشمس التي تضيء الآن والقمر والكواكب الأخرى تظلم أمام هذا النور العظيم[19].
يوسابيوس القيصري
- كما أن القمر والنجوم يتضاءلون بسرعة أمام الشمس المشرقة، هكذا أمام ظهور المسيح تظلم الشمس ولا يعطي القمر ضوءه وتتساقط النجوم من السماء، فيُنزع عنها بهاؤها السابق لكي تلبس ثوب النور العظيم[20].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- تتم هذه الأمور لا بانطفاء النور الحالي، إذ نقرأ أن “نور الشمس يكون سبعة أضعاف” (إش 30: 26)، لكن بمقارنته بالنور الحقيقي تبدو كل الأشياء مظلمة.
القدّيس جيروم
هذا ويمكننا أن نفهم هذه النبوّة كعلامات تخص الكنيسة نفسها وكل عضو فيها. فإذ سأل الأسقف هسخيوس Hesychius القديس أغسطينوس عن مجيء المسيح الأخير والعلامات السابقة له، كتب إليه يطلب منه أن ينظر إلى هذه العلامات بطريقة رمزيّة.
ربّما يقصد بالشمس هنا نور معرفة المسيح الذي لا يكون له موضع في مملكة ضد المسيح المسيطرة على أغلب العالم، وكأن الشمس قد اِظلمت. والقمر التي هي الكنيسة إذ قيل عنها “جميلة كالقمر طاهرة كالشمس” (نش 6: 10) صارت مطرودة أمام مضطهديها، لا يمكن رؤيتها. وكأنها قمر لا يعطي ضوءه؛ ويسقط بعض الجبابرة كالنجوم الساقطة من السماء لتعمل لحساب ضد المسيح، ويتزعزع الكثيرون عن إيمانهم. إنها صورة مرعبة لهذه الفترة العصيبة التي يواجهها العالم كلّه قبل مجيء ابن الإنسان.
وما أقوله عن الكنيسة يمكن أيضًا تطبيقه على المؤمن كعضو فيها، فإنه إذ يقبل أفكار ضد المسيح أي ضدّ المسيح أو عدم الإيمان يفقد بصيرته الداخليّة. وكأن شمسه الداخليّة قد اظلمت، فلا يحمل نور المعرفة، وقمره لا يعطي ضوءه إذ فقد قلبه ملكوت النور وتحوّل إلى مملكة للظلمة. وتهوى كل مواهبه ودوافعه كالكواكب متساقطة من الحياة السماويّة المقدّسة إلى هاوية الفساد، ويتزعزع قلبه كقوات سماويّة تفقد طبيعتها العلويّة وتنحط إلى أفكار الجحود المهلكة!
- إذ يرتدّ كثيرون عن المسيحيّة يظلم بهاء الإيمان بسحابة الارتداد، فإن الشمس السمائيّة تُظلم أو تُشرق ببهاء حسب الإيمان.
وكما أن القمر يحدث له خسوف شهري لأن الأرض تأتي بين القمر والشمس، فيختفي عن النظر، هكذا في الكنيسة المقدّسة إذ تقف الرذائل الجسديّة في طريق النور السماوي تحجب بهاء النور الإلهي الصادر عن شمس المسيح. وفي أوقات الاضطهادات تقف محبّة الحياة الحاضرة في طريق الشمس الإلهيّة.
أما النجوم، أي البشر، فيحيط بهم مديح إخوتهم المسيحيّين، ليسقطوا أثناء تصاعد مرارة الاضطهاد الذي لابد أن ينتهي ويكمّل عدد المؤمنين فيتزكَّى الصالحون ويظهر الضعفاء[21].
القدّيس أمبروسيوس
- تتزعزع قوات السماء بسبب اضطهادات الأشرار حيث يمتلئ بالخوف حتى بعض الثابتين في الإيمان جدًا[22].
القدّيس أغسطينوس
- ظهور علامة ابن الإنسان
“وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء،
وحينئذ تنوح جميع قبائل الأرض،
ويبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوَّةٍ ومجدٍ كثيرٍ،
فيُرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت،
فيجمعون مُختاريه من الأربع رياح من أقصاء السماوات إلى أقصائها” [30-31].
بعدما تتشدَّد مملكة ضد المسيح لتُقاوم مملكة المسيح أي كنيسته، فتَظلمْ الشمس والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط وقوات السماوات تتزعزع، يأتي السيِّد نفسه في موكِبه الملائكي تتقدّمه علامة الصليب مُعلَنة في السماء، الأمر الذي يُفرِّح الكنيسة الحاملة للطبيعة السماويّة من أجل قدوم عريسها بينما يحزن جميع قبائل الأرض التي احتضنت ضد المسيح وصارت لا تطيق الحق.
- لنرى علامة الصليب، هذه التي يراها الذين طعنوه حسب نبوّة زكريّا ويوحنا (يو 19: 37) وهي علامة النصرة.
العلاّمة أوريجينوس
- إن كانت الشمس تَظلَم فإنه لا يمكن للصليب أن يظهر ما لم يكن أكثر بهاءً من الشمس! فلا يخجل التلاميذ من الصليب ولا يحزنون. إنه يتحدّث عنه كعلامة تظهر في مجد! فستظهر علامة الصليب لتُبكِم جسارة اليهود! سيأتي المسيح ليُدين مشيرًا إلى جراحاته كما إلى طريقة موته المملوء عارًا، عندئذ تنوح كل قبائل الأرض. فإنهم إذ يرون الصليب يفكِّرون كيف أنهم لم يستفيدوا شيئًا من موته، وأنهم صلبوا من كان يجب أن يعبدوه.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- حقًا يقول: “تنوح جميع قبائل الأرض” لأنهم ليسوا بمواطني السماء بل مكتوبين في الأرض.
القدّيس جيروم
- يراه المؤمنون كما غير المؤمنين، فإن الصليب والمخلّص يضيئان ببهاء شديد أكثر من الشمس، فيراهما الكل (المؤمنون يفرحون بالمخلّص المصلوب وغير المؤمنين يرتعبون منه)[23].
الأب ثيؤفلاكتيوس بطريرك سلفانيا
هكذا من الجانب النبوي تظهر علامة ابن الإنسان قبل مجيء السيِّد. أمّا في حياتنا الروحيّة فيبذل عدوّ الخير – ضد المسيح – كل الجهد لكي يملك على قلوبنا، مشتاقًا أن يطفئ شمس الحق فينا، ويفقدنا عضويتنا الحقّة في الكنيسة. فتصير الكنيسة بالنسبة لنا كقمرٍ لا يعطي ضوءه، ويعمل العدو بكل حيلة وخداعاته أن يسقط فينا كواكب المواهب والنعم الداخليّة، لكي يزعزع قوّات السماوات في قلوبنا.
أما السيِّد المسيح فيُسرع إلينا كما هو قادم من السماء، يدخل إلينا بمجده، مقدّمًا لنا صليبه علامة غلبته ونصرته فينا ولحسابنا، وعلامة حلوله داخلنا. فتنهار كل خداعات العدوّ الكثيرة وكل شهوة جسديّة وفكر أرضي في داخلنا، وكأنها قد صارت قبائل الأرض الشرّيرة التي تنوح حين يظهر السيِّد فينا بقوَّة الروح ومجده السماوي العظيم. ويرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فنشاركهم تسابيحهم وليتورجيَّاتهم، ويجمعون كل طاقات جسدنا كما من الأربعة رياح من أقصاء السماوات إلى أقصائها، لتعمل بانسجام وتوافق مع طاقات النفس لخدمة الملك السماوي.
مجيئه على السحاب
- سيرى البشر ابن الله بأعينهم الجسديّة قادمًا في شكل جسدي “في سحاب السماء”، أي قادمًا من السماء. وكما عند تجلِّيه جاء صوت من السحابة، هكذا يأتي مرّة أخرى متجلِّيًا في مجده، جالسًا لا على سحابة بل على سحابٍ كثيرٍ كأنه مركبة له!
إن كان عند صعوده إلى أورشليم كان الذين يحبّونه يبسِطون ثيابهم في الطريق حتى لا يطأ ابن الإنسان بقدميه على الأرض، راغبين ألا يلمس حتى الجحش الذي يركبه الأرض (مت 21: 8)، فأي عجب إن كان الآب إله الكل يفرش سحب السماء تحت جسد ابنه لأجل انقضاء الدهر؟
العلاّمة أوريجينوس
- يمكن أن يُفهم (مجيئه على السحاب) بطريقتين: إمّا أنه يأتي في كنيسته كما في السحاب، فإنه حتى الآن لا يمتنع عن أن يأتي، لكنّه يأتي فيما بعد بسلطان أعظم وعظمة، مظهرًا سلطانه وعظمته بالأكثر لقدّيسيه الذين يهبهم القوّة فلا تغلبهم تجربة عظيمة كهذه. أو أنه يأتي في جسده الذي جلس به عن يمين الآب. هكذا يليق بنا بحق أن نؤمن أنه سيأتي، ليس فقط في جسده ولكن أيضًا في السحاب، فقد تركنا (بالجسد) لكي يأتي إلينا مرّة أخرى. فقد “ارتفع وأخذته سحابة عن أعينهم” (أع 1: 9)، عندئذ قال الملاك: “سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء” (أع 1: 11)[24].
القدّيس أغسطينوس
- تفهم الأحداث الكبرى في علاقتها ببعضها البعض، فكما جاء في مجيئه الأول في تواضع هكذا يأتي في مجيئه الثاني في مجده اللائق[25].
القدّيس كيرلّس السكندري
- مثَل شجرة التين
“فمن شجرة التين تعلّموا المثَل،
متى صار غصنها رخصًا،
وأخرجت أوراقها تعلمون أن الصيف قريب،
هكذا أنتم أيضًا متى رأيتم هذا كلّه فاعلموا أنه قريب على الأبواب.
الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كلّه” [32-34].
بعد أن قدّم لنا السيِّد المسيح العلامات السابقة لمجيئه في نهاية الأزمنة كما في مجيئه ليملك علينا روحيًا ونحن على الأرض أي في حياتنا الروحيّة أراد أن يوجِّه أفكارنا إلى الجانب الروحي لا الاهتمام بالأوقات والأزمنة. كأنه يقول إن كنتم تعرفون أن تميّزوا الأزمنة فتُدركون أن الصيف قد اقترب خلال شجرة التين متى صار غصنها رخصًا وأخرجت أوراقها، فبالأولى والأهم أن تتطلّعوا إلى هذه العلامات التي قدّمتها لكم، وكأنها شجرة تين من خلالها تعرفون أن وقت مجيئه قد اقترب وكأنه صيف.
بقوله هذا، كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [يؤكّد لنا أن مجيئه أمر محقَّق حتمًا، ينبغي ألا يشك فيه كما لا نشك في مجيء الصيف. هكذا يليق بالمؤمن كلما ظهرت هذه العلامات من أتعاب وآلام، يُدرك بالأكثر رعاية الله له وسُكنى المسيح بالإيمان في قلبه… إنه يؤكّد لنا مجيئه المستمر فينا بتجلِّيه في داخلنا من يوم إلى يوم ليُعلن ذاته فينا.]
وفي هذا المثل أيضًا يؤكّد لنا السيِّد أن أمجاده مخفيّة في داخلنا كما في شجرة التين في فترة الشتاء، لكنّه إذ يحلّ فصل الصيف يُعلن المجد الخفي ونتكلّل علانيّة في يوم الرب العظيم. إننا الآن كمن هم في فصل الشتاء نظهر بلا مجد ولا جمال كأشجار جافة بلا أوراق ولا زهور أو ثمار، لكن الشتاء ينتهي وتظهر الحياة الكامنة في داخلنا.
شبَّه السيِّد مجيئه بالصيف لأنه يقدّم لنا جوًا حارًا للحب، حيث يلتهب قلبنا بأكثر حب عند رؤيتنا لعريس نفوسنا قادمًا فينا وإلينا. والصيف هو زمن الحصاد (إر 8: 20)، فيأتي الرب ليحمل فينا ثمره الروحي فيفرح بنا. لهذا تسأل النفس عريسها “ليأت حبيبي إلى جنّته ويأكل ثمره النفيس” (نش 4: 16)، ويجيب الرب العريس: “قد دخلتُ جنتي يا أختي العروس، قطفتُ مُرِّي مع طيبي، أكلتُ شهدي مع عسلي، شربتُ خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحبّاء” (نش 5: 1). إنه الوقت الذي يقطف فيه السيِّد بنفسه الثمر النفيس بكونه ثمرة هو فيها… يفرح ويتهلّل ويقيم وليمة، فيفرح معه السمائيون من أجل عروسه المثمرة!
ويرى بعض الآباء في شجرة التين رمزًا لليهود في عودتهم لتكوين مملكة كعلامة لنهاية الأزمنة، أو لقبولهم الإيمان بالمسيح يسوع الذي رفضوه قبل انقضاء الدهر، كما يرى البعض في شجرة التين رمزًا لظهور مملكة ضد المسيح.
- شجرة التين هي رمز لمجمع اليهود، أمّا الغصن فهو ضدّ المسيح، ابن الشيطان، نصيب الخطيّة… هذا الذي بظهوره كما لو أن الحياة تنقشع والأوراق تُرى، فتنتصر زهور الخطيّة بنوع ما، بهذا يكون قد اقترب الصيف أي يوم الدينونة.
الأب هيلاري
- لشجرة التين معنيان… إمّا يقصد بها عندما تظهر الثمرة على كل الشجرة فيعترف كل لسان بالرب، ويؤمن أيضًا شعب إسرائيل، عندئذ نترجَّى مجيء الرب، وكأن وقت الصيف قد حلّ لجمع ثمار القيامة؛ وإما يقصد بها أنها عندما يلبس ابن الخطيّة إكليل زهور، بافتخاره الباطل والفارغ، فتظهر أوراق الغصن الخاصة بالمجمع اليهودي، عندئذ يجب أن تترقَّب مجيء الدينونة، إذ يُسرع الرب بالمجيء ليكافئ المؤمنين ويضع نهاية للشر[26].
القدّيس أمبروسيوس
أما قول السيِّد: “الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كلّه” [34]. فيشير إلى أمرين:
أولاً: يُشير إلى تحقيق العلامات الخاصة بدمار الهيكل اليهودي على يدي القائد الروماني تيطس عام 70م، لإعلان مجيء الرب في هيكل جديد.
ثانيًا: يريد ربّنا أن يوجِّه أنظارنا إلى مجيئه الداخلي فينا وإعلان مجده في القلب… فإنه وإن كنّا نترقَّب يوم الرب العظيم لكن عملنا الآن هو التمتّع بحلوله داخلنا وتجلِّيه المستمر فينا.
- تأكيد مجيئه
“السماء والأرض تزولان ولكن كلامي لا يزول،
وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يُعلّم بهما أحد
ولا ملائكة السموات إلا أبي وحده” [35-36].
ما أعلنه السيِّد إنّما هو كلمته الخالدة التي لا تزول، فإن السماء والأرض تزولان، أمّا كلامه فلن يزول. ما هي السماء إلا نفوسنا التي ترحل من هذا العالم، والأرض هي جسدنا الذي يعود إلى التراب إلى أن يأتي “كلمة الله” الذي لا يزول، فتعود السماء جديدة فيه وأيضًا أرضنا.
إن السيِّد قادم لا محالة، أمّا تحديد الأزمنة فليس من عملنا، ولا هو من رسالتنا، بل هو عمل الله المدبّر للأزمنة.
- السماء والأرض بحقيقة خلقتهما لا يحويان داخلهما التزام بالخلود الدائم، أمّا كلمات المسيح الأزليّة فتحل داخلها البقاء الدائم.
الأب هيلاري
- كأنه يقول أن كل ما يبدو باقيًا لا يبقى إلى الأبد، وما يبدو لكم زائلاً يبقى ثابتًا بلا تغيير! إن كلماتي تعبِّر عن الأمور التي بلا تغيير[27].
الأب غريغوريوس (الكبير)
- الاستعداد لمجيئه
“وكما كانت أيام نوح كذلك أيضًا مجيء ابن الإنسان،
لأنه كما كانوا في الأيام التي قبل الطوفان
يأكلون ويشربون ويتزوَّجون ويزوِّجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك،
ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع،
كذلك يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان” [37-39].
يقدّم لنا السيِّد المسيح الطوفان الذي أنقذ نوح وعائلته، وأهلك البشريّة الشرّيرة مثالاً لمجيئه، حيث ينعم أولاد الله بالإكليل الأبدي، ويدخلوا إلى المجد، كما إلى الفلك، بينما يهلك الأشرار كما في الطوفان. لقد كان الأشرار غير مستعدّين، انسحبت قلوبهم إلى الاهتمام بالأكل والشراب والزواج ولم ترتفع قط إلى الله.
حقًا إن الأكل والشراب والزواج هذه جميعها في ذاتها ليست بشرّيرة، وإنما تتحوّل إلى إله لمن يُستعبد لها، فيصير قلبه كلّه مرتبكًا بسببها، هذه بعينها تُحسب مباركة ومقدّسة بالنسبة للقلب المقدّس في الله. عن الأوّلين يقول الرسول: “الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في الأرضيّات” (في 3: 19)، “لأن مثل هؤلاء لا يخدمون ربّنا يسوع المسيح بل بطونهم” (رو 16: 18)، “الكرّيتيّون دائمًا كذّابون، وحوش رديّة، بطون بطالة” (تي 1: 12).
إنهم يستعبدون لبطونهم فيعملون لحسابها وليس لخدمة المسيح، يعيشون كمن في بطالة، يفسدون حياتهم بلا ثمر! أمّا الآخرون فيقولون: “ولكن الطعام لا يقدّمنا إلى الله، لأننا إن أكلنا لا نزيد وإن لم نأكل لا ننقص” (1 كو 8: 8). “الذي يأكل فللرب يأكل لأنه يشكر الله، والذي لا يأكل فللرب لا يأكل ويشكر الله، لأنه ليس أحد منّا يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته” (رو 14: 6-7). “لأن ليس ملكوت الله أكلاً وشربًا، بل هو برّ وسلام وفرح في الروح القدس” (رو 14: 17).
ولكي يؤكّد السيِّد أن الاستعداد إنّما هو عمل داخلي، قال: “حينئذ يكون اثنان في الحقل، يؤخذ الواحد ويُترك الآخر. اثنتان تطحنان على الرحَى، تؤخذ الواحدة وتترك الأخرى” [40-41]. لا يمكن للإنسان أن يُدرك أسرار قلب أخيه، فبينما يعمل رجلان معًا في حقلٍ واحدٍ، وتعمل امرأتان معًا على رحى واحدة، إذا بالواحد يحمل قلبًا مرتفعًا نحو السماويات والآخر يرتبك بالأرضيّات. واحد يعمل ويشكر الله ويمجِّده، والآخر يعمل لخدمة بطنه وإشباع شهواته مرتبكًا بالأمور الزمنيّة.
ويُعلّق القدّيس كيرلّس الكبير على المرأتين اللتين تطحنان على الرحى فتُؤخذ الواحدة وتترك الأخرى قائلاً: [يبدو أن هاتين المرأتين تشيران إلى الذين يعيشون في فقر وتعب، فحتى هؤلاء يوجد بينهم اختلاف كبير. البعض منهم يحتملون الفقر بنضوج وقوة في حياة فاضلة، والآخر له شخصيّة مختلفة إذ يسلكون بدهاء في حياة شرّيرة دنيئة[28].]
إذًا لنسهر لا بالمفهوم الجسدي الظاهر وإنما بالقلب والحياة الداخليّة خلال انتظار مجيئه. فالقلب الساهر يكون كالعروس المشتاقة إلى عريسها، يأتيها السيِّد، فتفرح وتتهلّل، أمّا القلب المتهاون والنائم يأتيها يوم الرب كلصٍ يسطو على البيت. القلب اليقظ يفرح ويُسر كلما اقتربت الساعة، أمّا القلب الخامل فيُفاجأ به ليحزن ويخسر كل ما كان يظن أنه يملكه!
هكذا يدعونا الرب للسهر لملاقاته دون تحديد موعد مجيئه وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [ليس من صالحنا أن نعرف الأزمنة، بل بالأحرى من صالحنا عدم معرفتها، فجهلنا لها يجعلنا نخاف ونسهر فينصلح حالنا[29].]
- مثل العبد والسيِّد القادم
إننا كعبيد أقامنا السيِّد على خدامه لنعطيهم الطعام في حينه، من كان أمينًا يعرف كيف ينمِّي بالروح القدس كل طاقاته ومواهبه وأحاسيسه ودوافعه في الروح فيمتلئ ثمرًا، فيأتي سيّده ويقيمه “على جميع أمواله” [47]، فيجعله ملكًا ينعم بميراثٍ أبديٍ وإكليل لا يفنى. أمّا الذي يضرب العبيد رفقاءه فيحطَّم ما وهبه الله من طاقات ومواهب وأحاسيس ودوافع، فلا تنمو في الروح بل تتعثّر وتضمر، فيُقطع ويصير نصيبه مع المرائين.
قد يتساءل البعض هل نحب الجسد أيضًا كأحد الخدم الذين أوكلنا السيِّد على رعايتهم؟ يجيب الرسول بولس: “فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربّيه كما الرب أيضًا للكنيسة، لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه” (أف 5: 29-30). هكذا يرفع الرسول الجسد إلى هذه القُدسية، فنراه كما يرى الرب كنيسته، نهتم بقدسيَّته ولا نحطِّمه، إنّما نرفض الشهوات الجسديّة التي تنزل بنا إلى الارتبكات الزمنيّة والملذّات القاتلة. يقول القدّيس جيروم: [إني أحب الجسد، لكنّني أحبُّه عندما يكون طاهرًا، عندما يكون عذراويًا، عندما يُمات بالصوم. لست أحب أعماله إنّما أحبُّه هو، هذا الذي يلزم أن يحكم عليه ويموت كشهيدٍ من أجل المسيح فيُجلد ويُمزَّق ويُحرق بالنار[30].]
يحدّثنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن الجسد كخادم نهتم به في الرب، يعمل مع النفس لحسابه، قائلاً: [حقًا لقد أقام الله فينا الأعين والفم والسمع بهذا القصد، أن تخدمه جميع أعضائنا، فننطق بكلماته ونفعل أعماله، ونتغنَّى له بالتسابيح الدائمة، ونقدّم له ذبائح الشكر، بهذا تتنقَّى ضمائرنا تمامًا! وكما أن الجسد يصير في أكثر صحّة عندما يتمتّع بالهواء النقي، هكذا النفس بالأكثر تنعم بالحكمة العمليّة عندما تنتعش بمثل هذه التداريب.
أليس إن وُجدَت عينا الجسد في دخان تبكيان على الدوام، وإن وُجِدَتا في هواء نقي ومُروج وينابيع وحدائق تصيران بحدَّة وفي أكثر سلام؟ هكذا أيضًا بالنسبة لعين النفس، فإنها إذ تتقوَّت على مروج الأقوال الروحيّة تصير نقيّة وحادة البصر، لكنها إن رحلت إلى دُخَّان أمور هذه الحياة فإنها تبكي بلا حدود، وتبقى في عويل ههنا وفيما بعد. لهذا قال أحدهم: “فنَتْ أيامي كالدخان” (مز102: 3 LXX)[31].]
[1] On Ps. hom 57.
[2] Op. Imperf.
[3] Cátena Aurea.
[4] In Matt. hom 76.
[5] On Matt. Canon 25.
[6] In Matt. 29.
[7] In Ioan 1:1.
[8] In Matt. Canon 25.
[9] Catena Aurea.
[10] Ep 22:1, 71:1.
[11] تفسير لو 17: 20-37 (ترجمة مدام عايدة حنا بسطا).
[12] Ep 145.
[13] تفسير لو 17: 20-37.
[14] In Matt. tr 29.
[15] Morals 15:30.
[16] In Matt. hom 77.
[17] PL 23:179.
[18] رؤيا يوحنا اللاهوتي، 1979م، ص106.
[19] Catena of Greek Frs (Luke 21).
[20] Experta in Secund Adv.
[21] In Luc. 10.
[22] Ep. 199.
[23] عام 765 ـ 840م.
[24] Ep. 199.
[25] Catena Greek Fr.
[26] In Luc 21.
[27] In Evang, hom 1.
[28] In Luc. Ser 118.
[29] Of Christian Faith 5:17.
[30] Ep. , 84:8.
[31] In Matth. Hom. 2:9.