تفسير انجيل متى 23 – الأصحاح الثالث والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 23 – الأصحاح الثالث والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثالث والعشرون
الويْلات لمقاومي الملكوت
في الأصحاحات السابقة كشف معلّمنا متّى الإنجيلي عن دور الكتبة والفرّيسيّين والصدّوقيّين مع الهيرودسيّين في مقاومة ملكوت السماوات، وقد حوّل السيِّد مقاومتهم إلى فرصة لتعليمهم مع الشعب عن المفاهيم الجديدة لملكوته. وإذ أصرّوا على مقاومتهم له سقطوا تحت الويْلات، ليس غضبًا منه عليهم، وإنما نتيجة طبيعيّة للمقاومة. فما أعلنه السيِّد من ويْلات هو ثمر طبيعي للحياة الشرّيرة التي قبلوها بإرادتهم. وقد أبرز السيِّد بحديثه ثمار تصرُّفاتهم لكي يعطيهم فرصة لمراجعة أنفسهم، وفي نفس الوقت يُحذِّر تلاميذه لئلا يسقطوا فيما سقط فيه هؤلاء المقاومين.
- التعليم دون العمل 1-4.
- طلب المتكآت الأولى 5-12.
- ظُلم الآخرين مع ممارسة العبادة 13-14.
- إعثار الدخلاء 15-16.
- النظرة الماديّة في العبادة 17-22.
- الحرفيّة في الوصيّة 23-24.
- الشكليّة في العبادة 25-28.
- مقاومة الحق تحت ستار الدين 29-36.
- الحكم بالخراب الأبدي 37-39.
- التعليم دون العمل
“حينئذ خاطب يسوع الجموع وتلاميذه. قائلاً:
على كرسي موسى جلس الكتبة والفرّيسيّون.
فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فأحفظوه وإفعلوا،
ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا،
لأنهم يقولون ولا يفعلون” [1-3].
اضطّر السيِّد أن يُعلن الويُلات أمام الجموع والتلاميذ ليس تشهيرًا بالكتبة والفرّيسيّين، وإنما تحذيرًا لشعبه لئلاّ يُعثرهم هؤلاء بتصرُّفاتهم، وما هو أهم لئلاّ يسقط شعبه فيما سقطوا فيه. والعجيب أن الكتبة والفرّيسيّين صوبوا سهامهم ضدّ السيِّد المسيح، أمّا هو ففي لطف وعطف يقول: “كل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه واِعملوه”، وكأنه يحث الشعب على الخضوع لهم، لا من أجل سلوكهم، ولكن من أجل كرسي موسى الذي جلسوا عليه.
لقد جلس الكتبة والفرّيسيّون على كرسي موسى، أي تسلّموا ناموسه، لكي يسجّلوه ويقرأوه ويفسروه، فما ينطقون به ليس من عنديَّاتهم، ولا هو ثمرة قلبهم الشرّير، وإنما هو ثمرة الكرسي الذي يجلسون عليه، أمّا أعمالهم فهي عظة مُرّة وقاتلة تحمل ثمار قلوبهم الدنسة. لهذا شجَّع السيِّد الشعب أن يسمعوا لهم فيما يصدر عن الكرسي لا ما ينبع عن قلوبهم.
هذا هو حال كل خادم متكبّر يقدّم للآخرين كلمة الله، ليس من عندياته وإنما من الكتاب المقدّس، دون أن ينتفع هو به، وكما يقول عنه القدّيس أغسطينوس: [الخادم المتكبّر يُحسب مع الشيطان، أمّا عطيّة المسيح (كلمة الوعظ)، فلا تَفسد بل تفَيض نقيّة خلاله وتعبُر كالماء إلى أرض مخصبة، فيكون الخادم كقناة من الحَجر لا يقدر أن يقدّم ثمرًا بالمياه التي تعبر القناة الحجرية إلى أحواض الزهور في الحديقة. أنها لا تقدّم نموًا في داخلنا كقناة حجرية بل تهب ثمرًا كثيرًا في الحدائق[1].]
ربّما يسأل أحدهم: كيف نحفظ ما يقوله هؤلاء الأشرار، مع أن السيِّد يقول في موضع آخر: “الإنسان الشرّير من الكنز الشرّير يُخرج الشرور، يا أولاد الأفاعي كيف تقدرون أن تتكلّموا بالصالحات وأنتم أشرّار؟” (مت12: 34-35)؟
يجيب القدّيس أغسطينوس، قائلاً: [يخرج الشرّير من عندياته ما هو شرّ… لأن قلبه شرّير… ولا يطلب السيِّد المسيح منّا طاعة الأشرار، لأن ما يخرجوه من كنز قلبهم الشرّير يختلف عمَّا ينطقون به وهم على كرسي موسى. مثال ذلك: في المحكمة ينطق الحاجب بما يقوله القاضي. فما ينطق به لا يُنسب إليه طالما يتّكلم في حضرة القاضي. ما ينطق به الحاجب في بيته يختلف عما ينطق به وهو في المحكمة، إذ ينطق هنا بما يسمعه من القاضي. فالحاجب ينطق بالعقوبة، أراد أو لم يرد، حتى لو كانت العقوبة موجّهة ضدّ صديق له. وينطق أيضًا بالبراءة، شاء أو لم يشأ، ولو كانت لصالح عدوّ له. فلو نطق الحاجب بحسب ما في قلبه لأعطى براءة لصديقه وعاقب عدوّه، لكنّه إذ يتكلَّم من كرسي الحُكم قد يعاقب صديقه ويبرِّئ عدوّه. هكذا بالنسبة للكتبة أيضًا، فلو أنهم تحدّثوا بحسب ما في قلوبهم لسمعتم قولهم: “لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت” (إش 22: 13)، أمّا إذا تكلّموا من على كرسي موسى فيقولون: “لا تقتل، لا تزن، لا تسرق…”. إذن لنعمل حسب ما يُعلنه الكرسي الرسمي على فم الكنيسة، لا ما تتفوَّه به قلوبهم. لذلك ينبغي عليك ألا تضطرب عندما تسمع قول الرب: “كل شجرة تُعرف من ثمارها، هل يجتنون من الشوك عنبًا ؟ أو من الحَسَكِ تينًا؟” (لو 6: 44؛ مت 7: 16)… لكن أحيانًا تتشابك كروم العنب بين الحَسَك. لذلك عندما تسمع “الشوك” لا تتجاهل التفكير في العنب، إنّما اِبحث فتجد جذور الأشواك، وعليك أن تميِّزها من بين جذور الكرْم، وأعلم أن إحداها تُشير إلى قلب الكتبة والفرّيسيّين، والأخرى تُشير إلى كرسي موسى[2].]
حقًا لنقبل كلمات الخدّام ولا نمتثَّل بضعفاتهم أو شرورهم، كما لا ندين تصرفاتهم. هذا من جانبنا، أمّا من جانب الخدّام فيليق بهم أن يهتمّوا أن تكون أعمالهم ختمًا لكلماتهم، حتى لا تتحوّل عظاتهم وتوجيهاتهم إلى “فلسفة نظريّة”. لهذا يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ما أسوأ أن نكون فلاسفة في الكلمات لا في الأعمال[3].]
يقول السيِّد: “فإنهم يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحَمل، ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحرّكوها بإصبعهم” [4]. الوصيّة في ذاتها ليست مستحيلة ولا ثقيلة، وإنما إذ تصدر عن معلّمين لا يجاهدون فيها يجدها الشعب حِملاً ثقيلاً عسر الحمل، قد حزمها المعلّمون، لا ليحملوها مع الشعب، وإنما ليثقِّلوا بها كاهل الآخرين، أمّا هم فلا يفكِّرون حتى في مجرّد تحريكها بإصبعهم. وعلى العكس فإن ذات الوصيّة إذ يقدّمها معلّمون مختبِرون ومجاهِدون يفرح بها الشعب ويتسابقون على حِملها معهم. هذا ما فعله السيِّد المسيح نفسه، فإنه إذ رأى البشريّة تتسابق على الكراسي فيحزمون لإخوتهم أحمالاً ثقيلة وهم لا يريدون أن يحرّكوها بإصبعهم، إذا به يترك كرسي مجده لينزل وسط شعبه يحمل أثقالنا ويكمّل الناموس عنّا، فيصير النير هيّنًا والحمل خفيفًا.
- طلب المتكآت الأولى
بينما ترك هؤلاء المراءون الوصايا الإلهيّة لغيرهم اِمتدّت يدهم للعمل لا في تنفيذ الوصيّة وإنما في المظهريَّة التي يراها الناس، وكما يقول السيِّد المسيح: “وكل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس، فيُعرِّضون عصائبهم ويُغطّون أهداب ثيابهم” [5].
ما هي هذه العصابة العريضة التي تغطِّي رؤوسهم، وأهداب الثياب الثمينة التي تغطي أخمص أقدّامهم، إلا الاهتمام بالمظهريّة في كل حياتهم من شعر رؤوسهم حتى أخمص القدمين، يطلبون الزينة الخارجيّة الثمينة التي تخفي حياة داخليّة فارغة بلا عمل ونفس فقدت حياتها!
ينشغل المُرائي بالعِصابة الجميلة والعريضة التي تغطِّي رأسه وذهنه، فلا يفكّر في أمور حياته الداخليّة ولا في خلاص نفسه، فلا يمكن أن يرتفع بذهنه إلى السماويات، إنّما يبقى منشغلاً بالجمال الزمني والمديح الباطل. أمّا الأهداب الذهبية الثمينة فإنها تشل حركة قدميه فيقف جامدًا أسير نظرة الناس، لا يقدر أن يتحرّك في الطريق الكرب المؤدي إلى الملكوت. إنه يخاف على أهداب ثوبه من طريق الملكوت!
يقول القدّيس جيروم: [كل إنسان يسلك لكي ينظره الناس هو كاتب وفرّيسي… ويل لنا نحن البائسين ورثة رذائل الفرّيسيّين. عندما أعطى الله شريعته لموسى وأوصى “اربطها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين يديك“ (تث 6: 8). وهذا هو المعنى: لتكن تعاليمي على يدك لتتأمّلها نهارًا وليلاً؛ لكن الفرّيسيّين فسّروا الوصيّة حرفيًا فكانوا يكتبون الوصايا العشرة على أربطة صغيرة من الجلد ويطوُونها ويربطونها على رؤوسهم ليحملوها كل يوم أمام الناس. هذه العادة نشاهدها في أيامنا هذه عند الهنود والبابليّين الذين يحملون هذا التاج ليعبروا به أمام الناس… وكانت هذه الأربطة تسمى Phylatères، وهي كلمة مأخوذة عن اليونانيّة تعني “حماية”. وحسب مفهومهم أن من يحملها يقتني حماية خاصة. هكذا لم يفهم الفرّيسيّون أنه يجب حمل الوصايا في القلب وإنما على الجسد. هذا وكانت خزائنهم وصناديقهم مملوءة كتبًا ولكن ليس لهم معرفة الله[4].]
لا يمس الرياء مظهر ثيابهم فحسب، وإنما يبتلع كل حياتهم، فيطلبون الكرامة البشريّة أينما وُجدوا، إن دُعوا كمجاملين في الولائم أو كقادةٍ في المجامع أو حتى إن ساروا في الأسواق، إذ يقول السيِّد:
ويحبُّون المتكأ الأول في الولائم،
والمجالس الأولى في المجامع،
والتحيَّات في الأسواق،
وأن يدعوهم الناس: سيِّدي، سيِّدي” [6-7].
إذ يسحب الرياء قلب المعلّم من أعماقه الداخليّة ليلهيه في العصابة التي يغطي بها رأسه وأهداب ثوبه، تبقى حياته الداخليّة في فراغٍ شديدٍ، فلا يقدر أن يطلب ما يخصّ حياته أو حياة إخوته، إنما يطلب ما هو لمجده الباطل. فإن دُعي في وليمة بدلاً من مشاركته الآخرين أفراحهم أو آلامهم بالحب الداخلي العملي يتسابق على المتكأ الأول. وإن جلس في مجمع لا يهتمّ بتقديم ما هو للبنيان، إنّما يطلب المجلس الأول. وإن نزل إلى الأسواق، لا يلتقي مع الشعب كواحدٍ منهم، بل يطلب التحيَّات والألقاب ليسمعهم يخاطبونه: “سيِّدي، سيِّدي”. هذا كلّه دعا المعلّم الأعظم ربّنا يسوع المسيح أن يدخل في بدء خدمته وليمة عرس مُحتلاً الموضع الأخير لكي يخدمهم، مقدّمًا لهم خمر محبّته الفائق عِوض أجران مياه قلوبهم الباردة. وفي المجامع لم يحتل المجلس الأول إنّما بتواضعه كان يسحب الجماهير إلى التمتّع بالحق. لقد نزل إلى الأسواق في تواضع ليحل بين الشعب كواحدٍ منهم، يحملهم على كتفيه بكونهم خرافه الناطقة المريضة؛ يحتضنهم بالحب لينطلق بهم إلى السماويات.
يكمّل السيِّد المسيح حديثه الخاص برفض الكرامات الزمنيّة، قائلاً:
“وأما أنتم فلا تدعوا سيِّدي،
لأن معلّمكم المسيح، وأنتم جميعًا إخوة.
ولا تدعوا لكم أبًا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماوات.
ولا تدعوا معلّمين، لأن معلّمكم واحد المسيح.
وأكبركم خادمًا لكم، فمن يرفع نفسه يتّضع، ومن يضع نفسه يرتفع” [8-11].
هل يريد السيِّد المسيح منّا مجرّد إلغاء الألقاب “سيِّدي وأبي ومعلّمي” بالنسبة للأشخاص الروحيِّين؟ يقول السيِّد المسيح “لا تدعوا لكم أبًا على الأرض“، وكأنه أراد أن ينزع عنّا نظرتنا للقادة الروحيّين كآباء “على الأرض” أي حسب الجسد الترابي. فإن السيِّد المسيح إذ نزل إلينا على أرضنا حاملاً طبيعتنا، إنّما يريد أن تكون بصيرتنا منفتحة نحو السماء لا الأرض، وعلاقتنا بالجميع، وخاصة القادة الروحيّين، لا ترتبط بالأرض بل بالسماء، نتمتّع بهم في المسيح يسوع ربّنا، فلا نعرف لنا سادة أو آباء أو معلّمين أرضيِّين جسديّين خارج المسيح، إنّما نعرفهم كروحيّين فيه.
ففي الوقت الذي فيه يقول السيِّد “لا تدعوا لكم أبًا على الأرض” يقول الرسول: “لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس آباء كثيرين، لأني أنا ولدتكم في المسيح بالإنجيل” (1 كو 4: 15). إنه يعتزّ بأبوَّته لهم، لأنها “في المسيح بالإنجيل“. مرّة أخرى لا يُحسب الرسول كاسرًا للوصيّة الإلهيّة حينما يعتزّ بدعوة أنسيموس ابنًا روحيًا له، إذ يقول:“أطلب إليك لأجل ابني أنسيموس الذي ولدته في قيودي… الذي هو أحشائي” (فل 10، 12). وبقوة الروح يدعو القدّيس يوحنا شعبه “يا أولادي” (1 يو 2: 1؛ 3 يو 4). خارج المسيح يفقد الكاهن أبوّته الروحيّة، وتصير دعوته أبًا اغتصابًا، أمّا في المسيح فيحمل أبوة الله لأولاده، مختفيًا وراء الله نفسه، فيقدّم لهم ما هو لله لا ما هو لذاته.
وما قلناه عن الأبوة نكرّره بخصوص دعوة القادة الروحيّين “معلّمين”، فقد حذَّرنا السيِّد: “لا تدعوا معلّمين لأن معلّمكم واحد المسيح”، لا لنفهمها حرفيًا، وإنما لكي لا نقبل من إنسانٍ تعليمه الذاتي، فلا ندعوه معلّمًا مباشرًا لنا، وإنما نقبله فقط متى جاءنا مختفيًا في تعليم المسيح الحق، فلا يُعلّم من عنديَّاته بل يُعلن كلمة المسيح وإنجيله وشهادته وحياته. لهذا يقول السيِّد نفسه لتلاميذه: “فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم… وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (مت 28: 20). أعطاهم حق التعليم بقوله: “علّموهم” فيُدعون معلّمين لكن لا يعلِّمون خارج المسيح بل “جميع ما أوصيتكم به”، خلال حلوله فيهم “ها أنا معكم”. إنهم معلّمون حقيقيُّون ماداموا يعملون لحساب السيِّد وباسمه، وليس لحسابهم الخاص ومن عنديّاتهم.
لا يُحسب كسرًا للوصيّة أن يؤكّد الرسل وجود معلّمين في الكنيسة ماداموا مختفين في الرب. يقول الرسول: “أم المعلّم ففي التعليم” (رو 12: 7)، ويلقب نفسه معلّمًا: “الذي جُعلت أنا له كارزًا ورسولاً ومعلّما للأمم” (2 تي 1: 11).
هكذا أيضًا بالنسبة لدعوة الآخرين “سيِّدي”، فمن جهة وجود سادة لوجود فوارق طبقيّة وُجدت في ذلك الحين، فإن الرسل وضعوا بروح الإنجيل وبوحي الروح القدس وصايا للسادة والعبيد لا لتأكيد الفوارق وإنما للشهادة للحق، وإعلان روح الأخوة عند السادة نحو العبيد وروح الخضوع لدى العبيد نحو سادتهم لكن في الرب. وفي هذا كلّه يتصرَّف الجميع خلال منظار السيِّد المسيح (أف 6: 5-9، كو 3: 22، 1 بط 2: 18). خلال هذا الروح أمكن للبشريّة أن تحطِّم الرقيق ويتقبّل الناس بعضهم البعض إخوة، أعضاء لبعضهم البعض. أمّا بالنسبة للقادة الروحيّين فقد أراد السيِّد المسيح ألا يعطي لهم سلطان على الشعب اللهمّ إلا في الرب بالروح القدس. فالرسول بولس إذ يكتب إلى القدّيس فليمون يقول له بسلطان ولكن في الرب: “وإن كان لي بالمسيح ثقة كثيرة أن آمرك بما يليق، من أجل المحبّة أطلب.. حتى لا أقول أنك مديون لي بنفسك أيضًا” (فل 8-9، 19)… إنه سيّد له أن يأمر، لكنّه يسأل خلال المحبّة.
لم يتحرَّج الرسولان بولس وسيلا حين قال سجّان فيلبي لهما: “يا سيّديَّ ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟” (أع 16: 30)، إذ لم يكن هذا اللقب تملقًا… إنّما إدراكًا لسلطانهما في الرب. أمّا الرسولان فلم يهتمّا باللقب، وإنما بخلاص الرجل وأهل بيته. عندما يسود روح “الحياة الروحيّة الملتهبة” لا يكون للألقاب خطورتها على حياة الراعي، لأن شوقه لخلاص كل نفس يملأ قلبه، فلا يجد الرياء أو الكبرياء موضعًا فيه.
في اختصار نقول أن السيِّد المسيح لم يقصد إلغاء الألقاب بمفهوم حرفي قاتل، لكنّه أراد أن نلتقي بالقادة الروحيّين خلاله شخصيًا، نقبلهم فيه كروحيّين سمائيّين، ولا نرتبط بهم خلال التملق والمجاملات. لهذا يكمِّل: “وأكبركم يكون خادمًا لكم، فمن يرفع نفسه يتّضع ومن يضع نفسه يرتفع” [11-12]. الخطورة أن يسعى القادة إلى العظمة عِوض الخدمة، فيرتفعون بأنفسهم ليسقطوا، أمّا القائد المتّواضع فإن الألقاب لا تزيده إلا شعورًا بالانسحاق وإحساسًا بالمسئوليّة واتّساعًا لقلبه لخدمة الجميع من أجل الرب لا الناس.
يقول القدّيس جيروم: [هناك فارق كبير بين دعوة إنسان كأبٍ أو معلّمٍ بالطبيعة وبين أن يكون ذلك للمجاملة. عندما ندعو إنسانًا أبًا يكون في ذلك إكرام وتوقير من أجل سنّه. وعندما ندعوه معلّما بكونه يشترك مع المعلّم الحقيقي[5].]
- ظلم الآخرين مع ممارسة العبادة
يمتد الرياء لا ليسحب الخادم إلى الأمجاد الزمنيّة الباطلة فحسب، وإنما ليظلم الأرامل والمحتاجين من أجل إشباع نفسه، مغطِّيًا تصرفاته هذه بشكليِّات من العبادة وإطالة في الصلوات.
“لكن ويل لكم أيها الكتبة والفرّيسيّون المراءون،
لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس،
فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون.
ويل لكم أيها الكتبة والفرّيسيّون المراءون،
لأنكم تأكلون بيوت الأرامل ولِعلّه تُطيلون صلواتكم،
لذلك تأخذون دينونة أعظم” [13-14].
هكذا إذ تتضخَّم الأنا ego لا يطلب الراعي الكرامات فحسب، وإنما يجري وراء الماديَّات على حساب شعبه فيمتلئ، ولا يقدر أن يدخل طريق الملكوت الكرب خلال الباب الضيِّق، بل يقف خارجًا ليسد الطريق أمام الآخرين، فيتعثّر ويُعثِر. وكما قال النبي: “وكما يكمن لصوص لإنسان كذلك زمرة الكهنة في الطريق يقتلون نحو شكيم” (هو 6: 9).
يقول القدّيس جيروم: [على أي الأحوال المعلّم الذي يُعثِر تلاميذه بأعماله الرديئة يغلق ملكوت السماوات أمامهم[6].]
- إعثار الدخلاء
“ويل لكم أيها الكتبة والفرّيسيّون المراءون،
لأنكم تطوفون البحر والبرّ لتكسبوا دخيلاً واحدًا،
ومتى حصل تصنعونه ابنًا لجهنم أكثر منكم مضاعفًا” [15].
يبذل المرائي الكثير محتملاً مشقَّات السفر والحرمان ليكسب دخيلاً واحدًا، لكنّه إذ يدخل به إلى الإيمان يكتشف الدخيل فيه رياءه، فيتحطَّم إيمانه فيه. إنه يدرك عن قرب ثوب معلّمه المزيف، فلا يعود ينظر إلى كلماته، بل يتطلّع إلى أعماله الخفيّة الشرّيرة، فيترك الإيمان بلا رجعة، إذ لا يعود يفتح باب قلبه لكارزٍ آخر يشهد له عن الإيمان، حتى وإن كان الأخير رجلاً مباركًا، فإن الخبرة الأولى قد حطَّمت الدخيل. وربّما يسلك الدخيل طريقًا آخر، فإنه وإن كان لا يرتدّ عن الإيمان علنًا، لكنّه يرتدّ بسلوكه العملي، إذ يشرب من معلّمه مياه الرياء ليسلك بروحه وربّما بصورة أشد، وفي الحالتين يزج المرائي بالدخيل إلى نيران الظلمة الأبديّة.
ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على العبارة السابقة، قائلاً: [هنا يصدر الاتهام في أمرين: الأول عدم نفعهم في خلاص الكثيرين إذ يحتاجون إلى أتعاب كثيرة ليربحوا شخصًا واحدًا، والثاني الإهمال في حفظ من كسبوه. فإنهم ليس فقط يتَّسِمون بالإهمال بل والخيانة، إذ يفسدونه بحياتهم الشرّيرة ويجعلونه أشرّ منهم فلا يقف (الدخيل) عند شرّ معلّمه. فإنه إن رأى معلّمه إنسانًا فاضلاً يتمثل به، أمّا إن رآه شريرًا فيتعدَّاه في الشرّ بسبب الميل الطبيعي للإنسان نحو الشرّ[7].]
وكما يقول القدّيس جيروم: [كانوا يجتهدون ليصنعوا دخيلاً واحدًا من الشرفاء، يضمّونه إلى شعب الله… لكنّه إذ كان ينظر إلى معلّميه فيُدرك أن أعمالهم تهدم تعاليمهم يرجع إلى قيئه، وبعودته أمميًا يُحسب جاحدًا فيستحق عقابًا أشد ممّا كان عليه قبل قبوله الإيمان[8].]
- النظرة الماديّة في العبادة
يفسد الرياء المعلّمين فعِوض أن يحكموا روحيًا حتى في الأمور الماديّة، إذا بهم يحكموا بمنظار مادي حتى في الروحيّات. فيرون في ذهب الهيكل أنه أفضل من الهيكل، والقربان أثمن من المذبح، فمن يُقسِم بذهب الهيكل أو القربان يلتزم بالقسَم أو من يقسِم بالهيكل نفسه أو المذبح فليس بشيءٍ. هكذا إذ تَظْلَمْ البصيرة الداخليّة ويصيبها العمى تنجذب النفس إلى المقدّسات لتطلب الماديَّات فحسب.
يرى القدّيس جيروم: [أنهم يسلكون لا بمخافة الله بل بالرغبة في الغنى[9]]، فالذي يحلف بالذهب أو القربان يلتزم بدفع الذهب وتقديم القربان الأمر الذي ينتفع منه الكهنة، لكن من يحلف بالهيكل أو المذبح ويحنث بالقسم فلا يشغل قلبه في شيءٍ.
- حرفيُّون في الوصيّة بلا روح
يظهرون في تنفيذ الوصيّة كمدقِّقين للغاية، فيُعشِّرون النِعناع والشبَت والكمُّون الخ. الأمور التي ربّما تُزرع بكميَّات قليلة جدًا في المنازل للاستعمال الشخصي، لكنهم يتركون أثقل الناموس: “الحق والرحمة والإيمان“. من أجل المظهر يتمِّمون الأمور التافهة تحت ستار التدقيق، أمّا جوهر الوصيّة الخفي فلا يمسُّونه. يحملون في قلوبهم الكراهيّة والبُغضة والحسد، ويتخلُّون عن الحق والرحمة والإيمان. لكنهم يظهرون كمُحبِّي الحق والمدافعين عنه، أنقياء لا يظلمون أحدًا وأطهارًا، فيُصفُّون عن البعوضة، مع أنهم في الداخل يبلعون الجمل، وكما يقول السيِّد: “أيها القادة العميان الذي يُصفّون عن البعوضة ويبلعون الجمل” [24].
يرى القدّيس جيروم في ذلك جشع للقادة اليهود فإنهم يهتمّون بالعشور حتى بالنسبة للخضروات ذات القيمة البسيطة لأنها تدخل إلى بيوتهم، أمّا الوصايا الخاصة بالرحمة تجاه الفقراء والأرامل والأيتام ومحبّة الله فيتهاونون فيها[10]. وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: إنهم يدقّقون في الوصيّة التي تحقّق هدفهم المادي وجشعهم ويتهاونون في الوصيّة التي تمسّ علاقتهم مع الله وحياتهم الروحيّة، مع أن كسر أيّة وصيّة إنّما هو كسر للناموس كله. إذ يقول: “عصيان وصيّة واحدة هو عصيان للناموس” (يع 2: 10)، إذ يجعله بلا ناموس. فإن تجاهل أحد هذه الوصايا خاصة الهامة منها، فأيّة كلمات يجدها قادرة أن تُخلِّصه من العقوبة التي يستحقَّها؟! هذا ما اِستحقَّه الفرّيسيّون من توبيخات قاسية إذ حَكم عليهم الرب: “ويل لكم أيها الفرّيسيّون لأنكم تُعشِّرون النَعنع والسَذاب وكل بَقْل وتتجاوزون الحق ومحبّة الله” (لو 11: 42). فإذ هم طامعون أكثر من غيرهم ومشغوفون بالربح القبيح أمروا بضرورة ملاحظة شريعة العشور بدقّة وحرفيّة حتى لا يحذفوا من حساباتهم أقل الأمور والبقول التي بلا ثمن، بينما يتجاهلون ما كان يجب مراعاته من وصايا هامة أعطيت بواسطة موسى مثل الحق الذي يحقّق العدالة في الحكم ومحبّة الله. لقد وبَّخهم الروح بصوت داود: “الله قائم في مجمع الآلهة يقضي وسط الآلهة، حتى متى تقضون جورًا، وترفعون وجوه الأشرار؟!” (مز 82: 1). كما اتَّهمهم على لسان إشعياء: كيف صارت المدينة الأمينة صهيون زانية، ملآنة حقًا كان العدل يبيت فيها وأما الآن فقاتلون؛ صارت فضتك زَغْلاً، ويخلِط تُجَّارك الخمر بالماء، رؤساؤك متمرِّدون وشركاء اللصوص، كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم. فإن القضاء بالجور ليس من عمل محبِّي الإخوة[11].
ويُعلّق القدّيس أمبروسيوس على دعوة الفرّيسيّين “عميانًا” موضّحًا أنهم بلا عذر فقد رأوا السيِّد المسيح لكن حسب الجسد ببصيرة روحيّة عمياء، إذ أظْلم الرياء وحرفيّة العبادة قلوبهم، قائلاً: [لم يبصِره اليهود مع أنهم رأوه[12].] غير أن رجال الإيمان من أسلافهم لم يروا الرب بالجسد، لكنهم عاينوه روحيًا، إذ لهم البصيرة المستنيرة، لهذا يقول الكتاب أن الشعب كان يرى صوت الله (خر 2: 18). ويُعلّق القدّيس، قائلاً: [من الواضح أن الصوت يُسمع ولا يُرى، فما الصوت إلا موجات تسمعها الأذن ولا تراها الأعين. هذه فكرة عميقة دفعت موسى ليؤكّد أن الإنسان يرى صوت الرب، يراه داخل القلب حيث يشخص إليه بعينيّه (الداخليّتين)… رآه إبراهيم كما هو مكتوب: “إبراهيم تهلّل بأن يرى يومي” (يو 8: 56).. رأى الرب مع أنه بالتأكيد لم ينظره بالجسد… الذين صرخوا: أصلبه، أصلبه، لم يروه، “لأنهم لو عرفوا رب المجد لما صلبوه[13]” (1 كو 2: 8).]
- شكليُّون في العبادة بلا حياة
من أجل الناس يظهرون كمدقِّقين، ليس فقط في تنفيذ الوصيّة، وإنما في الطقس أيضًا، فيهتمّون جدًا بنقاوة الكأس والصحفة من الخارج، ولا يبالون بما يحملونه في الداخل غير المنظور، فصاروا أشبه بالقبور الجميلة المبْيَّضة من الخارج ومن الداخل مملوءة نتانة وكل نجاسة.
حقًا ما أخطر أن يهتمّ الإنسان بشكليّات العبادة الخارجيّة دون أن يلتقي بالسيِّد المسيح نفسه جوهر عبادتنا وسرّ حياتنا، فتصير العبادة ليست كأسًا للخلاص، وإنما يحمل موتًا للنفس وضيقًا للجسد. وتتحوّل حياة الإنسان إلى قبر جميل من الخارج ينعته الناس بالجمال الروحي والنقاوة، إذ هو مبيَضّ بينما في داخله يحمل نفسًا ميّتة ونجاسة، وإذ لا يجد السيِّد المسيح فيها له مسكنًا. وكما يقول القدّيس جيروم: [كما أن القدّيس هو هيكل الله، هكذا الخاطي يُقيم من نفسه قبرًا[14].]
- مقاومون للحق تحت ستار الدين
إذًا يهتمّ الكتبة والفرّيسيّون ببناء قبور الأنبياء ويزيِّنون مدافن الصدِّيقين، فإنهم بهذا العمل إنّما يشهدون عما فعله آباؤهم بالأنبياء والصدِّيقين، إذ قاوموهم وقتلوهم. وها هم يكمِّلون مكيال آبائهم مدبِّرين المؤامرات لقتل السيِّد المسيح نفسه. يخاطبهم القدّيس جيروم على لسان السيِّد المسيح، قائلاً: [املأوا بدوركم مكيال آبائكم، فما لم يحقّقوه هم أكملوه أنتم؛ هم قتلوا الخدّام، وأنتم تصلبون المعلّم. هم قتلوا الأنبياء وأنتم تصلبون ذاك الذي تنبَّأ عنه الأنبياء[15].]
هكذا يدفع الرياء الإنسان من عمل شرير إلى آخر حتى ينتهي بمقاومة الحق تمامًا، مقدّمين دم الأبرياء ثمنًا رخيصًا في أعينهم، إنه يُحذّرهم من هذا المرض الخبيث الذي هو الرياء، الذي دخل بهم إلى دوَّامة المظهر الباطل والكرامة الزمنيّة ليعبر بهم إلى اغتصاب حقوق الأرامل، متستّرين تحت لواء الكرازة، فيدخلون بالدخلاء إلى نار جهنّم، وتحت ستار الوصيّة يقدّمون ما هو ظاهر، ويكسرون جوهرها. هكذا يلتحفون بشكليَّات العبادة، فيحكمون على أنفسهم بالموت، متستِّرين بقبر أجسادهم، وأخيرًا ها هم يدبِّرون المؤامرات لقتل ابن الله الوحيد ثمنًا للحفاظ على كراسيهم وسلطانهم وكرامتهم، تحت ستار الدفاع عن مجد الله والناموس والأنبياء.
“أيها الحيّات أولاد الأفاعي،كيف تهربون من دينونة جهنّم؟
لذلك هأنذا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة،
فمنهم تَقتلون وتَصلبون، ومنهم تَجلدون في مجامعكم، وتَطردون من مدينة إلى مدينة.
لكي يأتي عليكم كل دم زكي سُفك على الأرض،
من دم هابيل الصدِّيق إلى دم زكريّا بن برخبا الذي قتلتموه بين الهيكل والمذبح” [33-35].
من هو زكريّا بن برخيا؟ يرى القدّيس جيروم أنه وجد في عصره ثلاثة آراء:
- زكريّا النبي أحد الأنبياء الصغار، وإن كان اسم أبيه مطابقًا لكلمات السيِّد، لكن لم يذكر الكتاب شيئًا عن سفك دمه بين الهيكل والمذبح، خاصة وأن الهيكل في عصره كان مجرّد حطام.
- زكريّا أب يوحنا المعمدان، قُتل بسبب نبوّته عن مجيء المخلّص، لكن القدّيس جيروم لا يقبل هذا الرأي.
- زكريّا الذي قتله يوآش ملك يهوذا كما جاء في أخبار الأيام الثاني (24: 21)، لكن اسم أبيه كما جاء في الكتاب المقدّس هو يهوياداع. ويرى القدّيس جيروم أن برخيا تعني “بركة” أو “مبارك من الرب”، ويهوياداع تعني “قداسة”، وإن الشخص يحمل الاسمين، لذلك يحبذ القدّيس جيروم هذا الرأي.
- الحكم بالخراب الأبدي
إذ تظاهروا بالغيرة على مجد الله والهيكل والناموس والأنبياء، متطلّعين إلى السيِّد كمقاومٍ لهذه جميعها، دفعوا أنفسهم مع الشعب إلى الخراب الأبدي بتشويههم للحق، فيحملون ثمر أعمالهم وأعمال آبائهم.
“الحق أقول لكم أن هذا كلّه يأتي على هذا الجيل.
يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء والمرسلين إليها،
كم مرّة أردتُ أن أجمع أولادك،
كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا.
هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا.
لأني أقول لكم أنكم لا ترونني من الآن
حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب” [36-39].
لقد بكى السيِّد على أورشليم عندما اقترب منها، وهو يقول: “إنك لو علمتِ أنتِ أيضًا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك، ولكن الآن قد أُخفيَ عن عينيّك، فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجرًا على حجر، لأنك لا تعرفي زمان افتقادك” (لو 19: 42-44). ويبقى السيِّد المسيح يبكي على كل نفس قبلته كأورشليم وصارت هيكلاً له ثم عادت فتنجَّست وقاومته.
يقول العلاّمة أوريجينوس: [في الحقيقة نحن أورشليم التي بكاها يسوع… فبعد أن عرفنا أسرار الحق وكلمات الإنجيل وتعاليم الكنيسة، وبعد أن رأينا أسرار الرب نخطئ!… بكى على أورشليمنا فبسبب خطيّتها، إذ يحاصرها الأعداء، ويهدمون بنيها فيها، ولا يتركون فيها حجرًا على حجر. هذا ما يحدث الآن، فبعد أن يعيش إنسان في نسك كامل لسنين ينهزم أمام جاذبيَّة الجسد، ولا يقدر أن يحتمل مستلزمات الطهارة، فيتدنّس الإنسان ويعيش في عدم طهارة، وكأنه لا يُترك فيه حجر على حجر. وفي موضع آخر نقرأ: “كل بِرِّه الذي عمله لا يُذكر، في خيانته التي خانها وفي خطيّته التي أخطأ بها يموت” (خر 18: 14). هذه هي أورشليم التي يُبكى عليها[16].]
ويقول القدّيس كيرلّس الكبير: [ها أنت ترى أنه بالحقيقة غالبًا ما يطلب أن يمنحهم رحمته لكنهم رفضوا معونته، لذلك أدانهم قانون الله المقدّس، ونزعهم عن عضويَّة بيته الروحي[17].]
ويقول القدّيس جيروم: [أتيت كالدجاجة لأحميهم، لكنهم استقبلوني بالكراهيّة والغدر. جئت كأم وهم ظنّوا إني قاتلهم فقتلوني[18].]
ويرى القدّيس أغسطينوس أن السيِّد شبَّه نفسه بالدجاجة، لأنها إذ تحتضن بيضها أو يكون لها صغار يضعف جسمها جدًا ويسقط ريشها لاهتمامها بصغارها. وكأن في ذلك رمز لعمل السيِّد المسيح الذي نزل إلينا يحمل ضعفنا بحبّه ورعايته الإلهيّة.
[1] In Ioan 5:15.
[2] Ser. on N. T. 24.
[3] In 1Tim PG 62:552.
[4] In Matt. 23:7.
[5] In Matt 23:8-10.
[6] In Matt 23:13.
[7] In Matt. hom 73:1.
[8] In Matt. 23:15.
[9] In Matt 23:16- 22.
[10] In Matt 23:23.
[11] In Luc. Ser 84.
[12] In Luc tr 1:6.
[13] In Luc 1:5,6.
[14] On Ps hom 7.
[15] In Matt. 23:32.
[16] In Luc. hom 38:4.
[17] In Luc. Ser. 131.
[18] On Ps. hom 35.