تفسير كورنثوس الثانية 10 – الأصحاح العاشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الثانية 10 - الأصحاح العاشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الثانية 10 – الأصحاح العاشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الثانية 10 – الأصحاح العاشر – القمص تادرس يعقوب ملطي
الباب الخامس
دفاعه عن مذلة حضرته
ص 10 – ص 12
دفاعه عن مذلة حضرته
لم يوجد موضع ما عانى فيه الرسول بولس من مقاومة المعلمين الكذبة مثل كورنثوس، فقد أخذوا منه موقفًا عدائيًا. كان من الهين عليه أن يضطهده اليهود والأمم، أما أن يقاومه اخوة كذبة تحت اسم المسيح، فهذا مرّ للغاية.
أُتهم القديس بولس أنه رقيق للغاية في معاملاته مع شعبه متى كان حاضرًا في وسطهم كمن هو ذليل، أما في رسائله فكان حازمًا جدًا.
اضطر أن يكتب الرسول دفاعًا عن تصرفاته هذه حتى لا يتعثر أحد:
- في الحضرة يلتزم بالمذلة ولا يبرز سلطانه ولا مواهبه ولا إمكانياته لكي يفتخر الكل بالرب (17:10، 18).
3 – إنه كصديق للعريس لا يهتم بما لنفسه بما للعروس. “فإني أغار عليكم غيرة اللَّه لأني خطبتكم لرجلٍ واحدٍ لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” (2:11). إنه ليس كالمخادعين الذين يطلبون ما لمجدهم على حساب العروس وعلى حساب إنجيل الحق.
4 – لا ينقص شيئًا عن فائقي الرسل (5:11)، لكنه تذلل لخدمتهم؛ كما لم يستخدم سلطانه لنوال حقوقه الشرعية حتى لا يعثر أحدًا منهم (12:11).
5 – تحذيره لهم من الرسل الكذبة الماكرين، فإن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور (14:11).
6 – التزامه أن يتحدث كغبي عن نفسه مع أنه عبراني، وإسرائيلي، من نسل إبراهيم، وهو من أفضل خدام المسيح، وأكثر احتمالاً للأتعاب. وقد أورد في ايجاز مدى ما عاناه من ضيقات واضطهادات.
7 – تمتع الرسول بإعلانات الرب له (1:12-10).
8 – وُهب صنع آيات وعجائب (11:12-12). تكمن قوته في الروح لا في الجسد (1:10-6).
- لا يستخدم السلطان للَّهدم (7:12-18).
- لم يثقل على أحدٍ (13:12-18).
الإصحاح العاشر
سلطان الرسول الروحي
مع ما اتسم به الرسول من حياة تكاد تكون بلا لوم، مع قلب ناري متقد في خدمته، واهتمامه بكل أحدٍ هوجم الرسول من المعلمين الكذبة.
١. سلطان الرسول الروحي ١-٧.
٢. سلطانه للبنيان لا للَّهدم ٨.
٣. سلطانه في الحضرة والغيبة ٩-١١.
٤. سلطان بلا افتخار ١٢-١٦
٥. افتخار بالرب ١٧-١٨.
١. سلطان الرسول الروحي
إذ يبدأ دفاعه عن رسوليته وسلطانه الروحي يكتب بروح التواضع والوداعة، مؤكدًا أنه لا يُمكن أن يستخدم سلطانه لحساب كرامته الشخصية.
“ثم أطلب إليكم بوداعة المسيح وحلمه،
أنا نفسي بولس الذي في الحضرة ذليل بينكم،
وأما في الغيبة فمتجاسر عليكم” [1].
في بدء الرسالة ضم تيموثاوس إليه، أما هنا إذ يتحدث عن رسوليته يتكلم عن نفسه وحده ضد الرسل الكذبة.
بقوله “الآن” أو “ثم” أي بعد أن تحدث عن الحب المشترك بينه وبينهم، وعن الحب بينهم وبين الإنسان التائب، وعن الالتزام بالحنو على المحتاجين بسخاءٍ وفرحٍ يود أن يدافع عن رسوليته، لا لتمكين كرامة بشرية له، وإنما من أجل بنيان الكنيسة ونمو الخدمة. وقد أجِّل الحديث حتى يضع الأمور الأخرى في نصابها.
يتساءل البعض: لماذا أُتهم القديس بولس الرسول أنه ذليل في الحضرة ومتجاسر في الغيبة؟
أولاً: يرى ثيؤدورت أسقف قورش أن بعض المسيحيين من أصل يهودي طالبوا الذين من أصل أممي بحفظ الناموس الموسوي حرفيًا مثل الختان وحفظ السبت والتطهيرات الجسدية. وقد نادوا بأن بولس كان يحفظ هذا الناموس سرًا بالنسبة لنفسه[1]، وفي نفس الوقت كان يعفي الأمم من حفظه، خاصة في رسائله، وهو في الغيبة.
ثانيًا: يرى البعض أن بولس كان قصير القامة، لا يهتم بثيابه، ولم يكن لديه ما يشتري به مثل هذه الالتزامات الضرورية، كما كان يتحدث بلغة بسيطة أمام الجماهير، بينما جاءت رسائله تحمل فصاحة وبلاغة، وكأنه يحمل في رسائله شخصية مختلفة عما تظهر في حضرته.
ثالثًا: إذ بدأ الخدمة في كورنثوس واجه الفساد والمشاكل الكنيسة بروح هادئ، أما رسالته السابقة فأبرز فيها حزمه ضد القائد الذي ارتكب الشر مع زوجة أبيه، وأيضًا ضد مسببي الإنشقاقات، والمعلمين الكذبة وأصحاب البدع والهرطقات.
يردد الرسول ما يقوله المقاومون له لكي يرد على اتهامهم.
“ولكن أطلب أن لا أتجاسر وأنا حاضر،
بالثقة التي بها أرى إني سأجترئ على قوم يحسبوننا كأننا نسلك حسب الجسد” [2].
أُتهم الرسول أنه يسلك حسب الجسد حيث يظهر كذليلٍ في حضوره، ويستخدم الحزم والتأديب في غيابه عنهم.
إنه كرسول من حقه أن يمارس سلطانه الروحي للحفاظ على قدسية الكنيسة وسلامة إيمانها وعقائدها والالتزام بالسلوك اللائق في العبادة الكنسية. الآن يطلب ألا يتجاسر ويستخدم هذا السلطان في حضوره وسطهم. إنه يتوسل إليهم ألا يتركوا مجالاً لكي يستخدم هذا السلطان ضدهم كما استخدمه في رسالته الأولى وهو في الغيبة، خاصة ضد مرتكب الشر مع زوجة أبيه ومفسدي الإيمان بصورة أو أخرى.
“لأننا وإن كنا نسلك في الجسد،
لسنا حسب الجسد نحارب” [3].
هذا معناه أننا وإن كان نعيش في الجسد إلا أننا إذ نطلب مسرة اللَّه نعمل بطريقٍ روحيٍ.
- وإن كنا محاطين بالعالم لا نُسلم له[2].
ثيؤدورت أسقف قورش
قلنا أن البعض يتهمونه بأنه يسلك حسب الجسد، خاصة حين يؤدب وهو متغيب عنهم، لكنه يؤكد أنه أبعد من هذا بكثير. إنه ليس جسدانيًا، إذ لا يستخدم أسلحة جسدية أو زمنية، بل أسلحة اللَّه الروحية القوية غير الفاسدة. فإن معركته من أجل خلاص العالم وبنيان الكنيسة روحية وليست جسدية.
“إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية
بل قادرة باللَّه على هدم حصون” [4].
في رقته في الحضرة أو في حزمه في الغيبة لا يسلك حسب الجسد، أو بطريقة بشرية كإنسان له الجسد، بل حسب الروح. إنه كقائد روحي يحمل روح القوة، ويعمل بالروح لحساب ملكوت اللَّه. فهو لا يداهن أحدًا، ولا يخشى أحدًا، ولا يحمل ضغينة ضد أحدٍ بصورة شخصية. معركته ضد قوات الظلمة، وليست ضد إنسانٍ ما.
- لم يقل هنا “لا نعيش حسب الجسد”، وإنما “لسنا حسب الجسد نحارب” (2 كو 10: 4). إننا نتعهد حربًا ومعركة، لكننا لسنا نحارب بأسلحة جسدية ولا بمساندة أي عون بشري. أي نوع من الأسلحة التي للجسد؟ الثروة والمجد والقوة والفصاحة والمهارة والمراوغات والمداهنة والرياء وما أشبه ذلك. ليس لنا نحن هذا. فمن أي نوع نحن؟ إننا قادرون باللَّه.
لم يقل: “اننا لسنا جسديين” بل “اسلحتنا ليست جسدية“. لأنه يتحدث في الحاضر عن الكرازة، ويشير إلى قوة اللَّه الكلية. ولم يقل “روحية” مع أن هذا هو المضاد للجسدية، إنما يقول “قادرة” كتطبيق للروحية، ومظهرًا أن أسلحتهم هم (المعلمون الكذبة) ضعيفة وبلا قوة.
لاحظ غياب الكبرياء عنه، إذ لم يقل: “نحن قادرون” وإنما “أسلحتنا قادرة باللَّه“. لسنا نحن جعلناها هكذا، بل باللَّه نفسه.
فانهم إذ جلدوا واضطهدوا وعانوا من أمور لا يمكن الشفاء منها وبلا عدد، الأمور التي هي برهان على الضعف، أراد أن يظهر قوة اللَّه فقال “لكنها قادرة باللَّه“. فإن هذا على وجه الخصوص يظهر قوته، إنه بهذه الأمور يقتني النصرة. فإنه حتى ونحن مرتبطون بهم فإن اللَّه هو الذي يحارب وهو الذي يعمل بهم[3].
القديس يوحنا الذهبي الفم
كثيرًا ما يستخدم الرسول بولس تشبيه “المعركة” بالنسبة لخدمة الخلاص (أف ٦: ١٠-١٧؛ ١ تي ١٨؛ ٢ تي ٢: ٣-٥).
“هادمين ظنونًا وكل علو يرتفع ضد معرفة اللَّه،
ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” [5].
أسلحة محاربته ليست جسدية كتلك التي يستخدمها الرسل الكذبة، إنما هي روحية تقوم على الحق الإنجيلي الصادق. بها يدخل إلى القلوب محطمًا حصون البطلان وجيوش الأعداء الروحيين.
- لئلا عندما تسمع عن الحصون تظن أنها مادية يقول: “هادمين ظنونًا” [٥]. أولاً يعطي تأكيدًا بالرمز وبعد ذلك بهذا التعبير الاضافي يعلن عن طبيعة الحرب الروحية. لأن هذه الحصون تأسر النفوس لا الأجساد. لهذا فهي أقوى من الحصون الأخرى، ولهذا أيضًا فإنها تحتاج إلى أسلحة أقدر. لكنه يقصد بالحصون الكبرياء اليوناني وقوة السفسطة والمنطق. يقول: “لأن هذه الأسلحة تدحض كل شيء يقف ضدها، إذ تنزع الظنون وكل علو يرتفع ضد معرفة اللَّه”. إنه يستمر في الرمز ليقدم تأكيدًا أعظم. إذ يقول وإن وجدت حصون وقلاع وأي شيء آخر فانها ستستسلم وتنهار أمام هذه الأسلحة[4].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- يتم النمو تدريجيًا من الطفولة حتى النضوج والكمال في المسيح. لأن الإيمان يزداد بواسطة عمل الروح القدس الإلهي وينمو. وتبعًا لذلك تتحطم حصون الأفكار الشريرة تدريجيًا إلى أن تنهدم بالكلية[5].
القديس مقاريوس الكبير
الحرب روحية والأسلحة روحية والنصرات أيضًا روحية، إذ يتمتع الرسول بالآتي:
أولاً: “هدم الظنون” logismous أو الأفكار والآراء الخاطئة. فقد ظن بعض الفلاسفة اليونانيين أن آراءهم هي حق وصادقة وحاسمة بلا انحراف. وإذ انتشر الحق الإنجيلي ظهر فساد هذه الآراء، وانحنى الكثيرون أمام رب المجد يسوع، وقبلوا صليبه مصدر خلاصهم وآمنوا بالقيامة من الأموات التي كانوا يحسبون من يبشر بها نوعًا من الهذيان.
ثانيًا: هدم “كل علوٍ“، فقد تشامخ الفلاسفة اليونانيون مثل افلاطون وأرسطو وأتباعهما الخ.، لكن هذا التشامخ انهار أمام تواضع الرسل أتباع المصلوب وبساطة الإنجيل الذي يكرزون به. وأيضًا ارتكاب الخطية وعصيان الوصية الإلهية هو تشامخ على اللَّه.
- كل خطية هى تعبير عن الاستخفاف بالناموس الإلهي، وتُدعى “علوًا يرتفع ضد معرفة اللَّه“[6].
القديس باسيليوس الكبير
ثالثًا: لا يقف الأمر عند الجانب السلبي وهو هدم الشر سواء في شكل ظنون وآراء أو في شكل تشامخ ضد الحق والمعرفة الإلهية أو ضد الوصية الإلهية، وإنما يمتد إلى الجانب الإيجابي، وهو سحب كل فكر ليشتهي الطاعة للسيد المسيح. يصير الكل أعضاء في جسد المسيح يحركهم الرأس نفسه (السيد المسيح)، ويتجاوبون معه. مذا ما عبر عنه الرسول بالقول: “ ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” [5].
- لكلمة “أسر” رنينها الرديء لأنها تحمل تحطيمًا للحرية، فلماذا استخدمها؟…
كلمة أسر” تقدم فكرتين: فقدان الحرية، واستخدام القوة العنيفة لكي لا يقوم الشخص ثانية. استخدمها الرسول لتحمل المعنى الثاني… لأن الحرب لم تنتهٍ بتعادل الطرفين، إنما غلب الرسول بطريقة سهلة جدًا…
إذ يقول: “مستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح“، فلأن كلمة “أسر” مؤلمة لذا وضع في النهاية الرمز قائلاً: “إلى طاعة المسيح“. (تنتهي الحرب الروحية بأسر الفكر) من العبودية إلى الحرية، ومن الموت إلى الحياة، ومن الهلاك إلى الخلاص.
لقد أتينا ليس للتدمير، بل لنأتي بالمقاومين لنا إلى الحق[7].
- أليس هذا من قوة رسائله التي انتفع بها ليس المؤمنون المعاصرون له فحسب، بل وكافة المؤمنين منذ زمانه حتى الآن، بل وإلى مجيء المسيح. لأن رسائله هي بمثابة سور شُيّد من الصخر وأحاط كنائس العالم…
إنه كبطلٍ شجاع يسبي كل عقلٍ لطاعة المسيح، نابذًا الخيالات وكل علوٍ يرتفع ضد معرفة اللَّه [5]. يتحقق هذا كله بواسطة الرسائل التي خلفها لنا، المملوءة بالحكمة الإلهية. فإن كتاباته نافعة لنا في دحض الآراء الفاسدة، وتثبيت الإيمان الصحيح، وبلوغ حياة أفضل[8].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- العقل الذي لا يهمل تفتيش ذاته، ولا يهمل طلب الرب، يستطيع أن يقتني نفسه. النفس التي كانت في هلاك الشهوات، يقتنيها بتقديم نفسه كأسير لمحبة الرب بكل غيرة وقوة، وبالالتصاق به وحده[9].
القديس مقاريوس الكبير
“ومستعدين لأن ننتقم على كل عصيان
متى كملت طاعتكم” [6].
كيف ينتقم الرسول بولس من العصيان، ليس بالعنف والقسوة، بل بجذب النفوس العاصية للطاعة للسيد المسيح فيدمر العصيان بالطاعة، ويجتذب المقاومين إلى الإيمان، فيُدان عدم الإيمان بذات الاشخاص الذين كانوا يقاومون الإيمان وآمنوا.
كذلك يؤكد الرسول سلطانه الرسولي الخاص بتأديب المقاومين للحق والعاصين للسيد المسيح لا للانتقام، وإنما لكي يسحب الكل إلى خبرة الطاعة للسيد المسيح. إنه لا يحمل عداوة شخصية لإنسانٍ ما، لكنه ملتزم بالتأديب متى كان ذلك لبنيان ملكوت اللَّه.
إن كان الرسول قد فاض بالحب على شعبه، واتسم بالوداعة والرقة، فإنه يخشى أن يتحول ذلك إلى تهاونٍ في الحق الإنجيلي.
جاءت التعبيرات في هاتين العبارتين (٥-٦) عسكرية، تناسب جيشًا يرى العدو على أبواب مدينته المحصنة فلا يتهاون في حق الدفاع عنها. إنه قائد في جيش الخلاص مستعد دائمًا أن يرد بسلاح اللَّه المقاومين إلى الحق.
إنه يؤدب بحكمة، فينتظر حتى تكمل طاعة المؤمنين، وعندئذ يِؤدب العصاة، خشية أن يقتلع الحنطة مع الزوان.
- يوضح بولس لماذا هو صبور؟ إنه يود أن يجتذب أكبر عدد ممكن لكي يصلحوا طرقهم. بعد ذلك سيعاقب الذين يستمرون في مقاومة تعليماته[10].
ثيؤدورت أسقف قورش
- هنا أيضًا يسبب لهم (لأهل كورنثوس) خوفًا… إنه يقول: “اننا ننتظر عندما نجعلكم بمشورتنا وتهديداتنا تسلكون باستقامة، وتتفقون معًا على نزع شركتكم (مع الرسل الكذبة). عندئذ إذ تتركون هؤلاء المصابين بأمراض مستعصية نعاقبهم، إذ نرى أنكم بالحقيقة أنكم اعتزلتموهم. فإنكم حتى الآن تطيعون، لكن ليس بطريقة كاملة. فإن عاقبتهم الآن سترتبكون. لكن بالضرورة سيُعاقبون حقًا بينما أنتم تعفون… فإن كلمات بولس اخرجت شياطين… ودعت الذين يمارسون السحر أن يحرقوا كتبهم التي تقدر بخمسة آلاف من الفضة (أع ١٩:١٩)… وأعمت آخر (سيمون، أع ١٣: ٨-١١)[11].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أتنظرون إلى ما هو حسب الحضرة؟
إن وثق أحد بنفسه إنه للمسيح،
فليحسب هذا أيضًا من نفسه إنه كما هو للمسيح،
كذلك نحن أيضًا للمسيح” [7].
يسألهم ألا ينحرفوا وراء المظاهر الخارجية “الحضرة“، فلا يكفيه مجرد الاستعراضات العسكرية.
يسألهم أن يضعوا مقاييس سليمة في المقارنة بينه وبين الرسل الكذبة، فبحسب المظهر الخارجي ربما يبدو بعضهم أعظم منه وأفضل منه. لكن إن صارت مقاييسهم روحية صادقة ليس من وجه للمقارنة بين الرسول والرسل الكذبة.
بقوله: “إن وثق أحد بنفسه أنه للمسيح” يشير إلى الرسل الكذبة الذين يسببون ارتباكات ومتاعب في الكنيسة بدعوى أنهم للمسيح، رسل المسيح، يعملون لحسابه. ليدرك كل منهم أنهم وإن ادعوا ذلك لأنفسهم باطلاً، فإن الرسول هو بحق للمسيح، هو رسوله، وعامل لحساب مملكته، مدعو منه شخصيًا.
- ينتقد بولس أولئك الذين ينتفخون بالكبرياء بنظرتهم الدنيئة نحو بولس على غير ما هو عليه ويظنون انهم ليسوا في حاجة إلى تعليمه[12].
- الذين يمتدحون أنفسهم هم أولئك الذين يرغبون فى السيطرة، ويطلبون السلطة باسمهم. من يُبعث في إرسالية ينال سلطة لا لحسابه بل لحساب مرسله. هنا يقول بولس الرسول انه اختير كوكيل للرب. فلا يدعي لنفسه شيئًا فوق ما وُهب له، إنه لا يربط نفسه بالذين يكرزون دون إرسالية (من اللَّه)[13].
الأب امبروسياستر
- الاتهام الموجه ضده ليس بالأمر الهين بل هو خطير للغاية. كيف؟ إنه من السهل لجنس الإنسان أن يخدع.
ماذا يعني: حسب الظاهر (الحضرة)؟ إن كان أحد غنيًا، إن كان أحد منتفخًا، إن كان أحد محاطًا بمتملقين كثيرين، إن تحدث عن نفسه بأمور عظيمة، إن كان أحد له مجد باطل، إن كان أحد فاضلاً في رياء دون أن تكون له فضيلة، هذا ما يعنيه بالقول: “أتنظرون إلى حسب ما هو ظاهر“[14].
القديس يوحنا الذهبي الفم
٢. سلطانه للبنيان لا للَّهدم
“فإني وإن افتخرت شيئًا أكثر بسلطاننا،
الذي أعطانا ايّاه الرب لبنيانكم لا لهدمكم،
لا أخجل” [8].
للرسول سلطان أعظم بكثير مما يظهر لهم، سواء في التعليم أو التأديب، لكنه يستخدم السطان بالقدر الذي فيه بنيانهم الروحي ونموهم في برّ المسيح، وليس ما فيه تدميرهم. هذه هي غاية السلطان الرسولي أو الكنسي، أنه ليس بالحرف القاتل، وإنما هو عمل روحي لبناء النفوس.
- انتفع بولس بسلطانه فقط بالقدر الذى به يتمجد في تقدم المؤمنين، فيقود سلطانه إلى الخلاص وليس إلى الاعتداد بذاته. إنه لم ينتفخ متعديًا السلطة المعطاة له، ولا ادعى سلطة في مواضع لم تبلغ إليها كرازته.
أمبروسياستر
٣. سلطانه في الحضرة والغيبة
“لئلا أظهر كأني أُخيفكم بالرسائل” [9].
لم يكن في ذهنه وهو يكتب رسائله أن يخيفهم برسائله، مظهرًا غضبه عليهم.
“لأنه يقول الرسائل ثقيلة وقوية،
وأما حضور الجسد فضعيف،
والكلام حقير” [10].
أُتهم بأنه عنيف في رسائله، يُظهر سلطانًا ليس له، بينما في الحضرة ضعيف في جسمه كما في كلماته، يستخف به الفلاسفة والحكماء المتعلمون.
جاء عنه في نيسيفورس Nicephorus أنه كان قليل الجسم، محني الظهر، يكاد يكون كالقوس، وجهه شاحب، طويل ومجعد، أصلع، عيناه متقدتان نارًا، لحيته طويلة كثيفة يتخللَّها شعر رمادي.[15]
قال كاتب يوناني قديم: كان بولس قليل الجسم طوله حوالي ثلاثة أذرع ومع هذا فقد لمس السماء![16]
“مثل هذا فليحسب هذا،
أننا كما نحن في الكلام بالرسائل،
ونحن غائبون هكذا نكون،
أيضًا بالفعل ونحن حاضرون” [11].
يحذر الرسول الرسل الكذبة ويهددهم بالرسائل بالسلطان الرسولي على فساد تعليمهم فإنه هكذا يفعل عند حضوره.
- لم يتردد (الرسول بولس) عن أن يؤكد بوضوح معرفته، لأنه بدونها لم يكن ممكنًا أن يكون معلمًا للأمم. وبالتأكيد إن قدمنا شيئًا كمثالٍ عن بلاغته نقتبسها من هذه الرسائل التي اعترف حتى الذين انتقصوا من قدره هم أنفسهم أن حضور الجسد بالنسبة له ضعيف وحديثه تافه اعترفوا بأن له وزنه وقوته[17].
القديس أغسطينوس
٤. سلطان بلا افتخار
“لأننا لا نجترئ أن نُعد أنفسنا بين قوم من الذين يمدحون أنفسهم،
ولا أن نقابل أنفسنا بهم،
بل هم إذ يقيسون أنفسهم على أنفسهم،
ويقابلون أنفسهم بأنفسهم،
لا يفهمون” [12].
يرفض الرسول أن يبرر نفسه متى قورن بالمعلمين الكذبة، فإن حكمه على نفسه لا يقوم على مقارنته بالناس، إنما يطلب أن يتشبه بمسيحه ويبلغ إلى قياس ملء قامته (اف 4 :13). أما هم فيجدون مسرتهم في مقارنتهم بعضهم ببعض فتكون مقاييسهم على مستوى بشري، مما يولد فيهم الحسد والغيرة والكبرياء، عوض تقديم الشكر للَّه وطلب غنى نعمته الفائقة للنمو المستمر في الرب.
من جانب آخر إذ يثق في صدق دعوته الرسولية ويِؤمن بإمكانية الروح القدس العامل فيه لا يريد الشركة مع الرسل الكذبة ولا حتى المقارنة بهم. أما هم فلأنهم ليسوا مدعوين من اللَّه، ولا يعمل الروح القدس فيهم، يخدعون أنفسهم بمقارنتهم بعضهم لبعض، كأنه لا يوجد أمامهم قياس كامل، ولا يدركون الحكمة الحقيقية التي توجههم إلى العمل الإلهي.
- واضح أن الفخر المبالغ فيه كان من سمات الرسل الكذبة[18].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ولكن نحن لا نفتخر إلى ما لا يقاس،
بل حسب قياس القانون الذي قسمه لنا اللَّه،
قياسًا للبلوغ إليكم أيضًا” [13].
إنه لا يسلك دون قانون يحكمه أو قياس يلتزمه به، فإن قياسه إلهي. إنه يعمل خلال ما وهبه اللَّه من نعم وهباتٍ ومواهب، طالبًا من الروح أن يضرمها فيه حتي يكرز بين الأمم، ويبلغ إلى كورنثوس، فلا يقف عند آسيا الصغرى ولا في بلاد أخرى في اليونان بل يبلغ إليهم.
هذا تعبير رياضي خاص بالسباق في الألعاب الأولمبية والإسثمانية Isthmian games. وكأن العالم كله في عينيه أشبه بساحة سباق يود ألا يقف عند حد حتى يعبر الساحة، ويحمل الكل إلى الاحضان الإلهية، فينعم باكليل النصرة.
“القانون“: في الأصل كان عصا قياس أو مسطرة أو خط للقياس. من الجانب الرمزي إنه يقيس أو يقرر أي شيءٍ، في الأخلاقيات أو الفن أو اللغة. في الأدب المسيحي صار يعني مقياسًا للإيمان بالتعليم المسيحي، قانون النظام الكنسي، ومجموعة كتابات مقدسة معترف بها. لكي نفهم قصد القديس بولس نضع في ذهننا أنه يعتبر خدمته الرسولية خاصة بالأمم وقد اعتاد أن يرفض أن يقيم دومًا في موضع كرز فيه رسول آخر. لكن المعلمون بالتهود في كورنثوس انتهكوا موضع نشاطه وإيبارشيته، أي انتهكوا القانون Kanown أو القياس الذي يحدد الخط الذي وضعه له اللَّه.
- إنه كمن يَُّقسم الكرم بين الفلاحين، هكذا بنفس الطريقة وضع اللَّه حدودًا لنا. وما نناله كمنحة نفتخر به[19].
- حسنًا دعا هنا ايبارشيته قانونًا Kanoua) province) ومقياسًا metrou كميراثٍ ممتاز، وأظهر أن العمل كله هو عمل اللَّه… لقد نسب الكل للَّه[20].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- قدم هذا التوضيح لكى يعرف الكورنثيون أن اللَّه أرسله اليهم، ويليق بهم أن يطيعوا تحذيراته، لئلا يظهروا مقاومين للَّه الذى ارسل اليهم بولس[21].
امبروسياستر
“لأننا لا نمدد أنفسنا،
كأننا لسنا نبلغ إليكم،
إذ قد وصلنا إليكم أيضًا في إنجيل المسيح” [14].
إذ بلغ إليهم في كورنثوس، وكرز لهم بالإنجيل، لا يحسب نفسه أنه قد تعدى حدوده أو السلطان المُعطى له من قبل اللَّه. فقد جاء بناء على دعوة إلهية، واستخدم السلطان المُقدم له في الكرازة كما في التأديب ليس من الناس بل من اللَّه.
“غير مفتخرين إلى ما لا يقاس في أتعاب آخرين،
بل راجين إذا نما إيمانكم أن نتعظّم بينكم حسب قانوننا بزيادة” [15].
ما يشغل قلب الرسول والعاملين معه لا أن يفتخروا بأعمالهم متى قورنت بأعمال الآخرين، بل بنجاحهم في نمو إيمان الشعب بعمل الروح القدس؛ بهذا يكون سباقهم قانونيًا. بهذا يتعظمون megaluntheenai، أي يُمدحون كرسلٍ حقيقيين من قبل اللَّه بلغوا بهم إلى تحقيق هدف اللَّه من نحوهم.
- هنا يتهم بولس المعلمين الكذبة ليس فقط انهم يفتخرون بمبالغة، بل ويدعون أن لهم الفضل خلال أتعاب الآخرين[22].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- من يثق في قوة الإنجيل يثق في اللَّه الذى يجعله ممكنًا. من لم يتسلم قوة من اللَّه لا يقدر أن يفتخر بالرب، إذا يطلب مجد ذاته[23].
أمبروسياستر
“لنبشر إلى ما وراءكم،
لا لنفتخر بالأمور المعدة في قانون غيرنا” [16].
نجاح خدمته في كورنثوس ليس موضوع فخر الرسول، إنما هي أداة في يد اللَّه للامتداد إلى بلاد أخرى وثنية حتى يبلغ إليها إنجيل المسيح.
ما يشغل ذهن الرسول هو تمتع العالم كله بالخلاص، لذلك لا يقف عمله عند حدود، كما لا يود أن يكرز حيث يعمل آخرون بل أن يذهب إلى أممٍ لم تبلغ إليها الرسالة بعد.
٥. افتخار بالرب
“وأما من افتخر فليفتخر بالرب” [17].
لا مجال للمقارنات ولا للانشغال حتى بالنجاح، إنما ما يشغل ذهن الرسول هو الكرازة على مستوى العالم. ما يعتز به الرسول هو عمل اللَّه سواء من خلاله أو خلال آخرين.
“لأنه ليس من مدحَ نفسه هو المزكي،
بل من يمدحه الرب” [18].
إذ يكرز الرسول بالسيد المسيح لا بنفسه، فإن فخره ومجده هو الشهادة لمخلصه، أما عن تزكيته، فهي من الرب المخلص، وليست من إنسانٍ حتى ولا من نفسه. افلذين لم يرسلهم الرب لا يمدحهم الرب.
- لم يدَّعي بولس هذا لنفسه بل الرب هو الذي يمدحه. بولس متواضع لكن ليس للدرجة التي فيها يتجاهل الإعلان عن الحق بخصوص نفسه. فمن الممكن أن يتأذى الشخص بالتواضع غير المضبوط، أو ينتفع بقوله شيئٍ عجيبٍ خاصًا به وفي الوقت المناسب. فقد كان يحدق خطر حقيقي لو أن التلاميذ أخذوا فكرة سيئة عن بولس خلال تواضعه. بولس لم يطلب مديحًا بشريًا، بل دافع عن نفسه[24].
القديس يوحنا الذهبي الفم
من وحى 2 كو 10
بالحب أقبل المذلة،
لكي أدخل معهم إلى الغلبة!
- اتهموا الرسول بولس بالمذلة في الحضرة.
هذا الذي أخرجت كلماته الشياطين،
ودفعت السحرة لحرق كتبهم،
وجذبت العصاة إلى الطاعة،
والمقاومين للحق إلي الإيمان الحي.
- هب لي يا رب أسلحة روحية،
فأدخل معركة الروح بقوتك.
أدرك إني بك أصير بطلاً!
أتمتع بنصرتك على العدو،
وأسند بنعمتك الكثيرين.
- بالحب أقبل المذلة،
وبنعمتك أحطم كل ظنون العدو،
أهدم حصونه ومتاريسه.
لأعلن عن نصرتك العجيبة!
في المظهر الخارجي (الحضرة) أنا ضعيف.
كمن لا يملك شيئًا، وبلا سلطان أو كرامة.
لكن بك أغلب قوات الظلمة!
- أطال الرسول أناته على الساقطين،
وانتظر علي التأديب حتى يرجع الكثيرين.
هب لي رقة ولطفًا بالساقطين،
مع بكاءٍ بدموع على كل نفسٍ مُصرةٍ علي عصيانها!
- هب لي يا رب روح التواضع.
أفتخر بكل نجاح تقدمه لي.
وأترقب مديحك لا مديح الناس.
[1] PG 82:434.
[2] PG 82:434
[3] In 2 Cor. hom 21. PG 61: 584.
[4] In 2 Cor. hom 21. PG 61: 585.
[5] Sermon 50:4.
[6] On The Judgment Of God.
[7] In 2 Cor. hom 21. PG 61: 585.
[8] On Priesthood, book 4:7.
[9] Sermon 9:11.
[10] PG 82: 435.
[11] In 2 Cor. hom 21. PG 61: 585-586.
[12] CSEL 81:274.
[13] CSEL 81: 276.
[14] In 2Cor. hom 22. PG 61: 590.
[15] Adam Clarke Commentary.
[16] Ibid.
[17] On Christian Doctrine, 4:7 (15).
[18] In 2 Cor. hom 22:2.
[19] In 2 Cor. hom 22. PG 61: 590-591.
[20] In 2 Cor. hom 22. PG 61: 591.
[21] CSEL 81: 277-278.
[22] In 2 Cor. Hom 22:3.
[23] CSEL 81:279.
[24] In 2 Cor. Hom 23:3