تفسير انجيل متى 18 – الأصحاح الثامن عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 18 - الأصحاح الثامن عشر - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 18 – الأصحاح الثامن عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 18 – الأصحاح الثامن عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثامن عشر
الطريق الملوكي
يقدّم لنا السيِّد المسيح التواضع الحيّ المملوء حبًا وترفُّقًا بكونه أهم ملامح طريق ملكوت السماوات.
- الملكوت وتواضع الطفولة 1-5.
- المحبّة وعثرة الصغار 6-14.
- المحبّة والعِتاب 15-20.
- المحبّة الغافرة 21-22.
- مثل الملك المترفِّق والعبد الشرّير 23-35.
- الملكوت وتواضع الطفولة
“في تلك الساعة تقدّم التلاميذ إلى يسوع، قائلين:
فمن هو أعظم في ملكوت السماوات؟
فدعا يسوع إليه ولدًا وأقامه في وسطهم، وقال:
الحق أقول لكم، إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد
فلن تدخلوا ملكوت السماوات” [1-4].
أحاديث السيِّد المسيح وتصرُّفاته قد ألهَبت قلوب التلاميذ نحو التمتّع بملكوت السماوات، لكنهم لم يكونوا بعد قادرين على التخلُّص من الفكر المادي الذي تثقَّفوا به وورثوه أبًا عن جِدْ، فظنّوه ملكوتًا زمنيًا وسلطانًا أرضيًا، لذا اشتهى كل منهم أن ينعم بنصيبٍ فيه، وأن يحْتل مركزًا أعظم ممّا لغيره. هذا الاشتياق وإن كان وليد الضعف البشري، أي حب العظمة وشهرة المراكز المرموقة، لكن الكل يودّ أن يملأ هذا الفراغ بفكرٍ بشريٍ باطلٍ! يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [ما قام بين التلاميذ وسُجل إنّما هو لنفعنا، حتى أن ما حدث بين التلاميذ القدّيسين يكون علّة تواضعنا، فقد انتهر الرب المرض كطبيبٍ حاذقٍ، قاطعًا الألم الذي ينبع فينا بوصيّته المتّقدة التي تبلغ الأعماق[1].]
كان عجيبًا لديهم أن يروا السيِّد يستدعي ولدًا ليُقيمه في وسطهم كمثَلٍ حيٍّ للتمتّع بدخول الملكوت، فقد احتقر الرومان الطفولة، ولم يكن للطفل أي حق من الحقوق، يستطيع الوالدان أن يفعلا بطفلهما ما يشاءا بلا رقيب! وتعرّضت الطفولة لدى اليونان لمتاعب كثيرة، أمّا اليهود فلم يحصروا الأطفال والنساء عند إحصاء الشعب (عد 1-2). لكن السيِّد وهو يرتفع بالبشريّة إلى الحياة الناضجة يقدّم طفلاً كمثل للحياة الناضجة الروحيّة القادرة أن تقتحم الملكوت، وكأنه ينقلهم من نضوج الجسد المتَّكئ على السنوات التي عاشها الإنسان إلى نضوج النفس الداخليّة التي لا ترتبط بزمنٍ معينٍ.
يؤكّد السيِّد لطالبي الملكوت التزامهم بالرجوع ليصيروا مثل الأولاد، فيدخلوا ملكوت الموات. إنه ليس تراجعًا إلى الوراء، لكنّه نمو نحو الطفولة المتواضعة البسيطة. فالإنسان خلال خبراته على الأرض تنتفخ ذاته جدًا، ولا يستطيع الدخول من الباب الضيق. لهذا يليق به أن يتخلّى عن كل كبرياء لكي تصغر ذاته جدًا وتُصلب تمامًا، فيعبر خلال سيّده المصلوب من باب التواضع، الذي هو الباب الملوكي والمدخل الوحيد للملكوت السماوي.
بدون التواضع يبقى الإنسان خارجًا، مهما قدّم من عبادة ونسكيّات لا يمكنه الدخول، فإنه لا يمكن لقلب متكبّر أن ينعم بالاتّحاد مع ابن الله المتواضع ليعبّر به وفيه إلى حضن أبيه، لهذا يكمّل السيِّد: “فمن وضع نفسه مثل هذا الولد فهو الأعظم في ملكوت السماوات” [4]. إن كان الكبرياء قد طرد الإنسان من الفردوس، فلا دخول إليه بغير طريق التواضع.
يحدّثنا القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن دور التواضع في تمتّعنا بالحياة الملكوتيّة في هذا العالم وفي الحياة الأخرى، إذ يقول: [لكي ننعم بالراحة هنا وفي الحياة العتيدة يلزمنا أن نجاهد في غرس أُم كل الصالحات أي التواضع في نفوسنا. بهذا نستطيع أن نعبر بحر هذه الحياة بلا أمواج، وننهي رحلتنا إلى ذلك الميناء الهادئ[2].] كما يقول: [ليس شيء مقبولاً لدى الله مثل أن يحسب الإنسان نفسه آخر الكل، هذا هو المبدأ الأول للحكمة العمليّة، فإن المتواضع والمجروح في قلبه لا يحب المجد الباطل، ولا هو بغضوب، ولا يحسد قريبه، ولا يلجأ إلى أية شهوة[3].] ويقول القدّيس باسيليوس الكبير: [إننا نقبل ملكوت الله مثل ولد” (لو 18: 17) إن كنّا نتطلّع إلى تعليم ربّنا كطفل تحت التدريب لا يُعارض معلّميه ولا ينازعهم، وإنما بثقة يتقبّل التعليم في ذهنه وبرغبة في التعلُّم[4].]
يقول القدّيس أمبروسيوس: [لا يقصد هنا تفضيل سنٍ على آخر، وإلا صار النمو عملاً هدّامًا. وكنت لا اشتهي البلوغ إلى سن النضوج مادام يسلبني تعبي في ملكوت السماوات، ولما سمح الله بالنمو الذي ينمِّي الرذيلة لا الفضيلة، ولما اختار الرب تلاميذه من الرجال الناضجين، إنما كان يختارهم من الأطفال… فالرب لا يُشير بالطفولة إلى سنٍ، بل إلى المحبّة التي تحمل بساطة الطفولة. الفضيلة ليست عجزًا عن إتمام الخطيّة لكنها رفض لها، ومثابرة للعودة إلى طبيعتنا الأولى وطفولتنا[5][6].] كما يقول: [إن كان الأطفال سرعان ما يتشاجرون معًا، لكنهم أيضًا سرعان ما يعودون ليجتمعوا معًا بصداقة عظيمة، إذ هم لا يعرفون السلوك بمكر وخداع[7].]
ويقول القدّيس كيرلّس الكبير: [ليكن سموِّنا في تواضعنا، ومجدنا في عدم محبّتنا للمجد، وليكن اشتياقنا منصبًّا فيما يُسِر الله، واضعين في ذهننا ما يقوله لنا الحكيم: “إذ تصيرون عظماء تتّضعون بالأكثر فتجدون نعمة لدى الرب” (ابن سيراخ 3: 18). فإن الله يحتقر المتعجرفين ويحسب المتكبّرين كأعداء له، لكنّه يكلِّل الودعاء ومتواضعي الذهن بالكرامات[8].]
الطفولة في المسيح
إن كان السيِّد يشتاق أن ينعم تلاميذه بالرجوع إلى الطفولة، فيحملون روح التواضع بكونه السمة الملوكيّة التي تسند النفس في عبورها إلى الحياة السماويّة، فإن السيِّد وهو يتحدّث عن الأطفال يقدّم الطفولة كحاملة لاسمه، إذ يقول: “ومن قبِلَ ولدًا واحدًا مثل هذا باسمي فقد قبلني” [5].
لئلا يستنكف أحد من أن يرجع إلى تواضع الطفولة، يتجلّى السيِّد في حياة الأطفال، فيحسب من يقبلهم باسمه إنّما يقبله هو. هكذا يرفع السيِّد من الطفولة التي احتقرَتها البشريّة بكل أجناسها وألسنتها. فإن كان السيِّد قد كرّم الإنسان خلال تأنُّسِهِ، وكرَّم الفقراء حاسبًا إيّاهم إخوته الأصاغر، ما يُفعل بهم إنّما يقدَّم لحسابه، هنا يُكرم الطفولة، من يقبلها باسمه إنّما يقبَله هو. تُرى من لا يشتهي أن يحمل طبيعة “الطفولة المتواضعة” الحاملة لاسم المسيّا الملك؟! حقًا لقد قدَّس السيِّد الطفولة إذ صار طفلاً، ولا يزال يقدّسها إذ يجعل اسمه محمولاً على أطفاله الصغار؟!
يقول القدّيس أمبروسيوس: [من هو هذا الطفل الذي يليق بتلاميذ المسيح أن يتمثلوا به إلا الذي قال عنه إشعياء: “يُولد لنا ولد ونعطَى ابنًا…” (إش 9: 6)، هذا الذي قال: “اِحمل صليبك واتبعني” (مت 16: 24). هذا الذي تميّز بأنه “إذ شُتم لم يكن يُشتم عوضًا، وإذ تألّم لم يكن يهدّد” (1 بط 2: 23). هنا الفضيلة الكاملة في الطفولة حيث تحمل الأمور القديمة المكرّمة، كما تحمل الشيخوخة براءة الطفولة[9]“.]
- المحبّة وعثرة الأطفال
“ومن أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي،
فخيرٌ له أن يُعلَّق في عُنقه حجر الرَحَى،
ويغرق في لُجّة البحر” [6].
المؤمن إمّا أن يتقبّل الدخول إلى “الطفولة” المتواضعة والبسيطة فيدخل باب الملكوت السماوي أو يقف عثرة عند الباب لا يدخل ولا يترك حتى الأطفال المؤمنين أن يدخلوا. ليس هناك طريق وسط في الحياة مع الله، إمّا أن يعبر نحو الأبديّات أو يعوق الآخرين عن العبور. أمّا سِرّ العثرة فيكمن في أمرين:
أولا: تحجُّر القلب؛ إذ لا يعرف حب الله أو الناس، فلا يقدر أن يغفر لمن يسيء إليه ولا أن يعاتبه، لذا خيرٌ له أن يُربط في عنقه حجر رحَى، من أن يحمل هذه الطبيعة المتحجّرة والعنُق القاسي الغليظ!
ثانيًا: الانغماس في الأمور الأرضيّة، فلا يرى سوى الزمنيّات، لهذا خيرٌ له أن يُلقي في لُجّة البحر ولا يلقى بقلبه في بحار هموم هذه الحياة وملذّاتها.
كأن السيِّد المسيح بقوله: “خيرٌ له أن يُعلّق في عُنقه حجر الرحَى، ويغرق في لُجّة البحر” لا يقدّم إدانة أو حكمًا ضدّ النفس التي تُعثر الآخرين، ولا يودّ هلاكها، إنّما يودّ أن يُعلن حقيقة موقفها، وما بلغت إليه داخليًا خلال هذا التشبيه. فقد تحجَّرت وغرقت في بحر محبّة العالم، الأمر الذي يحمل خطورة أكثر من الغرق الجسدي في البحر خلال ربط الإنسان بحجر في عُنقه.
يبدو أن اليهود قديمًا كانوا يعاقبون مرتكبي الجرائم الكبرى بربط عنقهم في حجر وإلقائهم في أعماق المياه[10].
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العقوبة بقوله: [بهذه العقوبة التي يستحقَِّها الإنسان الذي يُعثِر غيره، نتعلّم المكافأة لمن يُنقذ الآخرين. فلو لم يكن خلاص نفس واحدة عظيم جدًا لدى المسيح ما كان يهدّد بعقوبة كهذه لمن يُعثِر إنسانًا”.]
أما طريق الأمان ضدّ العثرة فهو كلمة الله أو شريعته كقول المرتّل: “سلامة جزيلة لمُحبّي شريعتك وليس لهم عثرة” (مز 119: 165) وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [عندما سمعتم: “الويل للعالم من العثرات” فكَّرتم كيف تتجاوزن العالم حتى لا تتعرّضوا للعثرات. إذن لنتجنّب العثرات. كيف نتجاوز العالم إلا بهروبنا إلى صانع العالم؟ وكيف ننطلق إلى صانع العالم ما لم نُصغ إلى شريعته التي يكرز بها في كل موضع؟! فإن الإصغاء إليها أمر بسيط أن أحببناها. لأن الكتاب المقدّس وهو يحصِّنك من العثرات لم يقل: “سلامة جزيلة لسامعي شريعتك” وإنما “لمُحبِّي شريعتك…[11].] ويقدّم لنا القدّيس أغسطينوس مثالاً عمليًا هو امرأة أيوب التي كانت عثْرة، فجاءت تسحب قلب زوجها للتجديف، لكن كان قلبه محبًا لشريعة الله وليس له عثرة؛ كانت هي معثَرة، لكن ليس له[12].
“ويل للعالم من العثرات،
فلابد أن تأتي العثرات،
ولكن ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة” [7].
إن كان السيِّد قد فتح لنا الطريق الملوكي مشتاقًا أن تدخل فيه كل البشريّة المحرومة منه، فإن عدوّ الخير لا يكف عن أن يعمل أيضًا لحساب مملكته، فإنه حيث يوجد السيِّد المسيح عاملاً فينا يُصارع إبليس لحساب ظلمته خلال العثرات. يجنِّد من له لتحطيم النفوس البسيطة، الأمر الذي يحذّرنا منه السيِّد، لا لئلا يُعثرنا الآخرون فقط، وإنما لئلا نتحوّل نحن أيضًا معهم إلى عثرة للآخرين. لكنّنا إذ نحمل فينا مسيحنا غالب العالم وننعم بوصيّته لا نخاف العثْرة. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [عندما تسمع “ويل للعالم من العثرات” لا تخف، وإنما حب شريعة الله، فلا تكون لك عثرة[13].]
“فإن أعثَرتك يدك أو رِجلك فاقطعها واِلقها عنك.
خيرٌ لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع
من أن تلقي في النار الأبديّة ولك يدان أو رجلان.
وإن أعثَرتك عيْنك فاِقلعها واِلقها عنك.
خيرٌ لك أن تدخل الحياة أعوَر من أن تُلقى في جهنّم النار ولك عيْنان” [8-9].
هل يمكن للمؤمن أن يَبتُر كل عضو في جسده يُعثِرة أو يُعثِر الآخرين؟ في تاريخ الكنيسة قصص فريدة لأُناس صنعوا هذا، مثل سمعان الخرَّاز والفتاة الطاهرة التي ضربَت بالمِخْراز عينها لتُقدّمها لإنسان بذل كل الجهد لملاقاتها من أجل عينيها الجميلتين. في رأي الآباء أن كلمات السيِّد هنا تحمل معنى رمزيًا روحيًا، فاليد ليست إلا الإنسان الذي يسندني ويعمل لحسابي، إن تحوّل هذا إلى معثَرة لي يفقدني إيماني أو طهارتي أقطعه لاَغتصب السماوات بدونه بالرغم من شوقي إلى خلاصه. لقد مدّ يوسف العنيف يديه بكل قوّة وشجاعة ليبتُرهما حينما ترك الثوب في يديّ سيدته وهرب. لقد فضّل أن يَقطع علاقته بمن تُقدِّم له لُقمة العيش مفضِّلاً أن يُذّل داخل أسوار السجن كمن هو بلا يدين، محرومًا من حرّية الجسد من أجل تمتُّعه بالحياة الطاهرة الفردوسيّة. لم تكن لُقمة العيش قادرة أن تحبس يوسف في العثْرة، مفضِّلا أن يدخل الحياة أقطع من أن يُلقى في نار الشهوة المهلِكة وله يدان! والعجيب أن الله لم يترك يوسف بلا يدين، بل صار هو نفسه يديه أينما حلّ يتبارك العمل، سواء داخل أسوار السجن أو في قصر فرعون. فإن كنّا بالروح القدس الناري نعرف كيف نقدّم أيدينا المُعثِرة لصليب ربّنا يسوع المسيح فتُبتَر، لا نبقى بلا يدين وإنما يصير السيِّد المسيح نفسه يدينا العاملتين معنا وبنا وفينا، وفي كل عمل نعمله يتقدّمنا السيِّد نفسه فيحل ببركته فينا، بل أقول نختفي نحن فيه ليكون هو العامل! إن كل بَتْر لمصدر العثْرة بحكمة الروح القدس ليس خسارة بل هو ربح، فيه أَخْذ لا عطاء!
ما أقوله عن اليدين أكرّره بخصوص الرجلين، فإن كان أحد يمثّل الرجلين بدونهما نصير كمن هو أعرج غير قادر على الحركة. فإن أعثرتنا هاتان الرجلان نقدّمهما بالروح القدس لصليب ربّنا يسوع المسيح لبترِهما، ونلبس السيِّد نفسه ذي القدمين النحاسيّتين، بهما ندُكْ كل عثْرة في الطريق، حتى نعبُر إلى حِضن أبيه ونحن في أمان روحي وسلام فائق.
يقول القدّيس أغسطينوس: [قد تأتيك زوجتك لتنصحك بأمر شرّير. إنك تحبّها بكونها زوجتك يجب أن تُحب. هي عضو فيك، لكن إن أعثَرتْك عينك أو يدك أو رجلك كما سمعتَ في الإنجيل فاقطعها واِلقها عنك. مهما كان الإنسان عزيزًا لديك وله تقديره لديك، فإنّه قدر ما تُكرمه وتُحبّه لا تسمح له أن يُعثِرك مقدِّمًا لك مشورة شرّيرة…[14].]
ويقول أيضًا: [يريد إنسان صاحب سلطان تغطية ظُلمه ونهبه للآخرين فيسألك أن تخدمه بشهادة زور؛ لترفضه. اُرفض القسَم الباطل لئلا تكون قد أنكرت من هو حق. إنه سيغضب وهو صاحب سلطان ويضغط عليك!… ماذا يستطيع ذاك الذي له سلطان أن يفعل لك أو بماذا يقدر أن يضايقك؟… إنه في غضبه وبسلطانه يقتل الجسد!… ليقتله فإن الجسد سيموت حتى وإن لم يُقتل، أمّا النفس فلا يمكن أن يقتلها إلا الظلم!… إن كان ذاك الذي أغضبه بالحق يضايق جسدي بالضيقات فإنّني أصغي لربي القائل: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد” (مت 10: 28)[15].]
ولئلا يظن أحد أن بتْر عضو هو أمر سهل، سواء كان يدًا أو رجلاً أو عينًا، قال “انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار، لأني أقول لكم أن ملائكتهم في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي في السماوات” [10]. كأنه قبل أن نقدّم على بتر عضو بصليب السيِّد، فنقطع علاقتنا به ننظر إلى خلاصه كأحد الصغار الذين يشتهي الله خلاصهم، فإن ملائكتهم وإن كانت حزينة على انحرافهم، لكنها تقف أمام الآب السماوي كل حين تشفع فيهم ليعمل فيهم لخلاصهم. إن النفس الحكيمة تعمل بكل الطاقة، لا للهروب من الخدمة، وإنما حتى بالنسبة للمعثِرين تبذل كل الطاقة لكي لا تخسر خلاصها وأبديتها، وفي نفس الوقت لا تفقد المعثِرين أنفسهم إن أمكن، مشتهية خلاصهم، متجاوبة مع ملائكتهم بل ومع سيّدهم نفسه، “لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يخلّص ما قد هلك” [11].
عمليّة البَتْر وإن كانت أحيانًا لازمة وضروريّة، لكنها تكون في أضيق نطاق بعد بذل كل الجهد بكل الطرق، لحَث المعثِرين أنفسهم على قبول الخلاص المقدّم من ابن الإنسان نفسه.
ولعلّ السيِّد قد أراد بكلماته هذه رفع “الطفولة” وعدم احتقارها، فإن كل إنسان مهما بدأ صغيرًا له ملاكه الذي يقف في حضرة الآب من أجله، بل ابن الإنسان نفسه مهتمّ بخلاصه.
ولعلّه وهو يطالبنا بالعودة إلى الطفولة أراد تأكيد ما لهذا العمل من بركات، وهو فرح ملائكتهم بهم الذين ينظرون وجه الآب السماوي كل حين، وينعمون بخلاص المسيح المجّاني.
إذن احتقار النفس البشريّة والاستهانة بخلاصها، سواء كانت نفس طفل صغير أو شخص ناضج، لإنسانٍ عظيمٍ أو حقيرٍ، أو ازدراء الإنسان لنفسه هو غير مبال بالعثْرة، إنّما هو ازدراء بعمل المسيح الخلاصي. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا تقل هذا عبد هارب أو ذاك لص أو قاتل، أو إنسان مثقّل بخطايا غير معدودة، أو متسوّل أو حقير… بل تأمّل أنه لأجله مات المسيح؛ أَما يكفي هذا ليكون أساسًا لنُعطيه كل اهتمام؟![16]]
أوضح السيِّد أبعاد الاهتمام بخلاص كل نفس وعدم اعثار أحد، بقوله:
“ماذا تظنّون: إن كان لإنسان مائة خروف وضلّ واحد منها،
أفلا يترك التسعة والتسعين على الجبال ويذهب يطلب الضال.
وإن اِتَّفق أن يجده،
فالحق أقول لكم أن يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل.
هكذا ليست مشيئة أمام أبيكم الذي في السماوات أن يهلك أحد هؤلاء الصغار” [12-14].
هكذا يكشف السيِّد عن نظرته للإنسان أنه ليس مجرّد فرد بين عدد لا يُحصى، إنّما يهتمّ به الله شخصيًا وباسمه، مقدّمًا له كل اهتمامه أكثر من كل الجماعة المحفوظة في مراعيه على الجبال المقدّسة، لكي يجتذبه ويدخل به إلى العضويّة في هذه الجماعة، إن الله لا يهتمّ باَلكَمّ إنّما بالنوع، يهتمّ بكل عضو بكونه ابنًا له.
بهذا الروح الأبوي تطلّع القدّيس يوحنا الذهبي الفم إلى شعبه فلم ينشغل بالكاتدرائيّة المكتظَّة بالعابدين، ولم يفرح بكثرة الملتصقين بالكنيسة، وإنما كان يئن حزينًا لو أن إنسانًا واحدًا في المدينة لم ينعم بعد بالحياة الأبديّة. في اهتمامه بكل عضو يقول: [كل واحد منكم في عينيَّ يساوي المدينة كلها[17].] [لا يقل لي أحد أن كثيرين قد نفَّذوا الوصيّة فإنّني لا أبتغي هذا، بل أريد الكل أن يفعلوا هكذا. فإنّي لا أستطيع أن التَقط أنفاسي حتى أرى ذلك قد تحقّق، فإن كان واحد قد ارتكب الزنا بين أهل كورنثوس صار بولس يتنهّد كما لو أن المدينة كلها قد ضاعت[18].]
- المحبّة والعِتاب
إن كان التواضع المملوء حبًا هو مدخل الملكوت السماوي، فإن هذا التواضع يقوم على نفس منفتحة صريحة وواضحة. إن شَعَر المؤمن بأن أخًا له في الإيمان قد أخطأ إليه، ففي محبّة صادقة يذهب إليه ليعاتبه منفردًا حتى إذ يسمع منه يربح أخاه. “إن أخطأ إليك أخوك، فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربِحت أخاك” [15].
هذا السلوك الذي أوصانا به السيِّد ليس مجرّد عمل أخلاقي يلتزم به المؤمن، لكنّه في جوهره هو اختفاء في شخص السيِّد المسيح، فلا يرى المؤمن أخاه يسيء إليه، إنّما يسيء إلى نفسه وإلى تمتّعه بالأبديّة، فيذهب ليعاتبه لا بمعنى أنه يودّ تأكيد خطأه، أو ينتظر أن يعتذر له، وإنما يذهب إليه حاملاً فكر المسيح لكي يقتنيه بالحب للمسيح كعضوٍ حيٍّ في جسده، ينقذه من الخطأ ويربحه كعضوٍ معه في ذات الجسد.
يذهب إليه منفردًا حتى لا يتحوّل العِتاب إلى نوعٍ من التشهير، ولكي يعطي له الفرصة لمراجعة نفسه بلا عناد؛ يذهب إليه ليحمله إلى التوبة لله لا للاعتذار له. بهذا يطلب المؤمن سلامة حياة أخيه في الرب وليس معاقبته. لهذا يقول السيِّد إنك بهذا تربح أخاك، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إنه لم يقل أنك تنال انتقامًا كافيًا بل تربح أخاك، مظهرًا وجود خسارة مشتركة لك وله بسبب العداوة، إذ لم يقل “يربح نفسه” بل “تربح (أنت) نفسه” مظهِرًا أن الخسارة قد لحقت قبلاً بالاثنين، الواحد خسر أخاه والآخر خسر خلاصه[19].]
يقول القدّيس أغسطينوس: [لكي نستطيع أن نتمِّم ما قد أُمرنا به اليوم (كما جاءت العبارة الإنجيليّة التي بين أيدينا) يلزمنا قبل كل شيء ألا نحمل كراهية، لأنه عندما لا تكون هناك خشبة في عينك تقدر أن ترى حقًا ما بعين أخيك، وتكون متضايقًا حتى تُزيل عن عين أخيك ما تكرهه. النور الذي فيك لا يسمح لك بإهمال نور أخيك. أمّا إن حمَلتَ فيك كراهيّة، وتريد إصلاحه، فكيف تصلح نوره وأنت فاقد النور؟! إذ يقول الكتاب المقدّس: “كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس”. كما يقول أن من “يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة“ (1 يو 2: 9). فالبغضة إذن هي ظلمة، فمن يكره الآخرين إنّما يُضير نفسه أولاً، مفسدًا داخله…[20]]
حقًا لقد أراد السيِّد أن يدخل بتلاميذه إلى حياة الغفران للآخرين، بعيدًا عن روح الانتقام والكراهيّة التي تحجبنا عن ملكوت السماوات. ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على ذلك بقوله: [عندما تُفكِّر في الانتقام، انظر أنك تنتقم من نفسك لا من الآخرين، إذ تربط خطاياك لا خطايا أخيك… أي شيء أكثر خطورة من أن تكون منتقمًا، إن كان هذا ينزع عنك عطيّة الله العُظمى؟![21]] ويرى نفس القدّيس أن الذي يُخطئ إلينا ويظلمنا، إنّما يسبّب لنا نفعًا عظيمًا إن احتملناه بحب، إذ يقول: [لا تقل أنه شتمك وافترى عليك وصنع بك شرورًا بلا حصر، فإنه بقدر ما تعدّدت هذه الأمور وبكونها صادرة عنه، تُعلن أنه نافع لك. إنه يقدّم لك فرصة لغسل خطاياك، وقدر ما تَعظُم الأضرار التي يصُبَّها عليك، يكون علّة لنوالك غفرانًا عظيمًا للخطايا[22].] وكما يقول: [إننا نعاقب أنفسنا بكراهيّتنا للآخرين، كما نستفيد بحبّنا لهم[23].]
لماذا نذهب للمخطئ ولا ننتظر مجيئه؟
يجيب القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لأنه ليس بالأمر السهل أن يذهب من ارتكب الخطأ ليعتذر لأخيه وذلك بسبب الخجل وارتباك وجهه. يطالب (السيِّد) الذي أُصيب بالخطأ ليس فقط بالذهاب إلى أخيه، وإنّما يذهب بطريقة بها يُصحّح ما قد حدث، فلم يقل له: اذهب اتَّهمه أو انصحه أو أطلب منه تصفية الحساب معه، وإنما (عاتبه) مخبرًا إيّاه بخطئه، وما هذا إلا تذكيره بما أخطأ به. اخبره بما حلّ بك على يديه، بطريقة لائقة كمن يقدّم له العذر، ويسحبه بغيره نحو المصالحة[24].]
ذهابنا إلى المخطئ بمفردنا لمعاتبته لكي نربحه في الحقيقة ليس إلا اقتداءً بالسيِّد المسيح نفسه، فقد جاء إلينا من سمواته ليعاتبنا بالحب، ويدفعنا بعمله الخلاصي للتوبة لكي يربحنا له كأعضاء جسده المقدّس. إنه لم ينتظرنا نذهب بل جاء إلينا! هذا فإن الوصيّة التي يقدّمها لنا السيِّد لا يمكننا أن نكمِّلها ما لم نحمله هو في داخلنا فنسلك سلوكه ونحمل فكره فينا.
يقول القدّيس أغسطينوس: [إذ أخطأ إليك أخوك سرًا ابحث عنه لتصحِّح خطأه خفية… فإن أردت توبيخه أمام الجميع فأنت لا تكون مصلحًا لأمره بل فاشيًا للسرّ… إن كان قد أخطأ إليك وحدك، وأنت تعرف ذلك، فهو مخطئ إليك وحدك، أمّا إذا أساء إليك أمام كثيرين، فقد أخطأ إليهم أيضًا بمشاهدتهم إساءته إليك… لهذا يجب انتهاره أمام جميع من ارتكب أمامهم الخطأ[25].]
ولكن، إن لم يسمع المخطئ منّا فماذا نفعل؟
“وإن لم يسمع فخذ معك أيضًا واحدًا أو اثنين
لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أوثلاثة،
وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة،
وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عِندك كالوثني والعشّار” [16-17].
حينما نأخذ معنا واحدًا أو اثنين ينبغي ألا يكون الهدف تأكيد خطأه والشهادة ضدّه وإنما لإقناعه، فنكون كالطبيب الذي يرى المرض يتزايد فيُّصرّ على تقديم دواء أكثر مرارة وأشد فاعليّة، ليس لأجل المرارة في ذاتها، وإنما من أجل شفائه. فإن لم يأتِ هذا التصرّف بثمر نُخْبر الكنيسة، لا كمن يشتكيه أمام المحكمة، وإنّما كمن يُخبر، لتهتم به وتعالجه بحكمة. داود النبي وهو نبي تقي ومشهود له من الله نفسه وحكيم، عندما أخطأ لم يُدرك خطأه حتى تلقَّفته الكنيسة في شخص ناثان النبي، لتُعيد له بصيرته التي أفسدتها الخطيّة، وتردّ له فكره وحكمته.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ألا ترى كيف أنه يفعل هذا ليس من أجل العقوبة العادلة، وإنّما بقصد الإصلاح؟! لهذا لم يوصه من البداية أن يأخذ معه اثنين، وإنما بعد أن يفشل بمفرده، ولا أن يرسل إليه الجماعة ضدّه وإنما يرسل إليه اثنين أو واحدًا، فإن احتقر هذا التصرّف عندئذ فقط يحضره للكنيسة[26].]
أخيرًا إن لم يسمع من الكنيسة، رافضًا أمومتها، يكون قد رفض أبوة الله نفسه فيُحسب كالوثني والعشّار. إنه يلزم تجاهله، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لأن مرضه قد صار غير قابل للشفاء[27].]
إذن برفضه الكنيسة يَحرم الإنسان نفسه من العضويّة في جسد المسيح، ويصير من حق الكنيسة أن تربطه. إذ يكمّل السيِّد كلماته هكذا: “الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض، يكون مربوطًا في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء” [18]. إنه يربط نفسه بنفسه برفضه الفكر الكنسي، وتلتزم الكنيسة أن تربطه ليس تشفيًا فيه، وإنما لحفظ بقيّة الأعضاء من فساده لئلا يتسرب إليهم، كما تُعزل الخميرة الفاسدة عن العجين كله، أو يُبتر العضو الفاسد. وإن كان هذا الأمر لا يتمّ باستهتار أو بتسرّع. فإنه ليس سهلاً أن يقبل إنسان بتْر عضو من جسده إلا بعد استخدام كل وسيلة ووسيلة لعلاجه، وحينما يجد جسده كلّه في خطر يلتزم تسليمه للبتْر. أقول أنه ما أصعب على قلب الكنيسة أن ترى إنسانًا. يُلقي بنفسه خارجًا ويُلزمها بربطه، أنها تبقى منتظرة من يومٍ إلى يومٍ رجوعه لكي تحِلُّه فيجد بابها مفتوحًا له. لهذا يذكر السيِّد الربط أولاً فالحَل، ليعطي للمربوطين رجاءً في الحَل، وليلهب قلب الكنيسة نحو حلّ المربوطين فلا تستكين من جهة خلاصهم حتى وإن كانوا قد ألقوا أنفسهم بأنفسهم خارج أبوابها.
إذ يتحدّث السيِّد عن ربط الإنسان الرافض للكنيسة وحله متى رجع إليها بالتوبة، يقول: “وأقول لكم أيضًا إن اِتّفق اثنان منكم على الأرض في إي شيء يطلبانه، فإنه يكون لهما من قِبَل أبي الذي في السماوات. لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” [20]. كأن السيِّد المسيح يُعلن لكنيسته أن تبقى مصلِّية من أجل المربوطين، حتى وإن كان أعضاء هذه الكنيسة المحليّة اثنين أو ثلاثة على الأرض، فإنهم إذ يُصلّون معًا في اتّفاق بقلبٍ واحدٍ يحلّ المسيح نفسه “المحبّة” في وسطهم، وتُقبل صلواتهم أفضل من صلوات الكثيرين كل على انفراد.
يقول السيِّد “إن اتِّفق اثنان على الأرض”، لأن في اتِّفاقهما معًا بروح الحب يتّحد معهما بعض أعضاء الكنيسة الراحلين وأيضًا بعض السمائيّين، فيفرح الله بصلاة الشركة هذه!
يرى البعض في الحديث عن الاثنين أو الثلاثة هنا إشارة إلى كنيسة البيت، حيث يجتمع الزوجان معًا في الرب بروح الحب الحقيقي ومعهما الأولاد، فيسكن الرب في وسط البيت كقائدٍ لهم.
كما يرى الكثير من الآباء في قول الرب تأكيد لأهمّية حياة الشركة المُقامة على الحب في الرب، وتحذير من حياة العزلة، إذ يقول الكتاب: “اثنان خيرٌ من واحد، لأن لهما أجرة لتعبهما صالحة، لأنه إن وقع أحد يُقيمه رفيقُه، وويلٌ لمن هو وحده، إن وقع إذ ليس ثان ليُقيمه… والخيط المثلوث لا ينقطع سريعًا” (جا4: 9-12).
- إن كان اثنان بفكر واحد يستطيعان أن يفعلا هكذا فكم بالأكثر متى وُجد اتّفاق في الفكر بين الجميع؟![28]
القدّيس كبريانوس
- إن كان الرب يقول أنه إذا اتّفق اثنان معًا على الأرض في أي شيء يطلبانه يُعطى لهما… فكم بالأكثر إن اجتمعت كل الجماعة معًا باسم الرب؟![29]
- آمن أن الرب يسوع حاضر عند اِستدعاء الكاهن، إذ يقول: “حينما اجتمع اثنان أو ثلاثة أكون في وسطهم”، فكم بالأكثر إن اجتمعت الكنيسة وأقيمت الأسرار يهبْنا حضوره؟![30]
القدّيس أمبروسيوس
- الصلاة الجماعيّة تُستجاب سريعًا، وتأتي بثمر كثير عندما تكون متّحدة وباتفاق في الرأي.
الآب يوحنا من كرونستادت
- لقد وَضع الاتِّفاق أولاً، وجعل من اتِّفاق السلام أساسًا أوَّليًا، معلِّما إيّانا أنه يليق بنا أن نتَّفق معًا بثبات وإيمان. ولكن كيف يمكن أن يوجد اتِّفاق مع شخص لا يتّفق مع جسد الكنيسة نفسها والأخوة الجامعة؟! كيف يمكن لاثنين أو ثلاثة أن يجتمعوا معًا باسم المسيح مع وضوح انفصالهم عن المسيح وعن إنجيله؟! فإنّنا لم ننفصل نحن عنهم بل هم انفصلوا عنّا، فظهرت الهرطقات والانشقاقات، وأقاموا لأنفسهم أماكن مختلفة للعبادة تاركين رأس الحق ومصدره[31].
القدّيس كبريانوس
- المحبّة الغافرة
حينئذ تقدّم إليه بطرس وقال:
يا رب كم مرّة يخطئ إليّ أخي وأنا اغفر له،
هل إلى سبع مرّات؟
قال له: لا أقول لك إلى سبع مرّات، بل إلى سبعين مرّة سبع مرّات” [21-22].
إن كانت الكنيسة تلتزم بتنقيّة أعضائها، مع اهتمامها الشديد بكل وسيلة لإصلاح المخطئين مهما بلغ شرّهم، فما هو موقف العضو نحو أخيه المخطئ إليه، كم مرّة يغفر له الخطأ الشخصي؟
لقد ضرب الرسول بطرس رقم (7) بكونه يُشير إلى الكمال عند اليهود، وكأنّه رفع الغفران للأخ إلى اللاحدود من أجل محبّته له، أمّا السيِّد فأكَّد قائلاً: “بل إلى سبعين مرّة سبع مرّات”. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لا يقدّم (السيِّد) هنا عددًا معينًا (70×7=490) بل ما هو غير محدود ودائم إلى الأبد… فلا يحدّد رقمًا للمغفرة، إنّما يطلب أن تكون دائمًا وأبديّة[32].]
ويرى القدّيس أمبروسيوس[33] أن رقم 7 يُشير إلى السبت الأبدي أو الراحة، وكأنّ المؤمن إذ يغفر لأخيه يدخل إلى الراحة الأبديّة. فالغفران بلا حدود مادام يطلب راحة بلا حدود!
ويرى القدّيس أغسطينوس[34] أن السيِّد المسيح يطلب منّا الغفران لإخوتنا 77 مرّة يوميًا لا بمعنى عدم مغفرة الخطأ رقم 78، ولكن لأن رقم 10 يُشير إلى الناموس، والوصيّة بعدم كسره تكون مفهومة ضمنًا تمثل رقم “11” وكأنه متى أخطأ أخوك كاسرًا كل الوصايا (11) بغير حدود (7) فاغفر له لكي تقتنصه بالحب إلى الحياة المقدّسة في الرب.
يجيب القدّيس جيروم على التساؤل: إن طلب أخي بشفتيَّه لا بقلبه فماذا أفعل؟ قائلاً: [إن أخطأ سبعين مرّة سبع مرّات يوميًا وسألك الصفح فاغفر له، ولا تقل إنه لا يطلب الصفح من أعماق قلبه بل يكذب. أترك الدينونة لله! هو توسّل إليّ وطلب منّي، فإن كان لا ينطق بالحق، فالله هو الذي يعلم. أنا اسمع الصوت لكن المسيح هو الذي يفهم القلب. أنا أقبل ما اسمعه، والمسيح يقبل ما يدركه. هذا ولتفكِّر في مكافأتِك، فإن كان هو يكذب وأنت قبلت كذبه كصدق، يكون لك ذلك خلاصًا أمّا بالنسبة له فيكون موتًا[35].]
وقد رأى القديس يوحنا الدرجي في وصية السيِّد انفتاحًا لأبواب الرجاء أمامنا لدى الرب نفسه، إذ يقول: [في أوقات اليأس لا تتوقّف عن تذكُّر وصيّة الرب لبطرس أن يغفر للمخطئ سبعين مرة سبع مرات، فإن الرب الذي أعطى هذه الوصيّة يعمل هو أعظم منها بكثير (نحونا). ولكن عندما نتكبَّر فلنتذكَّر القول: من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة – أي سقط في الكبرياء – فقد صار مجرمًا في الكل[36].]
- مثل الملك المترفِّق والعبد الشرّير
إذ أراد السيِّد أن يقدّم مثلاً للترفُّق بالآخرين قال:
“لذلك يشبه ملكوت السماوات إنسانًا ملكًا أراد أن يحاسب عبيده.
فلما ابتدأ في المحاسبة قدّم إليه واحد مديون بعشرة آلاف وزنة.
وإذ لم يكن له ما يوفي أمر سيّده أن يُباع هو وامرأته وأولاده وكل ماله ويوفي الدين.
فخرّ العبد وسجد له قائلاً:
يا سيّد تمهل عليّ فأوفيك الجميع.
فتحنّن سيّد ذلك العبد وأطلقه وترك له الدين” [23-27].
في هذا المثل يظهر الملك رمزًا للديّان الذي يقف أمامه الإنسان مدينًا بعشرة آلاف وزنة، بينما يُعلن الإنسان عجزه التام عن الإيفاء بالدين. ويلاحظ في هذا المثل:
أولا: يشبه ملكوت السماوات بإنسان ملك، وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [ملكوت السماوات هذا هو ابن الله، عندما صار في شكل جسد الخطيّة، متّحدًا بالناسوت فصار إنسانًا ملكًا[37].]
ثانيًا: العشرة آلاف وزنة التي اِسْتَدانها الإنسان، إنّما هي كسر الوصايا الإلهيّة. فإن كان رقم 10 يُشير إلى الوصايا العشرة، ومن أخطأ في وصيّة يكسر الناموس كله، وأما رقم 1000 فيُشير للأبديّة، فإن رقم 10.000 يعني أن الإنسان مدين بكسر وصايا بدِين لا يقدر أن يفيه عَبر حياته الزمنيّة.
يقول القدّيس أغسطينوس: [يلزمنا أن نؤكِّد أنه كما أُعطى الناموس في عشر وصايا، فإن العشرة آلاف وزنة تعني كل الخطايا التي اُرتكبت في حق الناموس[38].]
ما كان يمكن للإنسان أن يفي الدين الإلهي، فصدر الأمر ببيعه هو وزوجته وأولاده وكل ماله، لعلّه يقدر أن يفي شيئًا. إن كسر الوصيّة الإلهيّة قد دفع الإنسان ليفقد كل شيء، يفقد نفسه – أي روحه الداخليّة -التي أصابها الموت الأبدي بحرمانها من الله مصدر حياتها، ويفقده زوجته – أي جسده المرتبط به – ويلزم أن يعوله ويربِّيه، فصار الجسد الصالح دنسًا، مثقّلا بشهوات فاسدة قاتلة تثقِّل النفس وتفسد الفكر والحواس. أمّا الأولاد فيُشيرون إلى المواهب المتعدّدة التي تحوّلت خلال الخطيّة من آلات برّ لله إلى أداة إثم تعمل لحساب الشيطان؛ أمّا كل ماله – فيعني ممتلكاته – من ذهب وفضّة ونحاس الخ. الأمور التي وإن كانت صالحة في ذاتها لكنها خلال فساد الإنسان صارت معثرة له.
يرى القدّيس جيروم أن الزوجة هنا هي “الغباوة”، فكما أن الحكمة هي زوجة الإنسان البار كقول الكتاب “قل للحكمة أنتِ أختي… لتحفظك من المرأة الأجنبيّة من الغربية المَلِقة بكلامها” (أم 7: 4-5)، فإن الشرّير زوجته “الغباوة”. فباتّحاد البار بالحكمة ينجب أفكارًا مقدّسة وسلوكًا فاضلاً في الرب، ينجب بنينًا للحكمة يفرح بهم الرب، هكذا الشرير بالتصاقه بالغباوة ينجب أولادًا هم الأفكار الشرّيرة والتصرّفات الدنسة.
ويرى القدّيس أغسطينوس في الزوجة “الرغبة الشرّيرة” التي تلتصق بالشرّير، فتلد أبناء هم أعماله الشرّيرة. وكأن الإنسان في شرّه يقدّم لدى الديّان حسابًا عن زوجته، أي رغبته أو إرادته الشرّيرة، وعن أولاده، أي تصرّفاته الشرّيرة[39].
لقد تحنّن الملك على المدين فلم يتمهَّل عليه فحسب كطلبه [26]، وإنما أعطاه أكثر ممّا يسأل وفوق ما يفهم، إذ أطلقه حرًا هو زوجته وأولاده، وترك له ما لديه وعفا عنه الدين. كان هذا المسكين يطلب الإمهال ظانًا أنه يقدر أن يفي، ولم يُعلّم أنه عاجز كل العجز في تحقيق هذا الأمر مهما طال الزمن، لهذا أطلقه السيِّد إلى الحرّية خلال الصليب تاركًا له كل الدين بنعمته المجّانيّة. وهبه حرّية النفس والجسد، مقدّسًا مواهبه وكل ما يملكه، ليصير بكلّيته مقدّسًا له.
كان يمكن لهذا العبد أن يعيش هكذا في الحرّية كمن هو بلا دين يحمل كل شيء مقدّسًا، غير أن المعطِّل الوحيد الذي أوقف هذه النعم ونزعها عنه ليردّه إلى أشرّ ممّا كان عليه هو اِنغلاق قلبه على أخيه الذي كان مدينًا له بمائة وزنة، أي بدين بشري تافه، لأن رقم 100 تُشير إلى الجماعة في هذا العالم[40].
مسكين هذا الإنسان الذي ينعم بالتحرّر من عشرة آلاف وزنة، ولا يتنازل لأخيه عن مائة وزنة بل يكون معه قاسيًا، فيرتدّ إليه دينه الأصيل ليعجز عن الإيفاء. مهما ارتكب الإخوة في حقّنا، إنّما نكون دائنين لهم بمائة وزنة، فإن لم نتنازل عنها لن ننعم بالتنازل عن الدين الذي علينا لدى الله. “إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاّتكم” (مت 5: 15).
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ لم يكن بعد صوت المغفرة يدوي في أذنيه إذا به ينسى محبّة سيّده المترفّقة! أنظر أي صلاح أن تتذكَّر خطاياك! فلو أن هذا الإنسان احتفظ بها بوضوح في ذاكرته ما كان قد صار هكذا قاسيًا وعنيفًا. لهذا أكرّر القول… إن تذكار معاصينا أمر مفيد للغاية وضروري جدًا. ليس شيء يجعل النفس حكيمة بحقٍ ووديعة ومترفّقة مثل تذكار خطايانا على الدوام. لهذا كان بولس يتذكّر خطاياه التي ارتكبها ليس فقط بعد التطهير، وإنما تلك التي ارتكبها قبل عماده، مع أن هذه جميعها قد غُفرت في الحال وأزيلت[41].]
لقد أحزن هذا قلب العبيد رفقائه جدًا، إذ يقول السيِّد: “فلما رأى العبيد رفقاؤه ما كان حزنوا جدًا، وأتوا وقصّوا على سيّدهم كل ما جرى، فدعاه حينئذ سيّده وقال له: “أيها العبد الشرّير كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت إليّ، أفما كان ينبغي أنك أنت أيضًا ترحم العبد رفيقك كما رحمتَك أنا؟!”
إن كان العبد المسكين الذي أسره رفيقه في السجن طالبًا أن يفي بالمائة وزنة لم يفتح فمه ليشتكيه، لكن صوت الجماعة يصرخ من الداخل بالحزن الشديد، ويسمع الله تنهّدات البشريّة الخفيّة من أجل قسوة الناس على إخوتهم وعدم صفحهم لهم، فيكيل لهم بالكيل الذي يكيلون به لإخوتهم.
إن كان هذا هو حال البشريّة التي تئن من أجل عدم تنازل الإنسان لأخيه عن أخطائه التي سبق فارتكبها ضدّه، فماذا يكون قلب الكنيسة التي تحزن جدًا عندما ترى من أولادها من لا يصفح ليخسر في غباوة ما تمتّع به من عطايا إلهيّة ونِعم مجّانيّة. بل هذا ما هو يحزن قلب السمائيّين، وقلب الله نفسه الذي يطلب أن يجد صورته ومثله فينا!
لقد أكّد لنا السيِّد أن نغفر ليُغفر لنا: “هكذا أبي السماوي يفعل بكم إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحدٍ لأخيه زلاته” [35]. ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة الإلهيّة: [لم يقل “أباكم” بل “أبي”، إذ لا يليق أن يدعى الله أبًا لإنسان شرّير هكذا وحقود[42]!]
[1] In Luc. Ser. 143.
[2] In Matt. hom 3:9.
[3] In Matt. hom 3:8.
[4] Catena Aurea , Luke 18.
[6].
[7] Duties of Clergy 1:21.
[8] In Luc. Ser. 143.
[9] تفسير لو 18: 15-17.
[10] Catena Aurea.
[11] Ser. on N. T. 31:1.
[12] Ser. on N. T. 31:2.
[13] Ser. on N. T. 31:3.
[14] Ser. on N. T. 31:4.
[15] Ser. on N. T. 31:4,5.
[16] الحب الرعوي، 1966، ص 678.
[17] PG. 50:713- 4.
[18] Conc. Stat. 13:12.
[19] In Matt. hom 60:1.
[20] Ser. On N. T. 32:3.
[21] In Matt. hom 61:4.
[22] In Matt. hom 61:5.
[23] In Matt. hom 61:5.
[24] In Matt. hom 60:1.
[25] Ser. on N. T. 32:10.
[26] In Matt. hom 60:2.
[27] In Matt. hom 60:2.
[28] Ep. 7:3.
[29] Ep. 63:3.
[30] On Myst 5 (27).
[31] My Life in Christ v1, p. 239. 689.
[32] In Matt. hom 61:1.
[33] Ep. 63:101.
[34] Ser. on N. T. 33.
[35] On Ps. hom 41.
[36] Step 26:149.
[37] In Matt. 7.
[38] On Word of God , Ser 83:6.
[39] Gospel Questions 1:25
[40] الخروج، 1981م، ص 89.
[41] PG 51
[42] In Matt. hom 61:4.