تفسير انجيل متى 13 – الأصحاح الثالث عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 13 – الأصحاح الثالث عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثالث عشر
أمثلة الملكوت
إذ قدّم السيّد المسيح مفاهيم جديدة للملكوت، من جهة العبادة والسلوك والجهاد والخلاص والاتّحاد مع الله، قدّم لنا أمثلة خاصة بهذا الملكوت السماوي المسيحاني، تكشف لنا عن أسراره من جوانب متعدّدة.
- مثل الزارع 1-9.
- الحاجة إلى الأمثال 10-17.
- تفسير المثل 18-23.
- مثل الزوان 24-30.
- مثل حبّة الخردل 31-32.
- مثل الخميرة 33-35.
- تفسير مثل الزوان 36-43.
- مثل الكنز المُخفى 44.
- مثل اللؤلؤة 45-46.
- مثل الشبكة 47-50.
- الكاتب المتعلّم 51-53.
- موقف أهل وطنه 54-58.
- مثل الزارع
التقى السيّد المسيح بالجموع خارج البيت، إذ يقول الإنجيلي: “في ذلك اليوم خرج يسوع من البيت وجلس عند البحر. فاجتمع إليه جموع كثيرة حتى أنه دخل السفينة وجلس، والجمع كلّه وقف على الشاطئ” [1-2]. أمّا عند تفسيره المثل للتلاميذ، فكان معهم داخل البيت بعدما صرف الجموع [36]، فماذا يقصد بالبيت؟
أولاً: ربّما قصد بالبيت “الكنيسة المقدّسة كجماعة المؤمنين” فقد خرج السيّد المسيح خارج ليلتقي مع جماهير غير المؤمنين، الذين لم يدخلوا بعد في العضويّة الكنسيّة، ولا وُلدوا كأبناء لله… يخرج إليهم ليلتقي معهم خلال محبّته بكلمة الكرازة، ويجلس عند البحر، الذي يُشير إلى العالم المملوء اضطرابًا، لكي يدخل بهم إلى كنيسته، بدخوله هو إلى سفينة إنسانيّتنا وحديثه معهم عن ملكوت السماوات خلال الأمثال.
بحبّه يتحدّث مع الجميع، لكنّه لا يأتمن أحدًا على أسرار الملكوت وتذوّق الأمجاد الأبديّة خارج البيت. إنه يصرف الجماهير ليلتقي مع تلاميذه وحدهم داخل البيت، ويحدّثهم في أمورٍ لا ينطق بها ومجيدة.
يقول العلاّمة أوريجينوس: [عندما يكون يسوع مع الجموع يكون خارج بيته، لأن الجموع خارج البيت. هذا العمل ينبع عن حبّه للبشر، إذ يترك البيت ويذهب بعيدًا إلى أولئك الذين يعجزون عن الحضور إليه.]
ثانيًا: يُشير البيت أيضًا إلى السماء بكونها هيكل الله. فإذ عجزت البشريّة عن الارتفاع إلى السماء لتلتقي بخاِلقها نزل هو إليها. إنه كمن يخرج من البيت ليلتقي بالبشريّة خلال إنسانيّتهم، حتى بدخوله إليهم لا يهابونه كديّان، فيهربون منه، بل يسمعون صوته خلال السفينة الخشبيّة، أي خلال الصليب ليجتذبهم بالحب إلى السمويّات “بيته”، ويكشف لهم أسراره كعريس يناجي عروسه في حجاله الأبدي. لا يحدّثها عن أسراره علانيّة بين الجماهير، بل خلال علاقة الحب الشخصي في لقائهما معًا تحت سقف واحد!
ليتنا بالحق لا نكتفي بالوقوف مع الجماهير عند الشاطئ لنسمع الأمثال، إنّما ندخل به وفيه إلى بيته، ننعم بالعضويّة الروحيّة في كنيسته والدخول إلى سماواته، فنرتمي في أحضانه الإلهيّة ليحدّثنا حديث حُبّه السرّي الفائق.
هوذا الزارع قد خرج
غاية الله فينا هو “الخروج exodus”، ينطلق بنا كما مع بني إسرائيل من أرض العبوديّة إلى خيرات أرض الموعد. إنه يشتهي أن يخرج بنا من عبوديّة الخطيّة إلى حرّية مجد أولاد الله. ولما كان الخروج بالنسبة لنا مستحيلاً خرج هو أولاً كما من أمجاده، حتى يخرج بنا نحن أيضًا من طبيعتنا الفاسدة، فنلتقي معه وفيه، متمتّعين بالطبيعة الجديدة التي على صورته.
يتحدّث القدّيس يوحنا الذهبي الفم عن هذا الخروج الإلهي هكذا: [خرج ذاك الذي هو كائن في كل مكان، لكنّه غير محدود بمكان؛ جاءنا في ثوب جسدنا. يتحدّث المسيح بحق عن اقترابه إلينا كخروج. لأننا قد طُردنا خارج الله كمن هم مدينين وثائرين مطرودين من حضرة الملك. لكن ذاك الذي يرغب في مصالحتهم مع الملك يخرج إليهم، ويتحدّث معهم خارج المملكة، ومتى تأهّلوا يحضرهم إلى الحضرة الإلهيّة. هذا هو ما فعله المسيح[1].] كما يقول: [لم يخرج إلى موضع إنّما يُعلن عن حياة وتدبير يخصّان خلاصنا، إذ صار قريبًا لنا بالتحافه جسدنا. فإذ لم نستطع نحن أن ندخل بسبب خطايانا خرج هو إلينا. ولماذا خرج؟ هل لكي يُهلك الأرض التي أنتجت أشواكًا؟… لا، إنّما خرج ليهتمّ بالأرض ويبذر كلمة الحنو. إذ يدعو تعاليمه هنا بذارًا، ونفوس البشر حقلاً مفلحًا، ويدعو نفسه بالباذر[2].]
السيّد المسيح هو الزارع الذي يخرج دومًا ليلقي ببذار حبّه فينا لكي تثمر في قلبنا شجرة حب يشتهي الله أن يقطف ثمارها، قائلاً: “قد دخلتِ جنتي يا أختي العروس، قطفتِ مرِّي مع طيبي، أكلتِ شهدي مع عسلي، شربتِ خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحبّاء” (نش 5: 1). ألقى الله بذاره في الفردوس، لكن أبويْنا الأوّلين قبِلا الزوان عِوض بذار الرب، فخرجا يحملان ثمار المرارة والعصيان. عاد الله وخرج إلى شعبه خلال موسى لينطلق بهم من أرض العبوديّة، مقدّمًا لهم الشريعة كبذارٍ إلهيّة، لكن القلب الذي ارتبط بعبادة الأوثان المصريّة، خاصة عِجل أبيس الذهبي، رفض البذار الإلهيّة مثمِرًا شجرة تذمُّر مستمر. وفي ملء الزمان خرج كلمة الله بنفسه إلينا متجسّدًا، وحلّ وسطنا، لنتقبّله حالاًّ فينا، فنثمر ثمار روحه القدّوس. وقد تمّ كمال خروجه بانطلاقه خارج أورشليم حاملاً عار الصليب، حتى نخرج نحن أيضًا بالصليب خارج “الأنا”، أي خارج ذواتنا المتعجرفة، فنلتقي به عند صليبه ونتقبّل ينبوع دمه الطاهر بذار حب تعمل فينا؛ الأمر الذي أوضحه الرسول بقوله “لذلك يسوع أيضًا لكي يقدّس الشعب بدم نفسه تألّم خارج الباب؛ فلنخرج إذًا إليه خارج المحلّة، حاملين عاره” (عب 13: 12-13).
البذار
ما هي البذار التي يلقيها السيّد المسيح في حياتنا كما في الأرض؟ قديمًا كان موسى والأنبياء يتقبّلون الكلمة من الله، أي يستعيرونها لكي ينعمون بها في حياتهم ويقدّمونها للشعب، إنها عارية! أمّا السيّد المسيح فهو بعينه الكلمة الإلهي، يوَد أن يُدفن في قلب المؤمن، لكي يُعلن ذاته شجرة حياة في داخله. إنه لا يقدّم شيئًا خارجًا عنه استعارة، إنّما يقدّم حياته سرّ حياة لنا، وقيامته علّة قيامتنا، ونصرته بكر نصرتنا، وأمجاده سرّ تمجيدنا! إنه الباذر والبذرة في نفس الوقت.
الأرض
الأرض التي تستقبل السيّد المسيح نفسه كبذرة لها أن تقبله أو ترفضه، وقد قدّم لنا السيّد المسيح أربعة أنواع من التربة: الطريق، والأرض المحجرة، والأرض المملوءة أشواكًا، والأرض الجيّدة. حقًا إن الزارع واحد، والبذار واحدة، لكن الثمر أو عدمه يتوقّف على الأرض التي تستقبل البذار. وقد استغلّ البعض هذا المثل للمناداة بوجود طبائع مختلفة لا يمكن تغييرها، فالشرّير إنّما يصنع الشرّ بسبب طبيعته، والصالح بسبب صلاح طبيعته، وكأن الإنسان ملتزم بتصرّفات لا يمكنه إلا أن يفعلها، وكأنه لا يحمل حرّية إرادة. هذه البدعة تصدّى لها كثير من الآباء، لكنّني هنا أود تأكيد أن هذا المفهوم لا يمكن استنباطه من المثل، فلو أن الله يُعلّم هذا، فلماذا ضرب لنا المثل؟ إنه يقول: “من له أذنان للسمع فليسمع” [9]، وكأنه يأمرنا أن ننصت لكلماته فنطلب تغيير طبيعتنا إلى الأرض الجيّدة.
- عند سماعكم هذا لا تبتدئوا تفتكروا في طبائع مختلفة كبعض الهراطقة، الذين يذكرون أن للواحد طبيعة شرّيرة وللآخر صالحة، وأن البعض تقودهم إرادتهم خلال تكوينهم إلى ما هو صالح أو شرير. أضف إلى هذا أن الكلمات “قد أُعطى لكم”، تعني أنه لكم إرادة[3].
الأب غريغوريوس (الكبير)
- (عن إمكانيّة التحوّل إلى تربة صالحة)
اقلبوا التربة الصالحة بالمحراث، أزيلوا الحجارة من الحقل، انزعوا الأشواك عنها.
احترزوا من أن تحتفظوا بذلك القلب القاسي الذي سرعان ما تعبر عنه كلمة الرب ويفقدها.
احذروا من أن تكون لكم تربة خفيفة فلا تتمكن جذور المحبّة من التعمق فيها.
احذروا من أن تختنق البذار الصالحة التي زُرعت فيكم خلال جهادي، وذلك بواسطة الشهوات واهتمامات هذا العالم.
كونوا الأرض الجيّدة، وليأتِ الواحد بمائة والآخر بستين وآخر ثلاثين[4].
القدّيس أغسطينوس
ماذا يقصد بقوله: “من له أذنان للسمع فليسمع“؟ يُعلّق القدّيس جيروم على هذه العبارة هكذا: [يقول إشعياء “أعطاني الرب أذنًا“ (إش 50: 4). لتفهم ماذا يقول؟ لقد أعطاني الرب أذنًا، إذ تكون لي أذن القلب؛ وهبني الأذن التي تسمع رسالة الله فما يسمعه النبي إنّما يسمعه في قلبه. وذلك كما نصرخ نحن أيضًا في قلوبنا قائلين: أيها الأب أبّا، وهي صرخة صامتة، لكن الرب يسمع الصمت هكذا بنفس الكيفية يحدّث الرب قلوبنا التي تصرخ: “أيها الأب أبّا”.]
أولاً: الطريق
“وفيما هو يزرع، سقط بعض على الطريق، فجاءت الطيور وأكلته” [4]. هذا الطريق هو القلب المتعجرف الذي على مستوى مرتفع عن الأراضي الزراعيّة، إنه مطمع للطيور المرتفعة، أي لشيّاطين الكبرياء التي تعوق تلاقينا الحقيقي مع الله الكلمة! والطريق دائمًا مفتوح، ليس له سور يحفظه من المارة، كالإنسان صاحب الحواس المفتوحة لكل غريب، ليس من رقيب يحفظها! ما أحوج هذا الإنسان إلى الصراخ لله مع المرتّل، قائلاً: “ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتيَّ”، فينعم بالروح القدس نفسه كسورٍ ناريٍ يحيط به، لا يقدر الشرّ أن يقترب إليه.
يتحدّث القدّيس كيرلّس الكبير عن الطريق، قائلاً: [الطريق دائمًا صلب، تَطَأه أقدام كل العابرين على الدوام، لهذا لا تبذر فيه بذار. هكذا من كانت لهم الأفكار العنيفة وغير الخاضعة، لا تَدخل الكلمة الإلهيّة المقدّسة فيهم، ولا تسندهم، لكي يتمتّعوا بثمر الفضيلة المفرح. مثل هؤلاء يكونون كالطريق الذي تطأه الأرواح الدنسة ويدوسه الشيطان نفسه، فلا يأتون بثمرٍ مقدّسٍ بسبب قلوبهم المجدبة العقيمة.]
ثانيًا: الأماكن المحجرة
“وسقط آخر على الأماكن المحجرة،
حيث لم تكن له تربة كثيرة.
فنبت حالاً، إذ لم يكن له عمق أرض،
ولكن لما أشرّقت الشمس اِحترق،
وإذ لم يكن له أصل جف” [5-6].
هذه المنطقة الحجريّة المغطّاة بطبقة خفيفة من التربة إنّما تمثّل القلب المرائي الذي يخفي طبيعته الحجريّة وراء مظاهر برّاقة. فيتقبّل الكلمة سريعًا لتنبت ويفرح الكل به، لكن الرياء الخفي كفيل بقتل كل حيويّة فيه. إنه لا يحتمل إشراق الشمس فيحترق، لأن ليس فيه أصل فيجف. يودّ أن يبقى رياؤه مخفيًا، لكن الضيقة تفضحه وتكشف أعماقه، إذ يقول البابا كيرلّس الكبير: [يوجد آخرون يحملون الإيمان بغير اِكتراث في داخلهم، إنه مجرّد كلمات عندهم! تديُّنِهم بلا جذور، يدخلون الكنيسة فيبتهجون برؤيتهم أعدادًا كبيرة مجتمعة هناك وقد تهيّأوا للشركة في الأسرار المقدّسة، لكنهم لا يفعلون ذلك بهدف جاد وسموّ للإرادة. وعندما يخرجون من الكنائس فإنهم في الحال ينسون التعاليم المقدّسة. متى كان المسيحيّون في سلام يحتفظون بالإيمان، لكنّه متى ثارت الاضطهادات يفكّرون في الهروب طالبين الأمان. يتحدّث إرميا لمثل هؤلاء، قائلاً: “اعدّوا المجن والترس، وتقدّموا للحرب“ (إر 46: 30). لأن يد الرب المدافع عنكم لا يمكنها أن تنهزم، وكما يقول بولس غزير العلم: “الله أمين، الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا” (1كو10: 13)[5].]
ثالثًا: الأرض المملوءة أشواكًا
“وسقط آخر على الشوك،
فطلع الشوك وخنقه” [7].
إنها تمثِّل النفس التي تخنقها أشواك اهتمامات العالم، فإنه لا يمكن للكلمة الإلهيّة أن تبقى عاملة في قلب متمسِّك باهتمامات العالم، أو ما دعاه السيّد: “همّ هذا العالم وغرور الغنى” [22]. ويلاحظ هنا أنه لم يقل “العالم والغنى” بل “همّ العالم وغرور الغنى” وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا لا نلُم الأشياء في ذاتها، وإنما نلوم الذهن الفاسد، فإنه يمكنك أن تكون غنيًا، لكن بلا غرور الغنى، وأن تكون في العالم دون أن يخنقك باهتماماته[6].] يوضّح القدّيس إكليمنضس السكندري[7] بأنه لا يجب أن نلوم المال، بل سوء استعماله، كذلك ليس فضل أن يكون الإنسان فقيرًا، ولكن الفضل أن نمارس مسكنة الروح، أي عدم التعلُّق بالأموال.
يتحدّث الأب غريغوريوس (الكبير) عن غرور الغنى، قائلاً: [من يصدّقني إن فسَّرت الأشواك بأنها الغنى، خاصة وأن الأشواك تؤلمنا، بينما الغنى يبهجنا؟ ومع ذلك فهي أشواك تجرح النفس بوخزات الأفكار التي تثيرها فينا، وبتحريضنا على الخطيّة، إنها تلطِّخنا بفسادها كالدم الخارج من الجرح… الغنى يخدعنا إذ لا يمكن أن يبقى معنا إلى الأبد، ولا أن يُشبع احتياجات قلبنا. الغنى الحقيقي وحده هو ذاك الذي يجعلنا أغنياء في الفضائل، لهذا أيها الاخوة، إن أردتم أن تكونوا أغنياء أحبّوا الغنى الحقيقي، إن أردتم الكرامات العُليا اطلبوا ملكوت السماوات. إن كنتم تحبّون التمتّع بالمجد بدرجة عالية، فأسرعوا لكي تُحصى أسماؤكم بين طغمة الملائكة الممجّدة[8].]
ويُعلّق القدّيس كيرلّس الكبير على الشوك بكونه هموم الحياة وغناها ولذّاتها، قائلاً: [يزرع الفادي البذور، فتصادف قلوبًا تظهر قويّة مثمرة، ولكن بعد قليل تخنقها متاعب الحياة وهمومها، فتجف البذور وتَبلى، أو كما يقول هوشع النبي: “إنهم يزرعون الريح ويحصدون الزوبعة، زرع ليس له غلة لا يصنع دقيقًا، وإن صنع فالغرباء تبتلعه” (هو 8: 7). لنكن زارعين ماهرين، فلا نزرع البذور إلا بعد تطهير الأرض من أشواكها، حتى نقول مع المرنم: “الذاهب ذهابًا بالبكاء حاملاً مِبذَر الزرع، مجيئًا يجيء بالترنم حاملاً حزمه“ (مز 126: 6). كل من رمى البذر على أرض تنبت شوكًا وحسكًا يتعرّض لخسارتين: البذر الذي يفنى، والتعب المضني. لنعلم أنه لا يمكن أن تزهر البذور الإلهيّة إلا إذ نزعْنا من عقولنا الهموم العالميّة وجردّْنا أنفسنا عن زهو الغنى الباطل، “لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء” (1 تي 6: 7). لأنه ما الفائدة من اِمتلاكنا للأشياء الزائلة الفانية؟ “الرب لا يُجيع نفس الصديق ولكن يدفع هوى الأشرار” (أم 10: 3). ألم تلاحظ أن الشرور الفاسدة من نهم وطمع وشره وجشع وسكر وعبث ولهو وكبرياء تخنقنا، أو كما يقول رسول المخلّص: “كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظّم المعيشة، ليس من الأب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد” (1 يو 2: 16).]
رابعًا: الأرض الجيّدة
“وسقط آخر على الأرض الجيّدة،
فأعطى ثمرًا بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين.
من له أذنان للسمع فليسمع” [8-9].
إنها الأرض المنخفضّة التي خضعت للحرث، فتعرَّضت تربتها خلال الحرث للشمس، وتنساب المياه إليها. هذه هي النفس المتواضعة التي تتقبّل التجارب كمحراث يقلب تربتها، فتتعرّض تربتها الداخليّة أي الإنسان الداخلي لإشراقات شمس البرّ نفسه أي المسيح، وتتقبّل إنسياب مياه الروح القدس عاملاً فيها. مثل هذه النفس تأتي بثمر مائة وستين وثلاثين.
- إنها أرض غنيّة ومثمرة تنتج مائة ضعف!
صالحة ومثمرة هي النفوس التي تتقبّل الكلمة بعمق وتحتفظ بها، وتهتم بها.
يُقال عن مثل هذه النفوس ما قاله الرب على فم أحد الأنبياء: “ويطوِّبكم كل الأمم لأنكم تكونون أرض مسرَّة، قال رب الجنود“ (مل 3: 12). فإنه عندما تسقط الكلمة الإلهيّة على نفس طاهرة من الأمور المحزنة، تخرج جذورًا عميقة، وتأتي بسنابل حنطة تحمل ثمرًا متزايدًا[9].
القدّيس كيرلّس الكبير
الأرض الجيّدة هي هبة الله لنا بروحه القدّوس الذي يعطينا في المعموديّة الطبيعة الجديدة التي على صورة السيّد المسيح، القادرة أن تثبت في المسيح، وتأتي بثمر الروح المتكاثر. كنّا قبلاً بالخطيّة طريقًا صعبًا تدوسه الأقدام وتلتقط الطيور منه البذار. ومن أجلنا صار السيّد المسيح الطريق الذي لن يقدر عدوّ الخير أن يقترب منه، ولا تتجاسر الطيور أن تختطف منه شيئًا. إنه الطريق الآمن الذي لا يعرف القسوة أو العنف، إنّما هو طريق الحق الذي يدخل بنا إلى حضن الأب. أما كوننا أرضًا محجرة، فهذا ليس بالأمر الغريب فقد قبلت البشريّة آلهة من الحجارة عِوض الله الحيّ، وتعبّدت للأوثان زمانًا هذا مقداره، فجاء السيّد المسيح كحجر الزاوية الذي يربط البناء كله، ليس حجرًا جامدًا يقتل الزرع، إنّما حجر حيّ قادر أن يُقيم فينا فردوسًا سماويًا يفرح الآب! أمّا الأشواك والحسك الخانقة للنفس فقد حملها السيّد على رأسه، دافعًا ثمن خطايانا لنتبرّر أمام الآب، ونُوجد في عينيّه بلا لوم، ليس فينا شوك ولا حسك بل ثمر الروح المفرح!
لنرفع قلوبنا بالشكر للذي نزع عنّا ما كان لنا بسبب عصياننا من طريق قاسي وأرض محجرة وأشواك وحسك، واهبًا إيّانا الطبيعة الجديدة الغنيّة فيه ليقيمنا فردوسًا سماويًا يأتي بثمار كثيرة.
درجات الثمر
قدّم السيّد بذاره لأربعة أنواع من الأراضي، لكن لم تتجاوب كل الأراضي معها، وحتى التي تجاوبت إنّما بدرجات متفاوتة، فالبعض أنتج مائة ضعف وآخر ستين وثالث ثلاثين. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [اخبرني إذن كيف فُقد الجزء الأكبر من البذار؟ إنها لم تفقد بسبب الباذر، إنّما بسبب الأراضي التي لم تقبلها، أي النفوس التي لم تنصت لها.]
يرى بعض الآباء مثل القدّيس جيروم أن هذا الثمر مع اختلاف كميّته لكنّه يصدر عن أرضٍ واحدةٍ وحقلٍ واحدٍ، لكن شخصًا يثمر ثلاثين وهو المتزوّج الذي حفظ المضجع غير دنّس ويحمل علاقة حب طاهرة بين الزوج وزوجته، وآخر يأتي بالستّين وهو الأرمل أو الأرملة الذي يحتمل ضيق الترمل والتعب بفرح، وأما الذي يثمر المائة فهو البتول.
- الحاجة إلى الأمثال
“فتقدّم التلاميذ وقالوا له: لماذا تكلّمهم بأمثالظ
فأجاب، وقال لهم: لأنه قد أعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات،
وأما لأولئك فلم يُعط.
فإن من له سيعطي ويُزاد،
وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه.
من أجل هذا أكلّمهم بأمثال” [10-13].
يقول الله على لسان المرتّل: “اَفتح بمثل فمي، أُذيع ألغازًا منذ القدّم“ (مز 78: 2). هكذا يتكلّم السيّد بأمثالٍ، لا لكي يحرم أحدًا من أسراره، إذ “يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون“ (1 تي 2: 4)، إنّما أراد أن يجتذب المشتاقين لمعرفة الحق إليه. فقد اعتاد البشر أن ينجذبوا نحو الأحاديث الغامضة، فيدخلوا معه في علاقة سرّيّة خلالها يقدّم لهم مقدّساته التي لا ينطق بها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن هذه الأمثال كما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حملت توبيخات غير مباشرة للسامعين، إذ لم يرد أن يوبّخهم بعنف (مباشرة) حتى لا يسقطوا في اليأس[10].] هذا وبحديثه خلال الأمثال لا يلقي السيّد بمقدّساته للجميع لئلا يحتقرها غير راغبي الحق ويدوسونها بأقدامهم.
يقول السيّد: “من له سيعطَي ويزداد، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه” [12]. فبقدر ما يكون الإنسان أمينًا على المقدّسات الإلهيّة يفيض الله عليه أمجاد معرفة حقيقية من يوم إلى يوم. فيتذوّق أمثال السيّد، ليدخل خلالها إلى بيته، يسمع أسراره بعبوره إلى المجد وجهًا لوجه. أمّا غير الأمين فحتى ما يسمعه من أمثال يُنزع منه، ويصير سماعه علّة إدانته عِوض أن يكون سرّ مجد له. لقد أوضح السيّد المسيح ذلك بمثَل الوزنات، فإن صاحب الوزنات الخمسة إذ تاجر فيها وربح أُعطى له خمس مدن. أمّا الذي له وزنة واحدة وقد أخفاها في الطين، ولم يتاجر بها، فحتى هذه الوزنة سُحبت منه لتُعطى لمن تاجر وربح! حياتنا مع السيّد المسيح هي انطلاقة مستمرّة من مجدٍ إلى مجدٍ، وتفاعل دائم مع روح الله القدّوس الذي لا يكف عن أن يُعلن لنا الحق، ويذكرنا بكل ما قاله لنا السيّد؛ يأخذ ممّا للمسيح ويعطينا! إنها حياة ديناميكيّة لا تتوقف قط. أمّا الإنسان السلبي المكتفي بما لديه من معرفة وخبرات، حاسبًا في نفسه أنه غني وقد استغنى، فإن ما لديه يؤخذ منه، ليهوى من ضعفٍ إلى ضعفٍ، ومن حرمانٍ إلى حرمانٍ، ليهبط إلى الجهالة التي تُظلم ذهنه وتُحجِّر قلبه. وكما يقول الرب لملاك كنيسة اللاودكيّين: “لأنك تقول إني أنا غني، وقد اِستغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولستَ تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان” (رؤ 3: 17).
هذا ما حدث مع الشعب اليهودي الذي عاش في سلبيّة مكتفيًا بالاتكال على أنهم أهل الختان، ومن نسل إبراهيم، وأنهم أصحاب المواعيد، ومنهم الآباء والأنبياء. خلال هذه السلبيّة جاءهم المسيّا المخلِّص، فرأوه بالجسد دون الروح، ولمسوه حسب الظاهر دون إدراك حقيقته. لهذا يقول السيّد عنهم: “لأنهم مبصرين لا يُبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون. قد تمَّت فيهم نبوّة إشعياء القائلة: تسمعون سمعًا ولا تفهمون، ومُبصرين تُبصرون ولا تنظرون. لأن قلب هذا الشعب قد غلظ، وآذانهم قد ثقل سماعها، وغمَّضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأُشفيهم [13-15]. لقد سمعوا السيّد وأبصروه، لكنهم بقسوة قلبهم لم يسمع إنسانهم الداخلي، ولا عاينت بصيرتهم الداخليّة، فصار صوته ورؤيته ليس سرّ خلاص لهم، بل علّة ازدياد قلبهم في الغلاظة. فازدادت قسوتهم قسوة وعماهم عمى وشرِّهم شرًا. وكما يقول الرسول بولس: “لأننا رائحة المسيح الذكيّة لله في الذين يخلُصون وفي الذين يهلكون. لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة” (2 كو 2: 15-16).
مجيء السيّد المسيح وتصرفاته أضافت إلى قسوة الأشرار قسوة بسبب حبّهم للشرّ وكبريائهم، بينما فتحت بصيرة البسطاء الروحيّة لإدراك أسراره الفائقة والتمتّع بما اشتهى الأنبياء معاينته، إذ يقول السيّد المسيح لتلاميذه: “ولكن طوبى لعيونكم لأنها تبصر، لآذانكم لأنها تسمع. فإني الحق أقول لكم أن أنبياء وأبرارًا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا” [16-17].
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ما معنى القول: يبصرون ولا يبصرون [13]؟ إنهم يبصرون كيف يخرج الشيّاطين، ويقولون فيه شيطان؛ يُبصرون القائمين من الأموات ولا يسجدون له، بل يفكِّرون في قتله.]
كانوا مبصرين إذ لديهم النبوّات واضحة عن المسيّا المخلّص، بل وقام بعضهم بإرشاد هيرودس والمجوس إلى موضع ميلاد السيّد، لكنهم بقوا غير مبصرين داخليًا. فلم يلتقوا معه على صعيد خلاص نفوسهم وتمتّعهم بالحياة الجديدة. لقد رأوا من تحدّث عنه الأنبياء واشتهوا أن يروه ويسمعوا صوته وينعموا بعمله فيهم، لكن للأسف لم يتمتّعوا به في حياتهم بل قاوموه.
ما أكثر النعم التي صارت لنا في المسيح يسوع ربّنا، إذ صار لنا ما تشتهي الملائكة معاينته والتمتّع به، لكننا هل نحيا بها ونعيشها؟
- تفسير المثَل
“تعرّضنا له أثناء حديثنا عن المثَل نفسه”.
- مثَل الزوان
في المثَل السابق أعلن السيّد المسيح العمل الإلهي في إقامة مملكته داخلنا، فقد خرج الزارع بنفسه، وألقى بذار الكلمة منتظرًا الثمر، أمّا هنا فيُعلن عن وجود عدوّ مقاوم، أي إبليس رئيس مملكة الظلمة الذي لا يطيق مملكة النور.
“قدّم لهم مثلاً آخر، قائلاً:
يشبه ملكوت السماوات إنسانًا زرع زرعًا جيدًا في حقله.
وفيما الناس نيام جاء عدوّه وزرع زوانًا في وسط الحنطة ومضى،
فلما طلع النبات وصنع ثمرًا حينئذ ظهر الزوان أيضًا” [24-25].
لم يقل السيّد “وفيما الزارع نائم جاء عدوّه وزرع زوانًا، إنّما قال “فيما الناس نيام“. وكأن الله يسهر على كرمه، ويهتمّ به، لكن الكرّامين إذ ينامون يتسلّل العدوّ إلى الكرم. إنه يحترم الإرادة الإنسانيّة ويأتمنها، فإذ يسلّم الكرم للكرّامين يطلب سهرهم، فيعمل فيهم على الدوام ولا يقدر العدوّ أن يلقي بالزوان، لكن إن ناموا لحظة يتسلّل العدوّ.
لم يقل السيّد “جاء عدوّهم”، إنّما “جاء عدوّه” فالعدو لا يقصد الكرّامين بل صاحب الكرم. العامل الحقيقي ضدّ الكرم هو إبليس عدوّ الله نفسه، حتى في مضاداته لنا يقصد الله نفسه الساكن فينا. أنها حرب بين الله وإبليس، بين النور والظلمة، ليس لنا عدوّ غير إبليس نفسه وملائكته الأشرار المقاومين لعمل الله فينا.
أما النوم هنا فلا يعني نوم الجسد الطبيعي، وإنما التراخي والإهمال أو نسيان الله في العمل الرعوي كما في الجهاد الروحي. فالراعي ينام حينما يبذل كل الجهد في رعايته خلال “الأنا”، فيحسب نفسه المسئول الأول عن الكرم، فيختفي الله لتُعلن الذات البشريّة. ويرى القدّيس جيروم أن النوم إنّما يُشير إلى تراخي الذهن عن الالتصاق بالعريس، إذ يقول: [لا تسمح للعدو أن يلقي زوانًا وسط الحنطة بينما الزارع نائم، أي عندما يكون الذهن الملتصق بالله في غير حراسة، وإنما قل على الدوام مع عروس نشيد الأناشيد: “في الليل على فراشي طلبت من تحبّه نفسه، اخبرني أين ترعى أين تربض عند الظهيرة؟ (نش 3: 1؛ 1: 7)[11].] هكذا يليق بكل مؤمن – كاهن أو من الشعب – ألا ينام روحيًا بل يكون دائمًا في يقظة ملتصقًا بالله، فيحرس الرب كرمه من العدوّ حتى لا يلقي بزوانه وسط الكنيسة أو في قلب المؤمن كعضو فيها.
ما هو الزوان؟
أولاً: يُشير الزوان إلى الهرطقات التي تدخل الكنيسة خلسة، خاصة في غفلة روحيّة من الرعاة. يقول القدّيس جيروم: [ليت أسقف الكنيسة لا ينام لئلا بإهماله. يأتي إنسان عدوّ ويلقي بالزوان أي تعليم الهراطقة[12].]
ثانيًا: يُشير الزوان أيضًا إلى الخطيّة التي تتسلّل إلى الفكر والقلب في غفلة روحيّة من المؤمن. يتحدّث الآب إسيذورس بالبلسان عن الأفكار الشرّيرة، قائلاً: [لماذا تنبع الأفكار الشرّيرة من القلب وتنجِّس الإنسان (مت 15: 19-20)؟ بلا شك لأن العاملين نيام، مع أنه كان يلزم أن يكونوا ساهرين حتى يحفظوا ثمار البذار الصالحة لكي تنمو. فلو لم نضعف أثناء سهرنا بسبب النهم والتراخي وتدنيس الصورة الإلهيّة أي فساد البذرة الصالحة ما كان يمكن لباذر الزوان أن يجد وسيلة للزحف وإلقاء الزوان المستحق للنار[13].]
ثالثًا: يُشير إلى الأشرار بوجه عام الذين يحملون شكليّة العضويّة الكنسيّة دون روحها وحياتها.
ظهور الزوان وانتظار وقت الحصاد
“فلما طلع النبات وصنع ثمرًا، حينئذ ظهر الزوان أيضًا.
فجاء عبيد رب البيت، وقالوا له:
يا سيّد أليس زرعًا جيّدًا زَرعت في حقلك، فمن أين له زوان؟
فقال لهم: إنسان عدوّ فعل هذا.
فقال له العبيد: أتريد أن نذهب ونجمعه؟
فقال له: لا، لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان وأنتم تجمعونه.
دعوهما ينميان كلاهما معًا إلى الحصاد.
وفي وقت الحصاد أقول للحصّادين:
اِجمعوا أولاً الزوان واِحزموه ليُحرق، وأما الحنطة فاجمعوها إلى مخزني” [26-30].
هكذا ينصحنا السيّد ألا ننشغل بنزع الزوان، إنّما نتركه حتى يأتي وقت الحصاد، فيرسل الله ملائكته كحصّادين يجمعونه ويحرقونه. وأما الحنطة فيجمعونها إلى ملكوته عِِوض أن ندين الأشرار. فإن هذا ليس عملنا! ومن جهة أخرى فإنه مادام الوقت قائمًا فإنّنا لا نيأس قط، مجاهدين لا في اقتلاع الزوان، بل في العمل على تحويل الزوان إلى حنطة.
يقول الأب إيسيذورس بالبلسان أن الملائكة يطلبون نزع الزوان أي عقاب الأشرار، لكنهم يُمنعون من ذلك حتى يتمتّع الأشرار بفرصة للتوبة، ولا يُضار الصالحون. فإن الله لم يقطع عيسو الشرّير حتى لا يهلك معه أيوب البار الذي جاء من نسله، ولم يقتل لاوي العشّار حتى لا يفقده ككارز بالإنجيل، ولا اِنتقم لإنكار سمعان بطرس الذي قدّم دموع التوبة بحرقة، ولا ضرب شاول الطرسوسي بالموت حتى لا نفقد بولس الرسول الذي كرز بالخلاص في أقاصي الأرض.
- سمح الله بالزمن لأجل التوبة. إنه يحذّرنا هنا لئلا نقطع أخًا قبل الوقت المناسب، فإن من يكون اليوم مصابًا بالتعاليم السامة قد يعود غدًا إلى صوابه ويصير مدافعًا عن الحق[14].
القدّيس جيروم
- كثيرون يكونون في البداية زوانًا، لكنهم يصيرون بعد ذلك حنطة، فإن لم نحتملهم بالصبر وهم خطاة، لما يمكن بلوغهم إلى هذا التحوّل المستحق لكل تقدير.
- اهدأوا، فإنه ليس الآن وقت للحصاد. سيأتي الوقت لعلّه يجد الزوان قد صار حنطة! لماذا لا تحتملون بصبرٍ خلطة الأشرار بالأبرار؟ إنهم معكم في الحقل، لكن الأمر لا يكون هكذا في المخزن![15]
- إنك تجد القمح والزوان بين الكراسي العُظمى كما بين العلمانيّين أيضًا. فليحتمل الصالحون الأشرار، وليصلح الأشرار من أمرهم مقتدين بالصالحين[16].
القدّيس أغسطينوس
ويرى القدّيس جيروم في كلمات الديّان بترك الزوان إلى وقت الحصاد حنوًا على الخطاة لأجل توبتهم، فيناجيه قائلاً: [حقًا يُحسب الناس والملائكة قساة إن قورنوا بك، فأنت وحدك الملك الكُلي الحنو… نسألك أن تكون أنت الديّان، لأنك تحنو على جميع الأمم[17]!]
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم في هذا المثل صورة حيّة لواقع الكنيسة فإنه بقدر ما تُبذر بذار الحق، يبذل عدوّ الخير كل الجهد أن يلقي بالزوان في وسطها. إنه يقول: [بعد الأنبياء يأتي أنبياء كذبة، وبعد الرسل يأتي رسل كذبة، وبعد المسيح يأتي ضدّ المسيح[18].]
هل يُترك الفساد (الزوان)
هل يترك الزوان داخل جماعة المؤمنين أو داخل قلب المؤمن؟ ألم يقل الرسول: “ألستم تعلمون أن خميرة صغيرة تخمِّر العجين كله! إذًا نقّوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينًا جديدًا كما أنتم فطير“ (1 كو 5: 6-7)!
لم يقصد السيّد ترك البدع والخطيّة، وإنما أراد تأكيد مبدأ هام، ألا وهو أن نزع الشرّ من عمل الله نفسه لا الإنسان. فالكنيسة في معالجتها للشرّ لا تحتاج إلى مقاومة فلسفيّة ومناقشات بقدر ما تحتاج إلى التقديس. لست أنكر التزامنا نحن كرعاة ورعيّة في رفض البدع والخطيّة. لكن ينبغي أولاً أن نتسلَّح بالجانب الإيجابي ألا وهو الحياة النقيّة المقدّسة، فنحمل السيّد المسيح نفسه فينا، هو الديّان وحده القادر أن يطرد الظلمة بإشراقه علينا كشمس البرّ! لست بهذا أقلّل من شأن أبطال الإيمان الذين وقفوا أمام الهرطقات، والقدّيسين الذين صوّبوا السهام ضدّ الخطيّة، وإنما كان هؤلاء مختفين في السيّد المسيح نفسه الصخرة الحقيقيّة، الذي يحطّم كل موجة للشك، وكان القدّيسون بالروح القدس الساكن فيهم يصوّبون “السيّد المسيح” نفسه كالسهم الناري لقتل الخطيّة والشرّ!
حقًا لقد طالبنا السيّد ألا نقتلع الزوان، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [أنه لا يجوز للكنيسة أن تأمر بقتل هرطوقي، فهذا ليس عملها، لكنها تقاومه فكريًا[19].] وأوضح القدّيس أغسطينوس موقف الكنيسة من الهراطقة “الزوان” قائلاً: [إن كان أحد المسيحيّين وهو ثابت في الكنيسة قد أُخذ في خطيّة من نوع يستحق أن يُحرم من الكنيسة، فلْيتِم هذا: تجنّب حدوث انشقاق، بمعالجة الأمر بالحب فتصحّح عِوض أن تُقتلع. فإن لم يأت إلى معرفة خطأه ولم ينصلِح بالتوبة يُطرد. ليقطع بإرادته من شركة الكنيسة، لأن قول الرب: “دعوهما ينميان كلاهما معًا”، قد أضيف إليه السبب وهو “لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان”، مقدمًا تفسيرًا واضحًا. أمّا هنا فالسبب غير موجود، فبقطعه لا يوجد قلق على سلامة الحنطة متى كانت جريمته واضحة ويظهر لكل واحد أنه ليس من يدافع عنه أو على الأقل أنه ليس له مدافعون يسبّبون انقسامًا[20].]
- مثل حبّة الخردل
“قدّم لهم مثلاً آخر، قائلاً:
يشبه ملكوت السماوات حبّة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله.
وهي أصغر جميع البذور،
ولكن متّى نمت فهي أكبر البقول،
وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها” [31-32].
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ حدّثنا السيّد بأن ثلاثة أقسام من البذار يهلك (في مثل الزارع 1-9) والقسم الأخير يخلص، بل حتى هذا الذي يخلص يهلَك بعضه بسبب الزوان الذي يُزرع في وسطه، فلئلا يقول أحد: إذن من يخلص؟… لهذا قدّم مثل حبّة الخردل لينزع عنهم هذا القلق.]
حقًا في المثل الأول يحدّثنا عن عمل الله في ملكوته بكونه الزارع الذي يقدّم ذاته بذارًا حيّة داخل القلب، وفي المثل الثاني يحدّثنا عن التزامنا باليقظة من عدوّ الخير الذي يُلقي الزوان سرًا ليملك العدوّ على القلب عِوض المسيّا المخلّص. أمّا في هذا المثل، فيقدّم لنا عن إمكانيّة الملكوت الحيّ الذي يعمل في القلب ليمتد في العالم بالرغم من مقاومة العدوّ. إنه يشبَّه بحبّة الخردل الصغيرة، وقد ألقيت في حقل وسط التربة، تحاصرها الظلمة من كل جانب، ويضغط ثقل الطين عليها، لكن “الحياة” الكامنة فيها تنطلق خلال هذه التربة لتصير شجرة تجذب إليها الطيور لتأوي فيها.
حقًا إن المؤمن كعضو في ملكوت السماوات يحاصر عدوّ الخير من كل جانب بظلمته ليفقده استنارته الروحيّة. ويحرمه من التمتّع بشمس البر،ّ والارتفاع عن الأرضيّات، ويثقِّل عليه بالطين، فيستخدم شهوات الجسد الترابي ليكتم أنفاس روحه. لكن الروح القدس الناري في قلبه ينطلق به خلال هذا الجهاد كعملاق حيّ، لا ليحيا مقدّسًا للرب فحسب، وإنما ينجذب نحوه الكثيرون. يسندهم في الحياة المقدّسة. يكون كشجرة تضم داخلها طيورًا كثيرة، على أغصانها تتراقص متهلّلة بالتسابيح المقدّسة، وتقيم أعشاش فتأتي بصغار يتعلّمون الطيران منطلقة نحو السماويات.
حبة الخردل والمسيح المتألّم
إن كان ملكوت السماوات المعلن في داخلنا يعلن عن حلول السيّد المسيح في داخلنا. نقبله فينا مصلوبًا، قائمًا من الأموات، نحمل شركة آلامه فينا لننعم بقوة قيامته، متمثلين بشبه موته، فإن حبة الخردل التي تُدفن في الحقل هي المسيح المتألّم الذي يُدفن فينا ويقوم شجرة حياة في قلبنا!
يرى الآباء في حبّة الخردل الصغيرة أن قيمتها لا تظهر إلا بدفنها. فتظهر شجرة عظيمة تأوي طيور السماء، ويستظل تحتها حيوانات البرّيّة، أو بسحقها تقدّم طعامًا مفيدًا “الموستاردة”. هكذا بالتجسّد الإلهي ظهر الله الكلمة كصغير جدًا، إذ صار عبدًا، لكن بقبره قام واهبًا إيّانا سرّ الحياة. نأوي في أغصان كنيسته كطيور محلّقة في السماوات، ونستظل تحته، كقول النشيد: “تحت ظلِّه اشتهيت أن أجلس“ (نش 2: 3). بسحقه قدّم لنا جسده طعامًا روحيًا، ذبيحة حقَّة واهبة التقديس!
- يقارن الرب نفسه بحَبَّة الخردل، وهي أمرّ البذور وأصغرها، تُعلن فضيلتها (نفعها) خلال سحقها.
القدّيس هيلاري أسقف بواتييه
- إنه حَبّة الخردل، نمت في بستان القبر إلى شجرة عظيمة. لم يكن إلا حَبّة حين مات وشجرة عندما قام. كان بذرة في تواضع جسده وشجرة في قوّة عظمته!… في هذه الفروع تجد الطيور راحتها، لأن النفوس النقيّة إذ ترتفع بأجنحة نعمته تجد في كلماته راحتها من الهموم الأرضيّة والتعزية من قلاقل الحياة الحاضرة[21].
الأب غريغوريوس (الكبير)
حَبَّة الخردل وإنجيل المسيح
إن كانت حَبّة الخردل تمثّل شخص السيّد المسيح المتألّم، فهي تمثِّل إنجيله والكرازة به. أو قُل هي الإيمان بالمسيّا المصلوب. إنها تحمل قوّة في داخلها قادرة على جذب الكثيرين للملكوت، بالرغم من أن الكارزين بها بسطاء وأُميُّون.
- بذرة الإنجيل هي أصغر البذور، لأن التلاميذ كانوا أكثر حياءً من غيرهم، لكنهم يحملون فيهم قوّة عظيمة، فانتشرت كرازتهم في العالم كله[22].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- عندما تنمو تعاليم الفلاسفة لا تُعلن شيئًا كامل النضوج أو حيويًا، بل كل ما هو رخو ومترهِّل. إنها غزيرة في أوراقها وسيقانها التي تذبل بسرعة وتهلك. أمّا الإنجيل فإذ يُكرز به يبدو في البداية غير واضح، لكنّه إذ يُبذر داخل نفس المؤمن ينتشر في كل العالم، ولا يرتفع كشُجيْرة بل كشجرة تأتي طيور السماء لتسكن في أغصانها، أي أرواح المؤمنين أو القوّات المكرّسة لخدمة الله.
إنها تصير شجرة، وكما اَعتقد أن أغصان الشجرة الإنجيليّة التي تنبت عن بذرة الخردل إنّما هي التعاليم المقدّسة المتنوّعة، التي يقال عنها أن الطير يجد فيها راحته. ليتنا نأخذ أجنحة حمامة ونطير لنسكن في فروع هذه الشجرة، ونصنع لأنفسنا عشًا في تعاليمها، تاركين وراءنا الأمور الأرضيّة، مسرعين إلى ما هو سماوي[23].
القدّيس جيروم
حَبَّة الخردل والإيمان بالمسيّا المتألّم
يقول القدّيس أمبروسيوس:
[إن كان ملكوت السماوات يشبه حَبّة الخردل، والإيمان أيضًا يشبه حَبّة خردل (مت 17: 20)، إذًا فالإيمان بالحق هو ملكوت السماوات، وملكوت السماوات هو الإيمان، (بمعنى أن من له إيمان له ملكوت السماوات، ملكوت السماوات داخلنا (لو 17: 21)، والإيمان أيضًا داخلنا…
والآن ليتنا نقيّم المقارنة التالية من طبيعة الخردل:
حقًا إن حَبّة الخردل هي بسيطة جدًا وقليلة القيمة، لكنها إن سُحقت أو عُصِرت تظهر قوّتها، هكذا يبدو الإيمان بسيط جدًا، لكنّه إن سُحق خلال الأعداء يُبرهن على قوّته، إذ يملأ الآخرين الذين يسمعون أو يقرأون عنه برائحة حلاوته. شهداؤنا فيلكس ونابور وفيكتور تمتّعوا برائحة الإيمان الزكيّة، لكن أثناء حياتهم كانوا في غموض، وعندما جاء الاضطهاد أرخوا أذرعتهم وأحنوا رقابهم فضُربت بالسيف، وبهذا فإن نعمة استشهادهم قد انتشرت إلى أقاصي الأرض، وبحق قيل: “خرجت أصواتهم إلى كل الأرض” (مز 19: 4).
فالإيمان تارة يُسحق، وأخرى يُعصر، وفي وقت آخر يُزرع (يدفن). الرب نفسه هو حَبّة الخردل، بدون الآلام ما كان للشعب أن يعرفه كحَبَّة خردل ولا يلاحظه. لقد اختار أن يُسحق، لكن نقول: “لأننا رائحة المسيح الزكيّة لله” (2 كو 2: 15). اختار أن يُضغط عليه (يُعصر) حيث قال بطرس: “الجموع يضيِّقون عليك ويزحمونك“ (لو 8: 45). واختار أن يُزرع في الأرض كبذرة أخذها إنسان وغرسها في بستانه. ففي البستان أُخذ المسيح سجينًا وأيضًا في البستان دُفن. لقد “نبت” في بستان حيث قام من الأموات وصار شجرة، كما هو مكتوب: “كالتفاح بين شجر الوعْر كذلك حبيبي بين البنين“ (نش 2 : 3).
هكذا ليُزرع المسيح في بستانك، فإن البستان هو الموضع الممتلئ زهورًا وثمارًا متنوّعة، فتنمو الفضيلة التي لجهادك وتفيح العذوبة المتعدّدة لفضائله الكثيرة!
حيث يوجد الثمر يوجد المسيح.
لتَزرع يسوع الرب، فهو بذرة حين يَمسك به إنسان، وهو شجرة حين يقوم، إنه الشجرة التي تعطي ظلاً للعالم!
إنه بذرة يُدفن في القبر، وهو شجرة حين يقوم إلى السماء!
لتضغط عيه باقترابك إليه جدًا ولتبذر الإيمان! فإنّنا نتبعه عن قرب ونبذر الإيمان عندما نعبد المسيح المصلوب. فقد اقترب إليه بولس بإيمان عندما قال “وأنا لمّا أتيتُ إليكم أيها الإخوة أتيتُ ليس بسموّ الكلام أو الحكمة مناديًا لكم بشهادة المسيح، لأني لم أعزِم أن أعرف شيئًا بينكم إلا يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا“ (1 كو 2: 1-2)…
إننا نبذر الإيمان عندما نؤمن بآلام الرب خلال الكتابات النبويّة والرسوليّة. لذلك نبذر الإيمان كما لو كنّا ندفنه في تربة جسد الرب اللطيفة والرقيقة حتى أنه باحتضانه الجسد المقدّس وحرارته ينتشر الإيمان في الخارج. من يؤمن أن ابن الله صار إنسانًا، يؤمن أنه مات لأجلنا وقام أيضًا؛ لذلك أبذر الإيمان عندما أزرعه في قبر السيّد.
أتريد أن تعرف المسيح البذرة؟ المسيح المزروع؟ “إن لم تقع حَبّة الحنطة في الأرض وتمُت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير” (يو 12: 24)…
لا تحتقر حَبّة الخردل هذه فإنها “وهي أصغر جميع البذور ولكن متى نَمَت فهي أكبر البقول وتصير شجرة” [32]. إن كان المسيح هو حَبّة الخردل، ففي أي شيء هو أصغر البذار؟ وكيف ينمو؟ بالحق إنه لا ينمو في طبيعته، وإنما في الخارج (الجسد)! أتريد أن تراه أصغر الجميع؟ نراه، “لا صورة له ولا جمال” (إش 53: 2)، انظر إليه فتجده أكبر الكل “أنت أبرع جمالاً من بنيّ البشر” (مز 45: 3). فمن لا جمال له ولا صورة يصير أبرع جمالاً من الملائكة وفوق مجد الأنبياء!…
المسيح هو بذرة، لأنه من نسل إبراهيم: “وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله، لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحد، وفي نسلك الذي هو المسيح” (غل 3: 16). إنه ليس في حكمة هذا العالم، لكن فجأة كشف عن شجرة السمو المرتفع لقدرته، حتى نقول: “تحت ظلِّه اشتهيتُ أن أجلس” (نش 2: 3)… هناك تستريح الملائكة والقوّات السماويّة والذين يستحقّون أعمال الروح أن يطيروا إليه. هناك استراح يوحنا عندما اتكأ على صدر يسوع (يو 13: 25؛ 21: 20).
ومن ساق الشجرة تخرج أغصانًا؛ فبطرس غصن وأيضًا بولس مثله، إذ “يَنسى ما هو وراء ويمتدّ إلى ما هو قدّام” (في 3: 13)… هذا الذي يحدّثنا معلّما إيّانا نحن الذين كنّا قبلاً بعيدين (أف 2: 13)، فاجتمعنا من الأمم، نحن الذين كنّا في ارتباكات روح الشرّ وهموم هذا العالم وقد أُلقينا خارجًا في زمانًا طويلاً، والآن قد صار لنا أجنحة القداسة، مسرعين بالطيران لكي نحتمي في ظلال القدّيسين من حرّ هذا العالم، فنسكن بسعادة في سلام هذا الميناء الأكيد، مادامت نفوسنا التي كانت قبلاً كالمرأة المذكورة في الإنجيل أنها مثقّلة بالخطايا وقد خلصت كالعصفور من فخ الصيّادين (مز 124: 7) وارتفعت على الجبال إلى أغصان الرب (مز 10: 1)][24].
القدّيس أمبروسيوس
- مثل الخميرة
بعد أن كشف السيّد المسيح عن الدور الإلهي في ملكوت السماوات، ومقاومة العدوّ له، وإمكانيّات الملكوت، يحدّثنا هنا عن دور الكنيسة العملي في إعلان ملكوت السماوات خلال حياة الشركة، قائلاً: “يشبه ملكوت السماوات خميرة أخذتها امرأة وخبّأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اِختمر الجميع” [33].
لقد شبّه الكنيسة بامرأة تمسك بيديها خميرة تُخبِّئها في ثلاثة أكيال دقيق لتحوّلها إلى خبز تَقدمة للثالوث القدّوس. فإن الدقيق بدون يديّ هذه المرأة العاملة والحاملة للخميرة لا يصلح إلا أن يقدّم للحيوانات، لكنّه بالخميرة التي في يديّ المرأة يصير خبزًا مقدّسًا يُسر به الثالوث القدّوس. ما هي المرأة العاملة هنا؟ وما هي الخميرة؟ وما هي الثلاثة أكيال دقيق؟
أولاً: إن كانت المرأة تمثِّل الكنيسة الأم، فإن رسالتها تتركّز في تقديم السيّد المسيح “الخميرة واهبة الحياة” للدقيق حتى يختمر، فيحمل سمات المسيح فيه. الخميرة في واقعها مأخوذة من الدقيق، لكنها تحمل “قوّة الاختمار”، إشارة إلى السيّد المسيح الذي أخذ جسده منّا، وصار كواحدٍ منّا، ليس بغريبٍ عنّا، لكنّه هو الحياة. أمّا كمّية الدقيق فثلاثة أكيال، وكما يقول القدّيس جيروم: [أن الكيلة وِحدة قياس في فلسطين تحوي حوالي 3 جالونات. على أي الأحوال كمّية الدقيق ثلاث أكيال لأنه يمثّل الوِحدة بين الروح والنفس والجسد، فالكنيسة إنّما تقدّم السيّد المسيح كسرّ تقديس للإنسان في كليَّته، روحًا ونفسًا وجسدًا.]
ثانيًا: يرى القدّيس هيلاري أسقف بواتييه في المرأة المذكورة هنا المجمع اليهودي الذي حكم على السيّد المسيح “الخميرة” بالدفن، فقام السيّد واهبًا للدقيق اختمارًا أي “الحياة المقامة”، أمّا رقم ثلاثة هنا يُشير إلى الناموس والأنبياء والإنجيل، ففي المسيح يسوع ربّنا يظهر الثلاثة عجينًا واحدًا. غاية الناموس هو المسيح وهدف النبوّات هو الإعلان عنه. وأما الإنجيل فهو الكرازة بالمسيح يسوع. تظهر وحدة الكتاب المقدّس كلّه بنواميسه ونبوّاته وبشارته المفرحة. في التجلّي أراد بطرس أن يُقيم ثلاث مظال واحدة لموسى ممثلاً الناموس، وأخرى لإيليّا ممثلاً الأنبياء، والثالثة للسيّد المسيح ممثلاً الإنجيل، لكن الله لم يرسل ثلاث مظال، بل سحابة واحدة إشارة إلى هذه الوحدة في المسيح يسوع!
رقم 3 يُشير أيضًا إلى الأمم والشعوب التي جاءت عن سام وحام ويافث، أولاد نوح الثلاثة… وكأن الكنيسة الأم تقدّم السيّد المسيح لهذه الشعوب المتفرِّقة فتختمر معًا في وحدة الروح والفكر، تحمل سمات المسيح الواحد!
ثالثًا: يرى القدّيس أغسطينوس في هذا المثل صورة حيّة لملكوت السيّد المسيح بكونه ملكوت الحب الحيّ العامل في البشريّة، وذلك بدخول المحبّة “المسيح” في الحياة البشريّة لتقديسها لله [الخميرة تعني الحب، الذي يخلق ويلهب الغيرة والمرأة تعني الحكمة، والثلاثة أكيال طعام (دقيق) يعني إمّا الأمور الثلاثة في الإنسان (الخاصة بحب الله) “من كل القلب ومن كل النفس ومن كل الذهن” (مت 21: 37)، أو ثلاث درجات الإثمار: “مائة ضعف وستون وثلاثون” (مت 13: 8، 23)، أو الثلاث أنواع من الرجال: “نوح ودانيال وأيوب[25]” (حز 14: 14).]
رابعًا: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم صورة فعّالة لملكوت السماوات، فإنه لا يمكن للدقيق أن يختمر ما لم تُدفن فيه الخميرة أو تحبس في داخله. لم يقل السيّد أن المرأة وضعت الخميرة في الدقيق، بل “خبّأتها”، هكذا إن لم يلتقِ بمضايقيه محتملاً الأتعاب بفرح لا تتحوّل حياة المضايقين إلى الاختمار. وكما يقول القدّيس: [عندما تكونون واحدًا مع من يهاجمكم وتمتزجون معهم تغلبونهم (بالحب والإيمان). وكما أن الخميرة المختفية في عجين لا تهلك، بل بالأحرى تُغيّر طبيعة العجين، هكذا أيضًا في الكرازة بالإنجيل. لذلك لا تخافوا عندما أُخبركم عن الضيقات أنها قادمة، لأن نوركم لا يقدر أحد أن يُطفئه، إنّما يغلب كل البشر[26].]
- تفسير مثل الزوان
“حينئذ صرف يسوع الجموع وجاء إلى البيت،
فتقدّم إليه تلاميذه قائلين: فسِّر لنا مثل زوان الحقل” [36].
لقد صرف السيّد الجموع وجاء إلى البيت لكي يدخل بتلاميذه إلى كنيسته السماويّة ويختلي بهم، معلنًا لهم أسرار الملكوت، لكنّه لم يقدّم التفسير إلا بعد أن تقدّموا يسألونه. فإنه لا يهب أسراره الإلهيّة ونِعمه المجّانيّة السماويّة للمتهاونين. حقًا في الأمور الأرضيّة يهب الجميع حتى الأشرار دون أن يسألوه، إذ “يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويُمطر على الأبرار والظالمين“ (مت 5: 45). أمّا النِعم الروحيّة والأمجاد السماويّة بالرغم من وعده “قد أُعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السموات” [11] لكنّه يطلب منهم السؤال المستمر علامة الشوق الحقيقي والمثابرة على نوال النعم. الله يعطي ويمنع ليس عن محاباة، إنّما قدومًا يفتح الإنسان فمه ليملأه؛ أمّا إن أغلق فمه أمامه وأعطاه القفا لا الوجه فلا يلتزم الله بالعطاء، بل يمتنع، لأن الإنسان قد حرَّم نفسه بنفسه من العطايا بل ومن واهبها.
- إن تقدّم أحد وكان غيورًا، فالله من جانبه يعطيه كل شيء، أمّا من لم ينشغل بهذه الأمور ولا يساهم بشيء من جانبه فلن تمنح له عطايا الله[27].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
“حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم” [43].
يقول القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [إذ يترك الإنسان (محبّة) هذا العالم المظلم يصبح نقيًا طاهرًا بعمل الروح وبالتصاقه بالنقاء الحقيقي… فتشع النفس ضوءًا وتصير هي نفسها نورًا كوعد الرب[28].]
ويقول القدّيس أمبروسيوس: [أليس بصالحٍ ذاك الذي رفع الأرض إلى السماء، وعكس مجده في السماء كما على مجموعات بهيّة من الكواكب… فجعل طغمات الرسل والشهداء والكهنة يُضيئون مثل كواكب مجيدة تنير العالم[29]!]
- مثل الكنز المُخفى
“أيضًا يشبِه ملكوت السماوات كنزًا مُخفَى في حقل،
وجده إنسان فأخفاه،
ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل” [44].
في المثَل السابق قدّم لنا السيّد المسيح صورة حيّة عن دور الكنيسة بكونها المرأة المقدّسة، التي تقدّم شخص السيّد المسيح كسرّ الملكوت الحقيقي لكل إنسان، حتى يختمر العجين كله، ويحمل الكل شركة طبيعة المخلّص. هنا يقدّم لنا في مثَل الكنز المُخفى صورة لدور المؤمن بالجهاد المستمر لاكتشاف المسيح “الكنز المُخفى في الحقل“.
ما هو هذا الحقل إلا الكتاب المقدّس بعهديه الذي يحوي في داخله سرّ المسيح ككنز مُخفى لا يتمتّع به غير المثابرين بالحفر المستمر في الكتاب؟ لهذا يليق بالمؤمن أن يبيع كل شيء ليقتني هذا الحقل الحاوي للكنز، لينعم بالكنز ويخفيه في قلبه كما تَخفي الكنيسة مسيحها وسط البشريّة. حقًا لا يستطيع أحد أن يحمل الكتاب المقدّس في قلبه ويتفاعل معه لما لم يبع من قلبه كل شيء ليتفرّغ لكلمة الله بهدف الالتقاء مع الكلمة الإلهي المتجسّد! فما كان يمكن ليوسف أن يتسلّم مخازن مصر ما لم يترك ثوبه في يديّ سيّدته المصريّة ويهرب عاريًا، وهكذا لا يمكن ليوسفنا الداخلي أن يتفهّم كلمة الله، وينعم بمخازن المعرفة الروحيّة، ما لم يترك ثوبه في يديّ العالم، وينطلق عاريًا متقبلاً السجن من أجل المسيح، ويرتفع إلى حيث الغِنى الحقيقي، لا ليَشبع بمفرده من خيرات المعرفة، وإنما يفتح يديه ليهبنا بغنى معرفة المسيح الفائقة.
- حقًا إن الحقل كما يبدو لي حسب ما جاء هنا هو الكتاب المقدّس الذي فيه زُرع ما هو ظاهر من كلمات من التاريخ والناموس والأنبياء وبقيّة الأفكار؛ فإنها عظيمة ومتنوّعة هي نباتات الكلمات التي في كل الكتاب! أمّا الكنز المُخفى في الحقل فهو الأفكار المختومة والمُخفية وراء الأمور المنظورة، الحكمة المَخفيّة في سِرّ، المسيح “المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم” (1 كو 2: 3).
قد يقول آخر أن الحقل هو مسيح الله الذي بالحقيقة مملوء… أمّا الكنز المُخفى فيه فهو الأمور التي قال عنها بولس أنها مخفيّة في المسيح: “المذخَّر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم”، الأمور السماويّة. لذلك حتى ملكوت السماوات كُتب في الكتب المقدّسة كما في رمز![30]
العلاّمة أوريجينوس
يرى الأب غريغوريوس (الكبير) أن الكنز المُخفى هو إرادة المؤمن المقدّسة ونيّته الصالحة الخفيّة، التي لا يراها إلا الله نفسه ليكافئنا عليها، فالمؤمن إذ يتقدّس بالروح القدس يحمل إرادة المسيح فيه وفكر المسيح الخفي. هذا هو كنزه غير المنظور الذي يراه الآب فينا، فيُسر ويبتهج بنا. يقول الأب غريغوريوس: [الكنز الذي وُجد أُخفي لكي يُحفظ… فإنّنا في الحياة الحاضرة نسلك كمن يتقدّمون في الطريق الذي يقودنا إلى وطننا. وفي الطريق يوجد أعداء خبثاء يهاجموننا كلصوص، لهذا من يحمل كنزًا بصورة علنيّة في طريقة يتعرّض للسطو عليه. أقول هذا لا بمعنى لا يرى قريبنا أعمالنا، إذ هو مكتوب: “لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجّدوا أباكم الذي في السماوات“ (مت 5: 16)، وإنما لكي لا نطلب مديحًا عمّا نفعله أمام الآخرين. يلزم أن تتم أعمالنا الظاهرة بطريقة تبقَى فيها النيّة خفيّة. بهذا تصير أعمالنا مثلاً لقريبنا، بينما نيّتنا التي يُسر الله بها تَبقى غير معروفة. الكنز الذي عليه تقوم الرغبات السماويّة، والحقل الذي فيه يُخفى هذا الكنز يُشير إلى السلوك (الداخلي)، خلاله نبلغ هذه الرغبات. هذا الحقل يشتريه من يبيع كل ما لديه، مستهينًا بملذّات الجسد، وضابطًا الاشتياقات الأرضيّة، وحافظًا التعاليم الإلهيّة، فلا يبتهج في شيء ممّا يُبهج الجسد، ولا تَحجم نفسه عن ممارسة ما يُميت الحياة الجسدانيّة[31].]
- مثل اللؤلؤة الكثيرة الثمن
“أيضًا يُشبه ملكوت السماوات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة.
فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن
مضى وباع كل ما كان له واشتراها” [45-46].
بعد أن كشف السيّد عن جهادنا المستمر خلال كلمة الله لمعرفة السيّد المسيح عن قرب واِحتضانه فينا، فنُخفيه في قلوبنا، يقدّم لنا هنا تكلفة الملكوت، فإنه لا يستطيع أحد أن يقتني السيّد المسيح، اللؤلؤة الكثيرة الثمن، ما لم يبِع كل ما له من القلب ليتربَّع وحده فيه.
طالب القدّيس جيروم فيوريا Furia ألا تقرأ الكتب غير النافعة، وإنما تبيعها جميعًا لتقتني “اللؤلؤة الكثيرة الثمن” خلال الكتاب المقدّس وكتابات الآباء، قائلاً: [بعد قراءة الكتب المقدّسة اِقرأي كتب المتعلّمين المشهود لإيمانهم. يلزمك ألا تذهبي إلى الوحل لتبحثي عن الذهب. لديكِ جواهر كثيرة، فلِتشتريِ بها اللؤلؤة الواحدة[32].] حقًا يليق بالمؤمن ليس فقط أن يتخلّى عن الكتب الرخيصة تمامًا، معطيًا المجال لكلمة الله أن تُعلن المسيح متجلِّيًا في حياته، وإنما حتى في الكتب الأخرى يلزم ألا تشغله عن إيمانه! لقد كان القدّيس إكليمنضس السكندري فيلسوفًا ولم يخلع ثوب الفلاسفة حتى بعد استلامه مدرسة الإسكندرية المسيحيّة، لكن الفلسفة لم تكون عائقًا له عن إيمانه، إنّما رآها طريقًا يُعلن خلاله عن الإيمان بين الفلاسفة. فالبيع ليس عمليّة حرفيّة مظهريّة، لكنها انسحاب القلب نحو الله لاقتناء الملكوت السماوي كسرّ حياتنا. كثيرون لا يقرأون إلا الكتاب المقدّس والكتب الدينيّة لكن قلوبهم لا تلتقي مع “المسيح”، بينما آخرون يرونه في كل حياتهم وقراءاتهم.
يتحدّث العلاّمة أوريجينوس عن هذه اللؤلؤة الكثيرة الثمن هكذا:
[أي شيء تطلب؟ أجسر فأقول اللؤلؤة التي من أجلها يترك الإنسان كل ما يمتلك ويحسبه نفاية: “أحسب (كل الأشياء) نفاية لكي أربح المسيح” (في 3: 18)، قاصدًا بكل الأشياء اللآلئ الصالحة، حتى أربح المسيح، اللؤلؤة الواحدة كثيرة الثمن.
ثمين هو السراج للإنسان أثناء الظلمة، فهناك حاجة إليه حتى تُشرق الشمس! وثمين هو مجد وجه موسى والأنبياء أيضًا، فهو كما أظن يمثّل رؤيا جميلة، خلالها دخلنا لكي نرى مجد المسيح، الذي يشهد عنه الآب قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت 3: 17). لكن “المُمجّد لم يمجَّد من هذا القبيل بسبب المجد الفائق” (2 كو 3: 10)؛ ونحن في حاجة أولاً إلى المجد الذي يزول حتى نبلغ المجد الفائق؛ وفي حاجة إلى المعرفة الجُزئيّة التي تزول حين تأتي المعرفة الكاملة (1 كو 13: 9-10).
إذًا كل نفسٍ تأتي أولاً إلى الطفولة، وتنمو حتى تبلغ كمال الزمان؛ تحتاج إلى معلّمين ومرشدين وأوصياء، وفي وجود هؤلاء تبدو أنها لا تختلف عن العبد مع أنها صاحبة الجميع (غل 4: 1-2). أنها إذ تتحرّر من المعلّمين والمرشدين والأوصياء تبلغ سن الرشد، فتنعم باللؤلؤة كثيرة الثمن والكاملة، وببلوغها يزول ما هو جزئي، عندما يقدر الإنسان أن يبلغ إلى “فضل معرفة المسيح“ (في 3: 8) بعد أن كانت تتدرّب على أشكال المعرفة هذه التي تفوقها معرفة المسيح[33].]
ويتحدّث الأب غريغوريوس (الكبير) عن اللؤلؤة الكثيرة الثمن قائلاً: [من يطلب معرفة الحياة السماويّة بطريقة كاملة قدر المستطاع فإنه يهجر كل ما أحبّه سابقًا، وهو في سعادة فائقة! فإن قورنت تلك العذوبة التي صارت له لا يجد لشيء ما قيمة، فتتخلَّى نفسه عن كل ما اقتنته، وتبدِّد كل ما قد جمعته. وإذ تلتهب بحب السماويات لا تبالي بأمرٍ أرضي، فيبدو لها ما كانت تظنّه جميلاً بالأمر القبيح. إذ يشرق فيها سمو اللؤلؤة التي لا تقدَّر بثمن وحدها. عن هذا الحب يقول سليمان “المحبّة قويّة كالموت“ (نش 1: 6)؛ فكما يَحرم الموت الجسد من الحياة، هكذا تقتِل محبّة الأبديّات محبّة الزمنيّات. فمن ينال هذا الحب بالكمال يصير كمن هو بلا إحساس نحو الممتلكات الأرضيّة[34].]
ويرى القدّيس جيروم أن اللآلئ التي يبيعها الإنسان إنّما هي الطرق المتعدّدة التي تتركها لندخل الطريق الواحد الذي هو المسيح. لقد سبق فأعلن إرميا النبي: “قفوا على الطرق وانظروا واسألوا عن السبل القديمة: أين هو الطريق الصالح، وسيروا فيه فتجدوا راحة لنفوسكم” (إر 6: 16)، هكذا خلال الآباء والأنبياء نبلغ إلى السيّد المسيح الطريق الصالح، الذي فيه وحده تجد النفس راحتها الأبديّة. وكما يقول القدّيس جيروم: [خلال الطرق الكثيرة نجد الطريق الواحد[35].] كما يقول: [ماذا نفهم باللآلئ الكثيرة والطرق الكثيرة، والدروب الكثيرة، لكي نقتني اللؤلؤة الواحدة والطريق الواحد والدرب الواحد؟ إبراهيم واسحق ويعقوب، موسى ويشوع بن نون وإشعياء وإرميا وحزقيال والإثناء عشر نبيًا، هؤلاء هم الدُروب، التي ندخلها أولاً لنصل إلى الأخيرة درب الأناجيل، فنجد هناك المسيح[36].]
- مثل الشبكة المطروحة
“أيضًا يُشبه ملكوت السماوات شبكة مطروحة في البحر، وجامعة من كل نوع.
فلما امتلأت أصعدوها على الشاطئ،
وجلسوا وجمعوا الجياد إلى أوعِية،
وأما الأردياء فطروحها خارجًا.
هكذا يكون في انقضاء العالم،
يخرج الملائكة ويَفرزون الأشرار من بين الأبرار.
ويطرحونهم في أتون النار.
هناك يكون البكاء وصرير الأسنان” [47-50].
يقدّم لنا السيّد المسيح في هذا المثل سِمة جوهريّة لملكوت السماوات، هي “الحياة الديناميكيّة”، أي استمراريّة العمل بغير توقّف. فإن ملكوت السماوات يشبه شبكة مطروحة في العالم كما في بحر متلاطم الأمواج تجمع من كل نوع، لا تُرفع إلى الشاطئ إلا بعد امتلائها بكل المختارين [48].
ما هي هذه الشبكة إلا شخص السيّد المسيح نفسه، الذي ألقى بنفسه في العالم خلال إنسانيّتنا لكي يجتذب كل نفس إليه؟ وإذ تجتمع فيه الكنيسة كلها جسده المقدّس، ويضم من كل الأمم والألسنة أعضاء له مقدّسين في حقّه، يرتفع بهم عن العالم إلى سمواته ينعمون به. حقًا يتسلّل إلى الشبكة بعض الأردياء الذين يحملون اسم المسيح، وينعمون بالعضويّة الكنسيّة الروحيّة، لكنهم إذ لا يثبتون في المسيح يُطردون خارجًا.
ويمكننا أيضًا أن نفهم الشبكة بكونها الكنيسة “جسد المسيح”، هذه التي تنزل في العالم لتخدمه وتضم السمك فيها، أي المؤمنين. ولكن إن تسلّل إليها سمك رديء، ففي انقضاء الدهر يُفرز ويُطرد عن الكنيسة المرتفعة إلى السماوات. إنه يسمح لهم بالدخول إلى الكنيسة، لعلّهم بالتوبة يصيرون سمكًا جيدًا، لكن يأتي وقت يُنزعون عنها. إنهم كالزوان الذي تركه السيّد مع الحنطة، ولم يسمح باقتلاعه حتى وقت الحصاد [29]. وقد سبق لنا في أكثر من موضع أن رأينا الكنيسة الأولى تتطلّع إلى المؤمنين كسمكٍ صغير، يتمثل بالسيّد المسيح السمكة الكبيرة.
والشبكة أيضًا تُشير إلى الكتاب المقدّس الذي يأسِر النفس البشريّة ويصطادها من وسط العالم، لكي يدخل بها إلى ملكوت السماوات. يقول العلاّمة أوريجينوس: [ملكوت السماوات يُشبه شبكة من نسيج متنوِّع، إشارة إلى الكتاب المقدّس: العهد القديم والعهد الجديد. إنه منسوج من أفكار من كل نوع، فهو متنوِّع تمامًا. أمّا بخصوص السمك الذي سقط في الشبكة، فبعضه في جانب، والآخر في جانب آخر، لكن الكل مجتمع في الموضع الذي فيه تمّ الاِصطياد (أي في الشبكة الواحدة). دخل البعض شبكة الكتاب المقدّس خلال الجانب النبوي، مثل إشعياء أو إرميا أو دانيال. والبعض الآخر دخل خلال شبكة الإنجيل. والبعض خلال شبكة الكتابات الرسوليّة. فعندما يؤسَر إنسان بواسطة الكلمة يبدو كمن هو أسير يأخذ موضعًا معينًا في الشبكة الكلّيّة[37].]
يشرح الأب غريغوريوس (الكبير) هذا المثل قائلاً: [تُقارن الكنيسة المقدّسة بشبكة، إذ هي أيضًا سُلِّمت إلى صيّادين، وبواسطتها نحن سُحبنا من أمواج هذا العالم وأُحضرنا إلى المملكة السماويّة، لكي لا تبتلعنا أعماق الموت الأبدي. لقد ضمَّت كل أنواع السمك، إذ تقدّم مغفرة الخطيّة للحكماء والجهلاء، للأحرار والعبيد، للأغنياء والفقراء، للأقوياء والضعفاء. لهذا يقول المرتّل لله: “إليك يأتي كل جسد” (مز 65: 3). ستمتلئ هذه الشبكة تمامًا عندما تحتضن كل الجنس البشري، ويجلس الصيادون بجوارها على الشاطئ. إن كان الزمن يُشار إليه بالبحر، فإن الشاطئ يُشير إلى نهاية الزمن، حيث يُفصل السمك الجيد ويحفظ، بينما يُطرح الرديء خارجًا، إذ يسلَّم الجيِّد للراحة الأبديّة. أمّا الأشرار، فإنهم إذ فقدوا نور الملكوت الداخلي يُطردون إلى الظلمة الخارجيّة. حاليًا نحن هنا نختلط معًا، يختلط الصالحون مع الأشرار، كالسمك في الشبكة، لكن الشاطئ سيُخبرنا عمّا كان في الشبكة، أي في الكنيسة المقدّسة. إذ يُحضَر السمك إلى الشاطئ، لا تصير له فرصة التغيّر، أمّا الآن ونحن في الشبكة، فيمكننا إن كنّا أشرّارًا أن نتغيّر ونصير صالحين. إذن لنفكِّر حسنًا يا إخوة، إذ لا يزال الصيد قائمًا، لئلاّ يحتقرنا الشاطئ فيما بعد[38].]
- الكاتب المتعلّم
“فقال لهم يسوع: أفهمتم هذا كله؟
فقالوا: نعم يا سيّد.
فقال لهم: من أجل ذلك كل كاتب مُتعلِّم في ملكوت السماوات
يشبه رجلاً رب بيت يُخرج من كنزه جددًا وعُتَقاء.
ولما أكمل يسوع هذه الأمثال انتقل من هناك” [51-53].
أراد السيّد أن يُقارن بين كتبة اليهود الحَرفيّين الجامدين وبين كتبة ملكوت السماوات. حقًا لقد كان كتبة اليهود حريصين على نَسخ الكتاب المقدّس على الورق وهم متطهِّرون. إنهم يطهِّرون أقلامهم كلما أرادوا كتابة اسم الله، ويراجعون كل سطر بدقّة، لئلا يكونوا قد نسوا أو أضافوا شيئًا. لكنهم إذ توقَّفوا عند هذا الحدّ حوّلوا كلمة الله إلى كلمة مكتوبة جامدة، بسبب جمود قلوبهم وحرفيّة أفكارهم. أمّا من يدخل ملكوت السماوات، فيحمل مسيحه في قلبه، يحمل “الكنز الحقيقي” الذي يجعل منه “رب البيت”، فيُقيمه سيِّدًا بعد أن كان عبدًا للحرف. إنه ملك يحمل في قلبه ملك الملوك، لا تُأسره الحروف، ولا يقتِله الجمود. بالسيّد المسيح الكنز الداخلي يتمتّع الكاتب الحقيقي بالجُدد والعُتقاء، أي يتمتّع بأسرار الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد كأسرار حيّة عاملة بلا توقف.
الكاتب الجديد ينقش بقلم الروح القدس الساكن فيه كلمة الله القديمة الجديدة، فهي كلمة قديمة لكنها جديدة على الدوام، عاملة فينا لتجديدنا.
- يليق بنا أن نجاهد بكل طريقة أن نجمع في قلوبنا “نعكف على القراءة والوعظ والتعليم“ (1 تي 4: 13)، وأن “نلهج في ناموس الرب نهارًا وليلاً” (مز 1: 2)، ليس فقط خلال الأقوال الجديدة التي للأناجيل والرسل وإعلانهم، وإنما أيضًا الأقوال القديمة للناموس التي هي “ظل الخيرات العتيدة” (عب 10: 1)، وللأنبياء الذين تنبَّأوا في اتِّفاق معًا. لنجمع هذه جميعًا معًا عندما نقرأها ونتعرّف عليها ونتذكّرها، مقارنين الروحيّات بالروحيّات… حتى بفم شاهدين (سفرين) أو ثلاثة شهود (ثلاثة أسفار) من الكتاب المقدّس تثبت كل كلمة الله…
الرجل رب البيت ربّما هو يسوع نفسه الذي يُخرج من كنزه الجدد… أي الأمور الروحيّة التي تتجدّد دائمًا بواسطته العاملة في الإنسان الداخلي للأبرار الذين يتجدّدون على الدوام. كل يوم فيوم (2 كو 4: 16). ويُخرج أيضًا العتقاء، أي الأمور المنقوشة على حجارة (2 كو 3: 7) أي على القلوب الحجريّة للإنسان القديم، حتى أنه بمقارنة الحرف بإعلان الروح يتشبّه الكاتب بمعمله ويتمثّل به…
ويُفهم أيضًا يسوع كربّ البيت بصورة أبسط، إذ يُخرج من كنزه جددًا أي التعليم الإنجيلي، وعتقاء أي الأقوال المأخوذة من الناموس والأنبياء لتجد لها موضعًا في الأناجيل.
بخصوص الجدد والعتقاء لنصغ أيضًا إلى الناموس الروحي القائل في اللاويين: “فتأكلون العتيق المُعتّق وتخرجون العتيق من وجه الجديد، وأجعل مسكني في وسطكم“ (لا 26: 10-11). بالبركة نأكل العتيق أي الكلمة النبويّة، والعتيق المعتق أي كلمات الناموس، وعندما يأتي الجديد أي الكلمات الإنجيليّة، أي نعيش حسب الإنجيل، فتخرج الأمور العتيقة التي للحرف من وجه الجديد، ويجعل خيمته فينا، محقّقًا الوعد الذي نطق به: “أجعل مسكني في وسطكم”[39].
العلاّمة أوريجينوس
يقدّم الأب غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا لمفهوم الجُدد والعُتقاء، فيرى في الانجذاب نحو السماويات جُددًا، والرعب من عذابات جهنّم عتقاء… إذ يقول: [الكارز المتعلّم في كنيستنا هو ذاك الذي يستطيع أن ينطق بالأمور الجديدة الخاصة بمباهج ملكوت السماوات، وأيضًا يستدعي الأمور القديمة الخاصة برعب العقوبة، فإن الأخيرة تقدر على الأقل أن ترهب من لم تجتذبهم المكافأة. ليت كل إنسان إذن يصغي بحرص إلى الأمور الخاصة بالملكوت.]
- موقف أهل وطنه
دخل التلاميذ مع السيّد إلى البيت وتقدّموا إليه يسألونه، فنالوا أسرار معرفته التي تنطلق بهم إلى “ملكوت السماوات”. أمّا الذين بقوا في الخارج، فكانوا يسمعونه، ويرون أعماله العجيبة فيتعثّرون فيه، إذ يقول الإنجيلي: “يهتمّوا وقالوا: من أين لهذا هذه الحكمة والقوّات؟ أليس هذا هو ابن النجّار؟ أليست أمه تدعى مريم وإخوته يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا؟ أو ليست أخواته جميعهنّ عندنا؟! فمن أين لهذا هذه كلها؟ فكانوا يتعثّرون فيه” [54-57].
النفس التي لا تهتم بخلاصها تتعثّر حتى في السيّد المسيح. حقًا قد تُبهَر بكلماته، لكنها لا تتقبّلها كسِرّ خلاصها وحياتها. ترى قوّاته، فعِوض تسليم ذاتها بين يديه ليعمل فيها بسلطانه لإقامتها. تقف متفرِّجة. تتساءل عن أمور خارج حياتها وأبديّتها، مثل هذه النفس تُعطِّل عمل الله لعدم إيمانها.
أما ما يُحزن القلب فإن الذين حُرموا من عمل السيد المسيح متعثّرين فيه هم أهل وطنه، إذ يقول الإنجيلي: “وأما يسوع فقال لهم: ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته. ولم يصنع هناك قوّات كثيرة لعدم إيمانهم” [57-58].
[1] In Matt. hom 45.
[2] PG 57:467- 472.
[3] Catena Aurea.
[4] Ser. on N. T. , hom 23:3.
[5] PG 72:623-627.
[6] In Matt. hom 44:6.
[7] الشماس يوسف حبيب: من أقوال العلاّمة إكليمنضس السكندري، 1970م، ص 19.
[8] In Evang. hom 15.
[9] PG 72:623- 627.
[10] PG 57:467- 472.
[11] Ep. 130:7.
[12] Catena Aurea.
[13] PG 77:184- 185.
[14] Catena Aurea.
[15] Ser. on N. T. , hom 23:1.
[16] Ser. on N. T. , hom 23:4.
[17] On Ps. hom 14.
[18] PG 58:475.
[19] Catena Aurea.
[20] Contra Ep. Parmen 3:2.
[21] Moralium 19. Moralium 19.
[22] In Matt. hom 47.
[23] Catena Aurea.
[24] تفسير لو 13، ترجمة مدام عايدة حنا بسطا.
[25] Quaest Ev. Lib 1:12
[26] In Matt. hom 47.
[27] In Matt. hom 45:1.
[28] البتوليّة (11) ترجمة المرحوم سامي عبد الملك.
[29] On Christian Faith 2:2 (24).
[30] In Matt. 10:5.
[31] In Evang, hom 11.
[32] Ep 54:11.
[33] In Matt. 10:9.
[34] In Evang. hom 11.
[35] On Ps. hom 42.
[36] On Ps. hom 23.
[37] In Matt 10:12.
[38] In Evang. hom 11.
[39] In Matt. 2:15.