تفسير انجيل متى 6 – الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 6 - الأصحاح السادس - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 6 – الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 6 – الأصحاح السادس – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح السادس
دستور الملك 2
التدبير الملكي
بعد أن أعلن السيّد تكميله للناموس معطيًا أعماقًا جديدة للوصايا، يكشف بها عن فكره الإلهي من جهة الوصيّة، وأراد أن يرتفع بمؤمنيه إلى الحياة السماويّة، ليتشبّهوا بأبيهم السماوي، أوضح مفاهيم جديدة للنظام التعبّدي. ففي القديم إذ كان الشعب في طفولته الروحيّة قدّم لهم الله تفاصيل العبادة بدقّة بالغة، أمّا وقد دخل الشعب إلى النضوج الروحي خلال الصليب لم يقدّم الرب تفاصيل جديدة، بل قدّم مفاهيم جديدة للعبادة، تاركًا للكنيسة تحت قيادة روحه القدّوس أن تدبِّر النظام ذاته.
- الصدقة 1-4.
- الصلاة 5-8.
- الصلاة الربّانيّة 9-15.
- الصوم 16-18.
- العبادة السماويّة 19-21.
- البصيرة الداخليّة 22-23.
- العبادة ومحبّة المال 24-34.
- الصدقة
يقوم التدبير الملوكي royal order على الجوانب الثلاثة التي عرفها الناموس الموسوي من صدقة وصلاة وصوم. الصدقة بما تحمله من معنى عام ومتسع، كعطاء للآخرين مادي ونفسي وروحي، والصلاة بكل ما فيها من عبادة جماعيّة وعائليّة وشخصيّة، وصوم بما يعنيه من كل أنواع البذل والنسك. ما هو جديد أنه يدخل بنا السيّد إلى أعماق النظام لنمارسه لا كفريضة خارجيّة، وإنما بالأكثر كحياة حب عميق يربطنا بالله أبينا. في كل تصرف يقول السيّد “أبوك الذي في الخفاء هو يجازيك علانيّة” [4]. وكأن غاية الحياة المسيحيّة من سلوك وعبادة ونسكيّات هو الدخول إلى حضن الآب السماوي في المسيح يسوع ربنا. لقد ركّز السيّد في حديثه هنا على “نقاوة القلب” حتى يقدر المؤمن في حياته وسلوكه وعبادته أن يلتقي بالله ويعاينه! إنه لم يقدّم للكنيسة كمًّا للعبادة، إنّما قدّم نوعيّة العبادة، فإنه يريد قلبها لا مظاهر العمل الخارجي.
“احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدّام الناس لكي ينظروكم،
فمتى صنعت صدقة فلا تُصوّت قدامك بالبوق،
كما يفعل المراءون في المجامع وفي الأزقّة،
لكي يُمجّدوا من الناس.
الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم،
وأما أنت فمتى صنعت صدقة،
فلا تُعرِّف شمالك ما تفعل يمينك.
لكي تكون صدقتك في الخفاء،
فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيّة” [1-4].
من الجانب السلبي يحذّرنا الرب من ممارسة الصدقة لأجل الناس: “لكي ينظروكم”، كما من ممارستنا لها لأجل إشباع الذات، قائلاً: “فلا تعرف شمالك (الأنا ego) ما تفعل يمينك”. فإن كان اليمين يُشير إلى نعمة الله التي تعمل فينا، فإنّنا نفسد هذا العمل إن قدّمناه ليس من أجل الله، وإنما لإشباع الأنا بإعلان العمل للشمال! حقًا إن الشمال أو “الأنا” هو أخطر عدوّ يتسلّل إلى العبادة ذاتها والسلوك الصالح، ليحطّم ما تقدّمه نعمة الله لنا خلال يميننا، وتفقده جوهره خلال الرياء الممتزج بالكبرياء.
كان المراءون يصنعون الصدقة بينما يُصوّت بالبوق قدّامهم، أي تقدّم لهم دعاية؛ سواء في عطائهم العام في المجامع من أجل احتياجات الجماعة أو في الأزقّة، إذ يقدّمون للشحّاذين العاديّين صدقة في الطريق العام.
احترزوا من السلوك بالبرّ بهذا الهدف، فتتركّز سعادتكم في نظرة الناس إليكم، “وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات”. فقدانكم للأجر السماوي لا يكون بسبب نظرة الناس إليكم، بل لسلوككم بهذا الهدف. في هذا الأصحاح لم يمنعنا الرب من صنع البرّ أمام الناس، لكنّه يحذّرنا من أن نصنعه بغرض الظهور أمامهم.
- ماذا يعني السيّد بقوله: “أما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرِّف شمالك ما تفعله يمينك” سوى عدم السلوك مثل المرائين الذين يعرفون شمالهم ما تفعله يمينهم. فشمالهم هو “رغبتهم في المديح”، واليمين هو تنفيذ الوصايا، وعلى هذا فامتزاج الاثنين معًا يعني تعرُّف الشمال ما تفعله اليمين[1].
القدّيس أغسطينوس
- الكل يرى اللص “الرياء” يحمل كل شيء أمام عينيّه ويبتهج بذلك! يا لها من لصوصيّة جديدة من نوعها، تجتذب الناس وتبهجهم بينما هم يُسلبون![2]
- قد يوجد من يقدّم صدقته قدام الناس لكنّه يتحاشى التظاهر بها، ويوجد أيضًا من لا يقدّمها قدام الناس لكنّه يتباهى بها سرًا. فالله لا يجازي عن الصداقة بحسب صنعها إن كانت أمام الناس أم لا، بل بحسب نيّة فاعلها[3].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- محب الفقراء يكون كمن له شفيع في بيت الحاكم. من يفتح بابه للمعوزّين يمسك في يده مفتاح باب الله. من يقرض الذين يسألونه يكافئه سيّد الكل[4].
القدّيس يوحنا التبايسي
- لنعطِ الرب الثياب الأرضيّة حتى نلبس الحلة السماويّة! لنعطه الطعام والشراب اللذين في هذا العالم، فنبلغ إلى أحضان إبراهيم واسحق ويعقوب في الموضع السماوي!
لنزرع هنا بوفرة حتى لا نحصد قليلاً.
مادام يوجد وقت فلنهتم بأمر خلاصنا الأبدي، كقول الرسول بولس: “فلا تفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنّا لا نكل. فإذًا، حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع، ولاسيما لأهل الإيمان” (غل 6: 9-10)[5].
القدّيس كبريانوس
- الصلاة
ما أعلنه السيّد بخصوص السلوك المسيحي خلال حديثه عن الصدقة، يؤكّده أيضًا في العبادة المسيحيّة خلال حديثه عن الصلاة، فلا يحدّد لنا مواعيد للصلاة، ولا نصوص الليتورجيّات تاركًا هذا للتدبير الكنسي، وإنما يقدّم لنا أساس العبادة، ألا وهو الالتقاء بالآب السماوي، والدخول معه في شركة حب داخليّة، تقوم لا على أساس تكرار الكلام باطلاً، وإنما على أساس انفتاح القلب بالإيمان العامل بالمحبّة.
“ومتى صلَّيت فلا تكن كالمرائين،
فإنهم يحبّون أن يصلّوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع،
لكي يظهروا للناس.
وأما أنت فمتى صلّيت فادخل إلى مخدعك،
وأغلق بابك،
وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء،
فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية.
وحينما تصلّون لا تكرّروا الكلام باطلاً كالأمم،
فإنهم يظنّون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم.
فلا تتشبّهوا بهم.
لأن أباكم يَعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه” [5-8].
يسألنا السيّد أن نحذر الرياء في صلواتنا لئلا يتسلّل كلص يُفقدنا جوهرنا، بل تصير صلواتنا عِوض أن تكون سرّ صلة مع الله عائقًا عن الالتقاء به. إنه كأب غير منظور يريدنا أن نلتقي به على المستوى غير المنظور.
- الله نفسه غير منظور، لذا يودّ أن تكون صلاتك أيضًا غير منظورة[6].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- لا تُصلِِّ في زوايا الشوارع لئلا يعوق مديح الناس طريق صلواتك. لا تعرّض أهداب ثوبك ولا تلبس أحجية من أجل المظهر، محتقرًا الضمير فتلتحف بأنانية الفرّيسي[7].
القدّيس جيروم
صلاة المخدع
يأمرنا الله بالدخول إلى المخدع وغلق الباب أثناء الصلاة، ماذا يعني هذا؟ هل لا يجوز لنا الصلاة في الكنيسة؟ يجيب القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [حقًا يلزمنا أن نصلّي بكل الطرق، وإنما يليق بنا أن نسلك بروح كهذا. فإن الله يطلب في كل الأحوال “النيّة”، فإنك حتى إن دخلت مخدعك وأغلقت الباب صانعًا هذا من أجل المظهر، فإن الأبواب (المغلقة) لن تنفعك شيئًا[8].]
- الله يرغب أن تُغلق أبواب الذهن أفضل من غلق الأبواب[9].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- إننا نصلّي داخل مخدعنا لننزع من قلوبنا الداخليّة الأفكار المقلقة والاهتمامات الباطلة، وندخل في حديث سرّي مغلق بيننا وبين الرب. ونصلّي بأبواب مغلقة عندما نصلّي بشفاهٍ مغلقة في هدوء وصمت كامل، لذاك الذي يطلب القلوب لا الكلمات. ونصلّي في الخفاء عندما نكتم طلباتنا الصادرة من قلوبنا وأذهاننا المتّقدة بحيث لا نكشفها إلا لله وحده، فلا تستطيع القوّات المضادة (الشيّاطين) أن تكشفها. لذلك يجب أن نصلّي في صمت كامل، لا لنتحاشى فقط التشويش على إخوتنا المجاورين لنا، وعدم إزعاجهم بهمسنا أو كلماتنا العالية، ونتجنّب اضطراب أفكار المصلّين معنا، وإنما لكيما نخفي مغزى طلباتنا عن أعدائنا الذين يراقبوننا وبالأخص في وقت الصلاة، وبهذا تتم الوصيّة: “احفظ أبواب فمك عن المضطجعة في حضنك“[10].
الأب إسحق
أما تأكيده على عدم تكرار الكلام باطلاً كالأمم، فلا يعني الامتناع عن التكرار نهائيًا، إنّما يُحذّرهم من التكرار الباطل. فقد اعتاد الأمم أن يكرّروا الكلام، ليس بسبب نقاوة قلبهم ولا لحبّهم في الحديث مع الله، وإنما ظنًّا منهم أن الله يُخدع بكثرة الكلام. أمّا إن نبع التكرار عن قلب ملتهب بنار الحب فلا يكون ذلك باطلاً، فقد صلى السيّد نفسه مكرّرا “الكلام عينه” (مت 26: 44)، لكن بأكثر لجاجة وبجهاد أعظم (لو 22: 44). وجاءت صلاة دانيال النبي المقبولة لدي الله تحمل تكرارًا (دا 9: 18-19)، وحوى المزمور 136 تكرارًا منسجمًا جدًا.
ويجيب القدّيس جيروم على التساؤل: إن كان الله يعرف ما نطلبه قبل أن نسأله فما الحاجة للحديث معه فيما يدركه؟ أي لماذا نصلّي طالبين ما هو يعلم أننا في حاجة إليه؟ [نجيب باختصار قائلين إننا موجودون هنا لا لنحكي بل لنتضرّع ونستغيث. ففي الواقع يوجد فارق بين أن نحكي أمرًا لمن يجهله وبين من يطلب شيئًا ممن يعرف كل شيء. الأول يوجه من يحدّثه أمّا الثاني فيكرمه ويحمده. الأول يعرض الأمر، أمّا الثاني فيطلب الرحمة[11].]
- الصلاة الربّانيّة
قدّم لنا رب المجد يسوع هذه الصلاة نموذجًا حيًا نتفهّم خلاله علاقتنا بالله ودالتنا لديه. إنه نموذج من وضع السيّد نفسه قابل الصلوات، لهذه تعتزّ به الكنيسة، فتبدأ وتختم به صلواتها الليتورجيّة وعبادتها العامة والخاصة، نردّدها لنحيا بالروح الذي يريده الرب نفسه.
يقول القدّيس كبريانوس: [لنصل أيها الإخوة الأحياء بما علمنا إيّاه الله معلّمنا، فإنها صلاة جميلة ولطيفة، إذ نسأل الله بذات كلماته، ونرفع إلى أذنيه صلاة المسيح نفسه. ليعرف الآب كلمات ابنه عندما نرفع الصلاة، وليسكن في صوتنا ذاك الذي يسكن في صدرنا. لقد قبلناه شفيعًا لدى الآب بسبب خطايانا، لذا نتوسّل نحن الخطاة بذات كلمات الشفيع. إنه يقول: “إن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم“ (يو 16: 23)، فكم بالأكثر إن سألناه باسم المسيح وبذات صلاته[12]؟]
أ. أبانا الذي في السماوات
الله في حبّه للإنسان يريده ابنًا له، يحيا حاملاً صورته، وسالكًا على مثاله، منجذبًا إليه ليحيا معه في أحضانه. هذا المفهوم فقده الإنسان خلال الخطيّة، فلم يستطع – في العهد القديم – أن يرفع عينيّه ليحدّثه كابن مع أبيه، الأمر الذي يحزن قلب الله فيعاتبه قائلاً: “ربّيتُ بنين ونشّأتُهم، أمّا هم فعصوا عليّ” (إش 1: 2). “أنا قلت أنكم آلهة وبنو العليّ كلّكم” (مز 82: 6). “فإن كنت أنا أبًا فأين كرامتي؟” (مل 1: 6).
هذه النصوص كما يقول القدّيس أغسطينوس: [تظهر عدم قبولهم (اليهود الجاحدين) كأبناء الله، كما أنها نبوّة لما سيكون عليه المسيحيّون الذين يتّخذون الله أبًا لهم، وذلك كقول الإنجيلي: “فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله” (يو 1: 12). وقول الرسول بولس: “مادام الوارث قاصرًا لا يَفرِق شيئًا عن العبد” (غل 4: 1)، مشيرًا إلى التبنّي الذي أخذناه “والذي به نصرخ يا أبّا الآب” (رو 8: 15)[13].]
- عندما ننطق بأفواهنا أن الله رب كل المسكونة هو أبونا، نعترف أننا قد دُعينا من العبوديّة إلى التبنّي كأبناء. وإذ نردف قائلين: “الذي في السماوات” نتحاشى بكل مخافة إطالة البقاء في هذه الحياة الحاضرة، عابرين هذه الأرض كمن هم في رحلة، فنسرع مشتاقين إلى المدينة التي نعترف بأن أبانا يقطنها، ولا نسمح لأي شيء أن يفقدنا الاستحقاق لهذه المهنة ولشرف التبنّي، ناظرين إليه كعار يحرمنا من ميراث أبينا وبه يحلّ بنا غضب عدله وصرامته[14].
الأب إسحق
- تذكّروا أن لكم أبًا في السماوات، تذكّروا أنكم وُلدتم من أبيكم آدم للموت، وأنكم تولدون مرّة أخرى من الله الآب للحياة، فما تصلّون به قولوه بقلوبكم[15].
القدّيس أغسطينوس
- كل من يقول “أبانا الذي في السماوات” ينبغي ألا يكون له روح العبوديّة للخوف، بل روح التبنّي للأبناء (رو 8: 15)، فمن يردّدها وليس له روح التبنّي يكذب[16].
العلاّمة أوريجينوس
- إن كان يريدنا أن ندعو أباه أبًا لنا، فيليق بنا على هذا الأساس ألا نقيس أنفسنا بالابن حسب الطبيعة، فإنه بسبب الابن ندعو الآب هكذا. إذ حمل الكلمة جسدنا، وصار فينا، لذلك يُدعى الله أبانا بسبب الكلمة الذي فينا، فإن روح الكلمة الذي فينا يدعو أباه خلالنا كأب لنا، الأمر الذي عناه الرسول بقوله: “أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخًا: يا أبّا الآب” (غل 4: 6)[17].
القدّيس أثناسيوس الرسولي
- يليق بنا أيها الإخوة الأعزّاء أن ندرك أنّنا لا ندعو الذي في السماوات “الآب” فحسب بل “أبانا”… أي أب للذين يؤمنون، الذين يتقدّسون بواسطته ويتجدّدون بميلاد النعمة الروحيّة فبدءوا يصيرون أبناء لله.
- يا لعظم لطف الرب! يا لعظم تنازله وكرم صلاحه نحونا، إذ يريدنا أن نصلّي بطريقة ندعو بها الله أبًا، ونُحسب نحن أبناء الله، كما أن المسيح نفسه هو ابن الله. لقب ما كان أحد يجسر أن ينطق به في الصلاة لو لم يسمح لنا بنفسه أن ننطق به. لهذا يليق بنا أيها الإخوة الأحبّاء أن نتذكّر هذا وندرك أننا إذ ندعو الله أبًا فلنعمل بما يليق كأبناء لله. وكما تجدون لذّة في دعوة الله أبًا، فهو أيضًا يجد لذّة فينا![18]
القدّيس كبريانوس
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن هذه الصلاة في الحقيقة إنّما تقدّم باسم الجماعة كلها، حتى إن قدّمها الإنسان في مخدعه. إنه يصلّي باسم الكنيسة كلها بكونه عضوًا فيها. إنه يقول: [يعلّمنا تقديم صلواتنا بصفة عامة لحساب إخوتنا أيضًا، فلا يقل: “أبي الذي في السماوات”، بل “أبانا“، مقدّمًا الطلبة لحساب الجسد في عموميّته، طالب في أي موضع لا ما هو لنفسه بل ما هو لصالح إخوته[19].] ويقول القدّيس أغسطينوس: [لقد بدأتم تُنسبون إلى عائلة عظيمة (أي عند نوالكم المعموديّة)، ففي هذا النسب يجتمع السيّد والعبد، القائد والجندي، الغني والفقير الخ. يصير الكل إخوة، جميعهم يدعون لهم أبًا واحدًا في السماوات… جميعهم يقولون: “أبانا الذي في السماوات”، فهل فهموا أنهم إخوة، ناظرين أن لهم أبًا واحدًا، فلا يستنكف السيّد من أن يعتبر عبده أخاه، ناظرًا أن الرب يسوع قد وهبه أن يكون أخًا له[20].] بذات الفكر يقول القدّيس كبريانوس في شرحه للصلاة الربّانيّة: [قبل كل شيء، معلّم السلام وسيّد الوحدة لا يريد الصلاة منفردة، فيصلّي الإنسان عن نفسه وحده، إذ لا يقول “أبي الذي في السماوات”، ولا “خبزي اليومي أعطني اليوم”، ولا يطلب أحد من أجل ما عليه وحده ليُغفر له، ولا يسأل عن نفسه وحده ألا يدخل في تجربة وأن يخلّص من الشرّير. صلاتنا كلها جماعيّة ومشتركة، عندما نصلّي لا يطلب الإنسان عن نفسه بل من أجل الشعب كله، لأننا جميعًا واحد. إله السلام ومعلّم الاتّفاق الذي يعلّمنا الوحدة أرادنا أن نصلّي عن الكل كما يحملنا هو واحدًا فيه. وقد راعى الثلاثة فتية قانون الصلاة هذا عندما أُلقوا في أتون النار، إذ نطقوا معًا بقلب واحد في اتّفاق الروح، وتكلّموا كما بفم واحد، مع أن المسيح لم يكن قد علّمهم كيف يصلّون… هكذا نجد الرسل أيضًا مع التلاميذ صلّوا بعد صعود الرب، وكما يقول الكتاب المقدّس: “كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة مع النساء ومريم أم يسوع ومع إخوته[21]” (أع 1: 14).]
ويرى القدّيس أغسطينوس أننا إذ نقول “الذي في السماوات” لا نرفع قلوبنا نحو جلد السماء بل إلى أعماق قلوبنا بكونها “السماء” التي يقطنها أبونا السماوي. إنه يقول: [ليت المسيحيّين الذين دُعوا إلى الميراث الأبدي يفهمون تلك الكلمات: “الذي في السماوات“، على أنها “الذي في القدّيسين والأبرار”، لأن الله لا يحدّه مكان معيّن. فالسماوات هي الجزء المرتفع على الأجسام الماديّة في العالم ومع ذلك فهي ماديّة، لذلك فهي محدودة بحيّز إلى حد ما. فإن اعتقدنا أن الله كائن بالجزء العلوي من العالم، فستكون الطيور أفضل منّا لأنها تحيا بالقرب من الله، غير أن الله لم يُكتب عنه “قريب هو الرب من طوال القامة أو سكان الجبال”. بل” قريب هو الرب من منكسري القلوب” (مز 34: 8)، إشارة إلي التواضع. فإن كان الأشرار قد دُعوا “أرضًا” هكذا يُدعى الأبرار “سماء”، وقد قيل عنهم: “لأن هيكل الله مقدّس الذي أنتم هو“ (1 كو 3: 17). فإن كان الله يسكن في هيكلة وقد دعا القدّيسين هيكلاً له، لذلك فإن القول: “الذي في السماوات” يعني “الذي في القدّيسين”، إذ تليق المناظرة بين الأبرار والأشرار روحيًا بالسماء والأرض ماديًا[22].]
- إن تأمّلنا معنى الكلمات: “متى صلّيتم فقولوا: أبانا” كما جاء في (لو 11: 2)، فإنّنا نتردّد في النطق بها إن كنّا لسنا بالحقيقة أبناء لمن نوجّه إليه هذا اللقب، لئلا نضيف إلى خطايانا ما يستوجب إدانتنا.
- إن كنّا نفهم ما سبق أن قلناه عن الصلاة بلا انقطاع، أن حياتنا كلها هي صلاة بلا انقطاع تردّد القول “أبانا الذي في السماوات”، فإن مواطنتنا لا تعود بعد على الأرض، إنّما في السماء (في 3: 20) التي هي عرش الله، فإن ملكوت السماوات يترّبع في الذين يحملون صورة السماوي (1 كو 15: 49) وبذلك يكونون هم أنفسهم سمائيّين[23].
العلاّمة أوريجينوس
ب. ليتقدّس اسمك
إنها ليست طلبة تخص اسم الله إنّما تخصّنا نحن في علاقتنا بهذا الاسم القدّوس. فإن كنّا نحن أبناءه فإن اسمه يتقدّس فينا بتقديسنا بروحه القدّوس.
- يليق بمن يدعو الله أباه ألا يطلب شيئًا ما قبل أن يطلب مجد أبيه، حاسبًا كل شيء ثانويًا بجانب عمل مدحه، لأن كلمة “ليتقدّس” إنّما تعني “ليتمجّد”[24].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- حينما نقول “ليتقدّس اسمك” يليق بنا جدًا أن نفهمه بهذا المعنى: “تقديس الله هو كمالنا”؛ أيضًا اجعلنا أيها الآب قادرين أن نفهم. نسلك بما فيه تقديس اسمك، أو على أي الأحوال يراك الآخرون قدوسًا بتغيّرنا الروحي، “إذ يرى الناس أعمالنا ويمجّدون أبانا الذي في السماوات“ (مت 5: 16) [25].
الأب إسحق
- لماذا تسألون من أجل تقديس اسم الله؟ إنه قدوس، فلماذا تسألون من أجل من هو قدّوس أصلاً! إنكم إذ تسألونه أن يتقدّس اسمه فهل تطلبون من أجله هو أم من أجلكم؟… اِفهموا جيدًا أنكم إنّما تسألون هذا من أجل نفوسكم. إنكم تسألون من هو قدّوس بذاته على الدوام أن يكون مقدّسًا فيكم[26].
- إن كان اسم الله يجدّف عليه من الأمم بسبب الأشرار، فعلى العكس يقدّس ويكرّم بسبب الأمناء، أي المؤمنين[27].
القدّيس أغسطينوس
- لسنا نرغب أن يتقدّس الله بصلواتنا وإنما نسأله أن يتقدّس اسمه فينا…
إننا نحن الذين تقدّسنا في المعموديّة نسأله ونتوسل إليه أن نستمر فيما بدأنا فيه. هذا ما نصلّي لأجله كل يوم، إذ نحن في حاجة إلى تقديس يومي، إذ نسقط كل يوم ونحتاج إلى غسل من خطايانا بالتقديس المستمر… يقول الرسول إننا نتقدس باسم ربّنا يسوع المسيح وبروح إلهنا. ونحن نصلّي لكي يتم هذا التقديس فينا؛ فقد حذّر ربّنا ودَيّاننا ذاك الذي طلب من الذي شفاه ألا يخطئ مرّة أخرى، لئلا يصير إلى حال أشرّ, وها نحن نقدّم هذه الطلبة في صلواتنا باستمرار، سائلين إيّاه ليلاً ونهارًا أن يحفظ بحمايته التقديس الذي نلناه من نعمته[28].
القدّيس كبريانوس
ج. ليأت ملكوتك
ملكوت الله هو غاية إيماننا، فإنّنا نشتهي أن نراه قادمًا على السحاب يستقبل عروسه المقدّسة وجهًا لوجه ليدخل بها إلى العرس الأبدي، هذا الملكوت هو امتداد وإعلان للملكوت القائم فعلاً في الكنيسة المقدّسة على الأرض، حيث يملك ربّنا يسوع على القلب، ويُعلن أمجاده في داخله، فما ينعم به أبناء الملكوت في اليوم الأخير لا يكون غريبًا عنهم، كما أن ما يعاينه أبناء الظلمة هو امتداد لما تذوّقوه هنا. إذن فالطلبة هنا تخصّنا نحن “ملكوت الله”، حيث نسأل إلهنا أن يُعلن بهاءه فينا بروحه القدّوس في الابن الوحيد فننال الملكوت، بل نصير نحن ملكوته.
- يملك السيّد المسيح يومًا فيومًا في القدّيسين، ويتحقق ذلك بطرد سلطان الشيطان من قلوبنا وإبادة وسخ الخطيّة، ويبدأ يملك الله علينا خلال حلاوة عبيق الفضائل، فينهزم الزنا وتملك الطهارة على قلوبنا، ويملك الهدوء بتقهقر الغضب، والتواضع بسحق الكبرياء تحت الأقدام[29].
الأب إسحق
- إنها لغة الابن ذي الذهن البار غير المنجذب نحو المنظورات ولا يحسب الأمور الحاضرة كأشياء عظيمة، إنّما يسرع نحو أبينا مشتهيًا الأمور العتيدة (الملكوت الأبدي). هذا يصدر عن ضمير صالح ونفس متبرّرة من الأرضيّات. هذا ما يتوق إليه بولس – كمثال – كل يوم، إذ يقول: “بل نحن الذين لنا باكورة الروح نئن في أنفسنا متوقّعين التبنّي فداء أجسادنا” (رو 8: 23). فمن كان له هذا الشوق لا يمكن أن ينتفخ بالخيرات الحاضرة، ولا يرتبك بأحزان هذه الحياة، إنّما يتبرّر من كل الشوائب كمن هو في السماوات[30].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- لا نقول: “ليأتِ ملكوتك” كما لو كنّا نسأل أن يملك الله، إنّما لكي نصير نحن ملكوته، ذلك بإيماننا به وتقدّمنا في الإيمان به[31].
القدّيس أغسطينوس
- إن كان ملكوت الله كقول ربّنا ومخلّصنا لا يأتي بمراقبة، ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك، إنّما ملكوت الله داخلكم (لو 17: 20-21)، لأن الكلمة قريبة جدًا في فمنا وفي قلبنا (تث30 : 14؛ رو 10: 8)، فمن الواضح أن من يصلّي لكي يأتي ملكوت الله، إنّما يصلّي بحق لكي يظهر فيه ملكوت الله، ويأتي بثمر ويكمل. كل قدّيس يأخذ الله كملكٍ له ويطيع شرائع الله الروحيّة إنّما يسكن الله فيه كمدينة منظمة جدًا…
- الآن أيضًا ليت فسادنا يلبس التقديس في القداسة وكل طهارة وعدم الفساد (1 كو 15: 53)، ويلتحف المائت بعدم موت الآب عندما يبطل الموت (1كو15: 26)، عندئذ يملك الله علينا ويمكننا أن ننعم بشركة الخيرات الخاصة بالتجديد والقيامة[32].
العلاّمة أوريجينوس
- يُقصد بالصلاة “ليأتِ ملكوتك” أن الله يملك على العالم كلّه حين يتوقّف الشيطان عن ملكه، أو أن الله يملك على كل واحدٍ فينا، ولا تملك الخطيّة بعد في جسد الإنسان المائت[33].
القدّيس جيروم
- لا يليق بنا ونحن نطلب ملكوت الله أن يأتي سريعًا، إننا أنفسنا نهتم أن يطول بقاؤنا في هذا العالم[34].
القدّيس كبريانوس
- نسأله أن يُقام ملكوت الله بالنسبة لنا وذلك كما نسأله أن يتقدّس اسمه فينا… فنحن نصلّي لكي يأتي ملكوتنا الذي وعدنا الله به، والذي تحقّق خلال دم المسيح وآلامه، حتى أننا نحن الذين صرنا خاضعين له في العالم نملك مع المسيح، إذ وعد قائلاً: “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم” (مت 25: 34).
على أي الأحوال، المسيح نفسه أيها الإخوة الأعزّاء، هو ملكوت الله الذي نرغب في مجيئه من يوم إلى يوم، فنطلب سرعة مجيئه. مادام المسيح هو القيامة، ففيه نقوم، هكذا هو ملكوت الله وفيه نملك…
إننا نصنع حسنًا إذ نطلب ملكوت الله، أي الملكوت السماوي، حيث يوجد ملكوت أرضي. فمن يزهد العالم تكون كرامته وملكوته أعظم. من يكرّس نفسه لله والمسيح لا يطلب الملكوت الأرضي بل السماوي.
توجد حاجة للصلاة الدائمة والطلبة كي لا نسقط عن الملكوت كقول الرب: “إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتّكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجيّة، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان” (مت 8: 11-12). كان اليهود أبناء الملكوت إذ كانوا أبناء لله، ولكن إذ توقّفت معرفتهم لاسم الآب توقف عنهم الملكوت، وهكذا نحن المسيحيّون إذ نبدأ صلواتنا بدعوة الله أبانا نصلّي أيضًا أن يأتي ملكوته بالنسبة لنا[35].
القدّيس كبريانوس
د. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض
إن كان المؤمن يسلك بجسده على الأرض لكنّه لا يرى في الأرض عائقًا عن تمتّعه بالملكوت الإلهي السماوي، فهو يحيا هنا لحساب هذا الملكوت بقلب مرتفع للسماويات. بهذا يطلب من أبيه السماوي أن يتمّم مشيئته فيه وهو على الأرض كما يتمّمها في السمائيّين.
يعلّمنا السيّد أن نقول “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”، وليس “كما بواسطة السماء هكذا بواسطة الأرض”، لأنه لا يمكن للسمائيّين ولا الأرضيّين أن يتمّموا مشيئتهم بدونه! إنّهم في حاجة إلى نعمته لتتم مشيئته فيهم.
يقول القدّيس كبريانوس: [إذ يعوقنا (العدو) عن طاعة مشيئة الله بأفكارنا وأعمالنا في كل شيء، لهذا نصلّي ونطلب أن تتم مشيئة الله فينا، ولكي يتحقّق ذلك نحن في حاجة إلى إرادته الصالحة أي معونته وحمايته، إذ ليس لأحد القدرة من ذاته على ذلك[36].]
ويرى بعض الآباء مثل العلاّمة أوريجينوس والقدّيسين أغسطينوس وأمبروسيوس وجيروم أن السماء والأرض إنّما يحملان مفاهيم رمزيّة، نذكر منها:
أولاً: الملائكة والبشر
- لا يمكن أن توجد صلاة أعظم من الاشتياق أن تكون الأمور الأرضيّة سماويّة، لأنه ماذا يعني القول “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض” سوى السؤال من أجل البشر ليكونوا مثل الملائكة؟ فكما تتم مشيئة الله بواسطتهم في السماء هكذا ليت الذين على الأرض لا يفعلون مشيئتهم الذاتيّة بل مشيئة الله[37].
الأب إسحق
- تتمّم الملائكة مشيئة الله، فهل نتمّمها نحن؟…
كما أن ملائكتك لا يعارضونك، ليتنا نحن أيضًا لا نعارضك…
كما تخدمك الملائكة في السماء، فلنخدمك نحن أيضًا على الأرض، فإن ملائكته القدّيسين يطيعونه. إنهم لا يخطئون إليه، بل ينفّذون وصاياه لحبّهم فيه. لنُصلّ لكي ننفِّذ نحن أيضًا وصايا الله في حب![38]
القدّيس أغسطينوس
- كما تطيعك الملائكة في السماء وتخدمك الخليقة السماويّة، هكذا ليخدمك البشر أيضًا[39].
القدّيس جيروم
- ليتنا نحن الذين لا نزال على الأرض ونُدرك أن إرادة الله تتم في السماء بواسطة سكان السماء، نصلّي كي تتم إرادته بواسطتنا نحن أيضًا على الأرض في كل الأشياء…
- عندما تتحقّق إرادة الله بواسطتنا نحن الذين على الأرض كما تتحقّق في الذين في السماء نتشبّه بالسمائيّين إذ نحمل مثلهم صورة السماوي (1 كو 15: 49) ونرث ملكوت السماوات (مت 25: 34). ويأتي الذين بعدنا وهم على الأرض يصلّون لكي يتشبّهوا بنا، إذ نكون نحن في السماء (الفردوس)[40].
العلاّمة أوريجينوس
ثانيًا: الروح والجسد
تُشير السماء إلى الروح أو العقل، وكلمة “عقل” عند الآباء تحمل معنى أوسع من مجرّد عمليّة التعقّل والتفكير، إنّما يقصد بها الروح أو الحياة الداخليّة ككل، بما فيها من تفكير وأحاسيس وعواطف الخ. أمّا كلمة “الأرض” فتُشير إلى الجسد الترابي الذي يثقل على الروح متى كان غير مقدّس، لكننا إذ نسلّم الجسد بين يديّ الروح القدس الساكن فينا يتقدّس هذا الجسد فتتحقق فيه إرادة الله كما في الروح، ويعمل الإنسان ككل في توافق وتكامل.
- حين يتّفق الجسد مع العقل، ويُبتلع الموت إلى غلبة (1 كو 15: 54) حتى لا تبقى بعد شهوات جسديّة يصارع معها العقل، ينتهي الصراع الأرضي وتعبر الحرب القلبيّة المكتوب عنها: “لأن الجسد يشتهي ضدّ الروح، والروح ضدّ الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون“ (غل 5: 17). أقول، عندما ينتهي هذا الصراع وتتحوّل كل الشهوات إلى محبّة، ولا يبقى في الجسد ما يضاد الروح، ولا يبقى فيه شيئًا ليُقمع أو يُلجم أو يُطأ تحت الأقدام، بل يصير الكل في وفاق متّجهًا نحو البرّ… حينئذ تكون مشيئة الله في السماء كذلك على الأرض… إننا إذ نصلّي بهذه الطلبة إنّما نشتهي الكمال… كما تبتهج عقولنا بوصاياك ليت أجسادنا أيضًا ترضى بها، وبهذا ينتهي الصراع الذي وصفه الرسول… ويتحوّل الصراع إلى نصرة مستقبلة![41]
القدّيس أغسطينوس
- إذ لنا الجسد من الأرض والروح من السماء، فنحن أنفسنا أرض وسماء، وفي كليهما – أي في الجسد والروح – نصلّي لكي تتم مشيئة الله. يوجد صراع بين الجسد والروح، نزاع يومي، كما لو كان الواحد لا يتّفق مع الآخر، حتى أننا لا نقدر أن نفعل ما نريده (غل 5: 17-22). تطلب الروح الأمور السماويّة الإلهيّة بينما يشتهي الجسد الأمور الأرضيّة الزمنيّة، لذا نطلب معونة الله ومساعدته حتى يتم التوافق بين الطبيعتين، فتتم مشيئة الله في الروح وفي الجسد، وتحفظ النفس المولودة ثانية بواسطته[42].
القدّيس كبريانوس
ثالثًا: الإنسان الروحي والإنسان الجسداني
- الإنسان الروحاني في الكنيسة هو السماء، أمّا الجسداني فهو الأرض. هكذا لتكن مشيئة الله كما في السماء كذلك على الأرض، وكأنه كما يخدمك الروحاني فليخدمك الجسداني بإصلاحه… كل الآباء القدّيسين والأنبياء والرسل والروحانيّين إنّما هم كالسماء… ونحن بالنسبة لهم الأرض، هكذا لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض[43].
القدّيس أغسطينوس
- إذا ما صارت إرادة الله على الأرض كما في السماء، فسنصير نحن سماءً، لأن الجسد الذي لا ينفع (يو 6: 63) والدم المرتبط به، لا يقدران أن يرثا ملكوت الله (1 كو 15: 50) إنّما يقال أنهما يرثانه عندما يتحوّلان من جسد وأرض وتراب ودم إلى أمور سماويّة[44].
العلاّمة أوريجينوس
رابعًا: المؤمنين وغير المؤمنين
إن كان المؤمنون قد صاروا سماءً فإن غير المؤمنين يمثّلون الأرض، فنطلب من الله الذي قبلنا سماءً له نخضع لمشيئته، أن يعمل في غير المؤمنين – مهما كان شرّهم أو حتى إلحادهم أو عداوتهم – لكي يُعلن ذاته فيهم ويصيرون هم سماءً بتتميم مشيئته فيهم.
- الكنيسة هي السماء وأعداؤها هم الأرض. ماذا تعني: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”؟ أن يؤمن بك الأعداء كما نحن. إنهم الأرض لهذا هم ضدّنا، فإن صاروا سماءً يصيرون معنا![45]
القدّيس أغسطينوس
- يلزمنا أن نسأل من أجل الذين لا يزالون أرضًا ولم يبدأوا بعد ليكونوا سماءً لكي تتم مشيئة الله حتى في هؤلاء… كما تتم مشيئة الله في السماء – أي فينا نحن إذ صرنا سماءً بإيماننا – هل تتم على الأرض، أي في الذين لم يؤمنوا بعد، هؤلاء الذين لا يزالوا أرضًا بسبب ميلادهم الأول منها، فيولدون من الماء والروح ويبدأون أن يكونوا سماءً[46].
القدّيس كبريانوس
هـ. خبزنا اليومي
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنه بعد الصلاة من أجل الأمور السماويّة في الطلبات السابقة يطالبنا أن نسأله حتى عن احتياجاتنا الجسديّة وضروريات الحياة بسبب ضعف طبيعتنا، فنطلب من أجل خبزنا اليومي، أي خبز يوم واحد فقط ولا نطلب من أجل الغد.
قبل القدّيس أغسطينوس هذا التفسير مضيفًا إليه تفسير الخبز اليومي بالتناول من الأسرار المقدّسة: جسد الرب ودمه الذي في أيّامه كان يقدّم يوميًا[47]، وإن كان البعض يعترض على ذلك، لأنهم لا يشتركون فيه كل يوم، أو حتى الذين يشتركون فيه يوميًا فإنهم يصلّون بهذه الصلاة حتى بعد التناول، فكيف يطلبون منه ما قد نالوه؟[48] كما يفهمه القدّيس بكونه الغذاء الروحي خلال تنفيذ الوصيّة الإلهيّة، لكي تشبع النفس وتتغذى لمواجهة الشهوات الزمنيّة. إننا نطلب هذا الغذاء مادام الوقت يُدعى “اليوم”، أي مادمنا في الحياة الحاضرة، لأننا في الحياة الأخرى لا نحتاج أن نطلب طعامًا بل نلتقي بالسيّد المسيح طعامنا الذي ننتعش به[49].
في اختصار يُشير هذا الخبز إلى: القوت اليومي، والإفخارستيا، وكلمة الله.
أولاً: القوت اليومي
- هب لنا الأمور الأبديّة (الطلبات السابقة)، اعطنا الأمور الزمنيّة. لقد وعدت بالملكوت فلا تحجم عنّا وسيلة الحياة. ستعطنا مجدًا أبديًا إذ تهبنا ذاتك فيما بعد، اعطنا على الأرض المئونة الزمنيّة… بلا شك هذه الطلبة تُفهم عن الخبز اليومي من ناحيتين: القوت الضروري للجسد والمئونة الروحيّة الضروريّة. توجد مئونة لازمة للجسد لحفظ حياتنا اليوميّة، بدونها لا نقدر أن نعيش وهي الطعام والملبس، لكن بذكر الجزء (الخبز) نقصد الكل[50].
القدّيس أغسطينوس
ثانيًا: سرّ الإفخارستيا
- (في حديثه مع طالبي العماد)
إن كنتم تفهمون هذا الخبز أنه ما يناله المؤمنون، وما تنالونه أنتم بعد العماد، فإنه من المهم أن نسأل ونطلب “خبزنا اليومي أعطنا اليوم” لكي نسلك بحياة معيّنة فلا نُحرم من الهيكل المقدّس… أعطنا جسدك، طعامنا اليومي… دعنا نعيش صالحين حتى لا نُحرم من مذبحك[51].
القدّيس أغسطينوس
- المسيح هو خبز الحياة بالنسبة لنا ولا يخصّ كل البشر. وكما نقول “أبانا” إذ هو أب لكل من يفهم ويؤمن، هكذا ندعو المسيح خبزنا، لأنه خبز لكل الذين يتّحدون بجسده. ونحن نطلب أن يعطينا هذا الخبز كل يوم، فنحن الذين في المسيح ونتناول يوميًا الإفخارستيا كطعام خلاصنا، لا نودّ أبدًا أن نُمنع من الشركة بسبب قهر زلّة عرضيّة تحرمنا من خبز السماء، وتفصلنا عن جسد المسيح، لقد سبق فنادى وحذّر: “أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو 6: 51)… لذلك نطلب أن خبزنا – أي المسيح – يعطي لنا كل يوم، حتى أننا نحن الذين نسكن في المسيح ونحيا فيه لا نُحرم منه[52].
القدّيس كبريانوس
ثالثًا: كلمة الله وحكمته
- هل لأن الأبرار والأشرار يأخذون خبزًا من الله تفتكرون أنه لا يوجد خبز آخر يطلبه البنون، هذا الذي يقول عنه الرب في الإنجيل: “ليس حسنًا أن يُؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب“ (مت 15: 26)؟ بالتأكيد يوجد خبز آخر، فما هو هذا الخبز؟ ولماذا دُعي بالخبز اليومي؟ لأنه ضروري كالخبز الآخر، بدونه لا نستطيع أن نحيا… ذلك هو كلمة الله التي توزّع يوميًا.
خبزنا يومي، تحيا به أرواحنا لا أجسادنا، إنه لازم لنا نحن الذين لا نزال نعمل في الكرم. إنه الغذاء وليس الأجرة. فمن يستأجر عاملاً يلتزم بتقديم الغذاء له حتى لا يخور، أمّا الأجرة فتُقدّم له ليُسرّْ بها. غذاؤنا اليومي في هذه الحياة هو كلمة الله، التي توزّع على الدوام في الكنائس، أمّا أجرتنا التي نأخذها بعد العمل فهي التي تدعى بالحياة الأبديّة…
ما عالجته أمامكم الآن هو خبز يومي، كذلك فصول الكتاب المقدّس التي تسمعونها يوميًا في الكنيسة هي خبز يومي. التسابيح التي تترنمون بها هي أيضًا خبز يومي. لأن هذه جميعها ضروريّة لنا أثناء رحلتنا[53].
القدّيس أغسطينوس
- الخبز الحقيقي هو الذي يقوت الإنسان الحقيقي الذي خُلق على صورة الله (تك 1: 26-27)، ومن يقتات به يصير أيضًا على مثال الخالق. ولكن أي شيء يُنعش النفس إلا “الكلمة”، وأي شيء أثمن لذهنه من حكمة الله؟… وأي شيء يخص النفس العاقلة أكثر من “الحق”؟
- لكي لا تمرض نفوسنا بسبب عدم وجود قوت لها، ولكي لا تموت بسبب وجود مجاعة في كلمة الرب فلنسأل الآب الخبز الحيّ كخبز يومي، مطيعين مخلّصنا كمعلّم، وواضعين إيماننا فيه، سالكين بأكثر حكمة.
العلاّمة أوريجينوس[54]
- عندما تنتهي هذه الحياة لا نطلب الخبز الذي نجوع إليه، ولا نأخذ من الأسرار المقدّسة من على المذبح، إذ نكون هناك مع المسيح الذي نأخذ جسده هنا، ولا تحتاجون إلى من يحدّثكم عما أنطق به معكم الآن، ولا نقرأ الكتاب المقدّس إذ نُعاين كلمة الله نفسه، الذي به كان كل شيء وبه يتغذّى الملائكة ويستنيرون ويصيرون حكماء، دون حاجة إلى المناقشات المستمرّة… إنهم يشربون من الكلمة الوحيد، مملوئين من ذلك الذي به ينفجرون في التسبيح بلا انقطاع، إذ يقول المزمور: “طوبى للساكنين في بيتك أبدًا يسبّحونك“ (مز 84: 4)[55].
القدّيس أغسطينوس
هذا ويقول القدّيس جيروم: إن [الإنجيل العبري حسب متّى يُقرأ هكذا: “خبزنا الذي للغد أعطنا اليوم” بمعنى آخر، أن الخبز الذي ستهبه لنا في ملكوتك اِمنحه إيّانا اليوم[56].] ويذكر العلاّمة أوريجينوس في شرحه الصلاة الربّانيّة أن كلمة (epiouios) مأخوذة عن “ousia” أي “جوهر[57]“. بينما يرى البعض أنها مشتقّة عن “epienai”[58] والتي تعني “الغد”. وبنفس الفكر يذكر جيمس سترونج في كتابه: “القاموس اليوناني للعهد الجديد” بأن الكلمة مشتقّة إمّا عن “epiousa” أو “epi” أو “eimi”، وأنها معناها: أساسي، جوهري، ضروري، يومي، الغد[59].
و. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا
إنها طلبة يوميّة، بل يقدّمها المؤمن في صلاة السواعي أي في كل ساعة، وكأنه يدرك أنه محتاج إلى مغفرة مستمرّة. لذلك استخدم القدّيس جيروم[60] هذه العبارة للرد على أتباع جوفنيان Jovinianus القائلين بأن الإنسان لا يخطئ بعد المعموديّة. يقول القدّيس: [بأن هذه الصلاة يمارسها المؤمنون لا الموعوظون، هؤلاء الذين يطلبون المغفرة كل يوم.]
إذ فتح لنا السيّد باب المغفرة خلال دمه المقدّس، فإن هذه العطيّة المجّانيّة لا تقدّم لقلبٍ مُصرٍ على القسوة ضدّ أخيه.
- من لا يغفر من قلبه لأخيه الذي أساء إليه لا يجلب لنفسه بهذه الصلاة غفرانًا بل دينونة[61].
الأب اسحق
- “واغفر لنا ما علينا our debts“… إننا مدينون بالخطايا لا بالمال. لكن ربّما تقولون: وهل أنتم أيضًا مدينون بالخطايا؟ أجيب بالإيجاب. هل أنتم أيها الأساقفة مدينون؟ نعم نحن أيضًا مدينون! ما هذا يا ربي؟! أبعدوا هذا عنكم (أي إدانة الأساقفة) ولا تخطئوا فإنّني لا أصنع خطأ، ومع ذلك فإنّني أقول الحق أني مدين. “إن قلنا أنه ليس لنا خطيّة نُضلّ أنفسنا وليس الحق فينا“ (1 يو 1: 8).
إننا نلنا سرّ المعموديّة، ومع ذلك فنحن مدينون، ليس لأن المعموديّة لم تغفر خطيّة معيّنة بل لأننا نفعل في حياتنا ما نحتاج إلى مغفرته كل يوم…
أي إنسان يعيش هنا ولا يحتاج إلى هذه الصلاة؟! إنه متكبّر لا يستطيع أن يتبرّر. خير له أن يتمثل بالعشّار ولا يتكبّر كالفرّيسي الذي صعد إلى الهيكل متباهيًا باستحقاقه، خافيًا جراحاته، أمّا الذي قال: “اللهم ارحمني أنا الخاطي” (لو 18: 13) فقد عرف أين يصعد.
انظروا أيها الإخوة… فقد علّم الرب يسوع تلاميذه الذين هم رسله الأوّلين العظماء، قادة قطيعنا، أن يصلّوا بهذه الطلبة. فإن كان القادة يصلّون من أجل غفران خطاياهم، كم بالأكثر ينبغي علينا نحن الحملان!…
الصلاة مع الإحسان يرفعان الخطايا، بشرط ألا نرتكب تلك الخطايا التي بسببها نُحرم من الخبز اليومي (سّر الإفخارستيا). لنتجنّب كل الآثام التي تستحق تأديبات قاسية…
- إنه عهد وميثاق بيننا وبين الله! الرب إلهنا يقول: اغفروا يغفر لكم، فإن لم نغفر نبقى في خطايانا ضدّ أنفسنا وليس ضدّه… اغفروا من قلوبكم التي يراها الله، إذ أحيانًا يغفر الإنسان بفمه لكنّه يحتفظ بها في قلبه. يغفرها بفمه من أجل البشر، ويحتفظ بها في قلبه إذ لا يخاف من عينيّ الله[62].
القدّيس أغسطينوس
- بعد طلب الطعام نسأل الصفح عن الخطيّة، لأن من يقوته الله يلزم أن يحيا في الله، فلا يكون رجاؤه بالحياة الحاضرة الزمنيّة فحسب وإنما بالأبديّة أيضًا، التي نأتي إليها متى غُفرت الخطيّة، هذه التي دعاها السيّد “ديونًا”، حسب قوله في إنجيله: “كل ذلك الدين تركته لك لأنك طلبت إليّ” (مت 18: 32).
إنه من الضروري واللائق والنافع لنا أن يذكرنا الرب بأنّنا خطاة، إذ يلزمنا سؤال الصفح عن خطايانا، فبالتماسنا الصفح عنها من الله نتذكّر حالة الخطيّة التي عليها ضمائرنا، ولئلا يتعجرف أحد ويظن في نفسه أنه بار فيهلك بكبريائه إلى النهاية، لذلك نتعلّم من هذه الطلبة أننا نخطئ كل يوم. هكذا يحذّرنا الرسول يوحنا في رسالته: “إن قلنا أنه ليس لنا خطيّة نُضلّ أنفسنا، وليس الحق فينا، إن اعترفنا بخطايانا (فالرب) أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا” (1 يو 1: 8-9)[63].
القدّيس كبريانوس
ز. لا تدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشرّير
هنا يطلب المؤمن من السيّد ألا يدخل تحت ثقل التجربة خلال ضعفه البشري، ومن ناحية أخرى يسأله أن ينجّيه من العدوّ الشرّير، أي الشيطان. حقًا إن المؤمن يدرك إمكانيّات الله أبيه العاملة فيه للغلبة والنصرة بالمسيح يسوع ضدّ الخطيّة والشيطان، لكنّه لا يندفع نحو التجربة، ولا يشتهيها، بل في تواضع يطلب أن يسنده داخليًا حتى لا ينهار ويسنده من الخارج فينقذه من الشيطان الشرّير.
الله لا يريد النفس المتشامخة التي في تهوّر لا تحتاط من التجربة، إنّما يريد النفس المتواضعة، فيكون نصرتها بالله أكثر مجدًا، وهزيمة الشيطان أكثر تأكيدًا.
- أيوب جُرِّب، لكنّه لم يدخل في تجربة، إذ لم ينطق ضدّ الله بأي تجديف، ولا استسلم لفمٍ شريرٍ كرغبة الشرّير نفسه. إبراهيم جُرِّب، ويوسف جُرِّب، لكن لم يدخل أحدهما في تجربة، لأنهما لم يستسلما ليُرضيا المجرِّب[64].
الأب إسحق
- من يُغلب من التجربة يرتكب الخطيّة، لهذا يقول يعقوب الرسول: “لا يقل أحد إذا جُرِّب إني أجرَّب من قبل الله، لأن الله غير مُجرِّب بالشرور وهو لا يجرِّب أحدًا. ولكن كل واحد يجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته. ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطيّة، والخطيّة إذا كملت تنتج موتًا“ (يع 1: 13-15). فإذ لا تنجذبون إلى شهوتكم لا تقبلونها…
الله لا يجرِّب أحدًا بالتجارب التي تخدعنا وتضلّنا، ولكن بدون شك في أعماق عدله يتخلّى عن البعض، فيجد المجرِّب فرصته، لأنه لا يجد فيها مقاومة. وإذ يتخلّى الله عنهم يتقدّم المجرِّب نفسه كمالك لهم. لهذا نقول “لا تدخلنا في تجربة” لكي لا يتخلّى الله عنّا… ماذا يعلّمنا الرسول يعقوب! إنه يعلّمنا أن نحارب شهواتنا…
لا يخيفكم أي عدوّ خارجي! انتصروا على أنفسكم، فتغلبوا العالم كله! لأنه ما هو سلطان المجرِّب الخارجي عليكم، سواء أكان الشيطان أم خادمه؟ إن وُضع أمامكم الأمل بالربح بقصد إغرائكم للخطيّة لا يجد فيكم الطمع، فلا يقدر أن يفعل بكم شيئًا… أمّا إن وُجد فيكم الطمع، فإنكم تحترقون عند إغرائكم بالمكسب وتُصطادون بطعم فاسد… وإن وضع أمامكم نساء فائقات الجمال، فإن وُجد فيكم العفّة داخلكم تَغلبون الظلمة الخارجية. حاربوا شهواتكم الداخليّة فلا يقتنصكم بطُعم امرأة غريبة.
إنكم لا تدركون عدوّكم، لكنكم تُدركون شهواتكم… فلتسيطروا على ما تلمسونه داخلكم[65].
القدّيس أغسطينوس
- في هذه الكلمات يظهر عجز الخصم عن فعل أي شيء ضدّنا ما لم يسمح له الله بذلك، لهذا يتحوّل خوفنا وتقوانا وطاعتنا إلى الله، إذ في تجاربنا لا يصيبنا شيء لو لم يُعطَ سلطانًا من الله. هذا ما يؤكّده الكتاب الإلهي إذ يقول: “جاء نبوخذنصر ملك بابل على أورشليم وسباها والرب سلّمها ليده“ (راجع 2 مل 24: 11).
يعطي السلطان للشرّير بسبب خطايانا، كما قيل: “من دفع يعقوب إلى السلب وإسرائيل إلى الناهبين؟! أليس الرب الذي أخطأنا إليه، ولم يشاءوا أن يسلكوا في طرقه، ولم يسمعوا لشريعته، فسكب عليه حموّ غضبه؟!” (إش 42: 24). وعندما أخطأ سليمان وترك وصايا الرب وطريقه قيل: “وأقام الرب خصمًا لسليمان” (1 مل 11: 14).
يعطي السلطان ضدّنا بأسلوبين: إمّا للعقوبة عندما نخطئ، أو للمجد عندما نتزكّى، كما نرى ذلك في أمر أيوب إذ يقول الرب: “هوذا كل ما له في يديك، وإنما إليه لا تمد يدك” (أي 1: 12). ويقول الرب في إنجيله أثناء آلامه: “لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق” (يو 19: 11).
ونحن إذ نسأل ألا ندخل في تجربة إنّما نتذكّر ضعفنا، الذي لأجله نسأل لئلا يتّصف أحد بمهانة وفي كبرياء وعجرفة يظن في نفسه أنه شيء، ناسبًا لنفسه مجد الاعتراف (وسط الضيقة) والقدرة على الاحتمال، مع أن الرب يعلّمنا التواضع، قائلاً: “اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة، أمّا الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف” (مر 14: 38)[66].
- عندما نقول: “نجّنا من الشرّير” لا يبقى بعد شيء نطلبه. إذ نطلب من الله حمايتنا من الشرّير فيعطينا، فنقف في أمان وسلام ضدّ كل ما يصنعه الشيطان أو العالم ضدّنا. فإنه أي شيء يُرهب – في هذه الحياة – من كان الله هو حارسه؟
القدّيس كبريانوس[67]
ح. لأن لك المُلك والقوّة والمجد إلى الأبد، آمين
هذه الذكصولوجيّة التي هي تسبحة ختاميّة للصلاة الربّانيّة، يترنّم بها المؤمن بالفرح معلنًا أن لله المُلك والقوّة والمجد أبديًا. هذه التسبحة ينبغي أن تلازمها تسبحة عمل، فيُعلن المؤمن ملكوت الله وقوّته ومجده خلال سلوكه الذي يتناغم مع الذكصولوجيّة. وكأنه يقول مع المرتّل: “الأنهار لتصفق بالأيادي“ (مز 98: 8)، فإن القدّيسين كالأنهار لا يصفّقون بتسابيح صادرة عن الفم فحسب، وإنما تصدر أيضًا عن الأيادي، أي خلال حياتهم العمليّة. فمع قولنا “لك الملك” بألسنتنا نقدّم قلبنا لكي يملك عليه بالكامل، فلا يكون لغيره موضع فيه. ومع قولنا “لك القوّة” نتقبّل عمل الروح القدس الناري المعلن بقوّة خلال تقديسنا المستمر. ومع ترنُّمه “لك المجد” يدخل به الروح إلى الاتّحاد مع الله في ابنه، ليتلمّس أمجاد البنوّة، مدركًا ميراثه الأبدي المجيد!
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة أو الذكصولوجيّة الخالدة، قائلاً: [إن كان ضعفك متعدّد، لكن ثق أنه يملك عليك من له القوّة ليتمّم فيك كل شيء بسهولة… إنه ليس فقط يحرّرك من المخاطر التي تقترب إليك، وإنما يقدر أن يجعلك ممجّدًا وشهيرًا[68].]
وقد اعتادت الكنيسة أن تختم هذه الصلاة الربّانيّة قبل الذكصولوجيّة التي بين أيدينا بالقول “بالمسيح يسوع ربّنا”، وكأنها تقول مع القدّيس جيروم: [تطلّع إلينا فترى ابنك ساكنًا فينا[69].] إننا نصلّي إليك خلال ابنك، موضع سرورك.
يختم السيّد حديثه عن الصلاة بقوله: “فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضًا أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاّتكم” [14-15].
بعد عرضه الصلاة الربّانيّة اختار السيّد هذه العبارة وحدها من الصلاة، مؤكدًا أن الصفح عن خطايا الآخرين الموجّهة ضدّنا هي مفتاح الاستجابة لطلبات الصلاة الربّانيّة، فإن الله الذي يفتح أحضانه للجميع ويشتهي أن يعطي مجانًا بلا حساب لا يسمع لقلب مغلق نحو الإخوة، ولا يغفر لمن لا يغفر.
إنه يوجّهنا إلى التزامنا العملي حتى نقدر بالمسيح يسوع أن ننعم بالتشبيه بالله نفسه، وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إننا نبقى كأولاد الله ليس فقط خلال النعمة وحدها، وإنما أيضًا بأعمالنا (مغفرة الخطايا للآخرين). ليس شيء يجعلنا شبه الله مثل استعدادنا للصفح عن الأشرار وصانعي الإثم، وذلك كما سبق فعلَّمنا عندما تحدّث عن نفسه أنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين (مت 5: 45)[70].]
يقول القدّيس أغسطينوس: [لنأخذ في اعتبارنا اهتمام السيّد المسيح بالطلبة الخاصة بمغفرة خطايا الآخرين فوق كل الطلبات الأخرى، فهو يريد منّا أن نكون رحماء، حتى نهرب من الشقاء بغفران خطايانا. فبهذه الطلبة وحدها ندخل في ميثاق مع الله[71].]
يقول القدّيس كبريانوس: [لقد ربطنا هذا القانون بشرط معيّن وتعهّد أننا نسأل التنازل عن الدّين الذي علينا إن كنّا نتنازل عن المدينين لنا… لذلك يقول في موضع آخر: “بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم“ (مت 7: 2). العبد الذي صفح سيّده عن كل الدّين الذي عليه إذ لم يرِد أن يغفر للعبد زميله أُعيد إلى السجن ثانية، ففقد الصفح الذي وهبه إيّاه سيّده… هكذا ليس لك عذر في يوم الدين عندما يُحكم عليك. بنفس الحكم الذي تحكم به على الغير، فما تفعله أنت يرتدّ إليك[72].]
ترتيب الطلبات
يرى القدّيس أغسطينوس[73] وجود تمييز واضح بين الطلبات الخاصة بالحياة الأبديّة التي نترجّاها، والتي يبدأ تحقيقها من الآن وهي (ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض)، والطلبات التي تخص حياتنا الحاضرة، وهي (خبزنا اليومي، اغفر لنا ذنوبنا، لا تدخلنا في تجربة، نجّنا من الشرّير)، ففي الحياة الأبديّة لا نحتاج إلى خبز يومي، ولا نطلب غفرانًا، حيث لا نعود نخطئ، ولا يوجد مجرِّب يحاربنا، ولا نطلب نجاة من العدوّ الشرّير.
حقًا إن الصلاة الربّانيّة تمس حياتنا الروحيّة، في طلباتنا الثلاث الأولى ترتفع قلوبنا إلى الحياة السماويّة فتشتهيها التمتّع بعربونها ههنا، أمّا الطلبات الأربع الأخيرة وهي تمسّ حياتنا الروحيّة لكنها طلبات تنتهي بخروجنا من هذا الجسد وانطلاقنا من هذه الحياة الزمنيّة.
في الطلبات الثلاث الأولى تلتصق نفوسنا بالله أبينا. فنشتهي تقديس اسمه فينا، وحلول ملكوته داخلنا، وتكميل مشيئته فينا، الأمور التي تتلألأ مجدًا في الأبديّة، حيث تُعلن قداسة الله في كمال مجدها فينا، ويتجلّى ملكوته في عروسه المتّحدة به، وتتحقّق مشيئته في أبناء ملكوت بلا أدنى انحراف أو تهاون. حقًا إنه بقدر ما تتحقّق هذه الطلبات فينا ندخل بطريق أو آخر في الحياة الأخرويّة، وتتنهيّأ نفوسنا للمجد الأبدي، وننطلق إلى ما وراء الزمن ننعم بملكوته.
أما الطلبات الأربع فهي بحق إعداد لنا لهذه الحياة الأخرويّة، فنطلب الغذاء الروحي الذي يسندنا من يوم إلى يوم حتى نلتقي بالسيّد المسيح نفسه، خبزنا الحقيقي وجهًا لوجه، إنه غذاء روحي ثمين لكنّه مؤقت، ونطلب المغفرة كل يوم، مادمنا في الجسد هنا نتعرّض للضعفات المستمرّة، فنغفر لإخوتنا، وننعم نحن بالمغفرة في استحقاقات الدم الكريم، ونسأل بغير انقطاع أن يحفظنا الرب من الدخول في التجربة، وأن ينقذنا من العدوّ الشرّير حيث نوجد هنا في حالة حرب مستمرّة مع عدوّ الخير، أمّا في الأبديّة فليس من يسيء إلينا لنغفر له، ولا من خطايا نرتكبها فنطلب مغفرة، ولا من تجارب تحيط بنا، أو عدوّ يُسمح له بمصارعتنا.
- الصوم
لم يتعرّض السيّد المسيح لنظام الصوم عند اليهود، سواء الصوم الجماعي أو الخاص، فإن العيب ليس في النظام، وإنما في روح ممارستهم له. فقد اعتاد اليهود أن يصوموا يوميّ الاثنين والخميس كل أسبوع بخلاف الأصوام السنويّة العامة، والأصوام الخاصة عند حلول ضيقة. وكان يوما الاثنين والخميس هما يومي السوق بأورشليم، فيظهر البعض بثياب غير منسّقة وشعر غير مدهون ليظهروا صائمين أمام الناس وينالوا مجدًا. لهذا يقول السيد: “ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يغيّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين. الحق أقول لكم أنهم قد استوفوا أجرهم، وأما أنت فمتى صمت، فادهن رأسك، واغسل وجهك، لكي لا تظهر للناس صائمًا، بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانيّة” [16-18].
غاية الصوم هو نقاوة القلب، أو معاينة الله كأب يتقبّل حبّنا، لهذا يبذل عدوّ الخير جهده أن يفسد هذا العمل خلال تسلّل حب الظهور والرغبة في مديح الناس إلينا، فينحرف بالقلب بعيدًا عن الله، ويصير الصوم عملاً شكليًّا بلا روح، إننا لا نصوم من أجل الصوم في ذاته، ولا لأجل الحرمان، إنّما لأجل ضبط النفس وانطلاق القلب إلى الحياة السماويّة.
- لا نقرأ قط أن أحدًا سيُلام من أجل تناوله الطعام، إنّما يُدان من أجل ارتباطه به أو الاستعباد له[74].
الأب ثيوناس
- حب الظهور لا يكون فقط في التغالي والتفخيم في الأمور الجسديّة، بل ويكمن أيضًا في الأمور الوضيعة المحزنة (كالصوم)، وهذه تكون أكثر خطورة، لأنها تخدع الإنسان تحت اسم خدمة الله[75].
- نحن نغسل وجوهنا يوميًا، لكننا لا نُلزَم بدهن الرأس عند الصوم، لذلك فلنفهم الوصيّة على أنها غسل لوجهنا ودهن لرأسنا الخاص بالإنسان الداخلي…
فدهن الرأس يشير إلى الفرح، وغسل الوجه يشير إلى النقاوة. فعلى الإنسان أن يبتهج داخليًا في عقله بدهن رأسه الفائقة السموّ في الروح والتي تحكم وتدبّر كل أجزاء الجسم، وهذا يتحقّق للإنسان الذي لا يطلب فرحًا خارجيًا نابعًا عن مديح الناس…
يكون الفرح داخليًّا أثناء الصوم بابتعاده عن مسرّات العالم وبخضوعه للمسيح.
وهكذا أيضًا فليغسل وجهه، أي ينقي قلبه الذي يعاين الله، فلا يعود يوجد حجاب حاجز بسبب الضعف الناتج عن الضيق (الحزن)، بل يكون ثابتًا وقويًّا وقويُّا لنقاوته التي لا غش فيها.
يقول الرب: “اغتسلوا تنقّوا، اعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيّ” (إش 1: 16)، فتُغسل وجوهنا: “ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، فتغيّر إلى تلك الصورة عينها” (2 كو 3: 18)[76].
القديس أغسطينوس
- لا فائدة لنا من الصوم إلى اجتزناه سدى بدون تأمّل![77]
القديس يوحنا الذهبي الفم
- إشعياء النبي وهو يقيمهم من هذه الهُوّة (التعلّق بالجسديّات) كان يرفعهم ويجذب عقولهم إلى فوق بإعلان عظمة الصوم، فيدفعهم إلى التهليل الروحاني، ويطرد من أرواحهم الحزن والكآبة، وهو يصيح فيهم قائلاً:: “أمِثْل هذا يكون صوم اَختاره، يومًا يذلّل الإنسان فيه نفسه، يحني كالأسلة رأسه ويفرش تحته مسحًا ورمادًا؟!…” (إش 58: 5-9).
لذلك بينما كان ربّنا يُعلن بهاء الصوم وسروره، كان يأمر أيضًا بصوت واضح قائلاً: “وأمّا أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك” [ع 17]. فكان يشير إلى بريق الروح وطهارتها عن طريق الأعضاء الرئيسيّة في الجسم… ربّنا نفسه يأمر أن نغتسل ونتطهّر بامتناعنا عن الشرّ، ومن جهة أخرى أن نتزيّن ونضيء بممارستنا الخير الذي تنيره النعمة الروحيّة![78]
القدّيس ساويرس الأنطاكي
- العبادة السماويّة
بعد أن قدّم لنا السيّد المسيح الجوانب الثلاثة للعبادة المسيحيّة أراد توضيح غايتها، ألا وهي رفع القلب النقي إلى السماء، ليرى الله ويحيا في أحضانه، محذّرًا إيّانا ليس فقط من تحطيمها خلال “الأنا” وحب الظهور، وإنما أيضًا خلال “محبّة المال” التي تفقد القلب المتعبّد حيويّته وحريّته، إذ يقول السيد: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بلا اكنزوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون” [19-20].
من يتعبّد لله بقصد المجد الزمني الباطل يكون كمن جمع كنوزه على الأرض، سواء في شكل ثياب فاخرة يفسدها السوس، أو معادن تتعرّض للصدأ، أو أمور أخرى تكون مطمعًا للصوص. هكذا يرفع قلوبنا إلى السماء لننطلق بعبادتنا إلى حضن الآب السماوي، يتقبّلها في ابنه كسرّ فرح له وتقدِمة سرور، لا يقدر أن يقترب إليها سوس أو لصوص ولا أن يلحقها صدأ!
يقول القدّيس أغسطينوس: [إن كان القلب على الأرض، أي إن كان الإنسان في سلوكه يرغب في نفع أرضي، فكيف يمكنه أن يتنقّى، مادام يتمرّغ في الأرض؟ أمّا إذا كان القلب في السماء فسيكون نقيًا، لأن كل ما في السماء فهو نقي. فالأشياء تتلوّث بامتزاجها بالفضّة النقيّة، وفكرنا يتلوّث باشتهائه الأمور الأرضيّة رغم نقاوة الأرض وجمال تنسيقها في ذاته[79].]
يُعلّق أيضًا القدّيس أغسطينوس على حديث السيّد: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض”، قائلاً:
- لو أخبركم مهندس معماري أن منزلكم يسقط حالاً، أفلا تتحرّكون سريعًا قبل أن تنشغلوا بالنحيب عليه؟! هوذا مؤسّس العالم يخبركم باقتراب دمار العالم، أفلا تصدّقوه؟!… اسمعوا إلى صوت نبوّته: “السماء والأرض تزولان” (مت 24: 35)… استمعوا إلى مشورته!…
الله الذي أعطاكم المشورة لن يخدعكم، فإنكم لن تخسروا ما تتركونه، بل تجدوا ما قدّمتموه أمامكم… اعطوا الفقراء فيكون لكم كنز في السماء! لا تبقوا بلا كنز، بل امتلكوا في السماء بلا هّم ما تقتنونه على الأرض بقلق. أرسلوا أمتعتكم إلى السماء. إن مشورتي هي لحفظ كنوزكم وليس لفقدانها…
ينبغي علينا أن نضع في السماء ما نخسره الآن على الأرض. فالعدو يستطيع أن ينقب منازلنا، لكنّه هل يقدر أن يكسر باب السماء؟ إنه يقتل الحارس هنا، لكن هل يستطيع أن يقتل الله حافظها؟…
الفقراء ليسوا إلا حمّالين ينقلون أمتعتنا من الأرض إلى السماء. إذن فلتعطوهم ما لديكم فإنهم يحملونها إلى السماء… هل نسيتم القول: “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت… لأني جعت فأطعمتموني… وكل ما فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم” (مت 25: 34-40)[80].
القدّيس أغسطينوس
بهذه الوصيّة يرفع الرب عبادتنا للسماء، محذّرًا إيّانا من “المجد الباطل” ومقيمًا حراسًا عليها، ألا وهي أعمال الرحمة المملوءة حبًا. فالصدقة الحقيقية بمعناها الواسع والتي تضم العطاء المادي والمعنوي، ترفع القلب بعيدًا عن الزمنيّات المعنويّة والماديّة، وتحوّل أرصدته في السماء.
ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح يحدّثنا عن الحب والرحمة في دستوره الإلهي بطريقة تدريجيّة هكذا:
أولاً: قدّم لنا الرحمة كمبدأ عام نلتزم به.
ثانيًا: طالبنا بمصالحتنا لخصمنا، فلا حاجة للدخول مع أحد في منازعات، وإنما الرحمة تغلب (5: 23ـ 26).
ثالثًا: ارتفع بنا إلى ما فوق القانون، فبالحب ليس فقط نترك ثوبنا لمن ليس له الحق فيه، وإنما نقدّم معه رداءنا حتى نربح الخصم بحبّنا.
رابعًا: سألنا ألا نكنز على الأرض، فلا نقدّم أعمال الرحمة للخصم والمضايقين لنا فحسب، حتى لا ندخل معهم في نزاعات بل نكسبهم بالمحبّة، فتكون طبيعتنا هي العطاء بسخاء، كطبيعة داخليّة تنبع عن حنين مستمر لنقل ممتلكاتنا إلى السماء.
إذ يقدّم لنا السيّد هذا التوجيه يُعلن جانبه الإيجابي ألا وهو أنه بالعطاء نحوّل كنزنا إلى فوق في السماء، كما يوضّح جانبه السلبي مهدّدًا أن ما نتركه هنا يفسد بطريق أو آخر فنفقده إلى الأبد. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [أنه يجتذبهم، إذ لم يقل فقط إن قدّمت الصدقة تُحفظ لك بل هدّد بأنك إن لم تعطِ غناك الخ. إنّما تجمعه للسوس والصدأ واللصوص. وإن هربت من هذه الشرور لن تهرب من عبوديّة قلبك له فيتسمّر بالكامل أسفل، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا. إذن فلنُقِم المخازن في السماء[81].]
- البصيرة الداخليّة
تحدّث عن القلب الذي يلتصق بالكنز ويجري وراءه، مطالبًا إيّانا أن يكون مسيحنا هو كنزنا عِوض الكنز يحطّمه السوس والصدأ واللصوص، فيكون قلبنا على الدوام مرفوعًا إلى فوق حيث المسيح جالس، لهذا يحدّثنا عن “العين البسيطة” التي تجعل الجسد كلّه نيّرًا. ما هي هذه العين الداخليّة إلا القلب الذي وحده يقدر أن يرى أسرار الكنز السماوي، فيجذب نحو السماويات، ولا يتذبّذب بين النور الأبدي ومحبّة الفانيات.
“سراج الجسد هو العين،
فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كلّه يكون نيّرًا،
وإن كانت عينك شرّيرة فجسدك كلّه يكون مظلمًا،
فإن كان النور الذي فيك ظلامًا، فالظلام كم يكون؟!” [22-23]
العين هي مرشد الجسد كلّه لينطلق إلى هنا أو هناك، فإن ارتفعت نحو السماء انطلق الإنسان كلّه بعبادته وسلوكه كما بأحاسيسه ومشاعره نحو السماويات، أمّا إن اِنحنت نحو الأرض لتصير أسيرة حب المجد الباطل أو رياء الفرّيسيّين أو حب الغنى الزمني، لا يمكن للإنسان مهما قدّم من عبادات أن يرتفع إلى فوق. يشبّه القدّيس يوحنا الذهبي الفم العين بالقائد الذي إن سقط أسيرًا ماذا ينتفع الجند بالذهب؟ وربّان السفينة الذي إن بدأ يغرق ماذا تنتفع السفينة بالخيرات الكثيرة التي تملأها؟! حقًا كثيرون قد جمعوا ذهب الصداقة والصلاة والصوم وظنّوا أن سفينتهم مشحونة بالأعمال الصالحة، ولكن بسبب فساد قلبهم وظلمة بصيرتهم الداخليّة يبقون بعيدًا عن الميناء الآمن وتغرق بكل ما تحمله! لهذا يفسر القدّيس أغسطينوس العين البسيطة بنيّة القلب الداخلي التي تقود كل تصرفاتنا، إذ يقول: [نفهم من هذه العبارة أن جميع أفعالنا تكون نقيّة ومرضية في نظر الله إن صنعناها بقلب بسيط، أي إن جميع أفعالنا تكون نقيّة ومرضيّة في نظر الله إن صنعناها بقلب بسيط، أي إن كان هدفنا فيها سماويًا، متطلّعين إلى تلك الغاية التي هي المحبّة، لأن “المحبّة هي تكميل الناموس” (رو 13: 10). من ثم فلنفهم “العين” هنا على أنها “النيّة التي نصنع بها أفعالنا”، فإن كانت نيّتنا نقيّة وسليمة، أي ناظرين إلى السماويات، فستكون جميع أعمالنا صالحة، هذه التي لقّبها الرب “جسدك كلّه”، لأنه عندما حدّثنا الرسول عن بعض أعمالنا القبيحة، دعاها أيضًا (أعضاء لنا)، إذ علّمنا أن نصلبها قائلاً: “فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض، الزنا النجاسة… الطمع“ (كو 3: 5)، وما على شاكلة ذلك[82].]
ويرى الأب موسى أن العين البسيطة تُشير إلى روح التمييز أو الحكمة، [لأنها هي التي تميّز كل الأفكار والأعمال، وترى كل شيء وتراقب ما سيحدّث. فإن كانت عين الإنسان شرّيرة، أي غير محصّنة بصوت الحكمة والمعرفة، مخدوعة ببعض الأخطاء والعجرفة (في العبادة) فإنها تجعل جسدنا كلّه مظلمًا، أي يظلم كل نظرنا العقلي، وتصير أعمالنا في ظلام الرذيلة ودجى الإضرابات، إذ يقول: “فإن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟” [23]. فلا يستطيع أحد أن يشك في أنه متى كان “الحكم في الأمور” في القلب خاطئًا، أي متى كان القلب مملوء جهالة، تكون أفكارنا وأعمالنا – التي هي ثمرة التمييز والتأمّل – في ظلام الخطيّة العُظمى[83].]
إن كان “البسيط” هو عكس “المُركّب أو المُعقّد”، فإن العين البسيطة إنّما هي التي لا تنظر في اتّجاهيّن، ولا يكون لها أهداف متضاربة بل لها اتّجاه واحد وهدف واحد… وكما يقول مار فيلوكسينوس: [لقد أعطانا ربّنا مبدأ سهلاً في بشارته ألا وهو الإيمان الحق البسيط، فالبساطة ليست هي المعروفة في العالم بالبلادة والخرافة بل هي فكر واحد بسيط فريد[84].]
- العبادة ومحبّة المال
إن كان غاية العبادة هي الالتقاء مع الله أبينا السماوي لنحيا معه في ابنه إلى الأبد، فإنه يسألنا أن نحيا بالعين البسيطة التي لا تعرج بين السماء والأرض، فيرتفع الجسد كلّه مع القلب إلى السماء. أمّا العدوّ الأول للبساطة فهو “حب المال” الذي تنحني له قلوب الكثيرين متعبّدة له عِوض الله نفسه، ويجري الكثيرون نحوه كعروسٍ تلتصق بعريسها عِوض العريس السماوي. إنه يقف منافسًا لله نفسه يملك على القلب ويأسره، وهنا يجب التأكيد أننا لا نتحدّث عن المال في ذاته وإنما “حب المال”.
“لا يقدر أحد أن يخدم سيّدين،
لأنه إمّا أن يبغض الواحد ويحب الآخر،
أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر،
لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” [24].
كلمة المال هنا “Mammon” كلمة عبريّة تُشير إلى المقتنيات الماديّة بشكل عام، وكانت في الأصل تُشير إلى ما يعتزّ به الإنسان من مال ومقتنيات، لكنها تطوّرت لتعني المال كإله يُستعبد له الإنسان.
- يُسمى حب المال سيدًا ليس بطبيعته الخاصة به، وإنما بسبب بؤس المنحنين له. هكذا أيضًا تُدعى البطن إلهًا (في 3: 19) ليس عن كرامة هذه السيدة، وإنما بسبب بؤس المستعبدين لها[85].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- من يخدم المال يخضع للشيطان القاسي المهلك، فإذ يرتبك بشهوته للمال يخضع للشيطان ويلازمه رغم عدم محبّته له، لأنه من منّا يحب الشيطان؟ ويكون بذلك يشبه إنسانًا أحب خادمة لدى شخص عظيم، فرغم عدم محبته لسيدها إلا أنه يخضع لعبوديته القاسية بسبب محبته للخادمة [86].
القدّيس أغسطينوس
المال ليس في ذاته إلهًا، ولا هو شرّ نتجنّبه، إنّما يصير هكذا حينما يسحب القلب إلى الاهتمام به والاتكال عليه، فيفقده سلامه ويدخل به إلى ظلمة القلق؛ يفقده النظرة العميقة للحياة ليرتبك بشكليّاتها. عِوض الاهتمام بالحياة ذاتها ينشغل بالأكل والشرب، وعِوض الاهتمام بالجسد كعطيّة مقدّسة وأعضاء تعمل لخدمة القدّوس يهتم بالملبس. هكذا بالمحبّة المال تحصر الإنسان خارج حياته الحقيقية: نفسه وجسده، ليرتبك بأمور تافهة باطلة وزائلة. يقول السيد: “لذلك أقول لكم لا تهتمّوا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام؟! والجسد أفضل من اللباس؟!“ [25]. ويُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم هكذا: [لا يقف الضرر عند الغنى ذاته، وإنما يبلغ الجرح إلى الأجزاء الحيويّة الذي فيه تفقدون خلاصكم، إذ يطردكم خارج الله الذي خلقكم ويهتم بكم ويحبّكم[87].] ويقول القدّيس أغسطينوس: [فبالرغم من أننا لا نطلب الكماليّات (بل الأكل والشرب والملبس)، لكن نخشى من أن يصير قلبنا مزدوجًا حتى في طلب الضروريّات. فنحن نخشى أن ينحرف هدفنا إلى طلب ما هو لصالحنا الخاص، حتى عندما نصنع رحمة بالآخرين مبرّرين ذلك بأنّنا نطلب الضروريّات لا الكماليّات. لقد نصحنا الرب أن نتذكّر أنه عندما خلقنا وهبنا جسدًا وروحًا، وهما أفضل من الطعام واللباس، وبذلك لم يشأ أن تكون قلوبنا مزدوجة[88].]
- وُضع علينا أن نعمل (من أجل الضروريّات) لكن لا نقلق[89].
القدّيس جيروم
- لا يُطلب الخبز خلال قلق الروح بل تعب الجسد. والذين يجاهدون حسنًا ينالونه بوفرة كمكافأة لعملهم، ويُنزع عن الكسلان كعقوبة من الله[90].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
في الوقت الذي فيه يُعلن السيّد ما تفعله محبّة المال في الإنسان، حيث تسحبه من خلاصه وتربكه في الأمور الزمنيّة الباطلة، يوضّح مدى رعايته هو بالإنسان ليس فقط بروحه وجسده، أو حتى أكله وشربه وملبسه، وإنما يهتم حتى بطيور السماء وزنابق الحقل التي خلقها لأجل الإنسان، حقًا ربّما تبدو الطيور ليست بضروريّة لنا وأيضًا زنابق الحقل، لكن الله الذي خلق العالم كلّه لخدمتنا يهتم بأموره كلها. وإذ أراد السيّد أن يسحبنا تمامًا من حياة القلق التي تخلقها محبّة المال، تساءل إن كان أحد منّا يقدر أن يزيد على قامته ذارعًا واحدًا؟
“انظروا إلى طيور السماء.
أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن،
وأبوكم السماوي يقوتها.
ألستم أنتم بالأحرى أفضل منها؟!
ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدًا؟
ولماذا تهتمّون باللباس؟
تأمّلوا زنابق الحقل كيف تنمو، لا تتعب ولا تحصد،
ولكن أقول لكم أنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها.
فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويُطرح غدًا في التنّور يلبسه الله هكذا،
أفليس بالأحرى يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟
فلا تهتمّوا قائلين: ماذا نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟
فإن هذه كلها تطلبها الأمم،
لأن أباكم السماوي يُعلّم أنكم تحتاجون إلى هذه كله” [26-33].
- إن كان الله يهتم بهذه الأمور التي خُلقت اهتمامًا عظيمًا، فكم بالأكثر يهتم بنا؟! إن كان يهتم هكذا بالعبيد فكم بالأكثر بالسيد؟![91]
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- إن كنّا لا نقدر أن نعمل بسبب مرض ما أو بسبب الانشغال فإنه يقوتنا كما يقوت الطيور التي لا تعمل. لكن إن كان يمكننا العمل يلزمنا ألا نُجرِّب الله، لأن ما نستطيع أن نعمله إنّما نعمله خلال عطيّته. حياتنا على الأرض هي عطيّته، إذ يهبنا الإمكانيّة للحياة![92]
القدّيس أغسطينوس
إن كان الله يُطعم الطيور ويقدّم القوت اليومي للعصافير ولا يترك الخليقة التي لا تدرك الإلهيّات في عوز إلى مشرب أو مأكل، فهل يمكنه أن يترك إنسانًا مسيحيًا أو خادمًا للرب معتازًا إلى شيء؟ إيليّا عالته الغربان في البرّيّة، ودانيال أُعد له لحم من السماء وهو في الجب، فهل تخشى الاحتياج إلى طعام؟
- إنك تخشى َفقدان ممتلكاتك عندما تبدأ أن تعطي بسخاء، ولا تعلم أيها البائس أنك فيما تخاف على ممتلكات عائلتك تفقد الحياة نفسها والخلاص. بينما تقلق لئلا تنقص ثروتك لا تُدرك أنك أنت نفسك تنقص!… بينما تخشى أن تفقد ميراثك لأجل نفسك إذا بك تفقد نفسك لأجل ميراثك![93]
القدّيس كبريانوس
- إن كانت الطيور بلا تفكير أو اهتمام والتي توجد اليوم ولا تكون غدًا يعولها الله بعنايته كم بالأحرى يهتم بالبشر الذين وعدهم بالأبديّة؟![94]
القدّيس جيروم
- الله هو الذي ينمّي أجسادكم كل يوم وأنتم لا تُدركون. فإن كانت عناية الله تعمل فيكم يوميًا، فكيف تتوقّف عن إشباع احتياجكم؟ إن كنتم لا تستطيعون بالتفكير أن تضيفوا جزءًا صغيرًا إلى جسدكم فهل تقدرون بالتفكير أن تهتمّوا بالجسد كله؟[95]
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- الزنابق تمثّل جمال الملائكة السمائيّين البهي، الذين ألبسهم الله بهاء مجده، إنهم لم يتعبوا ولا غزلوا، إذ تقبّلوا من البدء ما هم عليه دائمًا. وإذ في القيامة يصير الناس كالملائكة أراد أن نترجّى جمال الثوب السماوي، فنكون كالملائكة في البهاء[96].
القدّيس هيلاري
- الرهبان على وجه الخصوص هم طيور من هذا النوع، ليس لهم مخازن ولا خزائن لكن لهم رب المؤن والمخازن، المسيح نفسه!… ليس لهم غنى الشيطان (محبّة الغنى) بل فقر المسيح. ماذا يقول الشيطان؟ “أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي“ (مت 4: 9). أمّا المسيح فماذا يقول لتابعيه؟ من لا يبيع كل ما له ويعطي الفقراء لا يقدر أن يكون تلميذًا. الشيطان يعد بمملكة وغنى ليحطّم الحياة، والرب يعد بالفقر لكي يحفظ الحياة! [97]
القدّيس جيروم
يختم السيّد حديثه عن العبادة الحرّة التي لا يأسرها محبّة المال، فيعيش الإنسان في كمال الحرّية متّكئًا على الله لا المال، موضّحًا ضرورة الحياة بلا قلق، إذ يقول: “لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذه كلها تُزاد لكم؛ فلا تهتمّوا للغد، لأن الغد يهتم بما لنفسه؛ يكفي اليوم شرّه” [33-34].
- ملكوت الله وبرّه هو الخبز الذي نسعى إليه، والذي نقصده من كل أعمالنا. ولكننا إذ نخدم في هذه الحياة كجنود راغبين في ملكوت السماوات نحتاج إلى الضروريّات اللازمة للحياة، لذلك قال الرب: “هذه كلها تزاد لكم”، “ولكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره”.
فبقوله كلمة “أولاً” أشار إلى طلبنا هذه الأشياء، ولكننا لا نطلبها أولاً، لا من جهة الزمن بل حسب الأهمّية، فملكوت الله نطلبه كخير نسعى نحوه، أمّا الضروريّات فنطلبها كضرورة نحتاج إليها لتحقيق الخير الذي نسعى نحوه[98].
القدّيس أغسطينوس
يرى القدّيس جيروم في القول: “لا تهتمّوا بالغد” دون قوله “تهتمّوا باليوم” تشجيع للعمل والجهاد الآن بغير تواكل، إذ يقول: [قد يسمح لنا أن نهتم بالحاضر ذاك الذي يمنعنا من التفكير في المستقبل، حيث يقول الرسول: “عاملون ليلاً ونهارًا كي لا نثقل على أحدٍ منكم“ (1 تس 2: 9)[99].]
وفي قوله “يكفي اليوم شرّه” لا يعني بالشرّ الخطيّة، وإنما بمعنى “التعب”، فلا نهتم بما سنتعبه غدًا، إنّما يكفي أن نتعب اليوم ونجاهد، وكأن الله وهو يمنعنا من القلق يحثّنا على الجهاد.
[1] Sermon on Mount 2:8.
[2] In Acts, hom., 5.
[3] الحب الأخوي، 1964، ص 129.
[4] الحب الأخوي، 1964، ص 164.
[5] الأعمال والصدقّة 24.
[6] In Matt., hom., 19:4.
[7] Ep. 52:13.
[8] In Matt., hom., 19:3.
[9] In Matt., hom., 19:3.
[10] Cassian: Conf. 9:35.
[11] In Matt 6:8
[12] On Lord’s Prayer 3.
[13] Ser. On Mount 2:15.
[14] Cassian: Conf. 9:18.
[15] Ser. on N. T. 6-9.
[16] PG 13:1599.
[17] De Decretics 7.
[18] Lord’s Prayer 10, 11.
[19] In Matt. hom 19:6.
[20] Ser. on N. T. 6-9.
[21] Lord’s Prayar 8.
[22] Ser. on Mount 2:17.
[23] On Prayer 22:3.
[24] In Matt. hom 19:7.
[25] Cassian: Conf. 9:18.
[26] Ser. on N. T. 6-9.
[27] In Matt 6:9.
[28] Lord’s Prayer 12.
[29] Cassian: Conf. 9:20.
[30] In Matt. Hom., 19:7.
[31] Ser. On N. T. 6-9.
[32] On Prayer 25:1.
[33] On Matt. 6:10.
[34] Treat. 4:19.
[35] Lord’s Prayer 13.
[36] Lord’s Prayer, 14.
[37] Cassian: Conf. 9:20.
[38] Ser. On. N. T. 6-9.
[39] On Ps. hom 58.
[40] On Prayer 26:6.
[41] Ser. on N. T. 6-9.
[42] On Lord’s Prayer 16.
[43] Ser. on N. T. 6-9.
[44] On Prayer 26:6.
[45] Ser. on N. T. 6-9.
[46] On Lord’s Prayer 17.
[47] Ser. on Mount 2:25.
[48] Ser. on Mount 2:26.
[49] Ser. on Mount 2:27.
[50] Ser. on N. T. 6-9.
[51] Ser. on N. T. 6-9.
[52]Treat. 4:18.
[53] Ser. on N. T. 6-9.
[54] On Prayer 27:2,6.
[55] Ser. on N. T. 6-9.
[56] On Ps. hom 17.
[57] On Prayer, 27:8.
[58] On Prayer, 27:13.
[59] James Strong: Greek Dict. of N. T. , article 1967, 1966, 1909, 1910,
[60] Adv. Jov. 2:3.
[61] Cassian: Conf. 9:22.
[62] Ser on N. T. 6-9.
[63] On Lord’s Prayer 22.
[64] Cassian: Conf. 9:23.
[65] Ser. on N. T. 6-9.
[66] Lord’s Prayer, 25,26.
[67] Lord’s Prayer, 27.
[68] In Matt. hom 19:10.
[69] On Ps. hom 16.
[70] On Matt. hom 19:11.
[71] Ser. on Mount 2:39.
[72] On Lord’s Prayer 23.
[73] Ser. on Mount 2:36.
[74] Cassian: Conf. 21:13.
[75] Ser. on Mount 2:41.
[76] Ser. on Mount 2:42.
[77] المطران أبيفانيوس الأماني الذهبيّة من مقالات إكليل في القدّيسين يوحنا الذهبي الفم، 1972، ص59.
[78] الصوم (الشماس يوسف حبيب)، ص16-17.
[79] Ser. on Mount 2:44.
[80] Ser. on N. T. 10.
[81] In Matt. hom 20:2,3.
[82] Ser. on Mount. 2:45.
[83] Cassian: Conf 2:2.
[84] دير السريان، الآباء الحاذقون في العبادة، ج 1 ميمر 1.
[85] In Matt. hom 21:2.
[86] Ser. on Mount. 2:47.
[87] In Matt. hom 21:4.
[88] Ser. on Mount 2:49.
[89] Catena Aurea.
[90] Opus Imperf. 16.
[91] In Matt. hom 21:4.
[92] On herec. c. 23.
[93] Almsgiving 11,12.
[94] Catena Aurea.
[95] Opus Imper. 16.
[96] Catena Aurea.
[97] On Ps., homily 54.
[98] Sermon on Mount, 5:53.
[99]In Matt. 6:34.