تفسير انجيل متى 14 – الأصحاح الرابع عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 14 - الأصحاح الرابع عشر - القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 14 – الأصحاح الرابع عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير انجيل متى 14 – الأصحاح الرابع عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الرابع عشر
الملكُ المشبَع
يقدّم لنا الإنجيلي شخص السيّد المسيح بكونه الملك الذي يُشبع الروح والجسد، الذي يقوتنا روحيًا ونفسانيًا وجسديًا. وعلى العكس يقدّم لنا هيرودس الملك كإنسانٍ جائعٍ يسيطر عليه الخوف كفاقد السلام، والشهوة كفاقد الطهارة. أراد أن يُشبع قلب فتاة راقصة بمملكته كلها لكنّه فشل. إنه كجائعٍ لا يقدر أن يُشبع غيره!
- هيرودس الجائع 1-12.
- المسيح الجذّاب 13.
- المسيح المُشبع 14-21.
- المسيح واهب السلام 22-32.
- المسيح واهب الشفاء 33-36.
- هيرودس الجائع
“في ذلك الوقت سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع.
فقال لغلمانه: هذا هو يوحنا المعمدان.
قد قام من الأموات، ولذلك تُعمل به القوات” [1-2].
كان هيرودس قد قتل القدّيس يوحنا المعمدان، الصوت المُرهِب، الذي أعلن الحق، مانعًا زواجه من هيروديّا امرأة أخيه فيلبس. فبحسب الشريعة لم يكن ممكنًا للإنسان أن يتزوّج امرأة أخيه (لا 18: 16) إلا إذا كان أخوه قد مات ولم تنجب له امرأته، عندئذ يتزوّجها الأخ ليس اشتياقًا إليها، وإنما ليُقيم لأخيه الميّت نسلاً. لقد كان خطأ هيرودس أنه أراد الزواج بامرأة أخيه الذي على ما يُظن كان حيًا[1].
قتل هيرودس القدّيس يوحنا المعمدان ليكتم صوته، لكن الصوت لم يتوقّف، بل كان يزداد صراخًا في ذهن هيرودس. لهذا إذ سمع هيرودس عن يسوع المسيح فكَّر في الحال أنه يوحنا المعمدان قام من الأموات يصنع القوات. لقد قتل يوحنا لكي يهدِّئ ضميره، وتستريح نفسه فيه، لكن الخوف لم يفارقه. لقد كان هيرودس الملك جائعًا، ليس فيه سلام، بل خوف، لأن الخطيّة تفقد الإنسان شبعه الداخلي!
يروي لنا الإنجيلي قصّة استشهاد القدّيس يوحنا المعمدان على يديّ هيرودس ليكشف خلال تفاصيلها عن جوع الملك هيرودس، إذ يقول: “فإن هيرودس كان قد أمسك يوحنا وأوْثقه، وطرحه في سجنٍ، من أجل هيروديّا امرأة فيلبس أخيه. لأن يوحنا كان يقول له: لا يحلّ لك أن تكون لك” [3-4].
كان هيرودس صاحب السلطان يظن أنه قادر أن يكتم صوت الحق، ويحبسه بسجن يوحنا، مشتاقًا أن يقتله فيُبيد الصوت تمامًا، لكن الحبس كان يُزيد الصوت قوّة، والموت يختم على الصوت بختم الأبديّة، فصار موضوع كرازة الأجيال. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لقد سُمع صوت يوحنا بأكثر علوّ بعد هذه الأمور[2].] لقد حاول الشيطان يومًا أن يتخلَّص من كلمة الله بالصليب، فجاء الصليب ينقش بالحب الكلمة الإلهيّة على القلوب المحجرة ليُقيمها هيكلاً للرب. وتحالف اليهود مع الأمم ضدّ الكنيسة لإبادتها، وبقدر ما اضطهدوها كان صوت الله يُعلن بأكثر وضوح وسط العالم خلال الكنيسة!
يرى العلاّمة أوريجينوس في سجن النبي وقتله إشارة إلى ما فعلته الأُمّة اليهوديّة، إذ أرادت أن تكتم النبوّات وظنّت أنها قادرة على منع تحقيقها بموت المسيّا، إذ يقول: [إنه قيّد الكلمة النبويّة وسجَنها ومنَعها من الاستمرار في إعلان الحق في حرّية كما كان سابقًا[3].]
لقد أراد هيرودس قتله، لكنّه بسبب الخوف من الشعب توقَّف، ربّما إلى حين. بهذا استراح ولو مؤقَّتًا، وأقام حفلاً رسميًا، نعِم فيه بما يًشبع ذاته دون مُبكِّت. إذ يقول الإنجيلي: “ثم لما صار مولد هيرودس رقصت ابنة هيروديّا في الوسط، فسرَّت هيرودس. من ثم وعد بقسمٍ أنه مهما طلبت يعطيها” [6-7ٍ]. أقام هيرودس الجائع حفلاً يُشبع غروره وشهواته، وإذ رقصت ابنة هيروديّا، وسُرّ بها مشتهيًا أن يعطيها شيئًا يُشبعها! إن كانت هيروديّا تمثل الخطيّة التي يشتهيها هيرودس، فإن الخطيّة تلد خطيّة قادرة أن تأسِر قلبه الفارغ، مشتهيًا أن يقدّم كل حياته ثمنًا لرقصة واحدة! يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [كان أسيرًا بواسطة شهواته، حتى قدّم مملكته ثمنًا لرقصة”، كما يقول: “بينما كان يجب عليه أن يشكر الله إذ جاء به في مثل هذا اليوم إلى النور (يوم ميلاده) تجاسر بارتكاب هذه الأعمال الشرّيرة، وبينما كان ينبغي عليه أن يحرّر من هم في القيود إذ به يُضيف إلى القيود قتلاً[4].]
في عيد ميلاد هيرودس قُتل القديس يوحنا المعمدان، فقد ظنّ أنه لا يستطيع أن ينعم بالحياة السعيدة ويُشبع شهوات جسده خلال حبّه لامرأة أخيه ورقصات ابنتها، إن لم يكتم أنفاس القدّيس يوحنا المعمدان. لكن يوحنا مات، وبقيَ صوته خالدًا إلى الأبد. ارتبط هيرودس بالشهوات الزمنيّة فزال مع الزمن، وارتبط يوحنا بالحق، فدخل إلى عدم الموت مع الحق نفسه. ونحن أيضًا إن أردنا أن ندخل إلى عدم الموت لنرتبط بيسوعنا “الحق الذي لا يموت”، فندخل معه وفيه إلى حضن أبيه حيث لا يمكن للموت أن يقترب إلينا!
أيّامنا محدودة وزائلة إن ارتبطت بالأمور الزائلة من محبّة العالم وشهوات الجسد؛ وخالدة إن اختفت في ربّنا يسوع المسيح الذي لم يقدر الموت أن يُمسك به، ولا القبر أن يغلق عليه، ولا متاريس الجحيم أن تقف أمامه!
يتساءل البعض: إن كان هيرودس قد أخطأ بوعده لابنة هيروديّا أن يعطيها ما تطلبه بقسم، فهل كان لهيرودس بعد أن طلبت رأس القدّيس يوحنا أن يحنث بوعده؟ يجيب القدّيس أمبروسيوس: [أحيانًا يكون الوفاء بالوعد بقسمٍ لا يتّفق مع الواجب، كما فعل هيرودس حين أقسم أن يُعطي ابنة هيروديّا ما تطلبه، وقد أدّى هذا إلى مقتل يوحنا حتى لا يحنث الملك بقسمه، وهكذا كان الحال مع يفتاح الذي قدّم ابنته ذبيحة، لأنها كانت أول من يقابله عندما رجع إلى بيته منتصرًا، وبهذا أوفى بقسمه… كان من الأفضل ألا يُعطي وعدًا بنذر، من أن يَفي بعهده بموت ابنته[5].] وكأنه من الخطأ أن يعدْ الإنسان بقسم، إذ يكون الإيفاء به أشرّ إن كان مخالفًا للوصيّة الإلهيّة.
هذا عن هيرودس، ولكننا لا نتجاهل موقف يوحنا الذي كان يمكنه أن يتخلَّص من الموت بصمتِه، لكنّه فضّل الشهادة للحق مع موت الجسد عن التغاضي عن الحق، مع راحة الجسد وسلامته إلى حين. وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [كان يمكنه أن يصمت… لقد عرف تمامًا أنه سيموت إن وقفَ ضدّ الملك، لكنّه فضّل الفضيلة عن الطمأنينة، فأي شيء يليق بالقدّيس مثل الألم الذي يجلب مجدًا؟![6]]
- المسيح الجذّاب
“فلما سمع يسوع انصرف من هناك في سفينة إلى موضع خلاء منفردًا،
فسمع الجموع وتبعوه مشاه من المدن” [13].
إذ سمع السيّد المسيح ما فعله هيرودس بالقدّيس يوحنا المعمدان انصرف إلى موضع خلاء، أي إلى البرّيّة، وكأنه يُعلن أنه منطلق إلى جماعة الأمم التي صارت برّيّة وقفرًا، ليُقيم منها فردوسًا له، بعد أن رفضته الأمة اليهوديّة، ممثّلة في شخص هيرودس قاتل يوحنا المعمدان.
ومن جهة أخرى فإن انصراف السيّد في سفينة يؤكّد المبدأ الذي قدّمه للبشريّة وهو الهروب من الشرّ وعدم مقاومته. لقد ترك الموضع الذي فيه قَتل هيرودس يوحنا، كما سبق في طفولته فهرب مع أمه والقدّيس يوسف من وجه هيرودس الكبير، محقّقًا عمليًا ما أعلنه لتلاميذه حين دعاهم للخدمة، سائلاً إيّاهم أن يهربوا من مضايقيهم.
- “متى طردوكم في هذه المدينة فاهربوا إلى الأخرى” (مت 10: 23). عندما تحل تجربة، إن كان ليس في استطاعتنا تجنُّبها يلزمنا أن نحتملها بشجاعة عظيمة وشهامة، أمّا إذا كان في استطاعتنا تجنُّبها ولم نفعل ذلك نحسب كمتهوِّرين[7].
العلاّمة أوريجينوس
لقد كان هيرودس يمثّل فاقد الحق، بل ومقاومه، يليق بنا أن نتركه باتّحادنا مع المسيح الحق لننطلق إلى سفينة الصليب، ونُحمل إلى موضع خلاء، فيه نلتقي مع الله نناجيه ويناجينا! ما أحوجنا أن نهرب من الأشرار ولا نقاومهم، خاصة المملوءين غضبًا، حتى لا نثير غضبهم، فيزدادون شرًا! لننصرف من روح الغضب كما من هيرودس القاتل، وبدخولنا إلى حياة الصلب (السفينة) ننطلق إلى الاتّحاد مع الله.
انصراف السيّد لم يكن خوفًا بل حكمة كنائب عنّا، وبانصرافه وانطلاقه إلى موضع الخلاء ليلتقي مع أبيه المتَّحد معه، أدركت الجموع أنه مصدر الشبع، فجاءت إليه من المدن وتبعوه مشاة. الانطلاقة إلى البرّيّة الحقيقيّة والانفراد مع الله يجذب النفوس، وينمّي الخدمة لحساب ملكوت السماوات!
- المسيح المُشبع
“فلما خرج يسوع أبصر جمعًا كثيرًا،
فتحنّن عليهم، وشفَى مرضاهم” [14].
إن كانت الجموع قد تركت المدن وخرجت مشاة لتلتقي مع السيّد المسيح المنصرف إلى موضع خلاء منفردًا، فالسيّد بدوره “خرج” إليهم ليلتقي بهم مقدّمًا مفهومًا جديدًا للخلوة والوحدة. أنها ليست عزلة عن البشريّة ولا انغلاقًا للقلب، بل هي انفتاح للقلب نحو الله والناس. تختلي النفس بالله، لا في انفراديّة متقوْقعة، وإنما هي تنفرد به لتحمل أمامه الكنيسة كلها، بل والعالم كلّه بالحب، لذا ينجذب الناس إليها وهي تخرج إليهم متحنّنة ومترفّقة، تشتهي شفاء كل نفس، إذ يقول: “تحنّن عليهم وشفَى مرضاهم“.
وقد لاحظ العلاّمة أوريجينوس أن السيّد قد تحنّن على المرضى وشفاهم قبل أن يقدّم لهم خبز البركة، إذ يقول: [لقد شفَى المرضى، حتى إذ يصيروا أصحّاء يشتركون في خبز البركة، ولكن ماداموا مرضى فلا يقدرون أن ينالوا خبز بركة يسوع[8].] لعلّ هذا يحمل رمزًا لالتزامنا بسرّ التوبة والاعتراف لأجل شفاء النفس من مرضها الروحي، قبل أن تدخل إلى مذبح الرب، وتتقبّل من يديّ السيّد، لا خبز بركة بل جسده المقدّس.
أمضت الجماهير النهار كلّه مع السيّد تسمع صوته، وتتقبّل أعمال محبّته ورعايته. “ولما صار المساء، تقدّم إليه تلاميذه، قائلين: الموضع خلاء والوقت قد مضى، اصرف الجموع إلى القرى، ويبتاعوا لهم طعامًا” [15].
لقد رأى التلاميذ بأعينهم أعمال السيّد العجيبة، ومع هذا عندما جاء المساء ارتبكوا طالبين صرف الجموع إلى القُرى لشراء طعام يكفيهم. حقًا كثيرًا ما نرتبك في أمور الخدمة والمخدومين بحسابات بشريّة، مع أن الرب الحالّ في وسطنا قادر أن يعطي ويهب فوق كل حدود الطبيعة. فإن كنّا في موضع قفر والوقت مساء، لكن الرب الحالّ فينا قادر أن يُشبع. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [بالرغم من أن الموضع قفر، إلا أن الذي يعول العالم موجود فيه. وإن كان الزمن قد أزفْ، لكن الذي لا يخضع للزمن يتحدّث معهم[9].]
لقد ركّز الإنجيلي في عرضه لإشباع الجموع أن الوقت كان مساءً وأن الموضع قفر، ليقدّم لنا صورة للواقع الذي نعيشه الآن، فقد جاء السيّد المسيح إلى العالم كما في وقت الساعة الحادية عشر، وفي المساء. وكما يقول القدّيس يوحنا: “أنها الساعة الأخيرة” (1 يو 2: 18). فقد انتهت الأيام وجاء ملء الزمان حيث توقَّفت النبوّات مئات من السنوات، وصار العالم في حالة قفر روحي شديد، ليس لهم طعام يأكلونه، حتى يئس التلاميذ، وأرادوا صرف الجموع جائعين، لكن الرب الحالّ فيهم جاء ليقدّم لهم ذاته طعامًا جديدًا يُشبع النفوس الجائعة.
نعود إلى المعجزة لنجد السيّد المسيح يجيب التلاميذ: “لا حاجة لهم أن يمضوا، أعطوهم أنتم ليأكلوا. فقالوا له: ليس عندنا ههنا إلا خمسة أرغفة وسمكتان. فقال: اِئْتوني بها إلى هنا” [16-18].
لماذا طلب السيّد من التلاميذ أن يعطوا الجموع لتأكل؟
أولاً: ربّما أراد السيّد في محبّته للتلاميذ الذين عاشوا معه زمانًا، وسمعوا كلماته ولمسوا أعماله الفائقة، أن يقوموا هم بهذا العمل. كان يشتاق أن يكون لهم الإيمان لإشباع الجماهير، خاصة وإن واهب البركة حالّ في وسطهم.
ثانيًا: بسؤاله هذا أراد أن يكشف عن إمكانيّاتهم، لكي يضرموا مواهبهم، ويقدّموا ما لديهم مهما بدا قليل الشأن وعاجز عن الإشباع. فإن كان هو الذي يعول شعبه، لكنّه يطلب من الشعب أن يقدّم ما لديهم، حتى وإن كان ما لديهم هو سمكتين وخمس خبزات. إنه يطلب منّا ألا نبخل بالقليل الذي لدينا، إنّما نقدّمه فيَشبع به الكثيرين، ويفيض منه أكثر ممّا نقدّمه؛ يفيض اثنني عشر قُفّة مملوءة.
ثالثًا: كان التلاميذ يُمثِّلون الكنيسة التي يستخدمها الله لإشباع أولاده، مهما بدت فقيرة ومحتاجة. الله هو الذي يُعطي، وهو الذي يُبارك، وهو الذي يُقدّس، لكنه يعمل خلال جسده المقدّس أي الكنيسة. على سبيل المثال، في سرّ المعموديّة تقدّم الكنيسة المياه والزيت والصليب مع الصلوات وكأنها سمكتان وخمس خبزات، يتقبّلها العريس ليهب طالبي العماد البنوّة لله والعضويّة في جسده المقدّس، وينعم عليهم بالإنسان الجديد الذي على صورته. وهكذا في كل الأسرار وفي كل الليتورجيّات يتقبّل الله من الكنيسة أمورًا بسيطة جدًا خلالها يهب عطاياه المجّانيّة التي لا تقدَّر.
رابعًا: يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد أراد من تلاميذه أن يقدّموا له القليل لينالوا من يديه ما يقدّموه للشعب، فيشهدون بأيديهم عن عمل بركته.
بين معجزتيّ إشباع الجموع
يروي لنا الإنجيلي معجزتين لإشباع الجموع، واحدة هي التي بين أيدينا والأخرى وردت في الأصحاح الخامس عشر [32-33]. ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح الذي صنع معجزات بلا حصر، لم يُشبع الجموع إلا مرتين، قائلاً: [لم يفعل هذه المعجزة على الدوام، وإنما مرتين فقط لكي يتعلّموا ألا يكونوا عبيدًا لبطونهم، وإنما يلزمهم أن يلتصقوا دومًا بالروحيّات. هكذا نلتصق نحن أيضًا بالروحيّات فنطلب الخبز السماوي، وبهذا نطرد عنّا كل اهتمام زمني. إن كان هؤلاء قد تركوا بيوتهم ومدنهم وأقرباءهم، تركوا الكل وقطنوا في الخلاء، فإنه إذ ضغط عليهم الجوع لم يتراجعوا، هكذا يليق بنا نحن أيضًا أن نظهر ضبطًا للنفس (تركًا) بصورة أعظم لنقترب إلى مثل هذه المائدة، مهتمّين بالروحيّات، وحاسبين الأمور الملموسة أمورًا ثانوية بالنسبة لها[10].]
حقًا لم يكرّر السيّد هذه المعجزة كثيرًا حتى لا يربط علاقتنا به خلال الأمور الجسديّة، ولكي لا نطلب في حياتنا معه أن يشبع احتياجاتنا الجسديّة بطريقة معجزيّة. لهذا رأيناه يترك تلاميذه الجائعين أن يقطفوا سنابل حنطة يوم السبت ويأكلون (مت 12: 1) دون أن يشبعهم بطريقة معجزيّة، بل وسمح لرسوله بولس أن يجتاز فترات جوع وعطش وعُري (2 كو11 : 22) ليشاركه آلامه، هذا الذي كان المرضى يأخذون الأقمطة من جسده المريض ليلمسوها فيُشفوا. إنه يريدنا أن نجري وراءه من أجل شخصه، لا من أجل العطايا الماديّة أو البركات الزمنيّة.
لماذا لم يكتفي السيّد بمعجزة واحدة؟
لقد أشبع الجموع مرتين، إنّما ليُعلن أنه جاء ليُشبع المؤمنين من الأصل اليهودي، كما الذين هم من أصل أممي. فالمعجزة التي بين أيدينا تُشير إلى اهتمامه باليهود، أمّا الأخرى (15: 32-38) فتُشير إلى اهتمامه بالأمم، يظهر ذلك خلال التفسير الرمزي لملامح وأحداث كل معجزة، منها:
أولاً: المادة التي استخدمها السيّد هنا سمكتان وخمس خبزات، أمّا في المعجزة التالية فاستخدم سبع خبزات وقليل من صغار السمك (مت 15: 34). فإن كان الطعام المُشبع هو شخص المسيح نفسه، فقد قدّم نفسه لليهود خلال الخمس خبزات أيضًا خلال أسفار موسى الخمسة التي تحوي الناموس الذي غايته المسيح (رو 10: 4). ويرى العلاّمة أوريجينوس أن الخمس خبزات تُشير إلى الحواس، فقد قدّم الله الكلمة نفسه لليهود بتجسّده كواحد منهم يمكنهم أن يلتقوا به خلال الحواس، ليتعرّفوا فيه على ما هو فوق الحواس. لقد رأوه وسمعوه ولمسوه وتذوّقوا حلاوته وتنسّموا رائحته الذكيّة، لكي يلتقوا به “ابن الله الوحيد الجنس” الذي يُشبع نفوسهم ويرويها!
عِوض الخمس خبزات نجد في المعجزة التالية سبع خبزات، فإن الأمم لم ينعموا بأسفار موسى الخمس، ولا رأوا السيّد المسيح بالجسد في وسطهم يلمسونه خلال حواسهم الخمس، وإنما تمتّعوا به خلال الكرازة بالروح القدس الذي يُعلن إشعياء النبي عن عطاياه السبع: “روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الرب” (إش 11: 2). الروح القدس هو الذي يقدّم للأمم “مسيحنا” المُشبع لنا.
أما بالنسبة للسمك، ففي المعجزة الأولى استخدم الرب سمكتين، وهما كما يقول الآب مكسيموس أسقف تورينو من رجال القرن الخامس [أنهما يُشيران إلى العهد القديم وكرازة يوحنا المعمدان، فقد جاء يوحنا يكرز بوضوح عن المسيّا مشيرًا إليه، هذا الذي سبق فأعلن عنه العهد القديم بناموسه ونبوّاته وأحداثه كاشفًا عن شخصه وأعماله الخلاصيّة. أمّا بالنسبة لنا فأظن أن السمكتين اللتين تُشبعا جموع الكنيسة المقدّسة هما العهدان القديم والجديد، إذ ننعم بالسيّد المسيح خلالهما… أمّا بالنسبة للأمم فقدّم لهم شبعًا خلال قليل من صغار السمك، إذ ليس لهما العهد القديم ولا كرازة يوحنا المعمدان، إنّما قدّم الكرازة خلال التلاميذ البسطاء، القطيع الصغير. لقد أشبعهم هؤلاء الصغار بالمسيح موضوع كرازتهم.]
ثانيًا: في المعجزة الأولى “فضَل من الكِسَر اثنتا عشر قُفّة مملوءة” [20]، أما في المعجزة التالية فقد “رفعوا ما فضل من الكِسَر سبعة سلال مملوءة” (مت 15: 26).
إن كانت كنيسة العهد القديم قد أشير إليها برقم 12، حيث كان عدد أسباطها اثني عشر، فإن السيّد أشبع جميع الأسباط، حيث ملأ الكل بالروح القدس. وقد رفع التلاميذ هذه السلال، إشارة إلى رفع اليهود الذين قبلوا الإيمان بالمسيح عن الفكر المادي الأرضي، ليختبروا الحياة السماويّة، كقول الرسول بولس: “أجلسنا معه في السماويات”.
ويرى القدّيس جيروم أن الاثنتي عشرة قُفّة تُشير إلى الاثني عشر تلميذًا الذين احتلوا مركز الأسباط الاثتى عشر، إذ يقول: ]أطعم شعبه بخبزه وما تبقى جمعه في اثنتي عشرة قفة، أي في الاثني عشر رسولاً، حتى أن ما فُقد في الاثني عشر سبطًا يَخلُص في الاثني عشر رسولاً[11].]
أما كنيسة الأمم المرفوعة بأيدي التلاميذ، فيُشار إليها بسبعة سلال، فقد أعلن سفر الرؤيا عنها أنها كنائس سبع (رؤ 1: 4، 20) يرمز إليها بسبع منائر، إشارة إلى عمل الروح فيها ليُنيرها ويجعلها نورًا للعالم.
ثالثًا: في هذه المعجزة “أمر الجموع أن يتّكِئوا على العشب” [19]. بينما في المعجزة التالية “أمر الجموع أن يتّكِئوا على الأرض” (مت 15: 35). فإذ عاش اليهود زمانًا يتّكلون على الجسد مثل الختان والانتساب لإبراهيم والتطهيرات الجسديّة… ما كان يمكنهم أن ينعموا بالبركة الخاصة بالحياة الإنجيليّة، أو ما كان يمكنهم أن يقبلوا السيّد المسيح طعامًا روحيًا مشبعًا، ما لم يضعوا هذه الأمور تحتهم، أي يتّكئوا عليها، كما على العشب، لأن العشب يُشير إلى الجسد (إش 40: 6، رو 8: 6). ونحن أيضًا لا يمكننا أن نلتقي بالسيّد المسيح ولا نتقبّل عطيّة إلهيّة خلال التلاميذ أي الكنيسة، مادمنا نعيش حسب الجسد، لنُخضع الجسد لنفوسنا بالروح القدس ونتكئ عليه، فيكون خادمًا مطيعًا، يعمل في انسجام مع الروح، لا في مقاومة لها، عندئذ ننعم بالروحيّات.
أما بالنسبة للأمم فقد اتّكأوا على الأرض، إذ صار الأمم كالأرض، عبدوا الآلهة الباطلة فصاروا باطلين. انحطَّت حياتهم وأفكارهم إلى الأرض، لذا لن ينعموا بالطعام السماوي، إن لم يتّكئوا على الأرض ليجعلوها تحتهم لا أن يُستعبدوا هم لها.
رابعًا: في هذه المعجزة شبع نحو 5000 رجلاً ما عدا النساء والأطفال، وفي المعجزة التالية نحو 4000 رجلاً ما عدا النساء والأطفال. وقد سبق في دراستنا لسفر العدد أن رأينا في شيء من التوسُّع أن الله لم يحصِ النساء والأطفال إنّما الرجال وحدهم، ليس احتقارا للمرأة والطفل، وإنما رمزًا لرفض النفس المدلّلة كالمرأة وغير الناضجة كطفل. إنه يريد أن يكون كل مؤمن ناضجًا ومجاهدًا بالروح، يحارب الخطيّة لحساب مملكة النور[12]. نكتفي هنا أن نقتطف عبارات من كلمات القدّيس أغسطينوس: [لم يشمل العدد الأطفال والنساء… فإن المدلّلين (المخنثين) الذين بلا فهم هم خارج العدد. لقد سُمِح لهم أن يأكلوا… ليأكل الأطفال لعلّهم ينمون فلا يعودوا بعد أطفالاً، وليأكل المدلّلون حتى يُصلح أمرهم ويتقدّسوا. إننا نوزِّع عليهم الطعام، وبسرورٍ نخدمهم[13].]
أما من جهة الأرقام فإن المعجزة الأولى أشبعت 5000 رجلاً، إشارة إلى أسفار موسى الخمسة (5) وقد دخلت إلى مفهوم روحي سماوي (1000)، أي أشبعت الذين عاشوا في الناموس، لكنهم تحرّروا من الحرف، وانطلقوا إلى الروح أو الفكر السماوي. هذا ورقم 5000 يُشير إلى الإنسان المسيحي الذي يشبع من الطعام الروحي، إذ تتقدّس حواسه الخمس لتحمل طبيعة سماويّة (1000).
أما في المعجزة الثانية فقد أشبع 4000 رجلاً إشارة إلى شبع العالم في جهاته الأربع، وقد حمل الطبيعة السماويّة (4× 1000). ويمكننا أن نلمس ذلك في حياتنا، إذ خلال الطعام الروحي يتقدّس جسدنا الترابي (رمزه رقم 4) ليحمل أيضًا فيه فكرًا سماويًا (1000).
في اختصار نقول أن السيّد المسيح هو سرّ شبعنا يمسك بالسمكتين والخمس خبزات ليُشبع اليهود، أو بالقليل من السمك والسبع خبزات ليُشبع الأمم. إنه يُشبع الجميع خلال تلاميذه ولا يترك إنسانًا قادمًا إليه يرجع جائعًا! إنه وحده الذي يقدر أن يهبنا شبعًا خلال كنيسته (التلاميذ) بواسطة الناموس الروحي (5 خبزات) والكشف عن أسرار العهدين (السمكتين)، وكلمة الكرازة (قليل من السمك)، وعمل الروح القدس (السبع خبزات)… إنه يُشبع الفكر والقلب، ويقدّس المواهب ويضرمها فينا، ويقود الجسد والروح والنفس معًا بروح واحد نحو السماويات.
- المسيح واهب السلام
إن كان هيرودس بكل مملكته لم تشبع نفسه، مشتهيًا رقصة فتاة، ليقدّم عنها ما تريد، لكن السيّد المسيح الملك السماوي افتقر لكي يغني كل من يؤمن به. إذ انصرف إلى موضع خلاء، انجذبت إليه الجموع [13] فجاءت إليه مشاة من المدن تطلب فيه شبعها الروحي. إنه كملك روحي شفى مرضاهم [14]، وأشبعهم روحيًا وجسديًا أيضًا، حتى فضل من الكِسَر اثنتا عشرة قُفّة مملوءة [20]. والآن يُلزم السيّد تلاميذه أن يدخلوا السفينة ليُعلن لهم عمل ملكوته الداخلي فيهم.
“وللوقت ألزم يسوع تلاميذه أن يدخلوا السفينة
ويسبقوه إلى العبر حتى يصرف الجموع.
وبعدما صرف الجموع صعد إلى الجبل منفردًا ليصلّي.
ولما صار المساء كان هناك وحدة” [22-23].
إنه تصرُّف غريب، فقد ألزم التلاميذ أن يدخلوا السفينة، وصرف الجموع، أمّا هو فصعد إلى الجبل!
فمن جهة التلاميذ ألزمهم أن يدخلوا السفينة ليأمر العاصفة، أو يسمح لها أن تثور. إن ربّنا يسوع المسيح يحترم الإرادة البشريّة ويقدّسها، لكن حين يُلقي الإنسان بنفسه في يديه الإلهيتين بكامل حريّته يلزمه السيّد بالسلوك حسبما يريد. هذا ما نلمسه من قول الإنجيلي أنه ألزم تلاميذه أن يدخلوا السفينة، وكأنهم إذ سلَّموا حياتهم في يديه بكامل حريتّهم، كان يدفعهم إلى وسط البحر، ليختبروا حضرته كسِرّ سلامهم عند هياج العاصف ضدّهم. إنه يعرف ما هو لصالحهم، فيقدّمهم إلى الطريق الكرب والباب الضيّق، ليس إمعانًا في آلامهم، وإنما ليلتقوا به وسط الآلام كمصدر تعزية لهم.
هذا، ومن ناحية أخرى فإن السيّد ألزمهم بالعبور كمن يدفعهم إلى السير وسط تيّارات هذا العالم – محمولين بالصليب – أي السفينة، ليجتازوا إلى الميناء السماوي في البرّ الآخر. وكما يقول العلاّمة أوريجينوس: [هذا هو عمل تلاميذ يسوع، أقصد أن يذهبوا إلى الجانب الآخر، ويعبروا وراء الأمور المنظورة والماديّة الزمنيّة، وينطلقوا إلى الأبديّات غير المنظورة[14].]
أما من جهة الجموع فقد شبعوا من الطعام المادي، وتوقّفوا عند هذا الحد، فلم يكن لهم أن ينعموا بالدخول في السفينة والعبور إلى البرّ السماوي.
أما السيّد المسيح فقد صعد إلى الجبل منفردًا، وكأنه قد ارتفع إلى السماء هناك ليلتقي مع الآب من أجل تلاميذه. إنه يصلّي، أي يتحدّث مع أبيه، مقدّمًا دمه الكريم شفاعة فيهم يغفر خطاياهم، هذا هو الرصيد الذي يعيش به التلاميذ في وسط التجربة عندما تهب العواصف، وأيضًا العون الحقيقي لهم للعبور على الأبديّة. بصعوده إلى الجبل يصعدون هم أيضًا معه وبه وفيه، ليلتقوا مع الآب السماوي الذي يسندهم في الضيّق ويهبهم طبيعة الحياة السماويّة.
صعود السيّد إلى الجبل منفردًا ليصلّي لا يعني هروبًا من الخدمة، وإنما تأكيدًا للحياة العاملة التأمّليّة وخدمة الجماهير باللقاء السرّي مع الآب. حقًا ما أحوجنا إلى الجبل أو البرّيّة لتسندنا أثناء جهادنا الروحي والرعوي. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [البرّيّة هي أم السكون، إنها الهدوء والميناء الذي ينجينا من كل المتاعب[15].] وكما يقول مار اسحق السرياني: [أن مجرّد النظر إلى القفر يهب النفس سكونًا، ويقتل شهوات الجسد فينا.]
البرّيّة ليست مكانًا للهروب من الخدمة أو من العالم، لكنها بحق هي ميدان حرب روحيّة ضدّ إبليس نفسه، فيه تنفضح النفس وتتكشف أعماقها إن كانت ثابتة في الرب، مجاهدة في الطريق الروحي، أو خائرة ومستكينة. البرّيّة تصقّل الرجال وتزيدهم نضوجًا في الروح، وتفضح المتهاونين وتُعلن تراخيهم أو شرّهم!
“وأما السفينة فكانت قد صارت في وسط البحر معذّبة من الأمواج،
لأن الريح كانت مضادة.
وفي الهزيع الرابع من الليل مضى إليهم يسوع ماشيًا على البحر.
فلما أبصره التلاميذ ماشيًا على البحر اضطربوا، قائلين:
إنه خيال، ومن الخوف صرخوا” [24-26].
يقول العلاّمة أوريجينوس: [لقد ألزم المخلّص التلاميذ أن يدخلوا سفينة التجارب، وأن يذهبوا قدّامه ليعبروا إلى الشاطئ الآخر… لكنهم إذ جاءوا إلى وسط البحر منعتهم أمواج التجارب والرياح المضادة من السير نحو الشاطئ الآخر، وصاروا عاجزين، يصارعون كمن هم بدون يسوع لكي يغلبوا الأمواج والأرواح المضادة لبلوغ الشاطئ الآخر. وإذ بذلوا كل ما في قدرتهم لبلوغ الشاطئ الآخر ترفّق بهم الكلمة وجاء إليهم ماشيًا على البحر، هذا الذي لا تعوقه أمواج أو رياح[16].]
ما حدث هنا يقدّم لنا صورة حيّة لقصة الخلاص كلها، فقد دخلت البشريّة إلى وسط البحر في الهزيع الأول، حين سقط أبوانا الأوّلاًن في الفردوس، وتعرّضت حياتهما للموت الأبدي خلال الريح المضادة، أي خداع الشيطان. وفي الهزيع الثاني خارج الفردوس خضعت البشريّة كلها، وهي تحت الناموس الطبيعي للموت الأبدي أيضًا، وليس من يخلّص أو ينقذ. وفي الهزيع الثالث قدّم الله الناموس الموسوي الذي عجز عن إنقاذ الإنسان من الموت، والعبور به إلى حياة البرّ. أمّا في ملء الزمان، وفي الهزيع الرابع، وسط الظلام الحالك، فقد جاء السيّد المسيح مشرقًا على الجالسين في الظلمة ليخلّصهم من الأمواج المهلكة. إنه الشخص الوحيد الذي يقدر أن يتقدّم إلى البشريّة ماشيًا على المياه، ولا تقدر الرياح المضادة أن تقف ضدّه. أمّا الذين سبقوه فلم يستطع أحد منهم قط أن يسير على مياه العالم أو يواجه الريح المضادة دون أن يغرق. لقد تثقَّلت البشريّة كلها بالخطيّة كما بالرصاص (زك 5: 7)، فغاصت في مياه غامرة (خر 15: 10)، أمّا كلمة الله فهو وحده بلا خطيّة يقدر أن يرتفع على المياه فلا تبتلعه!
تقدّم إليهم السيّد موجدًا لنفسه طريقًا على المياه، أي على العالم، دون أن يبتلعه العالم كسائر البشر، وكان متّجهًا نحو السفينة كما إلى الصليب أو إلى كنيسته، لكي يحمل تلاميذه معه فيها، ليكونوا معه وهو معهم، ويكونون فيه وهو فيهم، عابرًا بهم إلى الميناء الأبدي بسلام.
تقدّم إليهم وسط الأمواج الهائجة ليُعلن لتلاميذه أن الضيقات هي المناخ الذي فيه يتجلّى السيّد وسط أولاده. إنه لا ينزع الآلام، وإنما يتجلّى أمام أعينهم، معلنًا حضرته وأبوّته ورعايته قبل أن يُهدِّئ الأمواج.
- إنه لم ينزع الظلمة ولا أعلن ذاته لهم في الحال، بل كما سبق فقلت أنه كان دائمًا يدرّبهم على احتمال هذه المخاوف ويعلّمهم أن يكونوا مستعدّين للألم… لم يُعلن المسيح نفسه قبل أن يصرخوا إليه حتى عندما يزداد رعبهم يزداد ترحيبهم بقدومه إليهم[17].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
إذا جاء السيّد المسيح إلى البشريّة في هزيعها الرابع، والأخير، وسط الظلمة القاتمة، سائرًا على الأمواج، ظنّ الكثيرون أنه خيال، فلم يدركوا حقيقة مجيئه ولا فهموا أسرار عمله الخلاصي، ولا أمكنهم الالتقاء معه وإدراك وجوده كمخلّص في حياتهم. تشكّك البعض في ناسوته ككثير من الغنوسيّين حاسبين أن جسده وهْم وخيال، وأنكر البعض لاهوته كالأريوسيّين. لكن الكلمة الإلهي المتجسّد يُعلن مؤكِّدًا: “تشجّعوا، أنا هو لا تخافوا” [27]. وكأنه يؤكّد حقيقة تأنّسه ووجوده في وسطنا كسِرّ قوّة روحيّة وسلام، نازعًا عنّا كل خوف.
لا يزال يسمح الله لكل مؤمن أن يدخل في السفينة وسط الأمواج، حتى يستطيع أن يدرك حقيقة وجوده في داخله، وسلطانه إذ هو قادر أن يهدِّئ الأمواج الخارجيّة والداخليّة، واهبًا إيّاه سلامًا فائقًا بإعلان حضرته الإلهية فيه!
بطرس على المياه
“فأجابه بطرس وقال:
يا سيّد إن كنت أنت هو،
فمُرْني أن آتي إليك على الماء.
فقال تعال.
فنزل بطرس من السفينة، ومشى على الماء، ليأتي إلى يسوع.
ولكن لما رأى الريح شديدة خاف،
وإذ ابتدأ يغرق، صرخ قائلاً: يا رب نجّني.
ففي الحال مدّ يسوع يده وأمسك به، وقال له:
يا قليل الإيمان لماذا شككت؟
ولما دخلا السفينة سكنت الريح.
والذين في السفينة جاءوا وسجدوا له، قائلين:
بالحقيقة أنت ابن الله” [28-33].
في دراستنا لسفر الخروج سمعنا موسى النبي وشعبه يسبّحون الله من أجل خلاصهم وهلاك فرعون وجنوده قائلين: “قد هبطوا في الأعماق كحجر” (خر 15: 5). فالشرّ كالحجر أو الرصاص يغطس في المياه حتى الأعماق، أمّا الفضيلة الخفيفة فتعوم على المياه، والذين يسيرون فيها يطيرون كالسحاب وكالحمام بأجنحتهم الصغيرة (إش 9: 8).
يقول العلاّمة أوريجينوس: [لقد مشى ربّنا ومخلّصنا على المياه، هذا الذي بالحقيقة لا يعرف الخطيّة، ومشى تلميذه بطرس مع أنه ارتعب قليلاً إذ لم يكن قلبه طاهرًا بالكلّيّة، إنّما حمل في داخله بعضًا من الرصاص… لهذا قال له الرب: “يا قليل الإيمان لماذا شككت؟” فالذي يخلص إنّما يخلص كما بنار (1 كو 3: 15)، حتى إن وُجد فيه رصاص يصهره[18].]
رأى القدّيس بطرس شخص السيّد المسيح سائرًا على المياه فاشتهى أن يلتقي به عليها، وإذ طلب من الرب أمَره أن يأتي إليه، لكن بطرس خاف إذ رأى الريح شديدة. إنها صورة البشريّة قبل التجسّد، التي آمنت بالله القادر أن يسير على مياه العالم، فخرجت تلتقي به، لكنها عجزت تمامًا، وكادت أن تغرق. لكن إذ مدّ السيّد يده أي تجسّد الابن الكلمة، وأمسك بيده المجروحة أيدينا الضعيفة ضمَّنا إلى أحشائه غافرًا خطايانا، فصار لنا به إمكانيّة السير معه وفيه على المياه دون أن نغرق. به دخلنا إلى سفينة العهد الجديد كما دخل بطرس مع السيّد، ليبحر بنا إلى أورشليم العليا.
والعجيب أن السيّد لم يهدِّئ الأمواج لكي يسير بطرس على المياه، وإنما قال لبطرس: “تعال“، مهدّئًا أمواج قلبه الداخليّة ليسير بالإيمان على الأمواج ولا يغرق. حقًا إن سرّ غرقنا ليست الأمواج الخارجيّة، وإنما فقدان القلب سلامه وإيمانه!
- المسيح واهب الشفاء
إذ وهب السيّد المسيح السلام للنفوس المضطربة بسبب الرياح المضادة ودخل بها إلى سفينة كنيسته المقدّسة لتعيش في سلامه الفائق، عبر بها إلى أرض جنِّيسارت، وهناك تعرّف عليه رجال هذا الموضع، فأحضروا إليه جميع المرضى، وطلبوا أن يلمسوا فقط هدب ثوبه، فجميع الذين لمسوه نالوا الشفاء.
إن كان ثوبه يُشير إلى كنيسته الملتصقة به، فإن جميع الذين قبلوه أرادوا أن يبقوا كهُدب ثوبه، أي يحتلّوا الصفوف الأخيرة في كنيسته لكي بالتواضع ينالوا الشفاء لنفوسهم كما لأجسادهم.
[1] In Matt. 2:21.
[2] In Matt. hom 48:6.
[3] In Matt. 2:21.
[4] In Matt. hom 48:4.
[5] Duties of Clergy 1:50.
[6] Duties of Clergy 3:14.
[7] In Matt. 10:23.
[8] In Matt 10:25.
[9] In Matt. hom 49:2.
[10] In Matt. hom 49:4.
[11] On Ps. hom 13.
[12] سفر العدد، 1981م، ص 13.
[13] PL 38 Ser 95.
[14] In Matt. 11:5.
[15] In Matt. hom 50:1.
[16] In Matt. 11:5.
[17] In Matt. hom 50:1.
[18] In Exod. hom 6.