تفسير انجيل متى 15 – الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 15 - الأصحاح الخامس عشر - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 15 – الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 15 – الأصحاح الخامس عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الخامس عشر
نَاقدوا الملك وَطالبوه
الكتبة والفرّيسيّون الذين اؤتمنوا على كلمة الله لحفظها وتفسيرها رفضوا “الكلمة المتجسّد”، بينما المحرومون من الكلمة، جماعة الأمم، سعوا وراء الكلمة المتجسّد يطلبون خلاصه. انشغل الأوّلون بالنقد مع المباحثات والمجادلات حول شخص السيّد المسيح، بينما جرى الآخرون إليه يطلبون عمله فيهم، هذا لا يعني أن جميع اليهود رفضوا السيّد، إنّما من ظنّ في نفسه أنه حكيم، أمّا البسطاء منهم فجاءوا إليه ليجدوا فيه سرّ شفائهم وشبعهم.
- تعدّي تقليد الشيوخ 1-9.
- الأيدي غير المغسولة 10-20.
- لقاء مع المرأة الكنعانيّة 21-28.
- انجذاب البسطاء إليه 9-31.
- تحنّنه على طالبيه 32-39.
- تعدّي تقليد الشيوخ
“حينئذ جاء إلى يسوع كتبة وفرّيسيون الذين من أورشليم، قائلين:
لماذا يتعدّى تلاميذك تقليد الشيوخ،
فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزًا؟” [1-2].
بينما كانت الجماهير تشتهي أن تلمس هُدب ثوبه لتُشفى (مت 14: 36)، إذا بالكتبة والفرّيسيّين لا يطيقون كلماته الملوكيّة ولا يحتملون حبّه الإلهي للبشريّة، فأخذوا منه موقف الناقدين والمجرِّبين. لقد أُؤتُمن الكتبة على كلمة الله لكي يكتبوها بدقّة، والفرّيسيّون لكي يفسِّروها للشعب، حتى متى جاء كلمة الله ذاته متجسّدًا يفرحون ويتهلّلون ويدخلون مع الشعب إليه ليملك في قلوبهم، ويستجيبون له بكل حياتهم. كان يليق بالكتبة والفرّيسيّين أن يتسلّموا بالأكثر قيادة الشعب منحنين أمام كلمة الله الحيّ الملك المسيّا، لكن إذ تحوّلت قلوبهم عن خدمة الكلمة إلى خدمة ذواتهم، صاروا رافضين الكلمة الإلهي ومقاومين له، وكأنه قد جاء ليسحب الكراسي من تحتهم أو يغتصب مراكزهم.
جاء المسيّا ليملك على القلب، فقاومه هيرودس بينما كان السيّد طفلاً، لئلا يغتصب عرشه. وعندما بدأ خدمته لم يقدر الشيطان إلا أن يُعلن الحرب علانيّة خشية أن تنهار مملكة ظلمته. وفي أثناء الخدمة هرع أصحاب الكراسي والكرامات يقاومونه لئلا ينهاروا في أُعين الشعب. وبقي السيّد موضع هجوم حتى ارتفع على الصليب. وبينما تكاتفت القُوى لهدم مملكته، إذ بهذا الموقف يصير جزءً لا يتجزأ من إعلان ملكوته الخفي في قلوب الكثيرين، وإذ ظنّ المقاومون أنهم بالصليب يضعوا حدًا لنهاية عمله، إذ بهم يكتشفون أن الصليب عينه هو السبيل الوحيد لإعلان مملكته، واجتذاب الأمم إلى خلاصه المجّاني. فالمقاومة للحق لا تحطّمه، بل تفتح أمامه الطريق ليُعلن بأكثر قوّة وعلى أوسع نطاق.
إن رب المجد يبقى مُقاوَمًا في شخصه وصليبه وإنجيله عبر الأجيال للأسف حتى ممن يحملون اسمه أحيانًا ،والذين يظهرون كأبناء مملكته. لكن بقدر ما تزداد مقاومته يتجلّى بوضوح وسط مملكته، ويشرق بهاؤه على الجالسين في الظلمة. ما أعجب ما قاله القدّيس أغسطينوس الذي قاوم الرب كثيرًا قبل قبوله الإيمان بفلسفته ودنس حياته، والذي كرّس كل طاقاته لحساب الملك المسيح عندما تعرّف عليه، فإنه يرى في المقاومين للكِتاب والهراطقة أنهم يدفعوننا بالأكثر إلى معرفة الأسرار، إن كنّا نعيش بتقوى، إذ يقول: [لتلاحظوا أيها الإخوة المقدّسين فائدة الهراطقة، هذه التي حسب تدبير الله الذي يستخدم حتى هؤلاء الأشرار استخدامًا نافعًا. فبينما ترتد تدابيرهم إليهم لا يرتدّ إليهم الخير الذي يُخرجه الله منهم[1].]
تقليد الشيوخ
اُتُّهِم السيّد بأن تلاميذه يتعدُّون تقليد الشيوخ بعدم غسل أيديهم حينما يأكلون خبزًا، وكانت إجابة السيّد:
“وأنتم أيضًا لماذا تتعدُّون الله بسبب تقليدكم؟
فإن الله أوصى، قائلاً: اَكرم أباك وأمَّك،
ومن يشتم أبًا أو أمّا فليمت موتًا.
وأما أنتم فتقولون: من قال لأبيه أو أمه قربان
هو الذي تنتفع به مني، فلا يكرم أباه أو أمه.
فقد أبطلتم وصيّة الله بسبب تقليدكم” [3-6].
في دراستنا للتقليد رأينا تمييزًا واضحًا بين نوعين من التقليد:
أولاً: تقليد هو وصايا للناس، يتعارض مع الوصيّة الإلهيّة لهدف أو آخر، كالمثال الذي قدّمه السيّد المسيح. فلأجل المنفعة الشخصيّة وضع قادة اليهود وصيّة تحمل مظهر العطاء الظاهري وتخفي كسْرًا للناموس الإلهي. كأن يستطيع الابن أن يَحرم والديه من حقوقهما، فلا يعولهما بحجّة أن ما يدفعه لهما يقدّمه قربانًا لله، فيكسِر وصيّة إكرام الوالدين ويكون كمن شتمهما بأعماله، وهذا أقسى من السبّ باللسان، إذ يحرمهما من حق الحياة الكريمة، ويدخل بهما إلى ضنك العيش تحت ستار العطاء للهيكل. وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [إذ يسمع الآباء أن ما ينبغي تقديمه لهم صار من القربان المخصّص لله يحجمون عن أخذه من أبنائهم، حتى وإن كانوا في عوْز شديد لضرورات الحياة.] كما يقول: [بأن الفرّيسيّين كانوا محبّين للمال (لو 6: 14) فتظاهروا بجمعه للعطاء للفقراء، حارمين الوالدين من عطايا أولادهم.]
هذا من جانب ومن جانب آخر قدّموا في تقليدهم بعض الحرفيّات والشكليّات في العبادة والسلوك، لا هدف لها سوى حب الظهور بثوب التديّن دون الروح الداخلي الحيّ.
ثانيًا: تقليد حيّ حفظ لنا أسفار العهد القديم وقدّم لنا تفسيرًا لنصوصها، كما أعلن لنا الحياة مع الله خلال العبادة والسلوك، وحفظ لنا بعض المعرفة شفاهًا أو كتابة. الأمر الذي لا يرفضه العهد الجديد، لأنه غير مخالف للوصيّة الإلهيّة بل خادم لها، وقد استخدمه العهد الجديد نفسه، نذكر على سبيل المثال:
أ. عن التقليد اليهودي عرف الرسول بولس اسمي الساحرين المقاومين لموسى النبي (2تي3: 8).
ب. عنه نقل يهوذا الرسول مخاصمة ميخائيل رئيس الملائكة إبليس، محاجًا عن جسد موسى بروح متواضع بغير افتراء (يه 9).
ج. ذكر العهد الجديد ما ورد في التقليد اليهودي أن استلام الشريعة كان بيد ملائكة.
د. في أكثر من موضع أكّد الرسول بولس ضرورة الاهتمام بالتقليد، أو التسليم (1 كو 11: 34؛ 2 تي 1: 5؛ 2 تس 3: 6).
نعود إلى كلمات السيّد موبّخًا الكتبة والفرّيسيّين ناقدي السيّد المسيح خلال حرفيّات وشكليّات أفسدت مفهوم الوصيّة الإلهيّة:
“يا مراؤون، حسنًا تنبّأ عنكم إشعياء، قائلاً:
يقترب إليّ هذا الشعب بفمه ويُكرمني بشفتيْه،
وأما قلبه فمبتعد عنّي بعيدًا.
وباطلاً يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس” [7-9].
يدعوهم مرائين لأنهم يَظهرون كمُدافعين عن الحق وهم كاسِروه، يحملون صورة الغيرة على مجد الله وهم يهتمّون بما لذواتهم. يتقدّمون كمعلّمين وهم عميان في حاجة إلى من يعلّمهم. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان يُحسب أمرًا خطيرًا ألا يكون للأعمى قائد (يرشده)، فكم بالأكثر إن أراد الأعمى أن يقود غيره[2]!]
احتلّ الكتبة والفرّيسيّون الصفوف الأولى بين المتعبّدين، أمّا قلوبهم فلم يكن لها موضع قط بل هي مبتعدة عن الله بعيدًا، يعبدون الله ليس عن حب، وإنما لتحقيق أهداف بشريّة ذاتيّة، فصارت تعاليمهم “وصايا الناس”.
يُعلّق القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص على كلمات السيّد هذه معلنًا اهتمام الله بالقلب نفسه، أكثر ممّا بكلمات العبادة أو العمل الظاهر. [ماذا يعني هذا؟ إن الاتّجاه السليم للنفس نحو الحق لهو أثمن في عينيّ الله من العبادات، فإن الله يسمع تنهُّدات القلب التي لا يُنطق بها[3]،] أي يريد الله نقاوة القلب الداخليّة أثناء العبادة لا المظهر الخارجي. ويقول الآب يوحنا من كرونستادت: [يلزم أن تكون صلاتنا عميقة وصادقة وحكيمة ومثمرة، تُغيّر قلبنا وتوجِّه إرادتنا للصلاح وتسحبنا من الشرّ[4].]
- الأيدي غير المغسولة
دعا السيّد المسيح الجميع، وفي رقّة “قال لهم: اسمعوا وافهموا” [10]. إنه الطبيب الحكيم الذي يعرف متى يحتاج المريض إلى ضربات المشرط ليقتلع كل فساد، ومتى يستخدم الدُهن الطيِّب ليُلطِّف الجراحات، متى يجرح ومتى يضمِّد. لم يكن ممكنًا شفاء المعلّمين المرائين بالكلمات الطيّبة، فإن هذا يغطي على شرّهم في الداخل ليفسد الجسد كله، أمّا الشعب البسيط فلا يحتمل كلمة قاسية لئلا يتحطّم ويتعسَّر باليأس، وإنما يحتاج إلى كلمات رقيقة تسنده وترفعه إلى الرجاء. بهذا يملك الرب على القلوب، مستخدمًا الكلمة القاسية كما الرقيقة لينفتح له القلب. هكذا دعا السيّد الجموع ليشرح لهم أمر الأيدي غير المغسولة، ليس دفاعًا عن تلاميذه، وإنما لأجل بنيانهم الروحي، ولكي لا يتعثّروا بسبب الشكوك التي يثيرها الكتبة والفرّيسيّون.
“ليس ما يدخل الفم ينجِّس الإنسان
بل ما يخرج من الفم هذا ينجِّس الإنسان” [11].
أراد السيّد أن يمسك الجماهير البسيطة بيده ويدخل بهم إلى الحياة الداخليّة، ليُدركوا أن سرّ الحياة والقداسة لا يكمن في الأعمال الخارجيّة الظاهرة، وإنما في الحياة الداخليّة. إنه لم يتجاهل ما يدخل الفم تمامًا، لكنّه ليس هو الذي يُنجِّس، بل ما في داخل الإنسان والمُعلن خلال ما يخرج من الفم.
عندما تنجّس قلب الأبوين الأوّلين الداخلي اهتمّا لا بعلاج الداخل، إنّما بستر جسديهما في الخارج، كمن يُزيّن بيته المُنهار عِوض معالجة أساساته. هكذا اهتم قادة اليهود بغسل الأيدي قبل الطعام حتى لا يتنجّسوا، ولم يهتمّوا بما يصدر عن قلوبهم من نجاسات تظهر خلال كلماتهم المملوءة رياءً وإدانة.
“تقدّم تلاميذه وقالوا له:
أتعلم أن الفرّيسيّين لما سمعوا القول نفروا.
فأجاب وقال: كل غُرس لم يغرسه أبي السماوي يُقلع.
اُتركوهم. هم عميان قادة عميان.
وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة” [12-14].
لم يستطع الفرّيسيّون أن يسمعوا كلمات السيّد، لأنها كالمشرط الذي يُصوِّبه الطبيب على العضو الفاسد، فيفتحه ليُخرج العفونة ويظهر الفساد، الأمر الذي لا يطيقه المرائي. إنهم كآبائهم الذين استراحوا للأنبياء الكذبة في أيام إرميا، لأنهم نطقوا بالناعمات، قائلين: سلام سلام، ولم يكن سلام. وحينما حذّرهم إرميا النبي طالبًا التوبة، ألقوه في الجب، ووُضع في السجن، وكان موضع سخريتهم ومضايقاتهم. أمّا السيّد المسيح الذي يُقيم مملكة حقيقيّة أشبه بالفردوس الذي يغرس الآب أشجاره، ويسنده بدم المسيح المقدّس، ويرويه بينابيع الروح القدس، فلم يهتز بنُفور الفرّيسيّين من كلماته، فهو لا يهتمّ بعدد من يلتفون حوله بل نوعهم. يهتمّ بالدخول إلى الحق لا إلى المظهر. من أجل غرس واحد حقيقي قدّم السيّد دمه الطاهر وحياته ثمنًا مقابله، لكنّه لا يطلب أشجارًا صناعية، بلا ثمر الروح، لهذا قال: “أتركوهم”. الترك هنا لا يحمل رغبة السيّد في التخلِّي عنهم، إنّما أراد حرمانهم من الجماهير التي بالغت في تقديم الكرامات لهم، ففقدوا تواضعهم، وأصيبت قلوبهم بالعَمى الروحي. إنهم في حاجة إلى الترك كي يختلوا بأنفسهم ويدركوا أنهم عميان، اختلسوا كراسي القيادة الروحيّة، فقادوا العميان بقلبهم الأعمى ليسقط الكل في حفرة الجهل والظلمة.
- لقاء مع الكنعانيّة
إن كان قد تحوّل رجال الكتاب المقدّس – الكتبة والفرّيسيّون – بعمى قلوبهم عن الكلمة الإلهي المتجسّد، فصاروا مقاومين له ومناضلين لمملكته الروحيّة، عِوض أن ينعموا بها ويكرزوا، لهذا يقول الإنجيلي: “ثم خرج يسوع من هناك، وانصرف إلى نواحي صور وصيدا“. وكأنه يُعلن تركه للشعب اليهودي الرافض الإيمان ليبحث عن أولاده من بين الأمم. بخروجه ينزع الأغصان الأصيلة بسبب كبريائهم وعدم إيمانهم، لكي يطعم فيه الأغصان البرّيّة لتنعم بثمر روحه القدّوس.
بينما انهمك اليهود – في أشخاص قادتهم – في حرفيّة الناموس وشكليّات التقليد بغير روح، صاروا يبحثون عن خطأ يرتكبه المسيّا المخلّص، وإذا بكنيسة الأمم ممثّلة في هذه الكنعانيّة تخرج إليه لتطلب منه احتياجها.
“وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه؛ قائلة:
ارحمني يا ابن داود،
ابنتي مجنونة جدًا” [22].
لقد حُرمت زمانها كلّه من سماع كلمة الله، ولم تتسلّم الناموس ولا ظهر في وسطها أنبياء بل عاشت حياتها في عبادة الأوثان، لكنها بالسماع عرفت القليل عن المسيّا “ابن داود“، فخرجت من تخومها، كما من كُفرها وعبادتها الوثنيّة، لتلتقي به. رفضه الذين لديهم قوائم الأنساب وبين أيديهم الرموز والنبوّات تحدِّد شخصه، وجاءت إليه غريبة الجنس، لا لتدخل في مناقشات غبيّة ومجادلات، إنّما لتغتصب حبّه الإلهي ومراحمه، لينقذ ابنتها المجنونة جدًا، لقد قبلته مخلّصًا لها، إذ شعرت بالحاجة إليه لأن نفسها كابنة لها مجنونة جدًا، فقدت تعقلها وحكمتها!
حقًا إذ انطلق السيّد إلى نواحي صور وصيدا، إذا بالمرأة تخرج من تخومها، وكأن السيّد وهو محب للبشر ينصرف إليهم، لكنّه لا يلتقي بهم داخل تخوم الأوثان بل خارجها. لقد حقّقت بهذا ما لم يعلنه لها داود النبي: “اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنك، واِنسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيّدك فاُسجدي له” (مز 45: 10-11). لقد تمّمت الوصيّة وخرجت من شعبها، وتركت بيت أبيها تطلب الملك الحقيقي.
يقول الإنجيلي: “لم يجبها بكلمة” [23]… لماذا؟
أولاً: عدم إجابته لها في البداية هو إعلان عن عمله الخلاصي، فقد جاء وسط بني إسرائيل وركّز غالبية أعماله وقوّاته على هذا الشعب، الذي تمتّع بالوعود والنبوّات والشرائع، حتى إذا ما رفضه يكون قد امتلأ كأسه، فيرفضه الرب، ليفتح الباب على مصراعيه للأمم. لقد ركّز على هذا الشعب في البداية ليكون الخميرة المقدّسة لتخمير العجين كلّه، خلال الكرازة والتبشير. ونحن لا ننكر أنه وإن رفضه اليهود لكن قلّة منهم كانوا التلاميذ والرسل الذين كرزوا في العالم.
ثانيًا: كان صمت السيّد إلى حين يثير التلاميذ لكي يتقدّموا من أجلها. لقد أراد أن يكشف لهم رسالتهم أن يهتمّوا بالعالم الوثني المتألّم والفاقد وعيه الروحي وخلاصه.
ثالثًا: كان السيّد صامتًا في الخارج، لكن يده غير المنظورة تسند قلبها وإيمانها، وعيناه تترقّبان بفرح تواضعها الفائق. لقد أراد بصمته لا أن يتجاهلها، وإنما بالأحرى يزكّيها أمام الجميع. يقول القدّيس أغسطينوس: [إذا كانت تشغف على الحصول على الرحمة صرخت وبجسارة قرعت، فظهر كأنه لم يسمعها. لم ترفضها الرحمة إلى النهاية، إنّما ما حدث كان لكي يُلهب رغبتها ويُظهر تواضعها. صرخت وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يدبّر الأمر بهدوء[5].] كما يقول: [كانت دائمة الصراخ، داومت على القرع، وكأنها سبق فسمعت قوله: “اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم” (مت 7: 7)[6].]
“فتقدّم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين:
اصرفها لأنها تصيح وراءنا.
فأجابهم وقال: لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” [23-24].
كيف لم يُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، وهو القائل لنيقوديموس “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة“ (يو3: 16)؟ بل وسبق فشهد الأنبياء في العهد القديم عن مجيء المسيّا للعالم كله، اليهود والأمم معًا؟
يجيب القدّيس أغسطينوس: [إننا نفهم من هذا أنه لاق به أن يُعلن عن حضوره بالجسد وميلاده، وعمل معجزاته وقوّة قيامته وسط هذا الشعب، فإنه هكذا قد دبّر الأمر منذ البداية. ما سبق فبُشِّر به قد تحقّق بمجيء المسيح يسوع لأمّة اليهود كي يُقتل، لكنّه يربح منهم الذين سبق فعرفهم، فإنه لم يدن الشعب كلّه، إنّما فحصهم فوجد بينهم تبنًا كثيرًا، ووجد أيضًا حنطة مختفية. منهم ما هو يُحرق، ومنهم ما يملأ المخازن، فإنه من أين جاء الرسل؟!] كما يقول: [لأنه لم يذهب بنفسه للأمم، بل أرسل تلاميذه، فيتحقّق ما قاله النبي: “شعب لم أعرفه يتعبّد لي” (مز 18: 43). انظر كيف أوضحت النبوّة الأمر كيف تحقّق؟! تحدّثت بوضوح: “شعب لم أعرفه”؛ كيف؟ يكمّل قائلاً: “من سماع الأذن يسمعون لي” (مز 18: 44)، أي يؤمنون لا خلال النظر بل خلال السمع، لهذا نال الأمم مديحًا عظيمًا. فإن (اليهود) رأوه فقتلوه، الأمم سمعوا عنه وآمنوا به[7].]
لقد أكمل السيّد حديثه، قائلاً: “ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب؟” [26]. لماذا نطق هكذا؟ هل كان يحتقر الأمم فيدعوهم كلابًا؟! بلا شك لا يحتقر السيّد خليقته، ولكنه ربّما قال هذا مردِّدًا ما كان يردِّده اليهود لكي يمجِّد من ظنَّهم اليهود كلابًا، معلنًا كيف صاروا أعظم إيمانًا من البنين أنفسهم. هذا ومن ناحية أخرى، فإن الأمم بإنكارهم الإيمان بالله، وصنعهم الشرور الكثيرة حتى أجاز الكثيرون أطفالهم في النار، وقدّموا بنيهم ذبائح للأصنام، فعلوا ما لا تفعله الكائنات غير العاقلة. إنه لا يقصد تمييز اليهود عن الأمم، إنّما يكشف عن فعل الخطيئة فينا، كما كشف عن أعماق قلب المرأة الكنعانيّة التي سبقت بتواضعها العجيب أبناء الملكوت. فقد قالت: “نعم يا سيّد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها” [27].
يقول القدّيس أغسطينوس: [أنها لم تثُرْ ولا غضبت، لأجل دعوتها ككلبٍ عندما طلبت البركة وسألت الرحمة، بل قالت: “نعم يا سيّد“. لقد دعوتني كلبًا، وبالحق أنا هكذا، فإنّني أعرف لقبي! إنك تنطق بالحق، لكن ينبغي ألا أُحرم من البركة بسبب هذا… فإن الكلاب أيضًا تأكل من الفتات الساقط من مائدة أربابها. ما أرغبه هو البركة بقدر معتدل، فإنّني لا أزحم المائدة، إنّما أبحث فقط عن الفتات. انظروا أيها الإخوة عظمة التواضع الذي أمامنا!… إذ عرفت نفسها، قال الرب في الحال: “يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن كما تريدين” [28]. لقد قلتِِ عن نفسكِ إنكِ “كلبًا”، لكنّني أعرفك إنكِ “إنسان”… لقد سألتي وطلبتي وقرعتي، فيُعطَى لك وتجدين ويُفتح لك. انظروا أيها الإخوة كيف صارت هذه المرأة الكنعانيّة مثالاً أو رمزًا للكنيسة؟! لقد قدّمت أمامنا عطيّة التواضع بدرجة فائقة[8]!] ما حُرم منه اليهود أصحاب الوعود بسبب كبريائهم نالته الأمم المحرومة من المعرفة خلال التواضع. الذين ظنّوا في أنفسهم أبناء، حُرموا أنفسهم من مائدة الملكوت خلال جحودهم، والذين كانوا في شرّهم ودنسهم كالكلاب، صاروا بالحق أبناء يدخلون وليمة أبيهم السماوي.
لقد حقّقت هذه المرأة الخارجة من تخوم صور ما سبق فأعلنه النبي عنها: “بنت صور أغنى الشعوب تترضَّى وجهك بهديّة“ (مز 45: 12). أيّة هدية تقدّمها بيت صور هذه إلا إعلان إيمانها الفائق خلال صمت السيّد، وتظاهره بعدم العطاء في البداية. لقد وهبها الفرصة لتقديم أعظم هديّة يشتهيها الرب، إذ يقول “يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لكِ كما تريدين” [28]. لقد فتحت بهذه الهديّة كنوز السيّد، لتنال كل ما تريد، بينما أغلق قادة اليهود أبواب مراحم الله أمام أنفسهم. قبل هديّتها القلبيّة الفائقة، وردّ لها الهديّة بما هو أعظم، إذ مدَحها أمام الجميع، فاتحًا أبواب محبّته أمامها، مقيمًا إيّاها رمزًا لكنيسة الأمم التي اغتصبت الرب نفسه بالإيمان.
- انجذاب البسطاء إليه
مرة أخرى يصعد السيّد إلى الجبل ليجلس هناك، فتجتمع الجماهير البسيطة، تحمل إليه العرج والعمي والخرس الخ.، يطرحونهم عند قدميه فيشفيهم. إن كان القادة بريائهم الذي أعمى قلوبهم فلم يعاينوا شمس البرّ، فإن الغرباء (الأمم) في شخص المرأة الكنعانيّة التقوا به خلال الشعور بالاحتياج إليه، وهكذا أيضًا بسطاء اليهود أدركوا في بساطة قلوبهم في يسوع المسيح ملكهم المخلّص، الأمر الذي حُرم منه القادة.
- تحنّنه على طالبيه
إذ التفَّت الجماهير حوله ليمكثوا معه ثلاثة أيام، لم ينتظر التلاميذ أن يسألوه أن يصرف الجموع لكي يمضوا إلى القرى، ويبتاعوا طعامًا كما حدث قبلاً (مت 14: 15) إنّما استدعاهم ليقدّم خلالهم لشعبه احتياجاتهم حتى الجسديّة؛ ربّما لأن الشعب في هذه المرة لم يشعر بالجوع بسبب بقائهم مدة طويلة يستمعون كلماته المشبعة، أو لأن التلاميذ اختبروه قبلاً في إشباعهم. وقد سبق لنا الحديث عن إشباع الجموع (مت 14).
[1] Ser. on N. T. hom 1:11.
[2] In Matt. hom 51:4.
[3] Adv. Eunom 1:37.
[4] My Life in Christ, v2, p. 151.
[5] Ser. on N. T., 27:1.
[6] Ser. on N. T., 27:9.
[7] Ser. on N. T., 27:2,5.
[8] Ser. on N. T., 27:11