تفسير كورنثوس الثانية 11 – الأصحاح الحادي عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الثانية 11 – الأصحاح الحادي عشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
الإصحاح الحادي عشر
اعتزاز الرسول بجهاده
في الاصحاح السابق رفض الرسول أن يقارن نفسه بغيره، خاصة بالرسل الكذبة، حاسبًا أن دعوته إلهية، ومقاييسه ليست حسب الفكر البشري. الآن يحسب نفسه كمختل العقل، إذ صار ملزمًا إن يكشف عن جهاده، ويقارن نفسه ليس فقط بالرسل الكذبة وإنما حتى برسل المسيح وتلاميذه. هذا كله لا للافتخار، لأنه كما سبق فأكد أن من يفتخر فليفتخر بالرب. وإنما لكي يؤكد صدق رسوليته، فيعمل في الكرم الذي يمتد بين أمم كثيرة.
١. غيرة إلهية ملتهبة ١-٤.
٢. سمو علمه ٥-٦.
٣. رفضه حقه في الاعالة منهم ٧-١٢
٤. خداع الرسل الكذبة ١٣-١٥.
٥. احتمال غباوة افتخاره ١٦-٢٠.
٦. افتخاره حسب الجسد ٢١-٢٢.
٧. أتعاب الرسول الخارجية ٢٣-٢٦.
٨. أتعابه بإرادته ٢٧.
٩. متاعب كنسية ٢٨.
١٠. الشركة مع المتألمين ٢٩-٣٠.
١١. هروبه من دمشق 31-33.
١. غيرة إلهية ملتهبة
“ليتكم تحتملون غباوتي قليلاً،
بل أنتم محتملي” [1].
ليس شيء أصعب على نفس الإنسان المتواضع، خاصة مثل الرسول بولس، أن يضطر إلى الدفاع عن نفسه، والكشف عن جهاده وأتعابه ونجاحه، ومقارنة نفسه باخوته الرسل. لقد حسب نفسه يتكلم كمن في غباوة، كمختل العقل.
طلب منهم أن يحتملوا حديثه القادم من أجل بنيان الكنيسة، وإن كان يعلم أنهم محتملوه.
- إذ يبدأ بولس يتحدث عن نفسه يقول أنه غبي، لكنه التزم بذلك من أجل أولئك الذين لجأوا إلي أفكار غير لائقة، وكان يليق بهؤلاء أن يفكروا فيه حسنًا[1].
أمبروسياستر
لعل الرسول بولس دعى نفسه غبيًا وهو مضطر للدفاع عن نفسه ليبرز أن الرسل الكذبة وقد انتفخوا هم بالحق أغبياء.
“فإني أغار عليكم غيرة اللَّه،
لأني خطبتكم لرجلٍ واحدٍ،
لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” [2].
قبل أن يسرد موضوع افتخاره في الجسد كعبراني وإسرائيلي وابن ابراهيم، وقبل أن يعدد أتعابه التي يلاقيها من الخارج أو بإرادته أو من المشاكل الكنسية، أراد تأكيد وضوح الهدف أمامه. فما يشغله ليس كثرة الأتعاب وإنما سلوكه في الطريق الحقيقي وهو أن يحمل غيرة اللَّه نحو الكنيسة لكي يقدمها عروسًا للمسيح العريس السماوي. ما يشغله إن تكون الكنيسة في كل موضع هو العروس العذراء الطاهرة التي بلا عيب ولا غضن، لن تتسلل إليها أفكار الرسل الكذبة وتعاليمهم الباطلة المفسدة للنفس.
إنه يحمل غيرة ليست بشرية وإنما مصدرها اللَّه، لذا يحمل في أعماقه محبة فريدة مع حزم بإخلاص. إنه يخشى أن تفقد الكنيسة في كورنثوس ما قد تسلمته من الرسول من بركات إلهية.
أبرز الرسول بولس غيرته على أولاده، فإنهم يشبهون ابنة له مدعوة لتكون عروسًا لعريسٍ سماوي، وهو كأبٍ يحرص علي تقديمها عروسًا، مقدسة بلا عيب، لا يقبل من يهينها أو يسيء إلي سمعتها.
وكما يهتم بهم كأبٍ يليق بهم أن يردوا هذه الغيرة المقدسة بغيرة مقدسة فلا يسمحوا لأحد أن يخطئ في حق الرسول بولس أبيهم. من يهينهم يهين أباهم، ومن يهينه يهينهم.
إنه يشبه أيضًا أبًا غيورًا على فتيات بلده العذارى، يهتم أن يتهذبن بثقافة عالية، وأن يسكن بوقار، ويتهيأن للزواج كما يليق.
في العهد القديم كان رئيس الكهنة ملتزمًا ألا يتزوج أية فتاة ما لم تكن عذراء طاهرة (لا ٣:٢١). وكان ذلك ظلاً لما يليق برئيس الكهنة السماوي، أسقف نفوسنا، الرب يسوع، الذي بدمه يجعل من كل الكنيسة في العهدين القديم والجديد، عروسًا واحدة عذراء طاهرة بلا لوم.
- يستخدم بولس هنا كلمة أقوى بكثير من “الحب” المجرد. فالنفوس الغيورة تلتهب بحماس من جهة المحبوبين لها. الغيرة تفترض عاطفة قوية. لذلك فلكي لا يظنوا أن بولس يطلب سلطة أو ثروة أو كرامة يضيف أن غيرته إلهية. فقد قيل عن الله إنه غيور، ليس بطريقٍ بشريٍ، وإنما لكي يعرف كل واحدٍ حقه في السيادة علي من يحبهم، وأن ما يفعله هو من أجل نفعهم المتزايد.
تقوم الغيرة البشرية أساسًا على الأنانية، أما الغيرة الإلهية فهى قوية ونقية.
لاحظ الفارق بين العروس البشرية والكنيسة. ففي العالم المرأة العذراء قبل الزواج تفقد بتوليتها بزواجها. أما في الكنيسة فإن الذين كانوا بتوليين إلي حدٍ ما قبل رجوعهم إلى المسيح يتمتعون بالبتولية فيه. لذلك فإن الكنيسة كلها عذراء[2].
- يقال أيضًا عن اللَّه أنه غيور، فلا يظن أحد أن (اللاهوت) به هوى، وإنما لكي يعرف الكل أنه يفعل كل شيء ليس إلا من أجلهم هؤلاء الذين يغير عليهم، لا ليقتني شيئًا بل لكي يخلصهم[3].
- ماذا يرى النبي في الملائكة ما يستحق الإعجاب؟ “الصانع ملائكته رياحًا وخدامه نارًا ملتهبة” (مز4:103). هذا أيضًا نراه في بولس، كنارٍ وريحٍ، عبر الأرض طولاً وعرضًا ينقّيها أثناء ترحاله[4].
- الوقت الحاضر هو وقت الخطبة… إنه يضع نفسه بالنسبة لها، كمن يقوم بدور من يقوم بتجميع الخطيبين وهم في موضع العروس[5].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- “يضع خاتمًا في إصبعه” (راجع لو ٢٢:١٥). الخاتم هو كرامة، علامة الحرية، عربون الروح الواضح، ختم الإيمان، مهر الزواج السماوي. اسمع الرسول: “خطبتكم لرجلٍ واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح“[6].
- اختيرت فتاة مخطوبة لتشير إلى الكنيسة كعروس المسيح… حقًا إنها عروس، هذه التي بميلاد بتولي تهب حياة لطفولة المسيح الجديدة[7].
الأب بطرس خريسولوجوس
- هذا الذي أبرع جمالاً من بني البشر، ابن القديسة مريم، عريس الكنيسة المقدسة، هذا الذي أقامها على شكل أمه. فقد قدمها لنا لتكون أمًا لنا، واحتفظ بها لتكون عذراء له[8].
- اسمع الرسول يقول لا للنساء المتدينات فحسب، بل ولكل الكنيسة معًا: “خطبتكم لرجلٍ واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح“. ولأن الشيطان مفسد البتولية أضاف: “ولكني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح“. فإن قلة هم الذين لهم البتولية في الجسد، والتزموا بها في القلب[9].
- لماذا يوجه بولس الحديث إلى كل هؤلاء الناس المختلفين بأنهم “عذراء عفيفة” ما لم يشر إلى إيمانهم ورجائهم وحبهم؟[10]
- الكنيسة مثل مريم، لها كمال لا ينتهك وإخصاب غير فاسد. ما استحقته مريم جسديًا راعته الكنيسة روحيًا، مع استثناء أن مريم أنجبت طفلاً واحدًا، أما الكنيسة فلها أطفال كثيرون معينون لكي يجتمعوا كجسدٍ واحدٍ لذلك الواحد[11].
- أتريد أن تعرف كيف تكون الكنيسة عذراء؟ اسمع الرسول بولس، اسمع صديق العريس الغيور لا لنفسه بل للعريس… إنه يتحدث إلى الكنيسة. أية كنيسة؟ إلى كل من يمكن أن تصلهم رسالته… يقول “أخاف عليكم لئلا كما خدعت الحية حواء” جسديًا، هل فعلت ذلك؟… لقد حطمت بتولية قلبها…
هل تقولون لي: “إن كانت الكنيسة عذراء فكيف تنجب اطفالاً؟ أو إن كانت لا تنجب اطفالاً فكيف نقدم أسماء (للعماد) لكي يولدوا منها؟”
أجيب: “إنها عذراء وتلد أيضًا اطفالاً” إنها تتمثل بمريم التي ولدت الرب.
ألم تلد القديسة مريم طفلها وبقيت بتولاً؟ هكذا أيضًا الكنيسة تلد اطفالاً وهي بتول. وإن أعطيت الأمر اعتبارًا خاصًا فإنها تلد المسيح لأن الذين يعتمدون هم أعضاؤه[12].
القديس أغسطينوس
- تُعرف نفوس كل الرجال والنساء إنها عروس المسيح، إن كانوا راغبين في حفظ الطهارة الجسدية وبتولية القلب. إذ يُفهم المسيح أنه عريس نفوسهم وليس أجسادهم البشرية[13].
قيصريوس أسقف آرل
“ولكنني أخاف إنه كما خدعت الحية حواء بمكرها،
هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح” [3].
يعود الرسول بولس بهم إلى بدء الحياة البشرية حيث تسللت الحية وبثت سمومها في حواء، فأفسدت بساطتها وحرمتها هي وأولادها من الاتحاد باللَّه. الآن في غيرة مقدسة يود الرسول ألا يسمح للمعلمين الكذبة، الحاملين لسم الحية القديمة، أن يبثوا سموم تعاليمهم في الكنيسة، فيفسدوا بساطتها وشركتها مع المسيح يسوع عريسها الأبدي.
- حقيقة، تقول إنه يستخدم هذه الكلمات عن نفسه أيضًا حيث يقول: “اخشى لئلا بعدما كرزت للآخرين، أصير أنا نفسي مرفوضًا[14].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فإنه إن كان الآتي يكرز بيسوعٍ آخر لم نكرز به،
أو كنتم تأخذون روحًا آخر لم تأخذوه،
أو إنجيلاً آخر لم تقبلوه،
فحسنًا كنتم تحتملون” [4].
إذ لا يوجد سوى يسوع واحد هو مخلص العالم كله، والروح القدس الواحد الذي يقود الكنيسة ويقدسها، وإنجيل واحد يعلن بشرى الخلاص، فلماذا يستمعون للمعلمين الكذبة الذين يهاجمون ذاك الذي كرز بينهم وأنشأ الكنيسة في كورنثوس؟
هل يكرز بيسوع آخر أو بروح آخر أو إنجيل آخر؟
أو هل يستطيعون هم تقديم هذا المخلص الواحد والروح الواحد والإنجيل أفضل من الرسول بولس؟
ماذا قدموا لهم؟
هل نالوا شركة مع يسوع أفضل من تلك التي تمتعوا بها خلال كرازة الرسول؟
أو هل نالوا مواهب روحية أكثر أو أفضل؟
أو هل نجحوا في الكرازة بالإنجيل أعظم مما فعل الرسول بولس؟
- كان هؤلاء الأشخاص يفتخرون كما لو كان تعليم الرسول غير كاملٍ، وأنهم جاءوا بما هو أكثر مما قدمه الرسل. من المحتمل بهذا الحديث الذي بلا معنى جاءوا بنفايات لا يقبلها العقل يغطوا بها هذه التعاليم. لذلك أشار إلى الحية وحواء التي خُدعت بتوقع معرفة أكثر. من المحتمل أنهم باستخدام الحكمة التي من الخارج تحدثوا بأمورٍ لا معنى لها.
ما يقوله هو هذا: إن كان هؤلاء الأشخاص قالوا بأمور أزيد، وكرزوا بمسيحٍ مختلف ينبغي أن يُكرز به، ونحن قد تجاهلناه فحسنًا تحتملوهم…
ولكن إن كان هذا يجب ألا يُقال، ولم نقله نحن، أو إذا كانوا يقولون فقط بالأمور التي نحن قلناها، فلماذا أنتم تنشقون عنا هكذا متعجبين بهم؟…
هكذا إن كان شيء ما كان يجب أن يقال ونحن تجاهلناه، وهم حققوه فإننا لا نمنعكم من الإصغاء إليهم، ولكن إن كان كل شيء قد تم بالكامل بواسطتنا ولم ننقصكم شيئًا فمن أين لهم أن يردوكم عنا؟[15]
القديس يوحنا الذهبي الفم
٢. سمو علمه
“لأني أحسب إني لم انقص شيئًا عن فائقي الرسل” [5].
إنه لم ينقص عن فائقي الرسل مثقال ذرةٍ؛ في كرازتهم بيسوع المسيح المخلص، وخدمتهم بالروح، ونشرهم لإنجيل الخلاص. إنهم ليسوا بأكثر أثرًا مما فعله الرسول بولس.
“وإن كنت عاميًا في الكلام،
فلست في العلم،
بل نحن في كل شيء ظاهرون لكم بين الجميع” [6].
إن كان يلتزم أن يتحدث معهم في بساطة بلا تكلف، كرجل عامي لا يستخدم البلاغة، لكنه ليس بلا خبرة في معرفة اللَّه، وفي الأمور السماوية الروحية، أو في معرفة طبيعة النفس البشرية، أو الحق الإنجيلي. إنهم شهود له عن خبرته وعلمه في كل هذه الجوانب.
ما كان يشغل قلب الرسول هو تقديم الحق لا ابراز بلاغة اللغة. ربما كان قادرًا أن يتحدث بفصاحة، لأن ثقافته هيلينية، لكنه كان يهتم باللغة التي تعبر به إلى قلوب سامعيه، وهي لغة الحب مع البساطة والحكمة.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه يقصد بفائقي الرسل بطرس ويعقوب ويوحنا[16].
- إذا فرضنا أن الرسول كان فقيرًا في الكلام، وكانت لغته بسيطة إلا أنه لم يكن أُميًّا في المعرفة[17].
- واضح أن الرسل الكذبة كان لديهم موهبة البلاغة التي نقصت بولس. ولكنه لا يعني شيئًا مادام جوهر الكرازة قائم، وتلقي ظلاً على مجد الصليب، فهذه (البلاغة) ليست إلا مظهرًا جذابًا[18].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- كان بولس متعلمًا الأدب العبري، جلس عند قدمي غمالائيل هذا الذي لم يخجل من أن يعترف بذلك (أع 22 :3)، لكنه أظهر استخفافًا بالبلاغة اليونانية، أو على الأقل أخذ موقف الصمت بالنسبة لها بسبب تواضعه، حتى لا تكون كرازته قائمة على اقناع كلماته بل على قوة آياته[19].
القديس جيروم
- بدون الرب يسوع وعمل قوته الإلهية لا يستطيع أحد أن يعرف أسرار اللَّه وحكمته… فلاسفة اللَّه هم أولئك الذين ينقادون بالقوة الإلهية، ويقتاتون وينضبطون بها في الإنسان الباطن. يتعلم الفلاسفة اليونانيون صناعة الكلام، بينما الآخرون هم “عاميّون في الكلام“[20].
القديس مقاريوس الكبير
٣. رفضه حقه في الاعالة منهم
“أم أخطأت خطية إذ أذللت نفسي،
كي ترتفعوا أنتم،
لأني بشرتكم مجانًا بإنجيل اللَّه” [7].
أساء المعلمون الكذبة استغلال محبة الرسول بولس، فإذ سبق في الرسالة الأولى وسجل لهم عن تنازله عن أحد حقوقه الرسولية، وهي أن يعيش من الإنجيل الذي يكرز به، متسائلين: لماذا يعمل بيديه ليعيش هو ومن معه بينما يعيش بقية الرسل على الكرازة؛ وتلتزم الكنائس بمئونتهم؟ اعتبروا هذا نوع من عدم المساواة مع الرسل. وقد أجاب عليهم بالقول: “إذ أذللت نفسي كي ترتفعوا أنتم“. حسب المعلمون الكذبة أن ممارسته للعمل اليومي العادي يتنافى مع تكريس الرسول الحقيقي لكل وقته للعمل الكرازي.
لم يكن دافع الرسول في هذا سوى أن يعطي لهم الفرصة ليقبلوا الكلمة دون عائق مادي، أو دون أن يثقل عليهم بأية التزامات.
يرى أمبروسياستر[21] أن القديس بولس فعل ذلك مقابل اهتمام الرسل الكذبة بالكرازة لا لمجد اللَّه وإنما لنفعهم الخاص. وربما فعل ذلك لكي لا يفقد سلطانه فى مراقبة الخطاة بسبب اعالتهم له.
“سلبت كنائس أخرى، آخذًا أجرة لأجل خدمتكم،
وإذ كنت حاضرًا عندكم واحتجت،
لم اثقل على أحدٍ” [8].
بقوله “سلبت كنائس أخرى” يظهر الرسول بولس أن هذه الكنائس لم تقف عند تشجيعه في خدمته أهل كورنثوس، بل قدموا له عونًا ماليًا ضخمَا لحساب هذه الخدمة.
ولعله بهذا يود أن يلمح إلى قبوله مساهمات أهل مكدونية لأنهم اصلحوا طرقهم، ورفض مساهمات أهل كورنثوس حتى يحققوا الإصلاح وعندئذ يقبل المعونة منهم.
كلمة أجرة opsoonion هنا تعبير عسكري يشير إلى ما يتسلمه الجندي من مالٍ ومئونةٍ يوميةٍ حتى يتفرغ للعمل العسكري. وكأنه يقول لهم: “لم ألزمكم بشيء، إنما سلبت كنائس أخرى لأتسلم منها قوتي اليومي، وضروريات الحياة اليومية من طعام وملبس أثناء خدمتي وكرازتي لأجل خلاصكم، فهل تحسبون هذا جريمة؟ أو تحسبونه إهانة للعمل الرسولي؟”
ربما يتساءل البعض: لماذا أحيانًا يرفض الرسول الإعالة من الكرازة وأحيانا يقبلها؟ يجيب القديس يوحنا الذهبيّ الفم قائلاً:
- كان إنسانًا ذا نواحٍ عديدة وأوجه كثيرة، ولا أعني بذلك أنه متصنع، حاشا للَّه. ولكنه صار لكل الناس كل شيءٍ، حسب ما تتطلبه احتياجات الإنجيل وخلاص البشرية. فصار بذلك مُتشبهًا بمعلمه (السيد المسيح).
ظهر اللَّه نفسه كإنسانٍ حينما تطلب الأمر ذلك، وظهر في العهد القديم كنارٍ عندما اقتضى الأمر. نراه في زيّ المحارب المستعد، أو في احتياج الرجل المسن، أو في نسمة الريح، أو كمسافرٍ كإنسانٍ حقيقيٍ وفي هذه الحالة لم يرفض الموت.
وإني أجد ضرورة تكرار عبارة “حينما لزم الأمر” لئلا يظن أحد أن اللَّه مُلزم أن يفعل ذلك، بل فعل كل تلك الأشياء من نبع حبه للإنسان. تارة جلس على عرش، وأخرى على الشاروبيم، وعمل اللَّه ذلك حسبما تطلب الأمر في ذلك الوقت.
وإذ تمثل بولس بسيده لا نلومه، إذ نراه مرة كيهودي ومرة أخرى كأممي، مرة يدافع عن الناموس وأخرى ضده، تارة يتمسك بالحياة الحاضرة وأخرى يستخف بها، تارة يطلب مساعدته في الاحتياجات وأخرى يرفض العطايا، تارة يقدم الذبائح ويحلق رأسه وأخرى يعتبر من يفعل ذلك أناثيما (أي محرومًا)، تارة يسمح بالختان وأخرى يُحاربه ويمنعه. فما عمله بولس يظهر من الخارج نوع من التناقض، ولكن الهدف والحكمة وراء ما عمله مُقنع جدًا حسبما يتطلب الموقف[22].
القديس يوحنا الذهبي الفم
يظهر الرسل الكذبة أنهم صالحون على السطح، لكن عمليًا كانوا يسلبون النفوس. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنهم بالحق يأخذون مالاً مع أنهم حرصوا على إخفاء ذلك[23].]
“لأن احتياجي سدّه الاخوة الذين أتوا من مكدونية،
وفي كل شيء حفظتُ نفسي غير ثقيلٍ عليكم، وسأحفظها” [9].
حين كان حاضرًا في كورنثوس يكرز فضِّل ألا يطلب شيئًا من أحدٍ حتى ضروريات الحياة، حتى لا يُثقل عليهم، بل طلبها من الذين حضروا من مكدونية. فمن الذي يُلام: الرسول أم أهل كورنثوس؟
ربما يشير هنا إلى المئونة التي بعثت بها الكنيسة في فيلبي بمكدونية، إذ وهو في تسالونيكي بعث إلى أهل فيلبي يقول لهم بأنهم أرسلوا له ضرورياته مرة ومرتين (في ٤ : ١٥-١٦).
“حق المسيح فيَّ،
إن هذا الافتخار لا يُسد عني في أقاليم أخائية” [10].
يرى البعض أن هذا نوع من القسم بانه ينطق بحق المسيح الذي فيه، ويرى آخرون أنه تعبير عن الثبات في الحق الذي ليس خارجًا عنه، بل هو ساكن فيه. يؤكد الرسول أن كرازته بلا مقابل حتى ولا بالضروريات، ليس فقط في كورنثوس، وإنما في كل مقاطعة أخائية.
“لماذا، ألأني لا أحبكم؟
اللَّه يعلم” [11].
خشى لئلا يعود فيوقع المعلمون الكذبة بينه وبينهم، بدعوى أنه لم يطلب منهم مئونته الضرورية، وطلبها من غيرهم أثناء اقامته عندهم، بسبب نقص في محبته لهم أو عدم الثقة فيهم. لهذا أكد محبته لهم، مقدمًا اللَّه نفسه شاهدًا على ما يكتبه.
“لكن ما أفعله سأفعله،
لأقطع فرصة الذين يريدون فرصة،
كي يوجدوا كما نحن أيضًا في ما يفتخرون به” [12].
يبرر التجاءه إلى آخرين لنوال مئونته أنه لا يريد أن يعطي فرصة للمعلمين الكذبة أن يفتخروا بأنهم لا يطلبون أجرة بينما يطلب الرسول ذلك، فيتهمونه بالمادية والطمع.
٤. خداع الرسل الكذبة
“لأن مثل هؤلاء هم رسل كذبة،
فعلة ماكرون،
مغيِّرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح” [13].
يستغل المعلمون الكذبة كل فرصة لإفساد الخدمة، وتشويه الحق، والتشكيك في شخصية الرسول بولس وهم يتظاهرون بعدم نوال أجرة، وأنهم روحانيون، حتى يبدو كأنهم رسل للمسيح وليسوا مخادعين. لكن حتما سيظهروا فيما بعد على حقيقتهم أنهم فعلة ماكرون. ينادون باسم المسيح ويكرزون ويعملون بقوة، لكن تعاليمهم وحياتهم مملوءة خداعًا.
“ولا عجب،
لأن الشيطان نفسه يغيِّر شكله إلى شبه ملاك نور” [14].
لا عجب، فإن هؤلاء الكذبة يمارسون أعمال أبيهم الكذاب والمخادع، إبليس، الذي يغير شكله إلى شبه ملاك نور. لقد ظهر لأول أم، حواء، كمن يقدم لها مشورة صالحة وينير ذهنها لمعرفة حقائق مجهولة بالنسبة لها، فخدعها وقادها إلى العصيان.
يتشكل عدو الخير بكل الطرق للخداع، تارة يتحدث خلال حية ماكرة، وأخرى يظهر كأسدٍ زائرٍ، وثالثة كملاك نور الخ. كل هذا لكي يفسد حياة المؤمن الروحية ويحرمه من بركات الخلاص.
- اخترع الهرطقات والانشقاقات لكي يتلف الإيمان، ويفسد الحق، ويحطم الوحدة. وإذ يعجز عن أن يحفظنا في طرق الخطأ الجديد المظلمة يسحبنا إلى متاهة جديدة للخداع.
إنه يصطاد الناس بعيدًا عن الكنيسة نفسها، وإذ يظنوا أنهم اقتربوا من النور وهربوا من ليل العالم يغمرهم في ظلمة جديدة وهم غير مدركون لها.
ومع أنهم لا يتمسكون بالإنجيل ونظام المسيح وناموسه يدعون أنهم في النور خلال مداهنات العدو المخادعة، هذا الذى يقول عنه الرسول أنه يغير نفسه إلى ملاك نور ويزين خدامه كخدام للبرَ.
يدعون الليل نهارًا، والموت خلاصًا، واليأس رجاءً، والخيانة أمانة، وضد المسيح المسيح، ويثبط الحق بالخداع بإبراز الحق بصورة كاذبة.
هذا هو ما يحدث يا اخوتي عندما لا نعود إلى ينبوع الحق، عندما لا نتطلع إلى الرأس ونحفظ التعليم الصادر من السماء[24].
القديس كبريانوس
يقدم لنا القديس جيروم تفسيرًا لماذا يتخفّى الشيطان في شكل ملاك نور؟ يقول بأن العروس تطلب عريسها السماوي في الظهيرة (نش7:1) حيث نور المعرفة الكاملة ونور الأعمال الصالحة، لهذا يتخفّى العدو في الهراطقة والمعلّمين الكذبة، فيظهرون كمن هم مشرقون بنور المعرفة ويعدون بملكوت السموات خلال تعاليمهم الزائفة، مقدّمين نور الشيطان الخادع، لا نور المسيح السماوي.
- أتريدين أن تجديني؟ تجديني عند الظهيرة، في كمال المعرفة، في الأعمال الصالحة، في النور البهي. وإذ لنا الظهيرة لهذا يغيّر الشيطان نفسه كملاك نورٍ ويبدو كمن له النور والظهيرة. عندما يعد الهراطفة بما يدعوه من أسرار، ويعدون بملكوت السماوات، ويعدون بالعفة والأصوام والقداسة ونبذ العالم إنما يعدون بالظهيرة. وحيث أن ظهيرتهم ليست نور المسيح فإنها ليست بالظهيرة بل ظهيرة شيطان[25].
القديس جيروم
- ملاك النور هو كائن يتكلم بحرية حيث يقف بالقرب من اللَّه، هذا ما يتظاهر به إبليس[26].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فليس عظيمًا إن كان خدامه أيضًا يغيِّرون شكلهم،
كخدام للبرّ،
الذين نهايتهم تكون حسب أعمالهم” [15].
إن كان خدام ابليس يتشبهون به، فيخدعون الآخرين كخدام للبرّ، فإن هذا لن يستمر بل يبقى إلى حين، وتصير نهايتهم باطلة كما أن أعمالهم باطلة.
- من عادة إبليس أن يقلد الأمور الخاصة باللَّه. إنه يقيم رسلاً كذبة ليقاوموا الرسل الحقيقيين، ويأخذ شكل ملاك لكي يخدع البشر[27].
ثيؤدورت أسقف قورش
- من يمدح الفضيلة وفي نفس الوقت يخفي أخطاءه، فيأخذ الناس عنه فكرة طيبة، فهو كاذب. لأنه يتحدث عن الفضيلة كمن قد اقتناها أو لكي يدين الآخرين. هكذا فإن الأشرار والهراطقة مثل الشيطان، لأنهم يخدعون الآخرين، لأن الفضيلة التي فيهم مزيفة وغير حقيقية، لأنه مكتوب: “الشيطان نفسه يغيِّر شكله إلى شبه ملاك نور“. فلا عجب إذا كان خدام الشيطان أنفسهم يغيّرون شكلهم إلى شبه رسل البرّ[28].
القديس دوروثيؤس
- ليس شيء سوي رحمة اللَّه هي التي يمكنها أن تخلص الإنسان من خطأه حيث يظن الملائكة الأشرار أنهم ملائكة صالحون، والأصدقاء الكذبة أصدقاء حقيقيون، وتنقذه من المعاناة من دمار كامل خلال الخداع الشيطاني المميت تمامًا ولا يُعبر عنه بكلمات[29].
القديس أغسطينوس
٥. احتمال غباوة افتخاره
“أقول أيضًا لا يظن أحد إني غبي،
وإلا فاقبلوني ولو كغبي،
لافتخر أنا أيضًا قليلاً” [16].
إذ يبدأ الحديث في شيء من التفصيل عن مؤهلاته وسمادته وجهاده في الخدمة خشي أن يُتهم بالغباوة كمن يطلب مجدًا لنفسه.
“الذي أتكلم به لست أتكلم به بحسب الرب،
بل كأنه في غباوة،
في جسارة الافتخار هذه” [17].
ما سينطق به ليس بحسب الرب، لأن الرب لا يريدنا أن نفتخر بما نعمله. وقد خشي الرسول لئلا يجدوا في كلماته فرصة لكي يفتخر كل واحدٍ بما أنجزه أو احتمله من آلام من أجل الخدمة. وكأنه يخبرهم بأنه يفعل ذلك كمختل العقل، كأمر استثنائي للغاية لتأكيد رسوليته.
- لا تقولوا لي عما كتبه في رسائله، لأن ما احتفظ به في داخله أكثر مما أفصح عنه. فلم يبُح بكل ما في داخله حتى لا يُتهم بالافتخار، ولكنه أيضًا لم يلتزم الصمت في كل شيء، لأن هذا سيقيم عليه ألسنة الأنبياء الكذبة ضده.
لم يفعل شيئًا بطريقة عشوائية، ولكن كان كل شيءٍ بنظامٍ وتخطيطٍ جيدٍ. فكل أعماله بجوانبها المتعددة تتميز بالمديح (العالمي) من الجميع.
دعوني أستفيض في ذلك، إنه لشيءٍ جيدٍ عدم الافتخار بالنفس، ولكن بولس تكلم بتلقائية شديدة، حتى أنه مُدح على كلامه أكثر من لو بقى صامتًا. لأنه لو التزم الصمت لاستحق النقد أكثر من هؤلاء الذين يمدحون أنفسهم بخزي.
لو لم يتغنى بأعماله لفُقد كل شيء وقوي أعداؤه.
لقد عرف كيف ينتفع من كل فرصة متاحة وبالطريقة الملائمة، عرف ما هو خطأ، ولذا كسب مجد طاعة الوصية.
اكتسب بولس مجدًا بافتخاره أكثر ممن اكتسبه أي شخص آخر أخفى أعماله الصالحة، لأنه لا يوجد شخص أخر أخفى أعماله الصالحة، ونال ما حصل عليه بولس الرسول بالكلام (بالافتخار).
الأمر العجيب ليس في أنه تحدث عن نفسه، ولكن أنه تحدث بالقدر الملائم الصحيح، فلم يستفض في وصف المواقف الصالحة حتى لا يقع في مديح النفس، لكنه عرف متى وأين يتوقف.
ولم يفعل ذلك إرضاءً لنفسه، ولكنه وصف نفسه كمختل ليوقف الآخرين عن الانغماس في مديح النفس من أجل المديح ذاته، لأنه فعل ذلك فقط في المواقف التي تطلبت ذلك[30].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“بما أن كثيرين يفتخرون حسب الجسد،
افتخر أنا أيضًا” [18].
بقوله: “يفتخرون حسب الجسد” يشير إلى المؤمنين الذين من أصل يهودي الذين يفتخرون حسب الجسد أنهم من أصل عظيم لأنهم أبناء ابراهيم حسب الجسد.
إن كان كثيرون يفتخرون بأمور خارجية وزمنية، فمن جهته يستطيع أن يفتخر مثلهم وإن كان لا يريد أن يفتخر هنا.
- ما هذه الأمور الزمنية التي يفتخر بها بولس؟ ميلاده، غناه، حكمته، شعبيته. إنه يعرف تمامًا أنه ليس شيء من هذه الأمور لها أدنى قيمة. هذا هو السبب الذي لأجله دعى نفسه غبيًا[31].
القديس يوحنا ذهبيّ الفم
“فإنكم بسرور تحتملون الأغبياء،
إذ أنتم عقلاء” [19].
لعل الرسول حسب هؤلاء المعلمين الذين ينادون بضرورة التهود، أي ممارسة الختان وحفظ السبت الخ. أغبياء، إذ يسلكون حسب الجسد مع اهتمامهم باقتناء الكرامة الزمنية وغيرها، هؤلاء احتملهم الكورنثيون.
ربما يتحدث هنا باسلوب فيه نوع من السخرية حيث ادعى الكورنثيون أنهم حكماء، واستطاعوا بالحكمة أن يدركوا إن الرسول غبي.
إن كان الكورنثيون يحسبون أنفسهم حكماء، والحكيم يحتمل غباوة الآخرين وضعفاتهم، فلماذا لم يحتملوا الرسول بولس إذ ظنوه غبيًا.
“لأنكم تحتملون إن كان أحد يستعبدكم،
إن كان أحد يأكلكم،
إن كان أحد يأخذكم،
إن كان أحد يرتفع،
إن كان أحد يضربكم على وجوهكم” [20].
إذ حسبوا أنفسهم حكماء ظنوا أنهم قادرون على احتمال الضعفاء؛ وبهذا صمتوا أمام المعلمين الكذبة الذين استعبدوهم بافكارهم الخاطئة وافسدوا حياتهم، وتشامخوا عليهم، بل وضربوهم على وجوههم، إذ جعلوهم في خزي. كل ذلك لأنهم غير مختونين ولم يحفظوا الناموس حرفيًا. يرى البعض إن هؤلاء المعلمين كانوا يهودًا ينادون بضرورة التهود، أي ممارسة القوانين والشرائع الموسوية حرفيًا كالختان وحفظ السبت وشرائع التطهيرات.
هكذا استعبدوهم للحرف القاتل، وصاروا يأكلونهم كما يفعل الفريسيون الذين يظلمون الأرامل ولعلة يطيلون الصلوات، ويأخذونهم إلى المجامع اليهودية، ويطالبونهم بالذهاب إلى الهيكل في أورشليم. ينتفخون عليهم بكونهم أولاد ابراهيم من شعب اللَّه المختار الذي له المواعيد والعهود فهم أعظم من كل المسيحيين الذين من أصل أممي. ويضربونهم على وجوههم إذ يهينوهم، ناظرين إلى الأمم ككلاب لن يبلغوا مرتبة ابناء اسرائيل.
٦. افتخاره حسب الجسد
“على سبيل الهوان أقول كيف أننا كنّا ضعفاء،
ولكن الذي يجترئ فيه أحد،
أقول في غباوة أنا أيضًا اجترئ فيه” [21].
من أجل التوبيخ لا من أجل الافتخار اضطر بولس الرسول أن يعلن أن ما يفتخر به هؤلاء المتهودون يمكنه أن يفتخر هو به أيضًا، حاسبًا إن هذه الأمور ليست موضوع فخر، بل موضوع ضعف تحرر منها ليعيش بروح القوة.
- ما يريد أن يقوله هو هذا: ألا نستطيع نحن أن نفعل كل هذه الأمور؟ نعم، لكننا لا نفعلها. لهذا هل تحتملون هؤلاء الناس كأننا لا نقدر أن نفعل نحن مثلهم؟… فإن هذا هو نوع جديد من الخداع. فإن الذين يخدعون يعطون ويتملقون، أما هؤلاء فيخدعون ويأخذون ويهينونكم. ليس لكم عذر ما، فإنه من جانبٍ أنتم تهينون الذين يتواضعون من أجلكم لكي تفتخروا أنتم، ومن الجانب الآخر تُدهشون ممن يفتخرون لكي ما تهانوا أنتم. أفلا نستطيع أن نفعل هذه الأمور مثلهم؟ نعم، لكننا لا نرغب في ذلك؛ فاننا نطلب نفعكم[32].
- يعني بولس بهذا أنه يستطيع أن يفعل كل الأشياء المشار إليها هنا، لكنه لا يفعل ذلك. بينما يفتخر الرسل الكذبة بالكورنثيين علانية ويسلبونهم سرًا. ويبدو أن الشعب لم يدرك ذلك إذ خدعوهم[33].
القديس يوحنا ذهبيّ الفم
“أهم عبرانيون؟
فأنا أيضًا.
أهم إسرائيليون؟
فأنا أيضًا.
أهم نسل إبراهيم؟
فأنا أيضًا” [22].
يبرز الرسول هنا أنه ليس بأقل من هؤلاء المعلمين الذين يفتخرون من جهة الجسد، إذ لا ينقصه عنهم شيء، وهو بهذا يؤكد أن اتهاماتهم ضده باطلة.
من جهة المولد هم عبرانيون ويعتزون بذلك، والرسول أيضًا عبراني مثلهم، لكنه يعتز بأنه صار كارزًا بالكنيسة التي لا تتحيز لجنسٍ دون آخر، بل يصير الكل أعضاء في جسد المسيح الواحد. هم يتحدثون بالعبرية ويقرأون العهد القديم باللغة التي كتب بها. إنها لغته، لكنه يتدرب على لغة السماء.
هم إسرائيليون، يحسبون أنفسهم من شعب اللَّه المختار، وهو أيضًا إسرائيلي من نسل يعقوب لا عيسو، هو من سبط بنيامين عن أبيه وأمه. لكنه يرى إسرائيل الجديد الذي هو عروس المسيح الحقيقية تضم من كل الأمم والألسنة والشعوب.
هم يفتخرون أنهم من نسل ابراهيم، أبناء الختان وأصحاب العهد. ليكن، والرسول من نسل ابراهيم، خُتن في اليوم الثامن لميلاده وعاش ينتظر التمتع بالوعود الإلهية. الآن هو ابن للَّه يمارس أعمال أبيه السماوي.
٧. أتعاب الرسول الخارجية
“أهم خدام المسيح؟
أقول كمختل العقل: فأنا أفضل،
في الأتعاب أكثر،
في الضربات أوفر،
في السجون أكثر،
في الميتات مرارًا كثيرة” [23].
بعد أن استعرض ما يفتخرون به من جهة مولدهم وجنسهم كيهودٍ عبرانيين لهم حق نوال العهود والمواعيد الإلهية، واضطر أن يعلن عن نفسه أنه يحمل ذات الميزات التي لهم، لكنه يراها ليس موضوع قوةٍ وفخرٍ بل هي ضعفات، الآن إذ يفتخرون أنهم خدام المسيح، فكمختل العقل يقول أنه أفضل منهم. إنه ليس بخادم للمسيح عادي، فقد حسبه اللَّه أمينًا ودعاه للخدمة. أما من جانبه ففاقهم في أعمال الرسولية.
إنه يعتز بنعمة اللَّه التي قادته وسندته لكي يحتمل أتعاب في الرسولية أكثر منهم.
كرسولٍ للأمم أبغضه اليهود جدًا، وكالوا له متاعب واضطهادات أكثر مما فعلوه مع غيره من الرسل. كلما حانت الفرصة لمقاومته بذلوا كل الجهد لتعذيبه ومحاولة قتله.
من جهة الأتعاب كان كثير الترحال من بلدٍ إلى بلدٍ، من مقاطعةٍ إلى أخرى. وكثيرًا ما كان يضطر إلى الانطلاق للكرازة في بلاد أخرى تحت ضغط اليهود والمقاومين له والمصممين على قتله. كان يلمس يد اللَّه التي تحول هذه المتاعب لانتشار الكرازة وإقامة مملكة النور عوض الظلمة في مواضع كثيرة.
من جهة الضربات فهي أوفر، فقد تعرض لضربات الوثنيين الذين لا يحكمهم قانون معين في وضع العقوبات، فضربوه بلا رحمة بجلدات كثيرة (١٦ : ٢٢-٢٣).
“في السجون أكثر“: تاريخ الرسول بولس كله مليء بالسجون (أع ١١:٢١)، وقد سجن على الأقل لمدة عامين في روما (أع ٢٨)، لكن لم يسمعوا عن رسول كاذب قد سُجن.
“في الميتات مرارًا كثيرة“، كان يترقب الموت كل يوم بسبب كثرة ما تعرض له من اضطهادات.
- ليس من أحد آخر وُهب له مثل هذا الحب للرب مثل هذه الروح الطوباوية. أقصد كأنه قد تحرر من الجسد وارتفع في الأعالي، قل أحسبه كمن وطأ الأرض وخلص نفسه من كل هذه العلامات.
أنتم ترون أن شوقه للَّه وحبه الملتهب رفع فكره من الأمور المادية إلي الروحية، من الحاضر إلى المستقبل، من المنظورات إلى غير المنظورات. هذا ما يجلبه الإيمان، الحب للَّه فوق كل شيء.
لكي تبرهن هذا الاتجاه السليم تطلعوا إلى هذا الرجل بحبه العظيم للرب، ورغبته المتقدة نحوه. كان مُطاردًا ومُضطهدًا وتحت العقوبة، وتحت آلام لا حصر لها…
وإذ كان يعاني من كل هذه الأمور فرح وابتهج. ها أنتم ترون كيف كان مقتنعًا تمامًا بأن أتعاب الحياة الحاضرة هي فرصة لينال مكافأة عظيمة. وأن الأخطار هي مصدر الإكليل.
أضف إلى هذا إن كان بدافع الحب لراحيل حسب يعقوب فترة السبع سنين كأيامٍ قليلةٍ كم بالأكثر هذا الطوباوى حسب كل هذه الأمور كلا شيء بسبب التهابه بحب اللَّه واستعداده لاحتمال كل شيء من أجل محبته للمسيح.
أسألكم أيضًا اهتموا بمحبة المسيح. فالمسيح لا يطلب منكم شيئًا، سوى أن تحبوه من كل قلوبكم وتقبلوا وصاياه كما يقول الكتاب المقدس[34].
- تقول: نجد في الكتاب إعجابًا بيعقوب بن اسحق وذلك لقوته (تك28:32). لكن أي نفس، مهما بلغت صلابتها، تعادل قوة احتمال بولس؟! لقد احتمل العبودية ليس فقط لمدة أربعة عشر عامًا (تك18:29، 27) بل كل أيام حياته من أجل عروس المسيح. احتمل ليس حر النهار وبرد الليل فحسب، بل عواصف من التجارب لا تُحصى، من جلدٍ ورجمٍ ومصارعة وحوشٍ مفترسة وأخطارٍ في البحر وأصوامٍ متواصلة نهارًا وليلاً وعُرىٍ وأخطارٍ في كل موضع (2 كو 23:11 الخ) حتى يتفادى الشباك ويخطف الحملان من بين أنياب الشيطان[35].
- إنه يعرف حسنًا أن يصحح تلاميذه في الوقت المناسب، بطريقة جادة ولطيفة. بالتأكيد لديه مصادر أخرى كأن يوضح بها الحق الخاص بكرازته بآيات وعجائب، مع مخاطرٍ وسجونٍ، وميتاتٍ يومية، وجوعٍ وعطشٍ، وعريٍ وما أشبه ذلك. الآن لا يتحدث عن الرسل الكذبة بل عن الرسل الحقيقيين الذين اشتركوا في ذات المخاطر، مستخدمًا وسيلة أخرى. فإنه عندما أشار إلى الرسل وضع مقارنة معهم مظهرًا احتماله للخطر، قائلاً: “أهم خدام المسيح؟ … فأنا افضل أكثر، في الضربات أوفر، في الميتات مرارًا كثيرة”[36].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة” [24].
جُلد خمس مرات من اليهود هؤلاء الذين لا تسمح لهم الشريعة بالجلد سوى أربعين جلدة (تث ٣:٢٥). فمن أجل تنفيذ الناموس جلدوه ٣٩ جلدة حتى لا يخطئوا في العدد فيكسروا الناموس. وقد سبق لنا الحديث عن ذلك في تفسير سفر التثنية.
حسب المشناة الإنسان الذي لا يحتمل الأربعين جلدة يُجلد ١٨ جلدة، ويُحسب أنه قد وفى كل العقوبة[37].
كان المحكوم عليه بالجلد تُربط يداه في عمود، ويقوم خادم المجمع بنزع ثيابه أو تمزيقها حتى يصير ظهره وصدره عريانين. يوضع حجر خلفه يجلس عليه الخادم منفذ الحكم ويمسك بالسوط الذي من الجلد غالبًا به ثلاثة فروع. ثلث الجلدات على صدر المجرم، والثلث على كتفه الأيمن والثلث الباقي على كتفه الأيسر. يضرب الخادم بكل قوته، أما المجرم فينحني، لا يكون جالسًا أو واقفًا.
لم يكن يُسمح بالجلد أكثر من مرة إلا بالنسبة للمجرمين العتاة جدًا.
- انظروا كيف لا يفتخر في أي موضع بصنعه الآيات بل باضطهاداته وتجاربه!… في كل موضع نجده في اضطراب وفي ثورة مما يحل عليه من ذويه ومن الغرباء. هذه شخصية رسولية؛ بهذه الأمور يُنسج الإنجيل[38].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ثلاث مرات ضربت بالعصي،
مرة رجمت ثلاث مرات،
انكسرت بي السفينة،
ليلاً ونهارًا قضيت في العمق” [25].
ضُرب بالعصي وذلك حسب القانون الروماني، وقد حدث ذلك في فيلبي (أع ٢٢:١٦)، أو تكرر ذلك مرتين أخريتين في مناطق أخرى.
رجم في لسترة (أع ١٩:١٤)
انكسرت به السفينة
قضى في العمق، أي في زنزانة في السجن الداخلي كسجين نهارًا وليلاً.
- يعجب الناس من اسحق في أمور كثيرة، خاصة صبره. فقد حفر آبارًا (تك18:26 )، وحين نُزعت عنه أملاكه لم يتشاجر بل سمح بردم آباره، وكان دائم الترحال من مكانٍ إلى آخر. لم يحشد قواته ضد العدو، بل كان يرحل تاركًا وراءه ممتلكاته حتى يُشبع عدوه رغبته في الظلم. أما بولس فحين رأى ليس آباره تُردم بالتراب بل جسده يُرجم بالحجارة لم يرحل من مكانه كما فعل هذا الرجل، بل جرى وراء راجميه وجاهد، حتى يقودهم إلى السماء. كلما سُدت الآبار كلما فجَّر بالأكثر فيه أنهار الاحتمال[39].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“بأسفار مرارًا كثيرة،
بأخطار سيول،
بأخطار لصوص،
بأخطار من جنسي،
بأخطار من الأمم،
بأخطار في المدينة،
بأخطار في البرية،
بأخطار في البحر،
بأخطار من اخوة كذبة” [26].
“في أسفارٍ مرارًا كثيرة“: يتحدث هنا عن أسفاره من أجل الكرازة والاهتمام بالكنائس.
“باخطار سيول“، يفهم من الكلمة اليونانية potamoon أنها أنهار. وكما يقول أمبروسياستر كان الرسول في خطر من الأنهار في الشتاء حيث كان المطر ينهمر، دائمًا والأنهار تفيض على شواطئها.
“بأخطار لصوص“: غالبًا ما هوجم من لصوص وقطاع طرق، ولكنه كشخص فقير لا يملك شيًئا لم يصبه ضرر في شيء، لكنه كان في خطر عظيم.
“بأخطار من جنسي“: تطلع إليه اليهود كأخطر مرتدٍ عن الإيمان وكمقاومٍ للناموس الموسوي، حتى دبروا مؤامرة لقتله (أع ١٢:٢٣).
“بأخطار من الأمم” التي انطلق ليكرز بينهم.
“بأخطار في المدينة“: فقد وضعت فتن مختلفة ضده خاصة في أورشليم وأفسس ودمشق.
“بأخطار في البرية” التي التزم بأن يعبر بها أثناء رحيله من مدينة إلى أخرى، إذ كان يتعرض إلى قطاع الطرق والوحوش المفترسة كما إلى البرد القارص ليلاً والحر الشديد في الظهيرة، وربما إلى جوعٍ وعطشٍ.
“بأخطار في البحر” حيث يتعرض لقراصنة البحار أو الزوابع الشديدة. يشير هنا إلى خطر انكسار السفينة حين أراد الجند أن يقتلوا المسجونين الذين على السفينة لئلا يهربوا إن تركوهم يسبحون (أع 27: 42- 44).
“بأخطار من اخوة كذبة“: هِؤلاء الذين تظاهروا بالإيمان بالمسيح وانضموا إلى الكنيسة، لا لبنيانها بل لهدمها، ولكي يجدوا علة على الرسول بولس، فيثيروا الكنيسة في كورنثوس ضده. كما عانى أيضًا من المرتدين.
- تقول: يُعجب كل بشرٍ بأيوب، وهو بحق يستحق ذلك، فإنه حارب في معركة عظمى، ويمكن أن يقف في مقارنة مع بولس في صبره، وفي طهارة حياته، وشهادته للَّه، وصراعه الشجاع مع الشيطان، ونصرته التي أنهى بها صراعه. لكن صراع بولس استمر ليس بضعة أشهر فحسب بل سنوات طويلة. كان دائمًا يندفع في فم الأسد، ويصارع في مواجهة تجاربٍ بلا عدد، مثبتًا أنه أكثر قوة من أية صخرة. لم يلعنه ثلاثة من الأصدقاء أو أربعة بل كل الاخوة الكذبة الخائنين، اُفتري عليه، تُفل عليه وُشتم[40].
- بالحقيقة إن غيرته الزائدة لم ُتشعِرُه بالآلام المصاحبة لحياته في الفضيلة. ولم يكن ذلك الأمر هو الوحيد العظيم في حياته، وإنما أيضًا لم يكن له دافع خفيٌ وراء سعيه نحو الفضيلة.
إننا نتخاذل في تَحمٌل الآلام من أجل الفضيلة حتى لو عُرضت علينا المكافأة مُقدٌمًا، لكن بولس احتضن الآلام بمحبة بلا مُقابل، وتحْمَل بكل فرح ما اعترضه من صعوبات وعوائق في طريق الفضيلة. فلم يتضايق من ضعف الجسد أو ضغوط المسئولية أو بطش العادات ولا من أي شيء آخر.
عِلاوة على ذلك فاقت مسئولياته كل مهام القادة والملوك، لكنه كان يزداد في الفضيلة يوميًا. وصار ازدياد المخاطر سببًا في التهاب غيرته بالأكثر، فقال “أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام” (فى 13:3)[41].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يقتني البعض وظيفة الرعاة المكرمة لكي يرعوا قطيع المسيح، وآخرون يحتلون هذا لمركز لكي يتمتعوا بكرامات زمنية ومكاسب عالمية ترتبط بهذه الوظيفة.
بالضرورة يوجد هذان النوعان من الرعاة، بعض منهم يموت والآخرون يخلفونهم، وهم مستمرون في الكنيسة الجامعة وحتى نهاية الزمن ويوم الرب للدينونة.
إن كان في عصر الرسل وُجد اناس هكذا عانى الرسول من سلوكهم وأحصاهم ضمن التجارب التي حلت به: “بأخطارٍ من اخوة كذبة“، ومع هذا لم يطردهم بغطرسة بل بطول اناة احتملهم، فكم بالأكثر يقومون في أيامنا حيث يقول المسيح بكل وضوح عن عصرنا الذي قارب إلى النهاية: “بسبب الشر تبرد محبة الكثيرين” (مت ٢٤: ١٢-١٣). ما جاء بعد ذلك يعزينا ويرشدنا: “من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص”[42].
- يا لعظم الشكاوى التي أثارها الرسول بولس ضد الاخوة الكذبة. ومع هذا فإنه لم يتدنس بصحبتهم الجسدية، بل اعتزلهم خلال نقاوة قلبه التي تميزه[43].
القديس أغسطينوس
يرى القديس أغسطينوس أن الرسول بولس هنا في دحضه للرسل الكذبة استخدم الحكمة مع البلاغة مع أنه يقول بأنه يتكلم “كأنه في غباوة” [١٧]. “الحكمة هي قائدة له، والبلاغة هي رفيقة له، تبع الأولى والثانية هي التي تبعته، ومع ذلك لم يستخف بها عندما تبعته”[44].
٨. أتعابه بإرادته
“في تعبٍ وكدٍّ،
في أسهارٍ مرارًا كثيرة،
في جوعٍ وعطشٍ،
في أصوامٍ مرارًا كثيرة،
في بردٍ وعريٍ” [27].
“في تعب وكد“: كانت المتاعب رفيقة له أينما حلّ.
قضى الرسول بولس ليالٍ كثيرة في أسهارٍ، تارة بإرادته مصليًا من أجل الخدمة أو كارزًا مبشرًا، وتارة بغير إرادته أثناء اضطهاده.
عانى الرسول أيضًا من البرد عندما انكسرت السفينة عند جزيرة مالطة وجاء الشعب لينقذه (أع 28: 1-10).
لم يكن بالأمر الهين على شخص مثل الرسول بولس، الذي كان له اعتباره كقائدٍ يهودي غيور، له سلطانه وقدراته وثقافته التي كان يعتز بها، من أسرة لها مركزها الاجتماعي، إن يعاني من أتعابٍ وكدٍ وأسهارٍ وجوعٍ وعطشٍ وبردٍ وعريٍ!
- تقول: أكل يوحنا المعمدان جرادًا وعسلاً بريًا (مت 4:3)، أما بولس فمع أنه عاش في العالم ولم يسكن البرية ولم يأكل جرادًا ولا عسلاً بريًا لكنه كان مكتفيًا بمائدة أكثر بساطة ونسكًا، متجاهلاً حتى الضرورات من أجل غيرته للكرازة[45].
القديس يوحنا الذهبي الفم
٩. متاعب كنسية
“عدا ما هو دون ذلك
التراكم عليَّ كل يوم الاهتمام بجميع الكنائس” [28].
بجانب ما عاناه من الخارج وضع على نفسه أن يشارك مسيحه صليبه بأن يحمل أتعاب جميع الكنائس التي كرز فيها، سواء من الجانب الروحي أو السلوكي أو العقيدي أو النظام الكنسي، أو المتاعب المادية أو المضايقات التي تحل به. إنه أب لا يئن من احتمال كل ما يحل بأبنائه.
- تقول إن الدود والجراحات قد أصابت أيوب بآلامٍ حادة غير محتملة. هذا حق، لكن لنأخذ في اعتبارنا الجلدات التي تحملها بولس عبر السنين، والصوم المستمر، والعري، والقيود، والسجن، والمخاطر، والمكائد من أهل بيته ومن الذين هم في الخارج من الطغاة ومن العالم كله.
أضف إلى ذلك خبراته المرة، أي الآلام التي عانى منها من أجل الساقطين، واهتمامه بكل الكنائس، والافتراءات التي تحملتها نفسه بشجاعةٍ وصلابةٍ تفوق الحديد والصخر الذي لا يُكسر.
احتمل بولس روحيًا ما تألم به أيوب جسديًا. نعم، فقد احتمل حزنًا أمرْ من أي دود يقرض في نفسه من أجل الساقطين.
كانت ينابيع دموعه تنهمر نهارًا وليلاً، يتألم من أجل كل نفسٍ أكثر من آلام امرأة في حالة مخاضٍ، هذا قاده للقول: “يا أولادي الذين أتمخض بكم” (غلا 19:4)[46].
القديس يوحنا الذهبي الفم
١٠. الشركة مع المتألمين
“من يضعف وأنا لا اضعف؟
من يعثر وأنا لا التهب؟” [29]
يجد مسرته في مشاركة أولاده متاعبهم، يتعاطف مع كل كنيسة مضطهدة، ويئن مع أنات كل مؤمن، بل ويشعر بمرارة مع ضعف كل إنسان في خطية ما. من يضعف في إيمانه ولا يشعر الرسول كأنه هو الذي ضعف؟ ومن يتعثر ولا يحترق قلب الرسول بنيران الحب والغيرة ويثبته في الإيمان الحي العملي؟
- بماذا نقارن بولس الذي يئنٌ يوميًا من أجل كل انسانٍ في هذا العالم، من أجل كل جنسٍ ومدينةٍ، من أجل كل نفسٍ؟ لقد كانت عزيمته أشدٌ قوة من الحديد، وأكثر حزمًا من الصلب، فبأية كلمات تصف هذه الروح؟![47]
القديس يوحنا الذهبي الفم
- سبي إخوتنا يجب أن يُحسب كأنه سبينا نحن. أحزان الذين في خطر هي أحزاننا. يلزمكم أن تتأكدوا بأنه يوجد جسم واحد لوحدتنا. ليست محبتنا وحدها بل وأيضًا تديننا يدفعنا ويشجعنا أن ننقذ أعضاء أسرتنا[48].
القديس كبريانوس
- لا يعني بولس هنا أنه كان متظاهرًا بأنه يحمل ضعفاتهم، وإنما كان متعاطفًا معهم[49].
القديس أغسطينوس
- يا له من شعور عجيب في الراعي. يسقط الآخرون ويقول: إني أؤكد حزني. يتعثر آخرون فيقول: تلتهب نيران آلامي!
ليت كل الذين عُهد إليهم قيادة القطيع العاقل أن يتمثلوا بهذا، ولا يظهروا أنهم أقل من الراعي الذى يهتم إلى سنوات كثيرة بقطيع غير عاقلٍ.
ففي حالة القطيع غير العاقل لا يحدث ضرر يًذكر حتى إن حدث إهمال، أما في حالتنا فإن هلك خروف واحد أو افتراس سيكون الضرر خطيرًا جدًا ومرعبًا والعقوبة لا يُنطق بها، فوق هذا كله إذ سبق الرب واحتمل سفك دمه من أجله، فأي عذر يقدمه هذا الإنسان أن يسمح لنفسه أن يهمل ذاك الذى اهتم به الرب وبذل كل الجهد من جانبه لرعاية القطيع؟[50]
القديس يوحنا الذهبيّ الفم
“إن كان يجب الافتخار، فسأفتخر بأمور ضعفي” [30].
لا يفتخر الرسول بقدراته الطبيعية ولا بما قدمه إليه الرب من مواهبٍ، فإن هذه كلها لن تبرره ولا تهبه اكليلاً في يوم الرب العظيم، لكنه يفتخر بما وهبه اللَّه من احتمال للاضطهادات والمضايقات التي هي من أجل الكرازة والإيمان بالمسيح.
لا يقصد بالضعفات هنا سقوطه في ضعف ما، أو خطية ما، فإن هذا ليس موضوع فخره، إنما يقصد الآلام والأتعاب.
- يفتخر بولس بتجاربه، الأمور ذاتها التي تظهر ضعفه[51].
القديس يوحنا ذهبيّ الفم
١١. هروبه من دمشق
“اللَّه أبو ربنا يسوع المسيح الذي هو مبارك إلى الأبد،
يعلم إني لست أكذب” [31].
يثَّبت الرسول ما يورده هنا بأن يشهد اللَّه الآب أنه لا يكذب، خاصة في مشاركته للضعفاء والمتألمين، الأمر الذي لا يستطيع أحد أن يحكم فيه سوى فاحص القلوب والكلى. استخدم الرسول مثل هذه الشهادة الإلهية أو القسم في ٢ كو ١٠:١١؛ رو ٥:٩؛ غلا ٢٠:١. هنا لا يستخدم اسم اللَّه باطلاً، إنما يشهده لأجل خلاص اخوته وسلام الكنيسة. لا يطلب الرسول ما لنفسه بل ما هو للآخرين في الرب.
وقد عالج القديس أغسطينوس هذا الأمر عندما تحدث عن “عدم القسم” في كتابه عن “الموعظة على الجبل”.
“في دمشق والي الحارث الملك
كان يحرس مدينة الدمشقيين
يريد أن يمسكني” [32].
إذ رأى والي دمشق أن اليهود دبروا مكيدة للرسول أراد أن يفسد خطتهم باستخدامٍ خاطئٍ لسلطانه. فقد كانت نيته أن يلقي القبض على الرسول بولس لكي يسعد اليهود من جانب، ومن جانب آخر لكي يظهر أنه يمارس عمله بطريقة لائقة. هذا حدث في بدء خدمة الرسول بولس (أع 9:9).
- أين كانت إذن القوة الإلهية المصاحبة له؟…
حدثت هذه الأمور بتدبير العناية الإلهية، وفي بعض الحالات كانوا يصنعون الآيات والعجائب، وفي حالات أخرى كانوا بلا قوة لكي يظهر الفرق بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون. ولكي تُمتحن وتظهر حرية الإرادة. هل يعثر البعض عندما يرون (الرسل) ضعفاء؟ فلو كان الرسل قد فعلوا كل ما يشاءون في كل شيء لكانوا قد أتوا بالناس إلى خدمة اللَّه بالقوة الجبرية. ولا يكون الأمر حينئذ مسألة إيمان أو عدم إيمان. المسيحية هي “حجر صدمة وصخرة عثرة” (رو 33:9)[52].
القديس مقاريوس الكبير
“فتدلّيتُ من طاقة في زنبيل من السور
ونجوتُ من يديه” [33].
إن كان خلاص القديس بولس من والي دمشق تم بيدٍ بشريةٍ حين دلوه من سور المدينة، لكنه إذ كان يضع حياته في يد اللَّه ويتكل عليه حسب أن ما تم كان خلال عناية اللَّه. فالاتكال على اللَّه لا يعني رفض ما يقدمه البشر من عون، إنما رفض الاتكال على يد بشرية.
هذا وكما يقول القديس يوحنا ذهبى الفم أن الرسول لم يخجل من ذكر هذا الحادث عند الضرورة أنه قد تدلى بزنبيل. لقد كانت فرصة سمح بها اللَّه لخلاصه، ليس خوفًا من الموت، وإنما لكي يجد فرصة للكرازة.
في الآيتين الأخيرتين (٣٢-٣٣) أشار الرسول بولس إلى حدث معين خاص بآلامه كما لو كان قد نسي أن يشير إليه عندما وضع قائمة بأتعابه، ربما لأن عمل اللَّه واضح جدًا في انقاذه من يد الملك الحارث Aretas، وهو حمى هيرودس انتيباس Antipus. أو لأنه كان لهذه الواقعة أثرها الخاص لأنها أول اضطهاد موجه ضده لقتله. وُجد ثلاثة أشخاص يحملون هذا الاسم: الأول ورد في مكابيين الثاني ٨:٥؛ والثاني ذكره المؤرخ يوسيفوس[53]، والثالث الذي ذكره الرسول بولس هنا.
يتساءل البعض كيف يمكن لدمشق، عاصمة سوريا أن تكون تحت حكم ملك عربي؟ لذا يرى البعض أن الرسول يقصد هيرودس انتيباس الذي تزوج ابنة الحارث، وقد قام بتطليقها ليتزوج هيروديا امرأة أخيه.
أقام الحارث Aretas حربًا ضد هيرودس، فلجأ الأخير إلى طيبريوس Tibrius ليسانده وأرسل الامبراطور القائد Vitellius ليحضر Aretas حيًا أو ميتًا إلى روما. لسبب أو لآخر تأخر Vetillius، وفي نفس الوقت مات طيبريوس فنجا الحارث[54] واستولى على دمشق.
يبدو أن أعداء الرسول بولس طلبوا من الملك القبض عليه بكونه جاسوسًا يعمل لحساب الدولة الرومانية. وفي نفس الوقت إذ هرب حسبوا هذا هروبًا من الصليب.
- عندما تدلى الرسول بولس من الكوة في زنبيل حتى لا يلقي الجند القبض عليه، وهرب من يديه ألم يترك الكنيسة هناك من أجل خدمة ضرورية؟ ألم يرً اخوة آخرون بان هذا التصرف لم يكن ما يبرره لتحقيق ذاك الهدف؟
لقد فعل الرسول ذلك مذعنًا لرغباتهم لكي يُنقذ من أجل الكنيسة، إذ كان هو الشخص الوحيد الذى يطلبه المُضطهِد.
ليت خدام المسيح، خدام الكلمة وأسراره يفعلوا ما يأمر به أو يسمح به.
ليتهم يهربوا بكل وسيلة من المدينة عندما يُطلب أحدهم بواسطة المضطهدين، ما دامت الكنيسة لا يهجرها آخرون غير مطلوب اضطهادهم حتى يهتموا بزملائهم العبيد، مدركين أنه بدون ذلك لا يعيشوا.
أما إذا كان الخطر عامًا على الكل أي يلحق بالأساقفة والكهنة والشعب فلا يُترك القادة من هم تحت القيادة. فإما أن يتحرك الكل ويلتجئوا إلى مواضع للجوء، أو إن بقي الشعب فلا يهجرهم خدامهم الذين يقدمون لهم احتياجاتهم الروحية. هكذا يعيشون الكل بالتساوي، ويتألمون حسبما يرغب سيد البيت[55].
القديس أغسطينوس
من وحي 2 كو 11
كنيستك أم لنا ولود!
كنيستك عذراء عفيفة لك، يا أيها العريس السماوي!
- هب لنفسي أن تكون لك عذراء عفيفة،
فها أنت تُعد لها حجال العرس السماوي!
اجعلها أيقونة لك،
فتتأهل لشركة مجدك!
ارفعها الآن إلى سمائك،
فتجتذب معها الكثيرين!
بل ولن تستريح حتى ترى إن أمكن كل البشرية لك!
هب لكنيستك أمنا الجديدة أن تتهلل كل يوم بولادات لا تنقطع!
احمها من حيل الحية القديمة،
التي أفسدت بتولية قلب أمنا القديمة حواء!
- هب لي مع الرسول بولس أن أشهد لإنجيلك،
هذا الذي سلمته لعروسك ويهيئها لك!
نعم، يجدد البشرية عبر العصور!
هو كتاب كل عصرٍ،
وكتاب كل إنسانٍ!
هو الحياة الجديدة المُقامة،
يحمل الأجيال إلى ما وراء الزمن!
- لأشهد لإنجيلك مع الرسول بولس،
لا بالبلاغة والألفاظ البرَّاقة،
بل بروح الحب الحقيقي والقوة!
- هب لي مع الرسول ألا أطلب شيئًا
في كرازتي بإنجيلك!
فليس من مكافأة أعظم من خلاص اخوتي!
مكافأتي أن أراك متجليًا في كل قلبٍ!
مكافأتي أن يتمتع الكل بمعرفة أسرارك الإلهية!
- احمني وإياهم من عدو الخير إبليس،
هذا المُضل الذي لا يكف عن الخداع.
إنه يغير شكله إلى شبه ملاك نور،
وهو رئيس قوات الظلمة.
في كل جيل يبعث رسله، المعلمين الكذبة.
يحملوا صورة التقوى والبرّ والمعرفة.
ليضللوا كأبيهم البسطاء.
بماذا أتكلم أمام جهاد العظيم بين رسلك.
عاش يحتمل الميتات اليومية،
ويُسر بالاضطهادات غير المنقطعة.
عاش كمن هو بلا جسد!
بالحق من يشبهه؟!
[1] CSEL 81: 279-80.
[2] In 2 Cor. hom 23:1.
[3] In 2Cor. hom 23. PG 61: 595.
في مديح القديس بولس، عظة 1.[4]
[5] In 2Cor. hom 23. PG 61: 596.
[6] Selected Sermons (Frs. of the Church, 5.
[7] Selected Sermons (Frs. of the Church), 146.
[8] Sermons for Christmas and Epiphany (ACW), 13:2.
[9] Sermons on New Testament Lessons, 43:4.
[10] Feast of the Nativity, 188.
[11] Feast of the Nativity, 195:2.
[12] Converts and the Creed, 213:7.
[13] Sermon 155:4, On the Ten Virgins.
[14] In Ephes., hom. 22.
[15] In 2 Cor. hom 23. PG 61: 597-598.
[16] In 2 Cor. hom 23. PG 61: 598.
[17] On Priesthood, book 4:6.
[18] In 2 Cor. hom 23:3.
[19] Against Rufinus 1:17.
[20] Sermon 17:10.
[21] CSEL 81:284.
في مديح القديس بولس، عظة 5.[22]
[23] In 2 Cor. hom 24:1.
[24] The Unity of the Catholic Church, 3.
[25] On Ps., hom. 20.
[26] In 2 Cor. hom 24:1.
[27] PG 82:442.
[28] On Lying.
[29] City of God 19:9.
في مديح القديس بولس، عظة 5.[30]
[31] In 2 Cor. hom 24:2.
[32] In 2 Cor. hom 24. PG 61: 608
[33] In 2 Cor. hom 24:2.
[34] In Gen. Hom 55.
في مديح القديس بولس، عظة 1.[35]
[36] In Galat., hom. 1.
[37] Mishna, Maccoth, Fol 20, 10.
[38] In 2 Cor. hom 25. PG 61: 614-615
في مديح القديس بولس، عظة 1.[39]
[40] في مديح القديس بولس، عظة 1.
في مديح القديس بولس، عظة 2.[41]
[42] Letter 208 to Felicia.
[43] Macrobius. Letter 108 to
[44] On Christian Doctrine, 4:7(12).
في مديح القديس بولس، عظة 1.[45]
في مديح القديس بولس، عظة 1.[46]
في مديح القديس بولس، عظة 2.[47]
[48] Letter 62 : 1.
[49] Letter 40 to Jerome.
[50] On Genesis, hom 57.
[51] In 2 Cor. hom 25:2.
[52] Sermon 26:6.
[53] Antiq. 1:13c. 15:2; 1:16c. 1:4.
[54] Joseph, Antiq. lib. 18c. 5.
[55] Letter 228 to Honiratus