تفسير انجيل متى – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى – المقدمة – القمص تادرس يعقوب ملطي
من تفسير وتأملات الآباء الأولين
الإنجيل بحسب القديس متى
القمص تادرس يعقوب ملطي
كنيسة الشهيد مار جرجس بإسبورتنج
بسم الآب والابن والروح القدس الله الواحد آمين
الإنجيل المقدس هو البشارة المفرحة التي يقدمها لنا الروح القدس ليدخل بنا إلى الاتحاد مع الآب في المسيح يسوع مخلصنا. حقا ما أعذب للنفس أن تتذوقه، وللقلب أن ينفتح له، وما أصعب على القلم أن يعبر عنه، واللسان أن ينطق به.
إنني إذ أقدم هذا العمل المتواضع أود ألا ندخل في دراسات عقلية بحتة، ولا في معرفة نظرية لأقوال الآباء الأولين فيه، إنما أن نتمتع بخبرة آبائنا الحية والمفرحة وسط ضيقات هذا العالم، فنعيش إنجيلنا، ويلتهب قلبنا بناره المقدسة، فندخل إلى أعماق جديدة لملكوت الله المفرح.
إبريل 1982م
القمص تادرس يعقوب ملطي
سر الكلمة المكتوبة
كان الإنسان فكرة في عقل الله حين خلق العالم كله من أجله، وإذ أقامه في الفردوس كان يلتقي به خلال أحاديث مشتركة سرية. كان آدم يسمع “صوت الرب الإله ماشيا في الجنة” (تك 3: 8)، فينجذب إليه ليناجيه، يسمعه ويتكلم معه، يتقبل الحب بالحب!
أما بعد السقوط فصارت كلمة الله بالنسبة للإنسان مرهبة ومخيفة: “سمعت صوتك في الجنة فخشيت” (تك 3: 10). كان الله يتكلم والإنسان لا يقدر أن يسمع، وإن سمع فلا يقدر أن يتجاوب معه! تحول قلب الإنسان عن الحب المملوء حنانا إلى حجر بلا إحساس، وأمام هذا التحول تقدم الله إلى الإنسان ليهبه كلمته منقوشة بإصبعه على لوحي الحجر، وكأنها على قلبه الحجري. لقد أراد أن يخترق القلب الحجري ليسجل بإصبعه أيضا روحه القدوس كلماته لعل الإنسان يقدر أن يتذوقها ويتجاوب معها؛ وكأن الكلمات الإلهية المكتوبة إنما جاءت كعلاج لضعفنا البشري.
وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أن نعمة الله كانت كافية أن تعمل في قلوبنا ككتاب حي نقرأه، لكننا إذ لم نتجاوب مع نعمته التزم من أجل محبته أن يقدم كلمته مكتوبة.] إنه يقول: [يا له من شر عظيم قد أصابنا! فإنه إذ كان ينبغي علينا أن نعيش بنقاوة هكذا فلا نحتاج إلى كلمات مكتوبة إنما نخضع قلوبنا للروح ككتب! أما وقد فقدنا هذه الكرامة صرنا في حاجة إلى هذه الكتب[1].]
إن كان من أجل ضعفنا قدم لنا الله كلمته مكتوبة لكي نحفظها، فإن الله يهبنا نعمته لكي تتحول الكلمة إلى حياة فينا وعمل، فتسجل بالروح في قلوبنا وتعلن في تصرفاتنا. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حقا يليق بنا لا أن نطلب معونة الكلمة المكتوبة فحسب، وإنما أن نظهر حياتنا نقية هكذا، فتكون لنا نعمة الروح عِوض الكتب بالنسبة لنفوسنا. فكما كتب بالحبر في الكتب هكذا تسجل بالروح في قلوبنا[2].]
ويرى القديس أغسطينوس[3] أن الله قدم لنا كلمته المكتوبة كمصابيح مضيئة تشهد للنهار الأبدي، قدمها من أجل ضعفنا لتنير لنا نحن الذين كنا قبلا في الظلمة وأما الآن فنور في الرب (أف 5: 8). بالكلمة المكتوبة صرنا أبناء للنور لكي ندخل إلى بهاء النور الكامل في يوم الرب العظيم، ونلتقي بالكلمة الإلهي ذاته وجها لوجه.
مقدمة عامة في الأناجيل الأربعة
- كلمة “إنجيل”
لكي نتعرف عن السبب الذي لأجله دعت الكنيسة الأسفار الأربعة الأولى من العهد الجديد بالأناجيل المقدسة، يليق بنا أن نعرف ماذا تعني كلمة “الإنجيل” في ذهن الكنيسة الأولى.
كلمة “إنجيل” مشتقة عن الكلمة اليونانية “إيفانجيليون”، والتي حملت في الأصل معان كثيرة، منها[4]:
أ. من الناحية اللغوية تعني المكافأة التي تقدم لرسول من أجل رسالته السارة، ثم صارت تطلق على الأخبار السارة عينها. كما جاء في 2 صم4: 10 (الترجمة السبعينية) “إن الذي أخبرني قائلا هوذا قد مات شاول وكان في عيني نفسه كمن يقدم لي أخبارا سارة (إنجيلا)”، وجاءت في 1 صم31: 9 (الترجمة السبعينية) عن أخبار النصر المفرحة، وفي إر 20: 15 (الترجمة السبعينية) عن ميلاد طفل[5].
ب. استخدمت أيضا في صيغة الجمع لتعني تقدمة شكر للآلهة من أجل الأخبار السارة.
ج. استخدمت عن يوم ميلاد الإمبراطور الروماني أوغسطس كبدء أخبار سارة للعالم.
د. استخدمت في سفر إشعياء في الترجمة السبعينية عن الأخبار السارة الخاصة بمجيء الممسوح من قبل الله لخلاص شعبه: “على جبل عال اصعدي يا مبشرة (مقدمة الإنجيل) لصهيون” (إش 40: 9)؛ “ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام (المخبر بإنجيل السلام)، المبشر بالخير، المخبر بالخلاص، القائل لصهيون قد ملك إلهك” (إش52: 7).
هـ. أما في العهد الجديد فقد احتلت الكلمة مركزا أساسيا بكونها تعبر عن الرسالة المسيحية في مجملها (مر1: 1؛ 1كو15: 1)، فإن الملكوت الذي أعلنه السيد المسيح هو “بشارة الملكوت أو إنجيل الملكوت” (مت4: 23؛ 9: 35؛ 24: 14). وقد تكررت هذه الكلمة 72 مرة في العهد الجديد، منها 54 مرة في رسائل بولس الرسول، لتعبر عن أخبار الخلاص المفرحة التي قدمها لنا الله في ابنه يسوع المسيح ليدخل بنا إلى حصن أبيه بروحه القدوس.
ارتبطت كلمة “إنجيل” ببعض الأسماء أو الكلمات مثل[6]:
أولا: إنجيل الله (مر1: 14-15؛ 1تس2: 2، 8-9)، فإنه البشارة التي تعلن طبيعة الله كمحب للبشر، مقدمة منه لأجل خلاصنا. لقد تصور بعض الغنوسيين أن الله غضوب ومؤدب قاسِ أما المسيح فهو محب ومفرح، لهذا أراد الكتاب المقدس تأكيد البشارة المفرحة أنها بشارة الآب معلنة في ابنه. ولهذا السبب عينه كان السيد المسيح يؤكد أنه جاء يتمم مشيئة الآب.
ثانيا: إنجيل يسوع المسيح (مر1: 1؛ 2كو4: 4؛ 9: 13؛ 10: 14). إن كان الابن قد جاء ليعلن محبة الآب لنا، فهو يحمل ذات الحب؛ إنجيل الآب هو إنجيل الابن، يدخل بنا إلى الاتحاد مع الله في ابنه.
ثالثا: أحيانا يستخدم الرسول بولس التعبير “إنجيلي” أو “إنجيلنا” (2كو4: 3؛ 1تس1: 5؛ 2تس2: 14). غاية الإنجيل هو الإنسان، إذ يريد الله أن ننعم به ونعيشه، فإن كان هو هبة إلهية لكنه مقدم للإنسان ليقبله ويؤمن به (مر1: 15)، ويعلنه للآخرين (رو15: 19؛ 1كو9: 14، 18؛ 2كو10: 14؛ 11: 7؛ غل2: 2) ويخدمه (رو1: 1؛ 15: 16؛ في1: 12؛ 2: 22؛ 4: 3؛ 1تس3: 2)، وندافع عنه (في1: 7، 17) بحياتنا الداخلية وكلماتنا وسلوكنا العملي فلا نكون عائقين له (1كو9: 12) بهذا يحمل الإنجيل ليس حبا منفردا من الله نحو الإنسان، وإنما حبا مشتركا بين الله والإنسان، فيه لا يقف الإنسان سلبيا أو جامدا، بل إيجابيا ومتحركا بغير انقطاع ليصير على مثال خالقه.
رابعا: إنجيل جميع الناس (مر13: 10؛ 16: 15؛ أع15: 7)، فلا تقف حدوده عند اليهود، بل يضم كل لسان وجنس وأمة، ليتعرف الكل على الله، ويتمتعون بالاتحاد معه، وينعمون بحقِه في الميراث الأبدي.
بهذا نفهم الإنجيل ليس كتابا نقرأه أو فلسفة نعتنقها، لكنه حب إلهي فعال يقدمه الآب في ابنه يسوع المسيح ربنا لينطلق بالنفس البشرية إلى حضن الآب تنعم به معلنة حبها له وإيمانها به، وهي في هذا تنطلق للكرازة به والشهادة له أمام الجميع بلا عائق.
أخيرا فقد قدم لنا الرسول بولس صفات ربطها بالإنجيل، تكشف لنا عن فاعليته في حياتنا. دعاه “إنجيل خلاصنا” (أف1: 13) حيث ننعم بغفران خطايانا ونتبرر من سلطانها لنحيا بروح النصرة والغلبة. و”إنجيل السلام” (أف6: 15) حيث يدخل بنا إلى السلام الداخلي بين النفس والجسد خلال مصالحتنا مع الله والناس فيه. كما قال “نوال موعده في المسيح بالإنجيل” (أف3: 6)، ففيه تتحقق مواعيد الله لنا في ابنه. وفي اختصار، بالإنجيل نلتقي بالسيد المسيح القائم من الأموات الذي يهبنا الرجاء والخلود والميراث ويمتعنا لا بعطايا إلهية فحسب بل بالله ذاته!
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على تفسير كلمة “إنجيل” كأخبار مفرحة بقوله:
[نعم، لأنه عفو عن العقوبة، وغفران للخطايا، وتبرير وتقديس وخلاص (1كو1: 30)، وتبني، وميراث السماوات، ودخول في علاقة مع ابن الله الذي جاء ليعلن (ذلك) للكل: للأعداء والصالبين وللجالسين في الظلمة.
أي شيء يعادل مثل هذه الأخبار المفرحة؟! فقد صار الله على الأرض، وصار الإنسان في السماء، واختلط الكل معا.
اختلطت الملائكة مع صفوف البشر، وصار البشر في صحبة الملائكة والقوات العلوية الأخرى.
هوذا الإنسان يرى الحرب الطويلة قد انتهت، وتحققت المصالحة بين الله وطبيعتنا. صار إبليس في خزي، وهربت الشياطين، وباد الموت، وانفتح الفردوس، وزالت اللعنة، ونزعت الخطية من الطريق.
زال الخطأ وعاد الحق وبذرت كلمة التقوى في الموضع وترعرعت، وأقيم نظام السمائيين (العلويين) على الأرض، ودخلت هذه القوات معنا في معاملات آمنة، وصارت الملائكة تردد على الأرض باستمرار، وفاض الرجاء في الأمور العتيدة بغزارة[7].]
- أهمية الأناجيل
إن كانت الكنيسة قد عاشت أكثر من عشرين عاما بعد حلول الروح القدس يوم البنطقستي بلا إنجيل مكتوب لكنها عاشت الإنجيل ومارسته كحياة فائقة في المسيح يسوع، فلماذا لم تبق الكنيسة عبر العصور تعيش إنجيلها المسلم شفاها؟! هل من ضرورة للإنجيل المكتوب؟
أ. يقول[8] D. Guthrie أن التقليد الشفوي كان له أهميته الخاصة في الكنيسة وبخاصة في الشرق، وقد جاء الإنجيل المكتوب لا ليحتل مكان التقليد، إنما ليكمله ويؤكده. فالإنجيل يحفظ التقليد بلا انحراف، والتقليد يفرز الأناجيل القانونية ويحفظها بلا تحريف ويكشف عن مفاهيمها. فلا تعرف الكنيسة الثنائية، إنما تعرف إنجيلا واحدا سواء سلم إليها بالتقليد الشفوي أولا بالكتابة، تعيشه في أفكارها وعبادتها وسلوكها كحياة معاشة[9]. بهذا تلقفت الكنيسة الإنجيل ليؤكد حياتها الإنجيلية المسلمة إليها والمعاشة.
ب. للأناجيل أهميتها، خاصة بين أسفار الكتاب المقدس كله، لأنها قدمت لنا حياة السيد المسيح على الأرض، هذا الذي هو مشتهى الأمم، مخلص الكنيسة وعريسها، وموضوع لهجها ليلا ونهارا. لكن ما نود تأكيده أن الأناجيل ليست سجلا تاريخيا يعرض حياة biography السيد المسيح، إنما قدم ما هو أعمق من التاريخ، قدم لنا “شخص المسيح” لنقبله فينا ونحيا به ومعه، نشاركه آلامه وأمجاده؛ لهذا ركزت الأناجيل على فترة وجيزة من حياته واحتلت أحداث الأسبوع الأخير من دخوله إلى أورشليم حتى قيامته حوالي ثلث إنجيل مار مرقس وأقل من الثلث بقليل في بقية الأناجيل.
ج. إذ كان المسيحيون في القرنين الأول والثاني يترقبون المجيء الأخير للسيد المسيح، تلقفوا الأناجيل بشوق شديد بكونها الطريق الممهد لباروسيا الرب أو مجيئه الأخير.
د. من جهة الكرازة بين اليهود والأمم، كان الكارزون غالبا ما يعتمدون على التعليم شفاها، لكن ما أن كان يظهر الموعوظ رغبته في الإيمان ويبدأ يتساءل عن شخص السيد المسيح، إلا وكانت الأناجيل (وهي وثائق رسولية أصلية) تجيب على سؤالهم هذا. كأن الأناجيل جاءت كشهادة حق تستخدمها الكنيسة في الكرازة والتعليم خاصة بين الموعوظين.
يرى D. Guthrie أن الأناجيل لم تقف عند الدور الكرازي والتعليمي، وإنما جاءت لتقوم بدور رئيسي في حياة الكنيسة التعبدية[10]. إذ كانت الكنيسة تجتمع للعبادة استخدمت أجزاء من العهد القديم للقراءة والتسبيح، خاصة الفصول التي تتحدث عن السيد المسيح، لكن المؤمنين كانوا في حاجة إلى وثائق رسولية تتحدث عن حياة السيد المسيح وتعاليمه ومعجزاته وموته وقيامته، تعلن تحقيق ما ورد في العهد القديم، تدخل في العبادة المسيحية كعنصر أساسي فيها.
بهذا تكون الأناجيل قد تلقفتها الكنيسة الأولى بفرح شديد، وتمسكت بها، بكونها تؤكد الإنجيل المسلم إليها شفاها، وبكونها المصدر الرسولي للكشف عن حياة السيد وأعماله الخلاصية، تهيئهم لمجيئه الأخير، تسندهم في الشهادة له بين الموعوظين وتقوم بدور رئيسي في عبادتهم الليتورجية.
- الأناجيل في الكنيسة الأولى
قبلت الكنيسة الأولى الأناجيل المقدسة منذ البداية كأسفار قانونية مكملة لأسفار العهد القديم مع بقية أسفار العهد الجديد، وعلى نفس المستوى، بكونها جزء لا يتجزأ من الكتاب المقدس.
ففي القرن الثاني يعلن القديس إيريناؤس على وجود أربعة أناجيل رابطا إياها بأربعة جهات المسكونة، والأربعة رياح الرئيسية، والأربعة وجوه للكاروبيم، قائلا:
[لم يكن ممكنا أن تكون الأناجيل أكثر أو أقل مما هي عليه في العدد. فإنه إذ يوجد أربعة أركان للعالم الذي نعيش فيه وأربعة رياح رئيسية، وقد انتشرت المسيحية في العالم كله، ولما كان الإنجيل هو عمود الكنيسة وقاعدته (1تي3: 15) وروح الحياة، بهذا كان من اللائق أن يوجد للكنيسة أربعة أعمدة فتتنسم عدم الفساد من كل ناحية، وتنعش البشرية أيضا. خلال هذه الحقيقة واضح أن الكلمة خالق الكل والجالس على الشاروبيم، وضابط الجميع إذ أعلن عن نفسه للبشر قدم لنا الإنجيل تحت أربعة أشكال إذ كان مرتبطا بروح واحد. وكما يقول داود متوسلا إلى حضرته “أيها الجالس على الشاروبيم اِشرق” (مز80: 1)، إذ للشاروبيم أيضا أربعة وجوه لها شكل التدبير الخاص بابن الله.
يقول الكتاب “إن المخلوقات الأربعة الحية الأول مثل الأسد” (رؤ4: 7) فيرمز لعمله الفعال وسموه وسلطانه الملوكي.
والثاني مثل الثور يشير إلى تدبيره الذبيحي والكهنوتي.
والثالث له شبه وجه إنسان شهادة لوصف مجيئه كإنسان.
والرابع مثل نسر طائر يشير إلى عطية الروح الذي يرفرف بجناحيه على الكنيسة.
لهذا تتفق الأناجيل مع هذه الأمور، التي يجلس المسيح يسوع في وسطها[11].]
أما القديس إكليمنضس السكندري وإن كان قد اقتبس فقرات من “إنجيل المصريين” لكنه ميز بينه وبين الأناجيل الأربعة القانونية[12].
أما العلامة ترتليان فلم يقتبس إلا من الأناجيل الأربعة القانونية، ودافع بشدة عن كتابتها بواسطة الرسل أو من هم ملتصقون بهم تماما.
استخدم القديسان إكليمنضس الروماني وأغناطيوس الأنطاكي مادة الأناجيل وإن كان بدون التزام بالنص حرفيا. وجاءت رسالة القديس بوليكربس تحوي مطابقات مع الأناجيل.
- الحاجة إلى أربعة أناجيل
وجود أربعة أناجيل خلق مشكلتين، إحداهما قديمة لاهوتية تدور حول التساؤل عن سر وجود أربعة أناجيل وعدم الاكتفاء بإنجيل واحد، والثانية حديثة ظهرت في الغرب تخص الثلاثة أناجيل الأولى متى ومرقس ولوقا حيث تظهر فيها مواد متشابهة وأخرى غير متشابهة، بهذا يمكن تفريغها في ثلاثة أعمدة متوازية للمطابقة فيما بينها، فتساءل بعض الدارسين عن سر التشابه، وكيف كتبت هذه الأناجيل، ومصادرها الخ. وقد سميت بالمشكلة التكاملية أو الإزائية أو السينوبتك Synoptic Problem.
أولا: المشكلة اللاهوتية
منذ القديم ظهر هذا التساؤل: ما الحاجة إلى وجود أربعة أناجيل؟ أما كان يكفي وجود إنجيل واحد يضم ما ورد في هذه الأناجيل الأربعة؟ ففي القرن الثاني حاول تاتيان Tatian أن يضم الأناجيل الأربعة في كتاب واحد اسماه “الرباعي Diatessarton” (أربعة في واحد)، لكن الكنيسة لم تقبل هذا العمل، فإنه ليس غاية الإنجيل جمع وترتيب مادة عن حياة السيد المسيح على الأرض، لكن غايته الشهادة بطرق مختلفة ومتكاملة عن حقيقة واحدة، يقدمها الروح القدس نفسه كأسفار قانونية، أي بكونها كلمة الله المعصومة من الخطأ.
فالكنيسة تعتز بالأناجيل معا ككلمة الله الحية والفعالة، التي وضعها الروح القدس لتعليمنا وتهذيبنا بطريقة فائقة. لهذا لم يهتم الآباء بتجميع ما ورد في الأناجيل وترتيبها تاريخيا، بقدر ما اهتموا بالكشف عن أعماق ما حمله كل إنجيل من سر حياة خفي وراء كلماته، وفي نفس الوقت تحدثوا عن اتفاق الإنجيليين معا في الأحداث، موضحين ما يبدو للبعض من وجود تعارض، كما فعل القديس أغسطينوس في كتابه عن اتفاق البشيرين De consensu evanglistarum.
تحدث العلامة أوريجينوس في القرن الثاني عن اتفاق الأناجيل الأربعة معا ومع بقية الأسفار بالرغم من عرض الحقيقة في كل سفر من جانب غير الآخر، مشبها الكتاب المقدس بالقيثارة الواحدة ذات الأوتار المتنوعة لتقديم سيمفونية جميلة ومتناسقة، إذ يقول:
[كما أن كل وتر من أوتار القيثارة يعطي صوتا معينا خاصا به يبدو مختلفا عن الآخر، فيظن الإنسان غير الموسيقي والجاهل لأصول الانسجام الموسيقي أن الأوتار غير منسجمة معا لأنها تعطي أصوات مختلفة، هكذا الذين ليس لهم دراية في سماع انسجام الله في الكتب المقدسة يظنون أن العهد القديم غير متفق مع الجديد أو الأنبياء مع الشريعة أو الأناجيل مع بعضها البعض أو مع بقية الرسل. أما المتعلم موسيقى الله كرجل حكيم في القول والفعل يحسب داود الآخر، إذ بمهارة تفسيره يجلب أنغام موسيقى الله متعلما من هذا في الوقت المناسب أن يضرب على الأوتار، تارة على أوتار الناموس وأخرى على أوتار الأناجيل منسجمة مع الأولى، فأوتار الأنبياء.
وعندما تتطلب الحكمة يضرب على الأوتار الرسولية المنسجمة مع النبوية كما في الأناجيل. فالكتاب المقدس هو آلة الله الواحدة الكاملة والمنسجمة معا، تعطي خلال الأصوات المتباينة صوت الخلاص الواحد للراغبين في التعليم، هذه القيثارة التي تبطل عمل كل روح شرير وتقاومه كما حدث مع داود الموسيقار في تهدئة الروح الشرير الذي كان يتعب شاول (1 صم 16: 14)[13].]
نستطيع أن نقول أن الوحي الإلهي قدم لنا إنجيلا واحدا هو إنجيل ربنا يسوع المسيح بواسطة الإنجيليين الأربعة: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، كل يكشف عن جانب من جوانب هذا الإنجيل الواحد. وكأنه باللؤلؤة التي يعلن عنها كل منهم من زاوية معينة. فمعلمنا متى إذ يكتب لليهود يقدم لنا السيد المسيح بكونه المسيا الملك الذي فيه تحققت النبوات وكمل الناموس. جاء ليملك قينا، ونحن نملك معه في السماويات.
ومعلمنا مرقس إذ كتب للرومان أبرز شخص السيد المسيح من الجانب العملي، صانع المعجزات وغالب قوى الشيطان، فلا يقدم الكثير من كلمات السيد وعظاته، إنما يقدم أعماله لأنه يحدث رجال حرب عنفاء (الرومان). أما لوقا البشير فإذ يكتب إلى أصحاب الفلسفات والحكمة البشرية، أي اليونان، فيقدم السيد المسيح كصديق البشرية، الذي جاء ليخلص لا بالفلسفات الجديدة، وإنما بالحب الباذل. أخيرا فإن يوحنا البشير إذ يكتب للعالم كله يعلن السيد المسيح الكلمة الإلهي المتجسد، الذي حل بيننا لكي يرفعنا إليه في سماواته.
متى مرقس لوقا يوحنا
- كتب لليهود للرومان لليونان للعالم المسيحي
- المسيا الملك المسيح غالب الشيطان صديق البشرية الكلمة المتجسد
- جاء يتمم الناموس يعمل العجائب يخلص البشرية يحل في وسطنا
- اهتم بالنبوات اهتم بالعمل اهتم بالتاريخ اهتم باللاهوت
- رمزه وجه إنسان الأسد الثور النسر
إن بدت الأناجيل متشابهة، خاصة الثلاث الأناجيل الأولى، من جهة ما حوته من عرض لحياة السيد المسيح وأعماله الخلاصية. فالإنجيليون في الحقيقة ليسوا عارضين لحياة السيد ولا مؤرخين له بالمعنى العلمي للتاريخ، إنما هم شهود حق، أعلنوا الأخبار السارة التي تمس حياتنا مشرقة من نور قيامة السيد المسيح وحلول روحه علينا، وجاء التاريخ من خلال هذه الزاوية، خادما حياتنا الإيمانية واتحادنا مع المخلص القائم من الأموات.
ولكي ندرك تكامل هذه الأناجيل نقدم صورة سريعة ومختصرة عن ملامح هذه الأناجيل وغايتها:
- الإنجيل بحسب متى البشير: يعتبر يهودي مسيحي، إن كان قد قدم لنا شخصية السيد المسيح، لكنه في جوهره سفر تعليمي دفاعي يقدم المسيا المرفوض من قادة اليهود، بكونه مكمل الناموس ومحقق نبوات العهد القديم، فيه يتحقق ملكوت الله السماوي على الأرض. مصححا الفكر اليهودي عن المسيا كملك أرضي. هكذا يظهر هذا السفر كأنه يعكس تقليد كنائس اليهود المسيحية القوية في فلسطين قبل سقوط أورشليم[14]. أما وقد رمز له بوجه الإنسان، فلأنه قد ركز على التجسد الإلهي.
- الإنجيل بحسب مرقس البشير: إن كان هذا السفر يعتبر الأساس لإنجيلي متى ولوقا، لكن له طابعه الخاص به. فقد قدم للعالم الروماني المعتز بالذراع البشري، كأصحاب سلطان يؤمنون بالقوة والعنف علامة الحياة والنضوج، لهذا أبرز شخص السيد المسيح صانع العجائب وغالب الشيطان، الذي غلب بصليبه وحبه، لا بالحرب والعنف. إن كان الرومان قد انشغلوا بمملكتهم في العالم المعروف في ذلك الحين، فقد سحبهم الإنجيل إلى مملكة من نوع جديد تحتاج إلى قوة الروح والعمل الإلهي، لا إلى الذراع البشري المتعجرف والمجرد. لقد رمز له بوجه أسد إعلانا عن الغلبة والنصرة، أو علامة الملك الجديد السماوي.
- الإنجيل بحسب لوقا البشير: سجل لليونان أصحاب الفلسفات والأدب اليوناني، لذا جاء هذا السفر في أسلوب رائع من الجانب الأدبي، يقدم لنا حياة السيد المسيح في التاريخ ليس بطريقة كلاسيكية إنما لاهوتية تعلن عنه كمخلص البشرية كلها: للمتعلم والأمي، الفيلسوف والبسيط، الغني والفقير، الخاطئ والوثني. إنه لا يخلص بالحكمة البشرية والفلسفات، بل بذبيحة الحب، لهذا رمز إليه بوجه ثور علامة الذبيحة واهبة المصالحة مع الآب. يبدأ هذا السفر وينتهي في أورشليم بكونها المدينة المقدسة التي فيها يتحقق الخلاص، لكن الرسالة موجهة للعالم الأممي كله، الأمر الذي أوضحه فيما بعد في سفره الآخر، أعمال الرسل.
- إنجيل بحسب يوحنا الرسول: له طابعه اللاهوتي الخاص به، يرمز له بوجه نسر.
ثانيا: المشكلة الإزائية (السينوبتية) Synoptic Problem:
لا أريد الخوض في هذه المشكلة التي لم تعشها الكنيسة الشرقية بوجه عام، وإنما شغلت أذهان دارسي الكتاب المقدس في الغرب منذ منتصف القرن الثامن عشر، خاصة مع بدء القرن العشرين.
كلمة Synoptic مشتقة عن الكلمة اليونانية Sunarao والتي تعني رؤية الكل معا بنظرة تكاملية، فهي تخص الأناجيل الثلاثة متى ومرقس ولوقا بكونها أناجيل تحوي هيكلا متشابها ومواد متشابهة، وإن وجدت أيضا مواد غير متشابهة. فالمشكلة هي كيف حدث هذا التشابه؟ هل اعتمدت الأناجيل على بعضها البعض، أم رجعت إلى مصدر بدائي واحد، سواء كان شفهيا كالتقليد أو كتابيا، أو أكثر من مصدر؟
أول من استخدم هذا التعبير هو Griesbach في القرن الثامن عشر، ودعيت الأناجيل الثلاثة: Synoptic Gospel يترجمها البعض بالأناجيل التكاملية أو المتشابهة أو الإزائية، كما عرف الإنجيليون الثلاثة بـ Synopists.
وقبل أن ندخل في المشكلة نود أن نسأل: لماذا نقيم المقارنات بين هذه الأناجيل ونسأل عن مصدرها مادامت قد كتبت بالوحي الإلهي بالروح القدس؟
هنا نود أن نوضح الفارق بين الفكر الشرقي والفكر الغربي في دارسة الكتاب المقدس، فالشرق بوجه عام خاصة الكنيسة الأرثوذكسية يميل إلى الاتجاه الآبائي الأول، وهو الانشغال بكلمة الله أو الوحي الإلهي بكونه قبول للسيد المسيح نفسه شخصيا حيا نعيش به وفيه ومعه متجهين بفكرنا نحو الميراث الأبدي، ممتصة أذهاننا بالملكوت السماوي الداخلي أكثر من الدراسات النقدية النظرية. أما الغرب فقد صب جل اهتمامه خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين نحو الدراسات النقدية والأبحاث العلمية في الكتاب المقدس، الأمر الذي يمكننا أن ننتفع به كثيرا حتى في بنياننا الروحي وفهمنا لكلمة الله إن قبلناها روحيا.
قبل الدخول في تفاصيل هذه المشكلة يلزمنا أولا أن نتعرف على مفهوم الكنيسة المسيحية للوحي الإلهي، لنعرف ما هو دور رجل الله الذي أوحي له بالروح القدس ليكتب؟! فقد جاء في الكتاب المقدس: “كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملا متأهبا لكل عمل صالح” (2 تي 3: 16-17)؛ “عالمين هذا أولا أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص، لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (2 بط 1: 20-21). إذن فالكتاب كله موحى به من الروح القدس، والكتاب هم آله الله، أو كما يقول المرتل: “لساني قلم كاتب ماهر” (مز 45: 1).
كل كاتب أشبه بقلم في يد الروح القدس، لكنه قلم ماهر، لا يكتب إلا ما يمليه الروح دون أن يفقده شخصيته وإمكانياته ومهارته وبيئته. هذا هو العجيب في حب الله، فإنه حتى إذ يقدم لنا كلمته المكتوبة لا يستخدم الإنسان آلة جامدة يحركها آليا بجمود، إنما يتعامل معنا خلال “الحب المتبادل” وتقدير الله العجيب لمخلوقه الإنساني.
إن كان يسكب علينا حبه ويهبنا كلمته الإلهية الخالدة، لكنه لا يحتقر حبنا وفكرنا وثقافتنا ولغتنا. إنه يهب الكلمة ويحفظها ويمنح الكاتب إمكانية الكتابة في عصمة من الخطأ دون تجاهل لإنسانيته. لهذا لا عجب إن حوى الكتاب بعهديه أسفارا مختلفة بأسلوب مختلف كتبت خلال ثقافات متباينة امتدت آلاف السنين، ومع ذلك بقي ويبقى الكتاب حيا، يحمل إلينا الكلمة الإلهية التي لا تشيخ. هذا ما دفع الدارسون الغربيون إلى دراسة النقدية والتحليلية للكتاب المقدس.
ونحن إذ نقبل هذه الدراسات فبتحفظ مدركين ما قاله القديس إيريناؤس إن الكتاب حتى في أجزائه الغامضة “روحي بكليته”[15]، وما قاله الآباء أن الكتاب معصوم من الخطأ وليس فيه شيء زائد بلا نفع، حتى قال أوريجينوس: [إنه ليس حرف واحد أو عنوان كتب في الكتاب المقدس لا يتمم عمله الخاص بالنسبة للقادرين على استخدامه[16].] وبنفس الطريقة يقول القديس جيروم: [في الكتب الإلهية كل كلمة ومقطع وعلامة ونقطة تلتحف بمعنى[17].]
وبحسب القديس يوحنا الذهبي الفم حتى قوائم الأسماء الواردة في الكتاب لها معناها العميق[18]، وقد كرس عظتين لشرح التحيات الواردة في الأصحاح السادس عشر من الرسالة إلى رومية ليعلن أن كنوز الحكمة مخفية في كل كلمة نطق بها الروح[19].
بعد وضع هذا الأساس لمفهومنا للوحي الإلهي نعود إلى مشكلة الأناجيل الثلاثة الإزائية Synoptic لتفسير وجود تشابهات بينها وأيضا مواد غير متشابهة:
ا. المتشابهات[20]
تتشابه الأناجيل الثلاثة الأولى في كثير من موادها كما في ترتيبها، فمن جهة المواد المتشابهة وردت عبارات متشابهة في الثلاثة أناجيل يمكن تسميتها بالتقاليد المثلوثة three traditions، وعبارات وردت في إنجيلين فقط نسميها التقاليد المثناة twofold traditions، وعبارات لم ترد إلا في إنجيل واحد نسميها التقاليد الفريدةunique traditions، بل وعبارات تكررت في نفس الإنجيل تسمى مزدوجاتdoublets.
هذا ويلاحظ أن إنجيل مار مرقس أكثر الأناجيل اختصارا، وردت أغلب مواده في إنجيلي متى أو لوقا أو في كليهما معا. وإن كان يصعب عمل إحصائية دقيقة للمتشابهات، لأن بعض العبارات ترد في أناجيل أخرى مسجلة في عدد أكبر من الآيات.
متى مرقس لوقا
إجمالي العبارات 1070 677 1150
التقاليد الفريدة 330 70 520
حوالي الثلث العشر النصف
التقاليد المثناة 170-180 170-180 230
(مت – لو) (مر- لو) (لو- متى)
230 50 50
(مت – لو) (مر- لو) (لو- مت)
التقاليد المثلوثة 350-370 350-370 350-370
هذا عدد المواد المتشابهة أما عن التشابه في الترتيب، فقد حملت الأناجيل الثلاثة إطارا عاما واحدا أو خطوطا عريضة متشابهة، إذ جاءت هكذا:
أ. الإعداد للخدمة.
ب. خدمة السيد في الجليل.
ج. رحلته إلى أورشليم.
د. آلامه وقيامته.
لم يقف التشابه عند المادة والإطار العام في الترتيب وإنما شملت الأناجيل بعض اقتباسات من العهد القديم أحيانا معدلة. وقد وردت بنفس التعديل في الثلاثة أناجيل، كما استخدمت مقارنات يونانية نادرة وأحيانا تأتي العبارات مطابقة لبعضها البعض كلمة بكلمة في الأناجيل الثلاثة. هذا ما دعا إلى التساؤل عن سر هذا التشابه؟
ب. الاختلافات
من جهة المواد نذكر الاختلافات في الأناجيل الثلاثة على سبيل المثال:
- كتب ميلاد السيد المسيح في إنجيل متى بطريقة تختلف عما جاء في إنجيل لوقا، أما إنجيل مرقس فلم يشر إليه قط.
- النسب كما ورد في إنجيل متى (1: 1-17) يختلف عما ورد في إنجيل لوقا (3: 23-38).
- التجارب الثلاث التي واجهها السيد ذكرت في إنجيل متى (4: 3-12) وفي إنجيل لوقا (4: 3-12)، مع اختلاف في الترتيب.
- أحداث القيامة وردت في كل إنجيل بطريقة متباينة، فمعلمنا متى تحدث عن ظهورات السيد في الجليل، أما معلمنا لوقا فتحدث عن ظهوراته في اليهودية.
- وردت العظة على الجبل في إنجيل متى (5-7) ولم ترد في إنجيل معلمنا مرقس.
حلول المشكلة
في العصور الأولى اهتم الآباء بكل حدث على انفراد، موضحين اتفاق الإنجيليين، أما ما حدث في الغرب فهو دراسة المشكلة ككل، وقد ظهرت عدة نظريات لحلها ليست متضاربة بل كل منها تمهد للأخرى، أهمها:
- نظرية الاستعمال Utilization Theory: تتلخص في أن كل إنجيل يعتمد على الإنجيل السابق أو الإنجيلين السابقين له، أي يستخدم ما قد سبقه. لعل هذه النظرية اعتمدت على ما ورد في القديس أغسطينوس أن متى البشير كتب أولا، اعتمد عليه مار مرقس، وجاء لوقا الإنجيلي يعتمد على الاثنين، لهذا جاء ترتيب الأناجيل التقليدي: متى ومرقس ثم لوقا. اقترح Griesbach نظرية مماثلة، وإنما رأى أن لوقا يسبق مرقس، وبالتالي استخدم مار مرقس إنجيلي متى ولوقا معا. عدل Lachmann النظرية عام 1835م، وWilbe عام 1838م، وقد دافع B. Buttler عنها[21].
- نظرية الإنجيل البدائي The Primitive Gospel Theory: لعل هذه النظرية جاءت كتطور لما ذكره بابياس في القرن الثاني أن متى وضع “أقوال يسوع” باللغة العبرية، استخدمها الإنجيليون. فقد افترض البعض وجود أصل آرامي (عبري) ترجم إلى اليونانية استخدمه الإنجيليون[22] كل على انفراد، هذا الأصل مفقود. ارتبطت هذه النظرية بـ G. E. Lessing عام 1778م، وعدلها J. Eichhorn عام 1804م. ويسمى أصحاب هذه النظرية هذا الإنجيل الأولى الذي عنه أخذت الأناجيل الثلاثة “Q”، ولما كان رأي الكثيرين منهم أنه أقرب إلى إنجيل مار مرقس لذا دعاه البعض Proto-Mark. ورأى البعض في قول القديس أبيفانيوس[23] ما يوافق هذه النظرية، وهو أن الأناجيل (أخذت عن ذات المصدر). غير أن القديس لا يقصد بهذا مصدرا معينا مكتوبا أو شفاها، إنما يقصد بالمصدر الروح القدس واهب الوحي للإنجيليين، المصدر المشترك لكل الإنجيليين.
على أي الأحوال هذه كلها مجرد افتراضات تقوم على وجود مصدر مفقود، عليه اعتمد الإنجيليون، وبالغ الدارسون في افتراض وجود تعديلات في الأصل مستمرة، حتى افترض الأسقف Marsh[24] وجود ثماني وثائق:
أ. الأصل العبري.
ب. ترجمة يونانية للأصل العبري.
ج. ظهور نسخة عن الأصل العبري مع تعديلات وإضافات.
د. نسخة أخرى للأصل العبري مع مجموعة أخرى من التعديلات والإضافات.
هـ. نسخة تضم كل التعديلات والإضافات التي للنسخة (ج) مع إضافات جديدة استخدمها مار متى البشير.
ز. نسخة تضم النسخة رقم (د) مع إضافات استخدمها مار لوقا البشير، هذا وقد استخدم أيضا النسخة (ب).
ح. نسخة عبرية متمايزة تماما تحوي وصايا السيد وأمثلته ومقالاته مسجلة بطريقة غير تاريخية استخدمها الإنجيليان متى ولوقا.
ويعترض على هذه النظرية بالآتي:
أ. إن كان كل معلومة جديدة يمكننا القول بأن مصدرها الوثيقة الأصلية مضافا إليها تعديلات جديدة، فإنه يمكننا افتراض عشرات النسخ وليس فقط ثمانية نسخ، دون وجود دليل يؤكد شيئا من هذا.
ب. لو أنه يوجد مصدر أصيل أخذ عنه الإنجيليون الثلاثة لاحتفظت الكنيسة بهذا المصدر الأولي. إن كانت الأناجيل غير القانونية قد احتفظ بها فبالأولى كان يجب حفظ هذا المصدر.
- نظرية القصص: تتلخص في وجود مصدر يوناني يحوي قصصا عن أحداث الآلام والمعجزات مع تجميعات لأقوال السيد المسيح، اعتمد عليها الإنجيليان متى ولوقا بجانب اعتمادها على إنجيل مرقس. اهتم بهذه النظرية Schleiermacher عام 1817م.
- نظرية التقليد الشفهي، ترجع إلى Herder عام 1797م، بحسبها سلك الإنجيليون حسب التقليد العام الشفهي. ويلاحظ أنه بالرغم من عدم تجاهل أغلب الدارسين لأهمية الدور الذي قام به التقليد الشفهي لكن وجود متشابهات كثيرة ودقيقة حتى في العبارات جعل البعض يؤكد الاعتماد على مصدر مكتوب بجانب التقليد الشفهي.
- 5. نظرية المصدرين، اهتم بها Holtzmann عام 1863م. وهي أكثر النظريات انتشارا، حيث تربط بين النظريتين الأولى والثانية، فترى أن متى ولوقا اعتمدا على إنجيل مار مرقس كل منهما على انفراد، إذ الأخير هو أقدم الأناجيل، هذا مع وجود مصدر آخر مفقود يحوي تجميعا لكلمات السيد المسيح (لوجيا) يشار إليه بالحرف Q.
الأناجيل غير القانونية
افتتاحية إنجيل معلمنا لوقا البشير: “إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا” (لو 1: 1)، تكشف عن وجود عدد من القصص تروي حياة السيد المسيح وتعاليمه ومعجزاته وحياة والدته وموتها وإرساليات التلاميذ والرسل، انتشرت بين المسيحيين في نهاية القرن الأول. بجانب الأناجيل الأربعة الأصلية، وجدت كتابات غير قانونية نسبت للتلاميذ والرسل، دعيت بالأبوكريفا، إما أنها كتبت بهدف تقوي سجلها مؤمنون في الكنيسة، أو هراطقة سجلوها تحت أسماء التلاميذ أو الرسل أو شخصيات بارزة في الإيمان لتأييد هرطقاتهم وتعاليمهم، حوت هذه الكتابات الأناجيل المزورة، أي غير القانونية والرؤى والرسائل وأعمال للرسل.
كلمة “أبوكريفا” لا تعني أن كل ما بها ليس حق، على الأقل في أذهان الذي استخدموها أولا[25]. فإنها وإن كانت ليست قانونية لكن بعضها كان له اعتباره الخاص ككتب كنسية ذات قيمة روحية وتاريخية، وهي في الحقيقة تمثل تراثا هاما بالنسبة للمؤرخين، يكشف عن الكثير من الأفكار والاتجاهات والعادات التي اتسمت بها الكنيسة الأولى، كما تمثل النبتات الأولى للأدب المسيحي من الناحية القصصية والفلكلور الشعبي[26].
- إنجيل يعقوب
يعرف باسم الإنجيل الأول Proto-evangelium of James. وهو من نتاج منتصف القرن الثاني. هدفه الرئيسي هو تأكيد دوام بتولية القديسة مريم قبل ميلاد السيد وأثناء الميلاد وبعده. وهو يروي الأحداث الخاصة بميلاد العذراء مع ذكر اسمي والديها (يواقيم وحنة) وحياتها المبكرة في الهيكل، وتركها له في سن الثانية عشر، وخطبتها ليوسف، وقصة البشارة، وزيارة مريم لأليصابات وأحداث الميلاد الخ. ويختم الكتاب بقصة استشهاد القديس زكريا الكاهن والوالد يوحنا المعمدان وموت هيرودس.
أول من أشار إليه هو العلامة أوريجينوس حينما قرر أن إخوة الرب هم أبناء يوسف من زوجة سابقة. وقبل أوريجينوس ذكر القديسان إكليمنضس السكندري ويوستين الشهيد أحداثا تخص ميلاد السيد المسيح وردت في هذا الكتاب. هذا وقد اعتمد عليه القديس أبيفانيوس في القرن الرابع في رده على الهراطقة، كما أشار إليه القديس جيروم.
يوجد منه مخطوطات هي ترجمات سريانية وقبطية وأرمنية وصقلية، وإن كان لا يوجد بعد مخطوطات لاتينية له.
- إنجيل العبرانيين
دعي هكذا لأنه كان مستخدما في فلسطين بين المسيحيين الذين كانوا يتكلمون العبرية (الآرامية). لا يعرف كاتبه. انتشر تداوله فقط في الشرق في النصف الأخير من القرن الثاني. أشار إليه القديس إكليمنضس السكندري [27]وأوريجينوس ويوسابيوس[28] وحصل القديس جيروم على نسخة منه بالآرامية ترجمها إلى اليونانية واللاتينية[29].
- إنجيل المصريين[30]
من أناجيل الغنوسيين وإنتاجهم. يذكر القديس هيبوليتس أنه كان منتشرا بين إحدى شيعهم التي تسمى Nassenes، ويحتمل أنه كان منتشرا بين المسيحيين المصريين الذين من أصل أممي. أشار إليه كل من القديس إكليمنضس السكندري وأوريجينوس على أساس أن له قيمة تاريخية فقط، مع ملاحظة أن الآراء النسكية واضحة فيه.
- إنجيل بطرس
اكتشف V. Bouriant جزءا من هذا الإنجيل عام 1889-1887م بمقبرة راهب في أخميم بصعيد مصر وهي تروي آلام يسوع وموته ودفنه وتنمق قصة قيامته بتفاصيل مثيرة بخصوص المعجزات التي لحقتها.
أشار إليه يوسابيوس[31]كسفر رفضه صرابيون أسقف إنطاكية حوالي عام 190م بسبب اتجاهه الهرطوقي (الدوسيتون) Docetic character وقد استخدمه العلامة أوريجينوس في تعليقاته على إنجيل متى[32].
- إنجيل توما
أشار العلامة أوريجينوس في عظته الأولى إلى إنجيل توما. كان هذا الكتاب معروفا لدى القديس إيريناؤس وأيضا يوسابيوس. وقد نسبه القديس هيبوليتس الروماني إلى إحدى شيع الغنوسيين تسمى Nassenes، التي لا نعرف عنها شيئا. وكان له منزلة كبيرة لدى أتباع ماني، لذلك حذر منه القديس كيرلس الأورشليمي بكونه من إنتاجهم، موضحا أنه يفسد عقول البسطاء[33].
يتناول هذا الكتاب قصة طفولة يسوع وقوته ومعرفته ومعجزاته خلال سني حياته المبكرة، وقصة ذهابه إلى المدرسة، وكيف كان يصنع من الطين اثنى عشر عصفورا صغيرا أثناء لعبه مع الأطفال في يوم سبت، ولما اشتكاه أولياء أمور الأطفال ككاسر السبت أمر العصافير أن تطير، فطارت وهي تغرد![34]
- إنجيل نيقوديموس
يضم جزئين مختلفي التأليف والتاريخ. الجزء الأول هو ما يعرف بأعمال بيلاطس، Acts of Pilate ويتكلم عن محاكمة ربنا يسوع والتقرير الرسمي الذي قيل أن بيلاطس أرسله إلى الإمبراطور طيباريوس عن شخص يسوع، ويرجع هذا الجزء إلى القرن الثاني. هذا ونلاحظ في إنجيل بطرس محاولة المسيحيون الأول التخفيف من جريمة بيلاطس، الأمر الذي ظهر أيضا في “أعمال بيلاطس” التي احتواها إنجيل نيقوديموس. وقد أشار القديس يوستين[35] والعلامة ترتليان[36]من رجال القرن الثاني إلى أعمال بيلاطس، مستخدمين الوالي الروماني كشاهد على تاريخ صلب المسيح وقيامته وصدق الإيمان المسيحي. وقد استخدم إنجيل نيقوديوس ذات الاتجاه.
أما الجزء الثاني من الإنجيل فيحوي وصفا للنقاش الذي دار في السنهدرين بخصوص قيامة السيد المسيح (فصل 12-16) وقصة نزوله إلى الجحيم (فصل 17-27) مستشهدا بشاهدين هما ابني سمعان اللذين قاما من الأموات بعد معاينة السيد في الجحيم. هذا الجزء يمثل نوعا من الوعظ الشبيه بميامر سير الشهداء.
- إنجيل فيلبس
إذ تحدث القديس إبيفانيوس عن الاتجاه الغنوسي في مصر أشار إلى هذا الإنجيل وجاء بمقتطف منه يحمل ميلا غنوسيا نسكيا قويا[37]، انتشر هذا الإنجيل في مصر ابتداء من القرن الثالث.
- إنجيل الاثنى عشر رسولا
أورد القديس أبيفانيوس[38] مقتطفات منه، ويرجع تاريخه إلى أوائل القرن الثالث، ويسمى بإنجيل الأبيونيين The Gospel of Ebionites.
- توجد مجموعة من الأناجيل وضعها الهراطقة مثل إنجيل باسيليدس الغنوسي من القرن الثاني قد أشار إليه أوريجينوس والقديس أمبروسيوس وجيروم، وإنجيل أندراوس الذي أشار إليه القديس أغسطينوس[39]، وإنجيل فالنتينوس الغنوسي الذي أشار إليه العلامة ترتليان، وإنجيل مرقيون الهرطوقي، وإنجيل يهوذا الإسخريوطي الذي استخدمته طائفة غنوسية تدعى بأتباع قايين Cainites، وإنجيل تداوس وإنجيل حواء وإنجيل كيرنثوس وإنجيل أبلوس Apelles.
مقدمة
في
إنجيل متى
الكاتب
القديس متى الإنجيلي، هو أحد الاثنى عشر تلميذا، كان عشارا اسمه لاوي واسم أبيه حلفى. رآه السيد المسيح جالسا عند مكان الجباية فقال له: اتبعني، فقام وتبعه (مت9: 9؛ مر2: 14؛ لو5: 29). ترك لاوي الجباية التي كان اليهود يتطلعون إليها ببغضة، لأنها تمثل السلطة الرومانية المستبدة، وعلامة إذلال الشعب لحساب المستعمر الروماني المستغل. وقد سجل لنا معلمنا لوقا البشير الوليمة الكبرى التي صنعها لاوي للسيد في بيته، ودعا إليها أصدقاءه السابقين من عشارين وخطاة حتى يختبروا عذوبة التبعية للسيد المسيح بأنفسهم (لو5: 29)، الأمر الذي أثار معلمي اليهود، قائلين للتلاميذ: لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟ أما هو فأجاب: “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى، لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة” (مت9: 11-12).
أما كلمة “متى” فتعني “عطية الله”، وبالعبرانية “نثنائيل”، وباليونانية “ثيودورس”، والتي عرِبت “تادرس”. وكأن الله بدعوته لمتى أشبع قلبه كعطية إلهية فانتزعت نفسه من محبة المال وأخرجت قلبه خارج الجباية.
لغة الكتابة
يقول بابياس أسقف هيرابوليس عام 118م أن متى حوى التعاليم باللسان العبري، وكل واحد فسرها (ترجمها) كما استطاع. هذا أيضا ما أكده القديس إيريناؤس والعلامة أوريجينوس[40] والقديسان كيرلس الأورشليمي[41] وأبيفانيوس[42]. ويروي لنا المؤرخ يوسابيوس أن القديس بنتينوس في زيارته إلى الهند وجد إنجيل متى باللسان العبري لدى المؤمنين تركه لهم برثولماوس الرسول.
تاريخ كتابته
استقر رأي غالبية الدارسين أنه كتب بعد إنجيل معلمنا مرقس الرسول ببضع سنوات، وقبل خراب الهيكل اليهودي حيث يتحدث عنه كنبوة لا كواقعة قد تمت. لهذا يقدرون كتابته بالربع الثالث من القرن الأول.
مكان كتابته
يرى التقليد أن الإنجيل كتب في فلسطين، الأمر الذي لم يشك فيه أحد من آباء الكنيسة الأولى، وإن كان بعض الباحثين رأوا أنه كتب في إنطاكية أو فينيقية.
غرض الكتابة
- كتب القديس متى إنجيله لليهود الذين كانوا ولا يزالوا ينتظرون المسيا الملك الذي يقيم مملكة تسيطر على العالم. فالكاتب يهودي تتلمذ للسيد المسيح يكتب لإخوته اليهود ليعلن لهم أن المسيا المنتظر قد جاء، مصححا مفهومهم للملكوت، ناقلا إياهم من الفكر المادي الزمني إلى الفكر الروحي السماوي.
لقد كرر كلمة “ابن داود” لتأكيد أن “المسيا” هو الملك الخارج من سبط يهوذا ليملك، لكن ليس على نفس المستوى الذي ملكوا به في أرض الموعد، إنما هو ملكوت سماوي (مت13: 43؛ 25: 34)؛ (7: 21؛ 8: 11؛ 16: 28). حقا لقد كان اليهود ينتظرون بحمية شديدة مجيء المسيا المخلص ليملك. وقد جاء وملك لكن ليس بحسب فكرهم المادي!
- حمل هذا الإنجيل أيضا جانبا دفاعيا عن السيد المسيح، فلم تقف رسالته عند تأكيد أن فيه تحققت نبوات العهد القديم، وإنما دافع ضد المثيرات اليهودية، لهذا تحدث بوضوح عن ميلاده من عذراء، ودافع الملاك عنها أمام خطيبها، وروى تفاصيل قصة القيامة والرشوة التي دفعها اليهود للجند. لهذا دعا R. V. G. Tasker هذا الإنجيل بالدفاع المسيحي المبكر[43].
- يرى[44] G. D. Kilpatrick أن هذا الإنجيل في أصوله كتب بهدف ليتورجي، لتقرأ فصوله أثناء العبادة المسيحية. وقد اعتمد في ذلك على ما اتسم به الإنجيل من وضوح واختصار ومطابقات وتوازن في اللغة. لكن البعض يرى أن مثل هذه السمات لا تعني أن هذا الإنجيل كتب بهذا الهدف، إنما هي سمات الكاتب الأدبية، وأنه بسبب هذه السمات استخدم الإنجيل بطريقة واسعة في الأغراض الليتورجية[45].
سماته
استخدم هذا الإنجيل في الاقتباسات الواردة في كتابات الكنيسة الأولى أكثر من غيره[46]. ولعل نشره للموعظة على الجبل بطريقة تفصيلية كدستور للحياة المسيحية كان له أثره على المؤمنين. أما سماته فهي:
- إذ كتب متى الإنجيلي هذا الإنجيل لليهود أوضح بطريقة عميقة العلاقة الأكيدة بين المسيحية والعهد القديم، موضحا كيف كانت الكنيسة مبتلعة في التفكير في نبوات العهد القديم التي تحققت روحيا في المسيح يسوع ربنا. لقد أشار إلى حوالي 60 نبوة من العهد القديم، كما تكررت كلمة الملكوت حوالي 55 مرة، وذكر السيد المسيح كابن لداود ثمان مرات، معلنا أنه الموعود به. لقد حمل هذا الإنجيل جوا يهوديا أكثر من غيره، فيفترض في القارئ معرفة العبرية (5: 19)، يستعمل التعبيرات المفضلة عند اليهود كدعوة أورشليم بالمدينة المقدسة (4: 5؛ 27: 52-53)، والهيكل بالمكان المقدس (24: 15). يتحدث عن أسس الأعمال الصالحة الثلاثة عند اليهود، أي الصدقة والصلاة والصوم (6: 1-8، 16-18)، وعن واجبات الكهنة في الهيكل (12: 5) وضريبة الهيكل (17: 24-27)، والعشور (23: 23) وغسل الأيدي علامة التطهير من الدم (27: 24) الخ.
أوضح أن السيد لم يأتِ ليحتقر العهد القديم، بل ليدخل به إلى كمال غايته، من جهة الناموس والوصية وتحقيق ما جاء به من وعود خاصة بالخلاص. هذا التحقيق لم يتم فقط خلال تعاليم السيد المسيح، وإنما أيضا خلال شخصه كمخلص وفاد.
هذا ما دفع بعض الدارسين إلى التطلع إلى هذا الإنجيل كدراسة حاخامية مسيحية تكشف عن إعلان السيد المسيح المخفي في العهد القديم.
- إذ يكتب متى الإنجيلي لليهود لم يغفل عن مصارحتهم بأخطائهم، فيقول عن قائد المائة الروماني: “لم أجد ولا في إسرائيل إيمانا بمقدار هذا، وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية” (8: 10، 12). وقوله: “ابن الإنسان يسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت” (20: 18)، وأيضا: “ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره“ (21: 43). منتقدا تفسيرهم الحرفي لحفظ السبت (12: 1-13)، واهتمامهم بالمظهر الخارجي للعبادة (6: 2، 5، 16)، وانحرافهم وراء بعض التقاليد المناقضة للوصية (15: 3-9)، مؤكدا لالتزامهم بالوصايا الشريعية حتى تلك التي ينطق بها الكتبة والفريسيون مع نقده الشديد لريائهم (ص23) الخ.
- إن كان هذا الإنجيل قد حمل جوا يهوديا أكثر من غيره من الأناجيل لكنه لم يغفل القارئ الأممي، فيشرح له بعض الألفاظ المعروفة لدي اليهود كقوله: “عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا” (1: 23)، “موضع يقال له جلجثة، وهو المسمى موضع الجمجمة” (27: 33). وشرح بعض النواحي الجغرافية، كقوله: “وأتى وسكن في كفرناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم” (4: 13). وشرح المعتقدات التي يعرفها اليهودي مثل: “جاء إليه صديقيون، الذين يقولون ليس قيامة” (22: 23)، وأيضا عادات يهودية مثل “كان الوالي معتادا في العيد أن يطلق لهم أسيرا واحدا من أرادوه” (27: 15).
- مع اهتمام الإنجيلي بالشئون اليهودية ليس فقط بالالتجاء إلى نبوات العهد القديم، وإنما أيضا بالالتزام بالوصايا الناموسية (5: 8)، وتعاليم الكتبة والفريسيين الجالسين على كرسي موسى (23: 2)، بطريقة روحية عميقة وجديدة، أعلن السيد أنه مرسل لخراف إسرائيل الضالة (15: 24)، ويرجع نسبه إلى إبراهيم أب اليهود، وينقسم إلى ثلاثة أقسام تتكون من 14 جيلا عن كل قسم بطريقة حاخامية، وأنه ابن داود المنتظر الذي يدخل المدينة المقدسة كغالب. هذه جميعها تشير إلى تحقيقات أمنيات اليهود لكن الإنجيلي لم يقف عند هذا الحد؛ أيضا عند الخصوصيات اليهودية بل انطلق بفكرهم إلى الرسالة الإنجيلية الجامعية، معلنا ظهور إسرائيل الجديد الذي لا يقف عند الحدود الضيقة. فقد ورد في نسب السيد أمميات غريبات الجنس، وفي طفولته هرب إلى مصر كملجأ له، معلنا احتضان الأمم لملكوته (2: 13)، وفي لقاءاته مع بعض الأمميين والأمميات كان يمدحهم معلنا قوة إيمانهم، وفي نفس الوقت هاجم الكتبة والفريسيين في ريائهم وضيق أفقهم (23)، وفي مثل الكرم تحدث عن تسليم الكرم إلى كرامين آخرين (21: 33)، وكأنه انطلق بهم من الفهم الضيق المتعصب إلى الفهم الروحي الجديد وإعلان الرسالة العظيمة الممتدة إلى جميع الأمم، حيث ختم السفر بكلمات السيد الوداعية: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم” (28: 19).
- الجانب اللاهوتي
إنجيل متى هو “إنجيل الملكوت“، مركزه “ملكوت السماوات” الذي يعلن بوضوح في الأحاديث التعليمية للسيد المسيح كما في أمثاله ومعجزاته. هذا الملكوت هو ملكوت المستقبل (25: 34؛ 7: 21؛ 8: 11؛ 16: 28)، لكنه يبدأ من الآن في حياتنا كحقيقة حاضرة (12: 28؛ 4: 17؛ 5: 3؛ 11: 3). كأن ملكوت السماوات قد بدأ فعلا بمجيء السيد المسيح وسكناه في قلوبنا ليعلن بكماله في مجيئه الأخير.
أما رب الملكوت فهو “المسيا” المخلص الذي كشف الإنجيل عن سلطانه الملوكي، موضحا أنه فيه تم المكتوب، وتحققت المواعيد الإلهية، وتمتعت الشعوب بمشتهى الأمم! إنه موسى الجديد على مستوى فريد وفائق، يصوم أربعين يوما، ويجرب على الجبل ليغلب باسم شعبه وتخدمه الملائكة، يكمل الشريعة الموسوية لا بتسلم وصايا على حجر منقوش بل يتكلم بسلطان من عنده، يشبع الجموع التي في القفر، ويتجلى أمام تلاميذه مستدعيا موسى وإيليا ومتحدثا معهما! إنه ابن الله، لكنه هو أيضا ابن الإنسان، إذ حل في وسطنا ليدخل بنا إلى أمجاده. لهذا يدعوه “ابن الإنسان” في مواقف المجد الفائق.
- الجانب الكنسي
لما كان إنجيل متى البشير هو إنجيل الملكوت لهذا فهو أيضا إنجيل الكنيسة بكونها سر ملكوت الله. إنه الوحيد بين الإنجيليين يسجل لنا تعاليم خاصة بالكنيسة بطريقة صريحة وواضحة على لسان السيد المسيح، الذي نسب إليه استخدام كلمة “إككليسيا” مرتين في عبارتين غاية في الأهمية: فتحدث عن أساس الكنيسة: صخرة الإيمان، قائلا لبطرس الرسول حين أعلن إيمانه به، “على هذه الصخرة ابني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها” (مت16: 18). كما تحدث عن سلطان الكنيسة. “وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار. الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء” (18: 17-18).
هذا يكشف لنا عن اهتمام الإنجيلي متى بالأمور الكنسية. والملاحظ أنه يؤكد سر الكنيسة كحضرة الله وسط شعبه، وفي قلوبهم بطريقة وبأخرى عبر السفر كله، فيفتحه بحديث الملاك للقديس يوسف عن السيد المسيح: “ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا” (1: 23). وينقل إلينا حديث السيد مع تلاميذه مقدما لنا صورة مبسطة للكنيسة المحلية، بقوله: “لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم“ (18: 20).
كما أوضح السيد الكنيسة الخفية في قلب الشاهد للحق، خاصة خلال عمله الرسولي بقوله: “من يقبلكم يقبلني” (10: 40)، “من قبِل ولدا واحدا مثل هذا باسمي فقد قبلني” (18: 5). كما يظهر معيته مع شعبه المحتاج والمتألم بقوله في اليوم الأخير: “بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي الأصاغر فبي فعلتم” (25: 40). ويرى العلامة ترتليان أن الإنجيلي متى في عرضه لملاقاة السيد مع تلاميذه داخل السفينة وسط الرياح الثائرة صورة حية للكنيسة التي تستمد سلامها من السيد المسيح الساكن فيها والمتجلي داخلها بالرغم مما يثيره الشيطان من اضطرابات ومضايقات.
أخيرا فإن الإنجيلي يختم السفر بكلمات السيد لتلاميذه أن يتلمذوا جميع الأمم ويعمدوهم ويعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصاهم به (28: 19، 20) مؤكدا معيته معهم كل الأيام إلى انقضاء الدهر (28: 20)، وكأن الكنيسة ممتدة من حيث المكان لتشمل الأمم ومن حيث الزمان إلى مجيئه الأخير لتعيش معه وجها لوجه!
- الجانب الإسخاتولوجي (الأخروي)
إذ هو سفر الملكوت السماوي الذي ينطلق بمجيء المسيح الأول ليعد الكنيسة لملاقاته في مجيئه الأخير أكد الإنجيلي الفكر الإسخاتولوجي (الأخروي) بصورة واضحة خاصة في الاصحاحين (24، 25). ففي الأول تحدث عن علامات انقضاء الدهر، لا لمجرد المعرفة، وإنما بقصد الاستعداد بالسهر الدائم لمجيئه الأخير. وفي الأصحاح التالي قدم لنا أمثلة رائعة عن الملكوت السماوي وملاقاتنا مع السيد على السحاب.
- الأرقام
إذ يكتب الإنجيلي متى لليهود يهتم بالأرقام المحببة لهم خاصة أرقام 3، 5، 7. فمن جهة رقم 3 نجده يقسم نسب السيد المسيح إلى ثلاثة مراحل (1: 17)، والتجارب التي واجهها السيد ثلاثة (4: 1-11)، وأركان العبادة ثلاثة (6: 1-18)، ويقدم ثلاث تشبيهات للصلاة: السؤال والطلب والقرع (7: 7-8)، وفي التجلي أخذ السيد معه ثلاث تلاميذ (17: 1)، وأيضا في بستان جثسيماني (26: 37)، وهناك صلي ثلاث مرات (26: 39-44) وبطرس الرسول أنكر السيد ثلاث مرات (26: 75). وسنحاول الحديث عن معنى الأرقام أثناء عرضنا لتفسير الإنجيل.
- من أهم ملامح هذا السفر أنه يتكون من خمس مقالات كبرى يلحقها أو يسبقها بعض القصص، حتى رأى البعض أن السفر يمثل خمسة كتب جاءت مقابل أسفار موسى الخمسة بكون السيد المسيح هو موسى الجديد. أما المقالات الخمسة فهي:
أ. الموعظة على الجبل ص 5 – 7.
ب. العمل الرسولي ص 10.
ج. أمثال الملكوت ص 13.
د. تعاليم متنوعة ص 18.
هـ. أحاديث إسخاتولوجية ص 23 – 25.
محتويات السفر
إذ يتحدث السفر عن المسيح الملك، جاءت محتوياته هكذا:
- نسب الملك وميلاده ص 1-2
لقد أكد متى البشير خلال نسب السيد المسيح حسب الشريعة اليهودية، أنه ابن داود من سبط يهوذا آخِر ملك من السبط الملوكي، بمجيئه انتهت سجلات الأنساب، إذ تحقق هدفها ولا يمكن حاليا أن يعرف يهودي أنسابه حتى آدم كما كان في أيام السيد المسيح.
- السابق للملك ص 3
كانت العادة الشرقية أن يوجد للملك سابق يهيئ له الطريق. هكذا جاء يوحنا المعمدان الملاك الذي يهيئ الطريق للملك السماوي.
- اختبار الملك ص 4: 1-11
دخول السيد مع الشيطان في معركة على الجبل ليغلب، فيهب كل شعبه روح الغلبة والنصرة.
- إعلان الملك ص 4: 12-25
أعلن ملكه السماوي مقاما على الأرض.
- دستور الملك ص 5-7
“الموعظة على الجبل”، الدستور الذي يعيش على أساسه الشعب ليتهيأوا للحياة السماوية، ويتمتعوا بالملكوت.
- خدمة الملك ص 8-11: 9
إذ أعلن دستوره لشعبه مارس خدمته مع كل المحتاجين، مبتدئا هنا بتطهيره الأبرص ولمسه ليؤكد أنه جاء من أجل المرذولين والمنبوذين، وأن الأبرص لن ينجس السيد. ثم شفي خادم قائد المائة ليعلن أنه جاء بالأكثر من أجل الخدم والعبيد لا يحتقر إنسانا لسبب أو آخر.
- رفض الملك ص 11: 10 – ص 20
خاب أمل اليهود فيه إذ كانوا ينتظرون فيه ملكا بمفهوم زمني يسيطر ويملك ويقيم دولة صهيونية تحكم العالم. اختلفت خدمته عما في أذهانهم ليفتح الباب للأمم.
- دخول الملك ص 21-25
دخوله الرسمي إلى العاصمة ليملك على الصليب بعد كشفه عن المفهوم الإنجيلي للملكوت.
- موت الملك وقيامته ص 26-28
ملك الرب على خشبة، وقام لكي يقيم المؤمنين أعضاء في مملكته السماوية.
أقسام السفر
إذ يتحدث هذا السفر عن المسيا كرب الملكوت السماوي، يمكننا تقسيم السفر هكذا:
- نسب الملك وميلاده 1-2.
- رسول الملك 3.
- اختبار الملك 4: 1-11.
- إعلان ملكوته 4: 12-25.
- دستور الملك 5-7.
- خدمة الملك 8-11: 19.
- رفض الملك 1: 20- ص 20.
- دخوله العاصمة 21-25.
- موت الملك وقيامته 26-28.
[1] In Matt. hom. 1:2.
[2] In Matt. Hom. 1:1.
[3] In Ioan. tr. 35:8.
[4] Oscar Cullmann: The N. T., 1968, P. 27.
[5] W. Barclay: N. T. words, SCM 1967, p. 101-106.
[6] Ibid.
[7] In Matt. hom 1:4.
[8] Donald Guthrie: N. T. Introduction , 1975.
[9] Fr. Malaty: Tradition & Orthodoxy , 1979, p. 14-19.
[10] N.T. Introd. p. 16.
[11]Adv. Haer 3:11: 11, 3:11:8.
[12]Guthrie , p. 17.
[13] In Matt. , Book 2.
[14]G. E. P. Cox: The Gospel according to St. Matthew, 1958, p. 21.
[15] C. Unom 7. PG 45:744.
[16]In Jer. hom 2.
[17] In Jer. hom 2.
[18] In illud, Vidi dom 2:2
[19]In illud, Salutate hom 1:1.
[20] Jerome Bibl, Comm. , Ch 39.
[21]Originality of St. Matthew, Cambridge, 1951.
[22] Euseb , H. E. 3:19:16.
[23] Adv. Haer. 51:6.
[24] J. Murray: Holy Bible with Comm. , vol 1, 1878, p XI
[25] Quasten: Patrology, vol 1, p. 106.
[26] M. R. James: The Apocryphal N. T. , Oxford 1924, XI, XIII.
[27]Strom. 2:9:45.
[28] Eusebius:3:25.
[29] De Viris Illustribus, ch 2.
[30] Salmon. A Historical Intr. to the study of the Books of the N. T. , London 1899, P. 308-311.
[31] H. E. 3:25;6:12.
[32] Comm. Matt. 10:17.
[33] Cat 4:36.
[34] Ch 2.
[35] Apology 1:35, 48.
[36] Apologeticum 5
[37] Adv. Haer. 26:13.
[38] Ibid 30: 13 – 16, 22.
[39] Contra Adversarios Legis et Prophetarum 1:20.
[40] Euseb. H. E. 6:25.
[41] Catech. 8.
[42] Adv. Haer. 30:3.
[43] New Bible dictionary.
[44] The Origins of the Gospel according to St. Matthew, 1946, p. 72 ff.
[45] Guthrie, p. 27.
[46] E .Massux :Infulence de L’ Evangile St. Matthieu sur la litterature Chretienne avant St.Irenee, 1950..