تفسير انجيل متى 22 – الأصحاح الثاني والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 22 – الأصحاح الثاني والعشرين – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثاني والعشرون
مقاومو الملكوت
إذ كانت الأيام تقترب جدًا ليتمجّد السيِّد على الصليب، معلنًا ملكوته السماوي الداخلي، كان العدوّ يقاوم بعنفٍ، مكثّفًا كل الطاقات للعمل ضدّ الملكوت.
- المدعوُّون المعتذرون 1-14.
- سؤاله بخصوص الجزية 15-22.
- سؤاله بخصوص القيامة 23-33.
- سؤاله عن الوصيّة العُظمى 34-40.
- السيِّد يسألهم عن نفسه 41-46.
- المدعوُّون المعتذرون
يقدّم لنا السيِّد المسيح ملكوت السماوات بكونه عُرسًا صنعه ملك لابنه، ومع ذلك كان العرس ثقيلاً على المدعوّين “الذين لم يريدوا أن يأتوا” [3]. إنهم لم يكونوا مدعوّين للمشاركة من بعيد كمتفرجين ولا مجرّد أصدقاء، وإنما كعروس تتَّحد بالابن العريس على مستوى أبدي. إنها دعوة للدخول للفرح الدائم بلا انقطاع. لكن النفس من أجل بؤسها الداخلي ترفض الفرح لتعيش في غمٍ نابع لا عن ظروف خارجيّة، وإنما عن قلب مغلق لا يريد أن ينفتح للرب واهب السلام والفرح.
هذا المثل كما يقدّمه لنا السيِّد المسيح ينطبق على اليهود خاصة القادة، الذين رفضوا ملكوت المسيّا السماوي، وهو بطريق أو آخر ينطبق على كل نفسٍ ترفض ملكوته الحقيقي في داخلها.
العُرس الملوكي
وجعل يسوع يكلّمهم أيضًا بأمثال، قائلاً:
يشبه ملكوت السماوات إنسانًا ملكًا صنع عرسًا لابنه.
وأرسل ليدعو عبيده المدعوّين إلى العرس،
فلم يريدوا أن يأتوا” [1-3].
ما هو هذا الملكوت السماوي إلا الكنيسة التي في حقيقتها هي عرس دائم، فقد أقامها الآب لابنه ينعم بها، وتنعم هي بحلوله في وسطها، وبإتكائها على صدره، تتقبّل منه أسرار أبيه، وتتمتّع بإمكانيّاته الإلهيّة، حتى ترتفع به وفيه إلى حضن أبيه، تنعم بشركة أمجاده.
هذا هو العرس الذي اشتهى الآباء والأنبياء أن ينعموا به إذ رأوه من بعيد خلال الرموز والنبوّات حتى جاءت القدّيسة العذراء تحني رأسها بالطاعة والخضوع لله أمام الملاك جبرائيل، قائلة: “ليكن لي كقولك” (لو 1: 38)، فقبلت العُرس في داخلها. وكما يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [يمكننا بوضوح وثقة أن نقول بأن الآب صنع للملك ابنه العُرس خلال سرّ التجسّد، حيث التصقت به الكنيسة المقدّسة، وكانت أحشاء العذراء الأم هي حجال العُرس… لهذا يقول المرتّل: “جعل في الشمس مظلَّته، مثل العريس الخارج من خدره” (راجع مز 18: 6). إنه مثل العريس الخارج من خدره، لأن الله المتجسّد خارج من أحشاء العذراء غير الدنسة ليتَّحد بالكنيسة[1].]
حقًا إن الآب القدّوس الذي أرسل روحه إلى الأحشاء البتوليّة ليتمّم التجسّد الإلهي بحلول الكلمة الإلهي فيها، مقدّمًا للبشريّة العريس الحقيقي، مشتهى الأمم، هذا الذي رفضه اليهود، يودّ أن يجعل من كل مؤمن ملكوتًا سماويًا بحلول العريس في داخله، يُقيم فيه عرسًا روحيًا وفرحًا سماويًا لا يقدر العالم أن ينزعه! لقد بدأ السيِّد خدمته بدخوله عرس قانا الجليل ليقدّسه معلنًا أن رسالته تنطلق بدخوله إلينا ليقيم عرسنا الداخلي متقدّما كعريس أبدي، قادر وحده أن يتّحد بنا ويقدّسنا ويكشف لنا أسراره الإلهيّة الفائقة. حقًا إن دعوته لنا، إنّما هي دعوة لقبوله عريسًا أبدياً مشبع لنفوسنا!
إرسال العبيد
إن كان لا يمكن لعريسٍ أن يغتصب قلب من يطلبها كعروسٍ له بغير إرادتها؛ حتى إن أمكنه ذلك، فإنه لن يستريح ما لم ينبع حبّها له من قلبها بكامل حريَّتها، هكذا لا يريد السيِّد أن يغتصب قلوب شعبه بغير إرادتهم، إنّما يكتفي بتكرار الدعوة وإعلان فيض محبّته العمليّة نحوهم، مقدّمًا لهم وعوده الأبديّة، تاركًا لهم كامل الحرّية أن يقبلوه أو يرفضوه!
يقول السيِّد أنه أرسل عبيده، وإذ رفضوا عاد فأرسل عبيدًا آخرين [4]، فأمسكوهم وشتموهم وقتلوهم [6]. بالنسبة لليهود العبيد الأوّلون هم الآباء الأوّلون كإبراهيم واسحق ويعقوب الذين نالوا الوعد ووضعوا ملامح الطريق الملوكي، حتى قال السيِّد “أبوكم إبراهيم تهلّل بأن يرى يومي فرأى وفرح” (يو 8: 56). لكن اليهود لم يسمعوا لهم ولا سلكوا على منوالهم إذ يوبّخهم السيِّد: “لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال إبراهيم” (يو 8: 39). وعِوض أن يفرحوا كأبيهم بيوم مجيئه رفضوا وقاوموا عمله الإلهي. أمّا العبيد الآخرون فهم الأنبياء الذين رسموا بكل وضوح خلال النبوّات كل ما يخصّ المسيّا الملك في تفاصيل كثيرة، لكن قتلة الأنبياء (مت 23: 37) يرفضون قبول نبواتهم عمليًا. وكما قتل آباؤهم الأنبياء ها هم يريدون أن يقتلوا من تنبَّأوا عنه.
يرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه أن العبيد الآخربن هم الرسل الذين جاءوا يعلنون لليهود العرس الذي تحدّث عنه أنبياؤهم، لكنهم رفضوه وجاء تلاميذهم أي خلفهم يكرّرون الدعوة.
ما فعله السيِّد مع اليهود فعله معنا جميعًا، فإنه لا يمل من إرسال عبيد لدعوتنا لهذا العرس بكل طريقة لكي نقبَّله عاملاً فينا. يدعونا خلال خدّامه وإنجيله والأحداث المحيطة بنا، ويتّكلم بروحه فينا. إنه “واقف على الباب يقرع” ينتظر أن ندخل به إلى قلبنا كما إلى جنّته، نجلس فيها سويًا، وننعم بالاتّحاد معه!
الدعوة
كانت ولا تزال دعوته إلينا خلال عبيده: “هوذا غذائي أعددته، ثيراني ومسمّناتي قد ذُبحت، وكل شيء مُعد؛ تعالوا إلى العرس” [4].
إنها دعوة إلهيّة: “تعالوا إلى العرس“، تحمل قوّة وسلطانًا تقدر أن تجتذب القلب إلى العريس ليتَّحد معه ويكون معه واحدًا، لكن دون إلزام أو إجبار. وقد دفع العريس ثمن الدعوة بقوله: “هوذا غذائي أعددته، ثيراني ومُسمَّناتي قد ذُبحت، وكل شيء مُعد“. تكلفة الدعوة هي حياته التي بذلها لمصالحتنا مع أبيه صاحب الدعوة، مقدّمًا لنا جسده ودمه المقدّسين طعامًا وشرابًا روحيًا لوليمة الملكوت الجديد. لقد صار كل شيء معدًا لدخولنا إلى الوليمة المقدّسة التي هي في جوهرها ارتفاع إلى الحياة السماويّة، فقد أرسل لنا روحه القدّوس في كنيسته، عمله أن ينطلق بكل نفس خلال التوبة إلى الحضرة الإلهيّة، ويرتفع بها من مجدٍ إلى مجدٍ، ليدخل بها إلى الهيكل الإلهي لتشارك الملائكة ليتورجيَّاتهم وتسابيحهم وتفتح فاهها لتتقبّل عريسها في داخلها سرّ فرح أبدي لا ينقطع. هكذا ينشغل الثالوث القدّوس بهذا العرس، فالآب هو صاحب الدعوة، والابن هو العريس الذي يدفع تكلفة العرس، والروح القدس هو الذي يعمل فينا ليهيئنا للعرس.
ما هي هذه الوليمة التي أُعدَّت إلا تحقيق النبوّات بتقديم السيِّد المسيح عمله الخلاصي خلال الصليب، ذبيحة سرور ورضا لدى الآب وشبع للنفس البشريّة. لهذا يقول:”ثيراني ومُسمَّناتي قد ذُبحت، وكل شيء مُعد” [4]. لقد أُعدَّت المائدة المشبعة لله والناس!
يرى العلاّمة أوريجينوس أن هذه المائدة الإلهيّة هي كلمة الله، فالثيران المذبوحة إنّما هي منطوقات الله العظيمة المُعدة لنا كطعامٍ روحيٍ، والمسمنات هي كلماته العذبة الشهيَّة. كأنه بمجيء الكلمة المتجسّد وارتفاعه على الصليب دخل بنا إلى سرّ الكلمة لنكتشف عظمتها ودسمها.
ويرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه أن الثيران إنّما ترمز للشهداء الممجَّدين الذين شهدوا للرب مقدِّمين حياتهم ذبائح مختارة، والمُسمنات تُشير إلى الروحيّين الذين ينتعشون بالخبز السماوي ليحلِّقوا كالطيور، فيقدّمون كشبع للآخرين من الدسم الذي أكلوه. وكأننا إذ ننعم بملكوت السماوات خلال عضويّتنا الحقيقية للكنيسة المقدّسة ندخل إلى الوليمة التي تشبعنا، هذه التي قدّم الشهداء حياتهم ثمنًا للشهادة، والروحيّون جهادهم الدسم ثمنًا لحبّهم لمن فداهم. حقًا إن دماء الشهداء وجهاد الروحيِّين لا يضيع بل يبقى رصيدًا تعيش عليه الأجيال، لا لينتهي، إنّما ليضيفوا إليه أرصدة جديدة بشهادتهم وجهادهم القانوني. لهذا تترنَّم الكنيسة في ختام ثيؤطوكيَّات الواطس: “يأتي الشهداء حاملين عذاباتهم، ويأتي الصدّيقون حاملين فضائلهم، ويأتي ابن الله في مجده ومجد أبيه”.
قابلو الدعوة ورافضوها
هذه الوليمة كما يكشفها لنا الوحي الإلهي في سفر الأمثال، تقدَّم لا للحكماء المتَّكلين على فهمهم، وإنما للذين هم في الشوارع والطرقات، يجوعون للحكمة الإلهيّة ويعطشون. لمثل هؤلاء تُقدّم الوليمة فيتناولوا الذبيحة المقدّسة، وينعموا بخمر الفرح الأبدي، فتبني الحكمة بيتها فيهم، بل يصيرون هم أنفسهم بيت الحكمة، حيث يسكن السيِّد المسيح، الحكمة ذاته، فيهم. جاء في سفر الأمثال: “الحكمة بنت بيتها، نحتت أعمدّتها السبعة، ذبحت ذبْحها، مزجت خمرها، أيضًا رتَّبت مائدتها، أرسلت جواريها تنادي على ظهور أعالي المدينة: من هو جاهل فلْيَمل إلى هنا، والناقص الفهم قالت له: هلمّوا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها، اُتركوا الجاهلات فتحيوا وسيروا في طريق الفهم” (أم 9: 1-6).
إنها دعوة للعطاش إلى الحكمة، يُحرم منها من يظن في نفسه أنه في حالة شبع؛ دعوة للخطاة الراجعين، ينعمون بها أكثر ممن يظنّون في أنفسهم أنهم أبرار. فقد أقيمت الوليمة للابن الضال كطلب الآب المحب: “اِخرجوا الحُلًَّة الأولى وأَلبسوه، واجعلوا خاتمًا في يده وحذاء في رجليه، وقدّموا العجل المسمَّن واذبحوه، فنأكل ونفرح، لأن ابني هذا كان ميّتًا فعاش، وكان ضالاً فوُجد، فابتدأوا يفرحون” (لو 15: 22-24). أمّا الابن الأكبر، وإن كان لم يفعل ما ارتكبه أخوه، لكنّه وقف خارجًا حزينًا من أجل الوليمة المقامة والفرح الذي يملأ بيت أبيه.
في المثال الذي قدَّمه السيِّد يُظهر المدعوين متهاونين بالوليمة كالابن الأكبر السابق ذكره، إذ يقول: “ولكنهم تهاونوا ومضوا واحد إلى حقله وآخر إلى تجارته. والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم” [5–6]. إنهم بالفعل هم الابن الأكبر، إذ هم جماعة اليهود الذين سبقوا الأمم في معرفة الله ولم يصنعوا شرورًا كالابن الأكبر أي الأمم، لكنهم لم ينعموا بالوليمة التي قُدّمت للابن الأصغر. لقد “تهاونوا” معتمدين على بنوَّتهم لإبراهيم ونوالهم الناموس والوعود وتمتّعهم بالنبوّات. “ومضوا واحد إلى حقله وآخر إلى تجارته“. عاد الشعب إلى حقله، أي إلى الانشغال بالأمور الزمنيّة، والكهنة إلى تجارتهم أي إلى الهيكل يمارسون فيه “التجارة بالدين” عِوض العبادة الروحيّة. هكذا تركوا “المسيح” العريس ووليمته السماويّة لينشغلوا بالأمور الأرضيّة.
مساكين هم هؤلاء المتهاونون بالوليمة، واحد منهم يُحرم منها بسبب حقله أي ذاته أو الأنا ego التي تثْقل نفسه فيبقى مرتبطًا بالحقل الذي يظنُّه باقيًا له إلى الأبد، أي يرتبط بالأرض ولا يقدر أن يرتفع إلى السماويات. هكذا تربطه الأنا بما هو حوله، فلا يقدر أن يتبرّر ليرتفع فوقها ويتّسع قلبه فوق حدودها! وآخر يُحرم من الوليمة من أجل تجارته، فتتحوّل العبادة إلى بيع وشراء من أجل الأنا أيضًا كما في الهيكل في أيام السيِّد المسيح، فيكون قلبه مركزًا للأعمال البشريّة لحساب مكاسب زمنيّة ومديحٍ زمنيٍ عِوض الأمجاد الأبديّة والأفراح الإلهيّة الدائمة، أمّا الثالث فيُحرم من العرس بسبب حبّه للشر، فيقابل العبيد المرسلين إليه للدخول إلى الوليمة بالسب والشتم بل والقتل، كأنما يتقدّمون إليه بأذيَّته. هكذا القلب الشرّير خلال البصيرة المظلمة يرى حتى الدعوة إلى العرس شرًا يقاومه بالشرّ!
يا للعجب! عندما يدعو الله الناس للفرح الأبدي يتذمَّرون ويرفضون، بل ويتطاولون على خدّامه بالسب والقتل. وعندما يطلب منهم النوح للتوبة يفرحون ويتهلّلون حسب أهواء قلبهم الشرّير. يقول إشعياء النبي: “ودعا السيِّد رب الجنود في ذلك اليوم إلى البكاء والنوح والقرعة والتنطُّق بالمسح، فهوذا بهجة وفرح وذبح ونحر غنم، أكل لحم وشرب خمر، لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت” (إش 22: 12-13). لهذا يقول السيِّد الرب: “بمن أشبِّه هذا الجيل؟! يشبه أولادًا جالسين في الأسواق ينادون إلى أصحابهم ويقولون: زمّرنا لكم فلم ترقصوا، نُحنا لكم فلم تلطِموا“ (مت 11: 16-17). يدعوهم للعرس فيأبون الحضور، ويسألهم النوح على خطاياهم فيرفضون. لهذا يُعلن السيِّد غضبه على هذا الشعب الرافض الدعوة، مقدّمًا إيّاهم للأمم إذ يقول: “فلما سمع الملك غضب وأرسل جنوده وأهلك أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم. ثم قال لعبيده: أمّا العرس فمستعد، وأمّا المدعوُّون فلم يكونوا مستحقِّين. فاذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدّتموه فادعوه إلى العرس” [7-9].
لقد غضب الملك من أجل مقاومي الملكوت الذين كان يجب أن يفرحوا بالدعوة ويكرزون بها، فصاروا رافضين لها، بل ومضطهدين للداعين إليها. لقد ألزموا الملك المسيّا أن يرفضهم، فتنفتح أبواب عرسه للأمم الذين يتشبَّهون بملكة سبَأْ التي سمعت بخبر سليمان لمجد الرب (1 مل 10: 1) فأسرعت إليه تسمع حكمته. يقول الوحيّ: “فأتت إلى أورشليم بموكبٍ عظيمٍ جدًا، بجمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدًا وحجارة كريمة، وأتت إلى سليمان وكلّمته بكل ما كان بقلبها، فأخبرها سليمان بكل كلامها. لم يكن أمر مخفيًا عن الملك لم يخبرها به” (1مل10: 2-3). جاءت الأُمميَّة إلى أورشليم قاتلة الأنبياء، وارتفعت بقلبها نحو مدينة الملك العظيم، نحو السماء عينها، جاءت منطلقة بموكب عظيم جدًا تحت قيادة روح الله القدّوس، لتلتقي بسليمان الحقيقي واهب الحكمة وكاشف القلوب، الذي لا يُخفي عنه شيء. جاءت تُمثِّل كنيسة الأمم التي تقدّمت بجمالها، المحمَّلة بالأطياب والذهب الكثير جدًا والحجارة الكريمة. ما هذه الأطياب إلا مشاعر الحب التي كانت قبلاً مُمتصَّة بالكامل في الشهوات، فصارت الآن تحمل رائحة المسيح الذكية؟! والذهب الذي كان يستخدم في صنع الأصنام والآلهة الوثنيّة، وقد صار رمزًا للحياة الجديدة السماويّة وقبول ملكوت المسيح فينا؟! والحجارة الكريمة التي كانت لزينة الهياكل الوثنيّة وملابس الكهنة الوثنيّين، قد صارت الآن رمزًا للمسيح نفسه “اللؤلؤة كثيرة الثمن” (مت 13: 46)، ولأبواب أورشليم العليا وأساستها (رؤ 21: 19، 21)!
كانت الأمم تعيش في الحياة المترفة المملوءة بالنجاسات، وكان الغنى عائقًا لها عن معرفة الله، كالجمل الذي لا يدخل من ثقب إبرة (مت 19: 24). لكنها إذ قبلت الكرازة بالإنجيل استطاع الجمل أن يحمل كل إمكانيّاتها مقدّسة للرب، فيعبُر بها خلال الباب الضيق “ثقب الإبرة”، ليقدّم مشاعرها وغناها من ذهب وحجارة كريمة لخدمة العُرس الجديد.
رأت كنيسة الأمم سليمان الحقيقي، مصدر الحكمة، والبيت الذي بناه (1 مل 10: 4) أي كنيسته كبيتٍ ملوكيٍ لها؛ وطعام مائدته ومجلس عبيده (1 مل 10: 5)، لتجلس وتأكل من المائدة المعدَّة: الثيران والمُسمَّنات المذبوحة… تتناول من مذبحة سرّ حياتها وشبعها. لقد دخلت إلى أسرار العرس حتى “لم يبق فيها روح بعد” (1مل10: 5).
هكذا انفتح الباب للأمم وصارت الدعوة للبشريّة كلها، إذ يقول السيِّد: “فاذهبوا إلى مفارق الطرق وكل من وجدّتموه فاِدعوه إلى العرس” [9]. يقول العلاّمة أوريجينوس عن هؤلاء العبيد الذين أرسلهم السيِّد إلى مفارق الطرق هم الرسل أو الملائكة، الذين عهد إليهم دعوة الأمم، فإن العرس بالحق مُعد. وإن كانت الطرق تُشير إلى العالم فإن مفارقه كما يقول القدّيس هيلاري أسقف بواتييه إنما تعني الدعوة لغفران كل الخطايا الماضية التي سقطت فيها البشريّة. إنها دعوة للجميع ولمغفرة كل الماضي!
ثوب العرس
انفتح باب الخلاص على مصراعيه ليدخل الكل إلى الوليمة، ولكن يلزم أن يلتحف بلباس العرس، إذ يقول السيِّد: “فلما دخل الملك لينظر المتّكئين رأي هناك إنسانًا لم يكن لابسًا لباس العرس. فقال له: يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العرس؟ فسكت. حينئذ قال الملك للخدّام: اِربطوا رجليه ويديه وخذوه واِطرحوه في الظلمة الخارجيّة. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان. لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون” [11-14].
حقًا إن الدعوة مفتوحة للجميع، إذ الله “يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون“ (1تي 2: 4)، لكن ليس الكل يقبل نعمة الله التي تقدّسه، بل قليلون هم الذين يقبلونها ويتجاوبون معها، فيصير لهم ثوب “الحياة المقدّسة” اللائق بالعرس الإلهي. يقول صفنيا النبي: “لأن الرب قد أعد ذبيحة قدْس مدعوِّيه. ويكون في يوم ذبيحة الرب إني أعاقب الرؤساء وبني الملك وجميع الأمم اللابسين لباسًا غريبًا“ (صف 1: 7-8). فإن كانت الدعوة قد وجِّهت للأمم الذين كانوا في الطرقات، فصاروا رؤساء وبني الملك، لكنهم إن لم يحملوا الثوب المقدّس في الرب يُطردون. يكون حالهم كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم كمن يهتمّ بثياب خارجيّة مُوَشَّاة بالذهب بينما تلتحف نفسه الداخليّة بالخرق الباليّة، أو كمن يسكن في قصر فخم مزيَّن بستائر ذهبية، بينما يبقى هو عاريًا يلبس الخِرق. ثوب العْرس عنده هو الحياة الداخليّة المقدّسة والمعلنة خلال التصرّفات العمليّة. حقًا إن الذين يدخلون العرس بثياب دنسة هم أكثر شرًا من الذين احتقروا الدعوة ورفضوها. فإن الآخرين احتقروا صاحب الدعوة برفضهم إيّاها، أمّا الأوّلون فاحتقروه بدخولهم الوليمة بحياة دنسة وثياب داخليّة نجسة لا تليق بكرامة صاحب الوليمة.
يرى البعض أن لباس العرس ما هو إلا الإنسان الجديد الذي ننعم به في مياه المعموديّة كصورة خالقه، والذي يلتزم المؤمن بالحفاظ عليه ناميًا بواسطة روح الله القدّوس خلال حياة التوبة العمليّة المستمرّة والجهاد الروحي القانوني. يقول القدّيس هيلاري أسقف بواتييه: [ثوب العرس هو نعمة الروح القدس والبهاء الذي يضيء الحالة السماويّة التي يتقبّلها بالاعتراف الصالح الذي للإيمان، فيصير المؤمن بلا دنس ولا عيب إلى اجتماع ملكوت السماوات[2].] وكأن ثوب العرس هو الحياة الجديدة التي صارت لنا كعطيّة الروح القدس نتقبّلها بالإيمان الحق خلال مياه المعموديَّة بتمتّعنا بالإنسان الجديد. لكن ليس كل من اِعتمد يحتفظ بثوب عرسه… إنما يلتزم خلال إيمانه أن يسلك بالوصيّة الإنجيليّة بالروح القدس الساكن فيه. لهذا يقول القدّيس جيروم: [ثوب العرس هي وصايا الرب والأعمال التي تتمِّم الناموس والإنجيل، فتصير ثوبًا للإنسان الجديد، فمن يوجد في يوم الحكم حاملاً اسم “مسيحي” وليس له هذا الثوب يُدان[3].]
ويحدّد القدّيس أغسطينوس[4] الثوب في وصيّة واحدة يلتزم بها المسيحي هي “المحبّة”. حقًا إن جميع الداخلين إلى الكنيسة أي ملكوت السماوات ينالون المعموديّة وقد يصومون ويصلّون. لكن سِمة المحبّة الحقيقيّة هي الثوب البهي الذي بدونه لن ينعم أحد بالوليمة، ويحدّد القدّيس على وجه الخصوص محبّة الأعداء بكونها المحك الحقيقي الذي يكشف عن حبّنا لله والقريب. لقد أعلن السيِّد محبّته للأعداء على الصليب طالبًا لهم الغفران، وحمل الشهيد استفانوس ذات الروح أثناء رجمه، معلنًا أنه يلبس ثوب العرس الأبدي. في محبّة الأعداء تتم كل الوصايا ويُعلن بهاء الإنسان الجديد الذي نلناه في مياه المعموديّة، وتظهر قوّة الروح القدس العامل فينا… بمعنى آخر ما يقوله القدّيس أغسطينوس إنما يكمّل ما قاله الآباء الآخرون.
فيما يلي مقتطفات مختصرة لكلمات القدّيس أغسطينوس في هذا الشأن:
- ثوب العرس، هل هو المعموديّة؟ بلا شك بدون المعموديّة لا يدخل أحد إلى الله، لكن ليس كل من ينال المعموديّة يأتي إليه، لذلك لا يمكننا أن نتطلّع إلى المعموديّة كثوب العرس… هنا ثوب العرس! “وأما غاية الوصيّة فهي المحبّة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء” (1تي1: 5). هذا هو ثوب العرس! لكنّها ليست أيّة محبّة!
- يُرتدى ثوب العرس تكريمًا للعرس، أي تكريمًا للعروس والعريس… إذن فلتكرم العريس ولتكرم العروس ولتكن ابنًا لهما!
- ليكن لكم الإيمان العامل بالحب، فإن هذا ثوب العرس. يا من تحبُّون المسيح حِبُّوا بعضكم بعضًا، حِبُّوا أصدقائكم وأعداءكم، ولا يكن هذا ثقلاً عليكم… أن تحبُّوا زوجاتكم وأولادكم هذا ليس بالأمر الكافي ليكون ثوبًا للعرس.
آمنوا بالله! لتحبُّوا الله أولاً، وليمتد حبّكم له مقتنصين كل أحدٍ له. ألك عدو؟ اِقتنصه (بالحب) لله، لك زوجة وابن وعبد، أحضرهم لله. يوجد غريب! اِقتنصه لله، اِحضر عدوّك، فإنه لا يعود بعد عدوًا لك.
لتصير فينا المحبّة كاملة ولتنتعش فتتكمّل، بهذا نرتدي ثوب العرس.
القدّيس أغسطينوس
- بحق تدعى المحبّة ثوب العرس، فقد اِلتحف به خالقنا عندما جاء إلى عرسه مع الكنيسة. خلال حب الله فقط وَحَّد الابن الوحيد نفوس المختارين من البشر معه. لهذا يقول يوحنا: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد” (يو 3: 16)… فمن يأتي إلى وليمة العرس بدون ثوب العرس إنّما هو ذاك الذي له إيمان بدون حب[5].
الأب غريغوريوس (الكبير)
وإذ يتكلَّم القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن المحبّة يقول أنها الثوب الملوكي الذي يلتحف به الإنسان فيصير كملكةٍ تدخل إلى العرش لتلتقي بالملك السماوي، ولا يقدر أحد من رجال البلاط أن يعترض طريقها.
ويرى الأب غريغوريوس (الكبير) أن هذا الثوب الملوكي للعرس إنّما يُنسج بين عارضتين، هما محبّة الله ومحبّة القريب. فالحب هو طبيعة تتّسم بها النفس، لا تقدر أن تفصل محبّة الله عن القريب ولا القريب عن الله، الأمر الذي تحدّثنا عنه في دراستنا لسفر زكريّا (الأصحاح الثاني).
موقف غير اللابسين للثوب
يقول السيِّد “فقال له: يا صاحب كيف دخلت إلى هنا وليس عليك لباس العُرس، فسكت” [12]. لقد اِنتهى الزمان الذي كان يمكن فيه أن ينسج ثوب العرس، لذا يصمت من ليس لهم الثوب، إذ ليس لهم عذر ولا إمكانيّة للعمل!
- لا يوجد في هذه الساعة موضع للتقدّم ولا فرصة للاعتذار لذلك يشهد كل الملائكة والعالم نفسه عن خطاياه[6].
القدّيس جيروم
- من يخطئ ولم يتجدّد ولا لبس الرب يسوع المسيح ليس له عذر، لذلك قيل “فسكت”[7].
العلاّمة أوريجينوس
الظلمة الخارجيّة
“قال الملك للخدّام:
أربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجيّة،
هناك يكون البكاء وصرير الأسنان” [13].
الإنسان الذي رفض بالحب أن يلبس ثوب العرس، فينال الحلّ من الخطيّة، مُقيِّدًا نفسه بنفسه بخطاياه خلال عدم محبّته، يسلّمه الملك المسيح للخدّام لكي يُربط، فيُحرم من حرّية الروح وحرّية الجسد، لا يقدر أن يحرّك رجليه ولا يديه، إذ لا يعرف أين يذهب ولا ماذا يفعل. لقد اختار أن يبقى في الظلمة الداخليّة، إذ انطمست بصيرته الداخليّة عن التمتّع بالحياة الجديدة وإدراك أسرار مسيحه، لهذا ينال أيضًا الظلمة الخارجيّة… هي امتداد لما صنعه بنفسه في داخله. أمّا البكاء وصرير الأسنان فيشير كما يقول القدّيس جيروم إلى قيامة الجسد ليشترك مع النفس في مرارة الظلمة الخارجيّة.
كثيرون يُدعوْن، وقليلون يُنتخَبون
في حديث السيِّد المسيح عن ملكوت السماوات يميّز بين وليمتين، الأولى وليمة العُرس التي نتحدّث عنها هنا، وهي تمثل الكنيسة الحاضرة التي تحمل عريسها في داخلها، ويجتمع فيها المؤمنون كأعضاء جسد المسيح يلبسون ثياب العرس، وإن كان يتسلّل معهم وبينهم من هم بغير هذه الثياب. أمّا الوليمة الأخرى (مت 8: 11) فهي امتداد للوليمة الحاضرة لا يوجد فيها إلا لابسو ثياب العرس.
يصف السيِّد وليمة العرس التي نعيشها الآن فيقول: “لأن كثيرين يُدعوْن، وقليلين يُنتخَبون” [14]. ويُعلّق الآباء على هذا القول الإلهي هكذا.
- كثيرون هم الذين يأتون إلى العُرس، وقليلون هم الذين يجلسون على المائدة[8].
العلاّمة أوريجينوس
- الصالحون كثيرون فإن قورنوا بالأشرار نجدهم قليلين. كثيرة هي حبوب الحنطة، لكنَّها إن قورنت بالتِبن تحسب قليلة[9].
القدّيس أغسطينوس
يتطلّع الأب غريغوريوس (الكبير) ليرى الكنيسة وقد اختفت الحنطة وسط التبن، فظهر كثير من الأشرار والخطاة وقليل من الأبرار الصالحين، لذلك يشبهها بفلك نوح المتسع من أسفل حيث يضم الحيوانات والثعابين، أمّا الإنسان والطيور ففي الطبقة العليا الضيقة. الجسديون من أسفل يملأون الفلك، أمّا الروحيّون فقليلون من أعلى. حقًا يتطلّع الرب إلى الكنيسة ليجد الأبرار كالسوسنة المحاطة بكثير من الأشواك (نش 2: 2). في مرارة يقول الإنسان لابس ثوب العرس: “صرت أخًا للتنانين وصاحيًا للنعام“ (راجع أي30: 29). هذه هي الكنيسة أنها تضم قدّيسين، لكن الأشرار كالتنانين والمهملين كالنعام يتسلّلون إليها.
- سؤاله بخصوص الجزْيَة
إن كان السيِّد قد فضح القادة الدينيّين لليهود بأمثاله لأجل توبتهم، فإنهم عِوض إصلاح موقفهم ورجوعهم عن العناد ازدادوا قسوة، فتكاتفوا معًا على مقاومته بكل طريقة.
“حينئذ ذهب الفرّيسيّون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة.
فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودسيّين، قائلين:
يا معلّم نعلم أنك صادق وتُعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد،
لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس.
فقل لنا ماذا تظن،
أيجوز أن تُعطي جزية لقيصر أم لا؟” [15-17]
يمكننا أن نتوقَّع من الهيرودسيّين مثل هذا السؤال، إذ يهتمّون بجمع الجزية فيقدّمون منها نصيبًا لقيصر ويغتصبون الباقي لحسابهم الخاص، أمّا ما هو عجيب فإن الذين يثيرونه هم الفرّيسيّون الذين كانوا يطلبون التحرّر من الاستعمار الروماني، ويحسبون هذه الجزية علامة عبوديّة ومذلّة، ويتطلّعون إلى الهيروديسيّين كخونة ضدّ أمّتهم وناموسهم. لكن من أجل الخلاص من المسيح ومقاومة عمله كانوا يعملون مع الهيروديسيّين متجاهلين أفكارهم نحوهم التي نشأوا عليها زمانًا.
“فعلم يسوع خبثهم، وقال: لماذا تجرِّبونني يا مراءون؟” [18]. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد دعاهم مُرائين حتى متى عرفوا أنه قارئ قلوب البشر لا يتجاسروا بعد أن يتمّموا خططهم[10].]
يكمّل السيِّد حديثه، قائلاً: “أرُوني معاملة الجزية، فقدّموا له دينارًا. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟. قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. فلما سمعوا تعجّبوا وتركوه ومضوا” [19-22].
كان ذلك الموقف فرصة يُعلن فيها السيِّد مبدأً روحيًا يلتزم به تلاميذه، ألا وهو “أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، والعجيب أنه قدّم إعطاء قيصر حقّه قبل إعطاء الله حقّه. التزام المسيحي بالطاعة لقيصر أو للرؤساء وتقديم حقوق الوطن عليه من ضرائب والتزامات أخرى أدبيّة وماديّة فيه شهادة حق لحساب الله نفسه. يقول القدّيس بولس: “لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتَّبة من الله، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة… لذلك يلزم أن يُخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضًا بسبب الضمير، فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضًا… فاعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام” (رو 13: 1-7).
يقول القدّيس أمبروسيوس: [يلزم الخضوع له كما للرب، وعلامة الخضوع هو دفع الجزية]، وأيضًا يقول: [يركّز الرسول على أن نرُد له ليس فقط المال، بل الكرامة والمهابة[11].]
إذن ليست هنا ثنائيّة بين عطاء قيصر حقّه وعطاء الله حقّه، فإن كليهما ينبعان عن قلبٍ واحدٍ يؤمن بالشهادة لله خلال الأمانة في التزامه نحو الآخرين ونحو الله.
في هذا المبدأ أيضًا احترام الكنيسة لقيصر، تعطيه حقّه في تدبير أموره، فلا تتدخل في السياسة، وإنما تلتزم بعملها الروحي. فالكنيسة ليست دولة داخل دولة، ولا هي منعزلة عن قيصر، إنّما تحبّه وتكرمه وتعطيه حقّه. هكذا تقدّم له حقّه، لكن ليس على حساب حق الله وشهادتها له.
ويرى بعض الآباء في هذه العبارة الإلهيّة معنى رمزيًا، فإن كان قيصر يمثّل الجسد فإن الله يمثّل النفس، وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [لنعطِ الجسد بعض الأشياء أي الضروريّات كجزية لقيصر، أمّا الأمور الخاصة بطبيعة نفوسنا والتي تقودنا للفضيلة فيجب أن نقدّمها لله[12].] أمّا القدّيس هيلاري أسقف بواتييه فيقول: [لنرد لله ما هو لله أي نقدّم له الجسد والنفس والإرادة، عملة قيصر هي من الذهب وعليها ختم صورته، وعملة الله عليها صورته. لنعطِ المال لقيصر ولنحتفظ بالضمير الذي بلا عيب لله[13].]
ما أحوجنا أن نفتح القلب بالروح القدس للسيِّد المسيح، فيصير بكامله له، عندئذ لا نحتاج إلى مجهود في تقديم كل حياتنا له، مقدّمين ما للمسيح للمسيح. فإن تقدَّست كل الحواس وانفتحت أبوابها لتتقبّل ما هو للمسيح تقدّم كل الحياة للمسيح. أمّا إن انفتحت أبواب الحواس لمشتهيات العالم وشهواته فلا يكون فينا ما هو للمسيح لنقدّمه له، بل نقدّم ما للعالم للعالم. في هذا يقول القدّيس هيلاري: [إن كان ليس لقيصر شيء لدينا فلا نلتزم أن نرد له شيئًا، ولكن إن كنّا نعتمد عليه وننعم بمميزات حكمه نلتزم أن نرد ماله.] ليتنا إذن لا نكون مدينين لأحد بشيء، ولا للشيطان أو الخطيّة حتى لا نلتزم له برد الضعف، إنّما نكون مدينين لله بكل عطاياه المجّانيّة ومحبّته فنقدّم له حياتنا وحبّنا.
في أسلوب آخر يقول القدّيس أغسطينوس: [كما يطلب قيصر صورته على العملة هكذا يطلب الله صورته فينا[14].] بمعنى أن من يجد صورته فينا يمتلكنا ويستعبدنا، فإن رأى الله صورته فينا لا نقدر أن نهرب منه، وإنما من حقّه أن يمتلكنا ويستعبدنا، وإن رأى العالم فينا صورته يستعبدنا ويذلِّنا تحت قدميه.
نستطيع أن نقول بأن هذا الدينار الذي أمسك به السيِّد وقد حمل ختم قيصر وكتابته ليس إلا النفس البشريّة التي حملت صورة الله ومثاله، حتى بعد سقوطها عاد الروح القدس فختمها من جديد، لتحمل صورة الملك وسجل فيها كلمته، لنلتزم أن نقدّم للملك السماوي عُملته الروحيّة تحمل صورته وكتابته. وكما أن العُملة إن أُهملت زمانًا تحتاج إلى تنظيفها لتظهر الصورة والكتابة من جديد، هكذا بالتوبة المستمرّة تظهر صورة خالقنا متجليّة في حياتنا.
ويقدّم لنا العلاّمة أوريجينوس تفسيرًا رمزيًا آخر لكلمات السيِّد هنا، إذ يقول: [يحمل الإنسان صورتين؛ الأولى استلمها من الله عند الخلقة كما يقول سفر التكوين: “على صورة الله خلقه” (تك 1: 27)، والأخرى صورة الإنسان الترابي (1 كو 15: 49) التي أخذها بسبب عصيانه وخطيَّته عند طرده من الفردوس وقد أغراه “رئيس هذا العالم“ (يو 12: 31). كما أن العُملة أو الفلس بها صورة لسلطان هذا العالم، هكذا من يتمّم أعمال رئيس الظلمة (أف 6: 12) يحمل صورته. لذلك يأمر يسوع بإرجاع هذه الصورة ونزعها عنّا حتى نتقبّل الأصل الذي عليه خلقنا مشابهيّن لله. بهذا نرد ما لقيصر لقيصر وما لله لله… بنفس المعنى يقول بولس: “كما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي“ (1 كو 15: 49). فالقول “اِعطوا ما لقيصر لقيصر” إنّما يعني: [اتركوا صورة الترابي، اِلقوا عنكم الصورة الأرضيّة لتنعموا بصورة الإنسان السماوي، عندئذ تعطوا ما لله لله[15].]
- سؤال بخصوص القيامة
إذ كان السيِّد المسيح يتحدّث عن الملكوت السماوي كملكوت أبدي، تقدّم إليه الصدّوقيّون الذين سيطر عليهم الفكر المادي، خاصة في تفسير الكتاب المقدّس بطريقة حرفيّة، فلم يستطيعوا أن يقبلوا عودة الجسد بعد انحلاله لذلك أنكروا القيامة، فاصطدموا بكلمات السيِّد في هذا الشأن. سألوه: “يا معلّم، قال موسى إن مات أحد وليس له أولاد يتزوّج أخوه بامرأته ويقيم نسلاً لأخيه. فكان عندنا سبعة إخوة وتزوَّج الأول ومات. وإذ لم يكن له نسل ترك امرأته لأخيه. وكذلك الثاني والثالث إلى السبعة. وآخر الكل ماتت المرأة أيضًا. ففي القيامة لمن من السبعة تكون زوجة، فإنها كانت للجميع؟” [24-28].
يقول العلاّمة أوريجينوس: [يرجع خطأ كل الصدّوقيّين إلى عدم فهمهم لعبارات الأنبياء، كأن يقرأون في إشعياء: “لا يتعبون باطلاً ولا يلدون للرعب، لأنهم نسل مباركي الرب وذرّيتّهم معهم” (إش 65: 23)، وفي فصل البركة في التثنية: “ويبارك ثمرة بطنك” (تث 28: 4). فيعتقدون أن هذا يتحقّق عند القيامة دون أن يفهموا أنه يتنبأ عن البركة الروحيّة. فبولس “الإناء المختار“ (أع 9: 15) يدرك تمامًا أن البركة المُشار إليها في الناموس لا تعني الجانب الجسداني، إنّما يفسرها بطريقة روحيّة، فيقول لأهل أفسس: “مبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحيّة في السمويّات” (أف 1: 3)… يسقط الصدّوقيّون في نفس الخطأ حين يقرأون في المزامير (بطريقة حرفيّة): “امرأتك مثل كرْمة مخصبة في جوانب بيتك، بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك هكذا يُبارَك الرجل المتَّقي الرب” (مز 128: 3-4)… بينما الذين يفهمون العبارة عن أورشليم الروحيّة يُدركون أنها “أورشليم العُليا التي هي أُمِّنا جميعًا، فهي حرة“ (غل 4: 26)، ويرون أن فيها تتحقّق هذه الخيرات الواردة في المزمور[16].]
قدّموا للسيِّد المسيح القصة السابقة ظانِّين أنها لغز لا يمكن حلُّه، لكن السيِّد كعادته يستخدم حتى المقاومة كفرصة لتقديم المفاهيم الإيمانيّة السليمة. فقد انتهز السيِّد هذه الفرصة ليحدّثنا عن مفهوم الحياة الملكوتيّة العتيدة، مؤكِّدًا أنها لا تقوم على مفاهيم أرضيّة، ولا يرتبط فيها الأعضاء برباطات جسديّة، إذ يقول: “تضلُّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوّة الله. لأنهم في القيامة لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كملائكة الله في السماء. وأما من جهة قيامة الأموات، أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل. أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، ليس الله إله أموات بل إله إحياء” [29-32].
لقد أجاب السيِّد سؤالهم من جانبين: من الجانب المنطقي، فإن الحياة الأبديّة هي حياة فائقة على مستوى ملائكي، ومن الجانب الكتابي أن الله إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، إنّما هو إله أحياء لا إله أموات.
في الحياة الأبديّة نمارس حياة ملائكيَّة فلا يوجد زواج. هنا يسترعي القدّيس يوحنا الذهبي الفم اِنتباهنا أنه ليس لأنهم لا يتزوَّجون هم ملائكة، وإنما لأنهم ملائكة فهم لا يتزوَّجون[17]. لذلك فإن غايتنا – حتى بالنسبة للرهبان – أن ننعم بالحياة الملائكيّة لا عدم الزواج في ذاته.
يقول القدّيس كيرلّس الكبير[18] أن الصدّوقيّين بشرِّهم اقتربوا إلى السيِّد المسيح مخلّص الكل، الذي هو الحياة والقيامة (يو 11: 25)، وكانوا يسعون لإنكار القيامة حتى يفقدوا العالم كلّه الرجاء، وكان يمكن للسيِّد المسيح أن يؤكّد لهم القيامة من كتابات الأنبياء (هو 13: 14، إش 36: 19، مز 104: 29) لكنّه لم يدخل معهم في مناقشات كلاميّة، إنّما قدّم لهم تذوّقا جديدًا للقيامة، ملهبًا قلب مؤمنيه نحوها للتمتّع بالحياة الملائكيّة الفائقة.
ربّما نتساءل: هل في السماء نتجاهل القرابات الجسديّة؟
يجيب القدّيس أغسطينوس: [لا يوجد في ملكوت السماوات قرابات زمنيّة من هذا النوع: “لأنه ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر وأنثى” (غل 3: 28)، “بل المسيح الكل في الكل” (كو 3: 11)… لو سألنا مسيحيًّا صالحًا له زوجة، وقد يكون لديه أبناء منها عمَّا إذا كان يرغب في أن تكون له علاقة جسديّة بزوجته في ملكوت السماوات، فبالرغم من محبّته لزوجته في الحياة الحاضرة وارتباطه بها، سيجيب بلا تردّد رافضًا بشدة أن تكون علاقته بها في السماء علاقة جسديّة، لأنه يهتمّ بتلك الحياة التي فيها يلبس الفاسد عدم فساد، وهذا المائت عدم موت. هل لي أن أسأله مرّة أخرى، عمَّا إذا كان يرغب في أن تكون زوجته معه بعد القيامة هناك، حتى يكون لها ذلك التغيّر الملائكي الذي وعد به الرب القدّيسين، فإنه سيجيب بالإيجاب بشدَّة، قدر ما رفض بشدة في الحالة الأولى… وهذا ما ينطبق أيضًا على الأبوَّة والأمومة وبقيّة العلاقات الجسديّة… فهناك لا نقول لأحد “أبي” بل جميعنا نقول لله “أبانا”، ولا نقول لأحد “أمِّي”، بل نقول جميعنا لأورشليم السماويّة “أُمِّنا”، ولا نقول لأحد “أخي” بل يقول كل للآخر “أخانا”. حقًا سيكون هناك زواج من جانبنا، إذ نتقدّم جميعًا كزوجة واحدة لذاك الذي خلَّصنا من نجاسة هذا العالم بسفك دمه[19].]
ويجيب القدّيس جيروم قائلاً: [عندما يُقال: لا يزوَّجون لا يتزوِّجون يظهر أن التمايز الجنسي قد انتهى[20].] [حقًا سيكونون ممجّدين وينعمون بالسموّ الملائكي، لكنهم مع هذا يبقون بشريّين، فيبقى الرسول بولس وهو بولس ومريم هي مريم[21].] مرّة أخرى في حديثه ضدّ أتباع جوفنيانوس يقول: [إن كان الوعد لنا أن نكون كالملائكة، ولا يوجد بين الملائكة جنسان متمايزان، فإنّنا سنكون بلا تمايز جنسي كالملائكة. على أي الأحوال، فإنّنا إذ نقوم من الأموات نحمل الجنس الذي لنا لكننا لا نمارس وظيفة الجنس[22].]
يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [إذ تنزع كل شهوة جسديّة ولا يكون فيهم موضع للملذّات الجسديّة. يشبهون الملائكة، مقدّمين خدمة روحيّة غير ماديّة، فيصيرون كأرواح مقدّسة، وفي نفس الوقت يحسبون مستحقِّين لمجد يتمتّع به الملائكة[23].]
إن عدنا إلى القصة التي رواها الصدّوقيّون، فإنها ربّما تمثل قصَّة الكنيسة كلها. فالمرأة التي تحدّثوا عنها هي الكنيسة التي ارتبطت بعريسها الأبدي ليملأ قلبها، لكن من خلال واقعها الزمني الذي يُشار له بالرجال السبعة، لأن الزمن يُشار إليه برقم 7 (عدد أيام الأسبوع) ارتبطت بأعمال الناموس كرجل لها فظن اليهود أنهم أبرار، لكن يلزمهم أن يتقبّلوا العريس الأبدي إن ماتوا عن البِرّ الذاتي أو الأعمال البشريّة الزمنيّة الذاتيّة. هذه الكنيسة إذ تقوم لعريسها الأبدي تحمل الطبيعة الملائكيّة، ولا يقوى عليها الموت، فلا تحتاج إلى الزيجات الجسديّة بعد انقضاء الدهر.
نحن في العالم نحتاج إلى الزواج بسبب موت الجسد، لكننا إذ نصير كالملائكة لا تدخل إلينا الخطيّة ولا نسقط تحت الموت، فلا حاجة إلى زواجٍ لإنجاب أجيال تالية عِوض الجيل القائم.
- سؤاله عن الوصيّة العُظمى
“وأما الفرّيسيّون فلما سمعوا أنه أبكَمَ الصدّوقيّين اجتمعوا معًا.
وسأله واحد منهم وهو ناموسي ليجرّبه قائلاً:
يا معلّم أيّة وصيّة هي العُظمى في الناموس؟
فقال له يسوع: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك.
هذه هي الوصيّة الأولى والعُظمى.
والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك.
بهاتين الوصيّتين يتعلَّق الناموس كلّه والأنبياء” [34-40].
سمع الفرّيسيّون أنه أبكَمَ الصدّوقيّون. وقد ميّز العلاّمة أوريجينوس بين حالة البُكْم وحالة الصمت المقدّس. فقد أصيب الصدّوقيّون بالبُكْم كعلامة فشل، لم يجدوا بعد كلمة يمكنهم أن ينطقوا بها ضدّ الحق، أمّا الصمت المقدّس فهي حالة توقف إرادي عن الكلام مع الناس، لكي تنفرد النفس بالحديث مع الله. الصمت ليس علامة فشل وعجز بل انطلاق للنفس نحو الله تناجيه ويناجيها.
- بهاء الحق يُسكت على الدوام صوت الباطل المرّ والمضر.
- يصمت البار إذ يُعلّم أن للسكوت وقت وللكلام وقت (جا 3: 7)، لكنّه لا يصير أبكمًا. إنّما هذه سِمة خاصة بالصدّوقيّين – وكل من يُعلّم بالباطل، إذ هم يبكمون ولا يصمتون. فإنهم وإن كانوا بُكمًا عن الحق لكنهم غير صامتين، هكذا قال الرب للبحر وليس للإنسان أن يبكم، منتهرًا إيّاه إذ كان عاصفًا[24].
العلاّمة أوريجينوس
إذ سمع الفرّيسيّون أنه أبْكَم الصدّوقيّين اجتمعوا معًا، إذ شعروا بمهابة السيِّد المسيح وخشوا أن يلتقوا به فرادى، تقدّموا كجماعة… وعندئذ تقدّم فرّيسي ناموسي بمكر يجرّبه في الناموس ذاته، بسؤاله: “يا معلّم أيّة وصيّة هي العُظمى في الناموس؟” ربّما توقع الناموسي في السيِّد أن يميّز بين الوصايا الموسويّة فيكون بهذا قد احتقر الناموس، أو ربّما سمعوا عن موعظته التي ألقاها على الجبل مكملاً الناموس، فظنّوا أنه يجيب بأن الناموس ناقص، وأنه قد جاء ليكمّله، فيجدوا ما يشتكون به عليه. لكن السيِّد أجاب بحكمة وبالحق معلنًا أن الوصيّة الأولى والعظمة هي محبّة الله من كل القلب والنفس والذهن، وأن الوصيّة التاليّة ليست بأقل منها بل مثلها أن يحب الإنسان قريبه مثل نفسه.
بهذه الإجابة المختصرة قدّم لنا السيِّد مفهوم الوصيّة بمنظار مسيحي، أن الوصايا وِحدة واحدة لا تنفصل عن بعضها البعض، فإن كان حبّنا لله بلا حدود هو أعظم الوصايا، فإن حبّنا لإخوتنا ليس بأقل منها، إذ لا يمكننا أن نحب الله غير المنظور خارج حبّنا لإخوتنا المنظورين. وبحبّنا لله والإنسان إنّما تكمل جميع الوصايا والأنبياء. هذا من جانب، ومن جانب آخر فقد أراد السيِّد تأكيد حقيقة هامة وهي أن الوصايا ليست موضوع بحث عقلي ومناقشات ومجادلات، وإنما هي حياة حب يعيشها الإنسان ويحياها.
- هؤلاء وحدهم يتقبّلون داخلهم عظمة الوصيّة وأولويَّتها، ليس من يحبُّون الرب إلههم فحسب، إنّما يضعون في أنفسهم أن يحقّقوا هذا خلال شروط ثلاثة؛ أي بكل قلبهم يتمسَّكون في داخلهم بكمال هذا الحب وأفكاره وأعماله؛ وبكل نفسهم أي يكونون على استعداد أن يبذلوها من أجل الخدمة لله الذي خلق كل شيء، عندما يتطلّب ذلك نشر كلمته؛ فإن الله يُحَبْ من كل النفس عندما لا يُمسك أي جزء من النفس خارج حفظ الإيمان؛ ويحبّونه بكل الفكر، فلا يفكِّرون بشيء ولا ينطقون إلا في الإلهيّات[25].
العلاّمة أوريجينوس
- قريبي إنسان مثلي على صورة الله، يليق بي أن أُحبّه كما أُحِب نفسي… يلزمني أن أهتم به كما بجسدي ودمي، وأتعامل معه بالحب واللطف والحنو، غافرًا له أفكاره كما أغفر لنفسي أفكاري، وكما أشتاق إلى العفو من الآخرين عن ضعفاتي[26].
الأب يوحنا من كرونستادت
كيف يعتمد كل الناموس والأنبياء على هاتين الوصيّتين؟
- من يتمّم كل ما هو مكتوب بخصوص حب الله وحب القريب يستحق أن يتقبّل هبات الله العُليا، أوِّلها كلمة الحكمة خلال الروح القدس، خلالها تأتي كلمة المعرفة حسب نفس الروح (1 كو 12: 8). وإذ يتأهّل لكل هذه العطايا يفرح بحكمة الله ويمتلئ قلبه بحب الله، وتستنير نفسه بنور المعرفة وذهنه بكلمة الله.
- من له المحبّة لن يفرح بالظلم، وإنما يفرح على الدوام بالحق.
- من له المحبّة يحتمل كل التجارب بصبرٍ، ولا يكون له الإيمان جزئيًا بل الإيمان بكل شيء، ولا يكون رجاؤه جزئيًا بل يترجَّى كل شيء. ليس شيء لا تحتمله المحبّة[27].
العلاّمة أوريجينوس
- السيِّد يسألهم عن نفسه
إن كان قادة الفكر اليهودي قد قاوموا الملكوت بكل الطريق، فإن السيِّد أفحمهم بكشفه عن حقيقة شخصه كرب داود، إذ سأل الفرّيسيّين: “ماذا تظنّون في المسيح، ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربًا، قائلاً: قال الرب لربِّي اِجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك. فإن كان داود يدعوه ربًا، فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة” [42-46].
لم يستطع أحد أن يجيبه إذ كشف لهم أن المسيّا ابن داود إنّما هو ربُّه الذي يخضع مقاوموه تحت قدميه. وكأن السيِّد كان يُحذّرهم من المقاومة، إذ جاء ليُخلّص لا ليدين. إنه يفتح الباب لقبولهم حتى لا يوجدوا في يوم الرب العظيم كأعداء مقاومين.
- المسيح هو ابن داود وربُّه. إنه رب داود على الدوام وابنه حسب الزمن… هو رب داود المولود من الآب، وابن داود المولود ابنًا للعذراء مريم الذي حُبل به منها بالروح القدس. فلنتمسَّك بكليهما بشدة… فلو لم يهبنا ربّنا يسوع المسيح أن يصير إنسانًا لهلك الإنسان[28].
القدّيس أغسطينوس
- الكلمة معنا بكونه الله وقد أخذ شكلنا ولم يحتقر بشريَّتنا المتواضعة حتى يخلّص من هم تحت السماء[29].
القدّيس كيرلّس الكبير
[1] PG 76: 1281 In Evan. hom 38.
[2] Catena Aurea.
[3] Catena Aurea.
[4] PL. 38:559.
[5] PG 76:1281.
[6] Catena Aurea.
[7] PG 13:1524.
[8] PG 13:1524.
[9] PL 38:559.
[10] Op. Imperf.
[11] Ep. ad Rom. 13:6; 23:3.
[12] In Matt. 21.
[13] In Matt. Canon 23.
[14] In Ioan 41:2.
[15] In Luc. hom 39:5.
[16] [16] In Luc. hom. 39:3.
[17] In Matt. hom 60:2.
[18] In Luc. Ser. 136.
[19] Ser. on Mount. 1:40,41.
[20] Ep 108:23.
[21] Ep. 75:2.
[22] Adv. Jovan. 1:36.
[23] In Luc. Ser. 136.
[24] PG 13:1599.
[25] PG 13:1599.
[26] My Life in Christ v1, p. 130.
[27] PG 130/ 1599.
[28] Ser. on N. T. 42:3.
[29] In Luc. Ser 137.