تفسير كورنثوس الثانية 7 – الأصحاح السابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الثانية 7 – الأصحاح السابع – القمص تادرس يعقوب ملطي
الاصحاح السابع
لنموت معكم،
ونعيش معكم!
في استطراد يتحدث الرسول بولس مع شعبه ليكشف لهم عن مفهوم الحب الأبوي الصادق، فهو مستعد أن يموت معهم ويعيش معهم. هذا الحب لا يقوم على عواطف بشرية مجردة، وإنما على شهوة الالتقاء معًا كأسرة واحدة في حضن اللَّه. ما يفرح قلب الرسول بولس هو توبتهم وخلاصهم وتمتعهم بالمجد الأبدي.
تعزى الرسول بتوبة شعبه عندما سمع من تيطس عن توبتهم وتعزيات اللَّه لهم. فقد فرح تيطس نفسه إذ استراحت نفسه بهم (13:7) وفرح معه وبه الرسول بولس. راحة الخادم فى تعزيات شعبه الإلهية بالتوبة الصادقة.
١. تقدم في القداسة ١.
٢. لنموت معكم ونعيش معكم ٢-٣.
٣. أخبار معزية وسط الضيق ٤-٧.
٤. حزن التوبة وحزن العالم ٨-١١.
٥. الحب غاية كتابته ١٢.
٦. تعزيات وأفراح مشتركة ١٣-١٦.
١. تقدم في القداسة
إذ يكشف الرسول بولس عما في قلبه من تهليلٍ بسبب توبتهم يؤكد لهم إن غاية إيمانه وكرازته أن يتمتع هو وكل الشعب بالحياة المقدسة في الداخل والخارج. أن يسلك الكل في طريق القداسة في خوف اللَّه.
“فإذ لنا هذه المواعيد أيها الأحباء،
لنُطهر ذواتنا من كل دنس الجسد والروح،
مكمّلين القداسة في خوف اللَّه” [1].
يشير هنا إلى الوعود الإلهية التي سبق الحديث عنها في الآيات السابقة وهي أن يكون اللَّه لهم إلهًا وهم له شعبًا (١٦:٢)، ويكون لهم أبًا وهم يكونون له بنين وبنات (١٨:٢)، وأن يقبلهم متى اعتزلوا النجاسة (١٧:٢).
يلزمنا الاهتمام بطهارة الجسد والروح، لأن اللَّه القدوس يتمجد في الجسد كما في النفس، في الإنسان ككل. مادمنا نود تحقيق الوعد الإلهي أن يكون اللَّه لنا أبًا يلزمنا أن نسعى نحو الكمال والقداسة لأنه هو الكامل القدوس.
يطالبنا بولس الرسول بالهروب ليس فقط من دنس الجسد بل “من كل” دنس الجسد، حتى نوجد في قداسة الروح، في مخافة الرب باسم يسوع المسيح. لأن من يمنع نفسه عن الرذائل لكن ليس في المسيح، لا يصير طاهرًا وبارًا فيه.
- نجد هنا تعليمًا بأن ندهش من أجل هبات اللَّه غير المنطوق بها في المسيح يسوع وبخوف أعظم أن نتطهر من كل دنس الجسد والنفس[1].
القديس باسيليوس الكبير
- قدم لنا اللّه في حنو محبته وصايا مطهرة، حتى أننا، إن أردنا، نقدر بمراعاتنا للوصايا أن نتطهر، لا من الخطايا فحسب، بل ومن الشهوات أيضًا، لأن الخطايا شيء والشهوات شيء آخر.
فالشهوات هى الغضب والزهو وحب الملذات والكراهية والشهوات الدنسة وما شابه ذلك. أما الخطايا فهي تنفيذ هذه الشهوات عمليًا، بمعنى أن الإنسان بجسده ينفذ الأعمال التي تثيرها فيه شهواته. فالإنسان يمكن أن تكون له شهوات ولكنه لا يخرجها إلى حيز التنفيذ.
كانت الشريعة (في العهد القديم) تهدف إلى تعليمنا عدم صنع ما لا نريده لأنفسنا، وبالتالى حرمت علينا مجرد التنفيذ العملى للشر.
أما الآن (في العهد الجديد)، فإننا مطالبون بطرد الشهوة ذاتها، التي تدفعنا نحو الشر. فنطرد البغضة ذاتها ومحبة الملذات وحب الكرامة وغير ذلك من الشهوات[2].
- ليتنا نتخلص من قذارة الخطية، فيظهر الجمال الأول الذي للفضيلة. يقول داود النبي في المزمور: “يا رب بجمالك أعطيت جمالي قوة” (مز 8:29). لنتطّهر حتى تظهر صورة اللَّه فينا، وهذا هو ما يريده اللَّه منّا، أن نكون بلا دنس ولا نقص ولا عيب[3].
القديس دوروثيؤس
مخافة الرب هي رأس الحكمة وأساس الحياة المقدسة، فإن اللَّه القدوس يعمل في خائفيه الذين يترجون رحمته.
يلتزم المؤمن أن يهرب من كل ما يدنس جسده سواء العين أو الأذن أو اليد أو البطن خلال النهم والزنا والكسل، وأيضًا ما يدنس النفس سواء الاستمتاع بمديح الآخرين أو الغضب الخ. هذا من الجانب السلبي وأما الجانب الإيجابي فهو التمتع بمخافة الرب كأبناء يحرصون على مشاعر أبيهم القدوس. بهذا يتمتع المؤمن بفكر المسيح، ويسلك في طريق القداسة ليتمتع بكمالها.
- إن أراد أحد أن ينال حب اللّه، فليكن فيه مخافة الرب، لأن الخوف يولِّد بكاء، والبكاء يولد قوة. وإذا ما كملت هذه كلها فى النفس، تبدأ النفس تثمر فى كل شيء. وإذ يرى اللّه فى النفس هذه الثمار الحسنة، فإنه يشتمها رائحة بخور طيبة، ويفرح بها هو وملائكته، ويشبعها بالفرح، ويحفظها فى كل طرقها حتى تصل إلى موضع راحتها دون أن يصيبها ضرر.
إذ يرى الشيطان الحارس العلوى العظيم يحيط بالنفس، يخاف أن يقترب منها أو يهاجمها بسبب هذه القوة العظيمة.
إذًا، اقتنوا هذه القوة حتى ترتعب الشياطين أمامكم، وتصير أعمالكم سهلة، وتتلذذوا بالعمل الإلهى، لأن حلاوة حب اللّه أشهى من العسل.
حقًا أن كثيرين من الرهبان والعذارى فى المجامع، لم يتذوقوا هذه الحلاوة الإلهية، ولم يقتنوا القوة الإلهية، ظانين أنهم قد نالوها، بالرغم من عدم جهادهم. أما من يجاهد لأجلها فينالها حتمًا خلال المراحم الإلهية، لأن اللّه لا يحابى الوجوه.
فمن يريد أن يكون له نور اللّه وقوته، يلزمه أن يستهين بكرامات هذا العالم ودنسه، ويبغض كل أمور العالم ولذة الجسد، وينقى قلبه من كل الأفكار الرديئة. ويقدم للّه أصوام ودموعًا ليلاً ونهارًا بلا هوادة كصلوات نقية، عندئذ يفيض اللّه عليه بتلك القوة.
اجتهدوا أن تنالوا هذه القوة، فتصنعوا كل أعمالكم بسهولة وُيسر، وتصير لكم دالة عظيمة قدام اللّه، ويهبكم كل ما تطلبونه[4].
القديس أنبا أنطونيوس
- الحب نسل عدم الشهوة، وعدم الشهوة هو زهرة الحياة العاملة التى تقوم بدورها بتنفيذ الوصايا.
مخافة الرب هو الحارس لممارسة الوصايا، وهو ثمرة الإيمان السليم.
الاعتقاد (الإيمان النظرى العقلى البحت) هو صلاح النفس الداخلي، وهو غالبًا ما يوجد حتى عند الذين لا يؤمنون باللّه (إيمانًا عمليًا)[5].
القديس مار أوغريس
- يقول يوحنا: “المحبة الكاملة تطرد الخوف إلى خارج” (1 يو 8:4)، فلماذا يقول النبي الطوباوي داود: “اتقوا (خافوا) الرب يا قديسيه” (مز 93:4)؟
هذا يكشف عن نوعين من الخوف:
النوع الأول أولي، والنوع الثاني خوف كامل.
الأول يخص المبتدئين، والثاني يخص القديسين الكاملين الذين بلغوا إلى قامة الحب الكامل.
فمن يطيع إرادة اللّه بسبب خوفه من العذاب يكون خوفه مبتدئًا. وأما الذي ينفذ إرادة اللّه بسبب حبه للّه لكي يرضيه، وقد بلغ بهذا الحب إلى الخوف الكامل. وبواسطة هذا الخوف (الكامل) يخاف لئلا يفقد تلك البهجة التي يتمتع بها بوجوده مع اللّه ويخشى لئلا يخسرها. هذا هو الخوف الكامل، المولود من الحب، الذي يطرد الخوف البدائي إلى الخارج[6].
القديس دوروثيؤس
٢. لنموت معكم ونعيش معكم
“اقبلونا، لم نظلم أحدًا،
لم نفسد أحدًا،
لم نطمع في أحد” [2].
يسأله أن يحبوه كما هو يحبهم، وأن يقبلوه كرسولٍ، فقد أكد لهم أنه مُرسل من قبل اللَّه، وأنه أمين في عمله الرسولي.
يطلب الرسول من شعبه أن يقبلوه ولا يستخفوا به وبالعاملين معه، وهو لا يعني قبول أشخاصهم، بل قبول الإنجيل الذين يكرزون به. إنه ليس لدى الكورنثيين أي سبب لعدم قبولهم الخدام.
كان الرسول بولس حريصًا ألا يعثر أحدًا، وكما جاء في حديثه مع قسوس كنيسة أفسس: “فضة أو ذهب أو لباس أحد لم أشته” (أع ٣٣:٢٠). وهاهنا يقول: “لم نظلم أحدًا، إذ لم نمارس عملاً قط ضد العدالة. ولم نفسد أحدًا بأي تعليم كاذب أو فكر موذٍ. ولم نطمع في أحد إذ لم نشته شيئًا مما لأحد، ولم نطلب أمرًا زمنيًا.
- هذه هي سمة الخادم الحقيقي، فنسمع صموئيل النبي يقول لشعبه: “هأنذا فاشهدوا عليِّ قدام الرب وقدام مسيحه: ثور من أخذت؟ وحمار من أخذت؟ ومن ظلمت؟ ومن سحقت؟ ومن يد من أخذت فدية لأغضي عيني عنه فأرد لكم؟ (١صم ٣:١٢).
كأنه يقول لهم انظروا ماذا فعل بكم المعلمون الكذبة؟ لقد ظلموكم وأفسدوا فكركم وخدعوكم.
“اقبلونا” (اجعلوا لنا موضعًا فيكم make room for us)، أي لتحبونا. يقول: “من طردنا؟ من استبعدنا من قلوبكم؟[7]
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لا أقول هذا لأجل دينونة،
لأني قد قلت سابقًا أنكم في قلوبنا،
لنموت معكم ونعيش معكم” [3].
لم يكتب هذا لينتقدهم أو يدينهم، وإنما ليفتح عيونهم فيميزوا بين الرسل الحقيقيين والخدام الأمناء وبين المعلمين الكذبة. فإنه لا يستطيع الكذبة أن يقولوا هكذا أن الشعب في قلوبهم، يموتون معهم ويعيشون معهم.
أراد الرسول بولس أن يتحققوا بأي فكر يتحدث معهم. إنه بالتأكيد يود أن يدرك مدى اتساع قلبي، فإنه ليس فقط لم يطمع في اقتناء شيء من أحدٍ، إنما يجد مسرته في دخول الكل إلى قلبه، فيجدوا فيه الحب الفائق. يلتقوا في قلبه بمسيحه الذي يشارك البشرية آلامها لتشاركه بهجة سمواته. في قلب الرسول يدرك ترجمة عملية لشركة المسيح للمؤمنين وشركة المؤمنين لمسيحهم. إنه سفير المحبوب يسلك بروحه.
- إنه يظهر حنوًا عظيمًا حتى حين يُعامَل باستخفاف. إنه يختار أن يموت وأن يحيا معهم… إن حلََّ الخطر، فمن أجلكم مستعد أن أحتمل كل شيءٍ. ليس الموت ولا الحياة ذات قيمة في ذاتهما عندي، فمن أجلكم أفضل الموت عن الحياة والحياة عن الموت[8].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- من يُقدم لأجل ترشيحه للكهنوت يلزم أن يكون كموسى… حتى عندما يُصب على الشعب الموت المرهب لبعض العصاة يتقدم ليكون هو بين الموت والحياة، لكى لا يهلك أحد من شعبه.
- الإنسان الذي له روح الكهنوت وفكره هو ذاك الذي بكونه راعيًا صالحًا يتقدم للموت من أجل قطيع الرب بروح ورعة. بهذا يكون (كموسى) في كسر شوكة الموت، وصد قوته، وازالته الى أبعد الحدود.
الحب هو العضد الذي يزكيه، مقدمًا نفسه للموت من أجل مقاوميه[9].
القديس أمبروسيوس
- أيها المعلم شفيع الأسرار الإلهية تكلم بالحب…
الذي يعلم ولا يحب يرتدع بالسكوت،لأنه باطلاً يتعب بتصنيف الكلام غير المربح. الماهر العظيم إن شاء أن يربح سامعيه فليحب كثيرًا ويتكلم قليلاً مع تلاميذه.
- الملابس التي يرتديها الكاهن داخل بيت المقدس هي الحب المبسوط على ضميره عندما يقترب. إكليل الكاهن يكرز للشعب: ان هذا هو الحب الذي يربط جميع الصالحات، والقادر أن يدخل الى اللَّه[10].
مار يعقوب السروجي
٣. أخبار معزية وسط الضيق
“لي ثقة كثيرة بكم،
لي افتخار كثير من جهتكم،
قد امتلأت تعزية،
وازددت فرحًا جدًا في جميع ضيقاتنا” [4].
من جهته فإن حبه لهم بلا حدود، يموت معهم ويعيش معهم، أما من جهتهم فمحبتهم له اعطته ثقة عظيمة ليكتب بكل جرأة وصراحة، وهو معتز بحبهم له ويفتخر بها. محبتهم ملأت قلبه بالتعزية وسط ضيقاته وآلامه، جعلته متهللاً جدًا. إنه أب ينسى كل أتعابه حين يرى أولاده محبين له، يفتحون قلوبهم له.
جاء تعبير “ازددت فرحًا جدًا” Huperperisseuomai يحمل معنى الفرح الذي لا يُعبر عنه، وهو فعل يوناني يندر جدًا استخدامه، لم يستخدم في كل العهد الجديد.
كان الرسول بولس مقتنعًا بسبب الطريقة التي تجاوب بها الكورنثيون لتوبيخه لهم في رسالته الأولى، مما شجعه أن ينصحهم مرة أخرى. أوضح أن تجاوبهم هذا أعطاه تعزية فامتلأ فرحًا بالرغم منن كل الأحزان التي تحل به. إنه يتعزّى وسط تجاربه وضيقاته، إذ يُسرّ من أجل خلاصهم.
تجاوب الشعب بالتوبة قدم للرسول بركات لا حصر لها، منها الاتي:
* ثقة في شعبه أنه شعب اللَّه المختار.
* افتخار واعتزاز بعمل اللَّه فيه وفيهم.
* تعزية ملأت كل فراغٍ في داخله.
* فرح عظيم لن تقدر الضيقات أن تحطمه.
توبة الشعب هي سند للكاهن، موضع اعتزازه وتعزيته وفرحه بنعمة اللَّه العاملة فيهم خلاله. هي علامة الحب للَّه وخدامه الأمناء.
تكريم الشعب للكاهن يتجلى بقوة خلال التوبة حيث تتهلل نفس الكاهن وتستريح بخلاص اخوته في الرب.
كثيرا ما كان القديس يوحنا ذهبي الفم يطالب شعبه بالتعبير عن حبهم له لا بالتهليل والتصفيق بل بالتوبة اليومية والطاعة للوصية الالهية.
- إنني لست في حاجة إلى مديح أو تصفيق أو صخب أو ضجيج!
إني أطلب شيئًا واحدًا، ليتكم تصغون إليه في هدوء وتعقل: إفعلوا ما اقوله! هذا هو مديحكم لي. هذا هو ثناؤكم علي…
نحن لسنا هنا في مسارح للتمثيل، ولا ترون أمامكم ممثلين تصفقون لهم. هنا مدرسة روحية، نظهر فيها طاعتنا بأعمالنا[11].
- ما حاجتي إلى هذا التصفيق، علامة الفرح والاعجاب؟
المديح الذي أرجوه منكم أن تظهروا أقوالي معلنة في أعمالكم، فأصير إنسانًا سعيدًا[12].
القديس يوحنا ذهبي الفم
“لأننا لما أتينا إلى مكدونية لم يكن لجسدنا شيء من الراحة،
بل كنا مكتئبين في كل شيء،
من خارج خصومات،
من داخل مخاوف” [5].
كان الرسول بولس المتسم بالفرح الدائم يعاني من نوع من الكآبة بسبب الاضطهادات الخارجية من اليهود والأمم ومن المعلمين الكذبة ومخاوفه على الشعب في الداخل. فقد ترك بولس أفسس وذهب إلى ترواس حيث توقف إلى حين ثم جاء إلى مكدونية حيث كتب هناك هذه الرسالة. كان يترقب مجيء تيطس ليخبره عن ثمر رسالته الأولى، وإذ تأخر صار في كآبة.
- كان على الرسول بولس أن يحارب ليس فقط أعداءً خارجيين بل وأعداءً في الداخل في شركة مع الكنيسة. لقد خشي أن ينحرف مؤمنون إلى أمورٍ ضارةٍ[13].
ثيؤدورت أسقف قورش
- “كنا مكتئبين في كل شيء” كيف في كل شئ؟ حروب من الخارج من غير المؤمنين، مخاوف من الداخل من أجل الضعفاء بين المؤمنين لئلا يُفقدوا. فإن هذا لم يحدث بين الكورنثيين وحدهم بل وفي مواضع أخرى[14].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لكن اللَّه الذي يُعزّي المتضعين
عزّانا بمجيء تيطس” [6].
كيف تعزى بولس؟ ينسب الرسول تعزيات قلبه الداخلية أولاً إلى اللَّه الذي يسكب تعزياته على المتواضعين، وبعد ذلك ينسبه إلى مجيء تيطس الذي قدم تقريرًا مفرحًا عن ثمر رسالته الأولى في حياة الكنيسة في كورنثوس. لقاؤه مع تيطس فرِّح قلبه فقد كان الرسول يعتز جدًا بالصداقة، خاصة مع العاملين في ملكوت اللَّه على الأرض. إنه يتطلع إلى تيطس كابن خاص عزيز لديه جدًا، وشريك معه في ذات الإيمان (تي ٤:١). أما الأخبار التي حملها فقدمت تعزيات أعظم بكثير من تعزيات الصداقة الشخصية. ما أبهج قلب الرسول جدًا هو توبتهم وحزنهم الذي يجلب فرحًا في الرب. وكما يقول سليمان الحكيم: “من يوبخ إنسانًا يجد أخيرًا أكثر من المطري باللسان” (أم ٢٣:٢٨).
يرد الرسول التعزية لا إلى الصداقة مع تيطس ولا إلى أخبار كورنثوس مفرحة، لكن إلى اللَّه إله كل التعزيات كمصدر كل تعزية وكل صلاح.
يرى البعض أن مجيء تيطس أعطى راحة لبولس الرسول لأن الإنسان المتألم يجد تعزية حينما يجد أحدًا مخلصًا يقترب إليه.
يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن الرسول بولس يستخدم هنا كلمة “يُعزّي” لتشير إلى قوة اللَّه واهبة الشفاء[15].
“وليس بمجيئه فقط،
بل أيضًا بالتعزية التي تعزى بها بسببكم،
وهو يخبرنا بشوقكم ونوحكم وغيرتكم لأجلي،
حتى إني فرحت أكثر” [7].
سرّ التعزية:
أولاً: مجىء تيطس إليه كابنٍ وصديقٍ وعاملٍ معه.
ثانيًا: جاء متهللاً بتعزيات إلهية بسبب موقف أهل كورنثوس الروحي البنِّاء.
ثالثًا: كشف عن شوقهم أن يروا الرسول بولس، وأن يصححوا من أخطائهم السلوكية والعقيدية والكنسية.
رابعًا: كشف عن حزنهم على ما سبق أن ارتكبوه.
خامسًا: غيرتهم على مساندة الرسول في كرازته وخدمته.
٤. حزن التوبة وحزن العالم
“لأني وإن كنت قد أحزنتكم بالرسالة لست أندم مع إني ندمت،
فإني أرى إن تلك الرسالة أحزنتكم ولو إلى ساعة” [8].
لقد كان الرسول مترددًا بعد كتابته الرسالة الأولى، إذ لم يكن يود بعثها بهذا الحزم. كأنه يقول لهم: “لقد الزمتموني بالكتابة بهذا الأسلوب مع شوقي الشديد إلى الترفق بكم والحنو وإظهار كل حب”. ومع أنه ندم بعد بعثها إليهم لكنها أثمرت بتوبتهم فلم يندم بل فرح بالثمر المتكاثر الذي جناه. هذا ما عناه بقوله “لست أندم مع إني ندمت”
الآن ليس وقت للحزن، فقد حزنتم ولو إلى ساعة، وقد حان وقت الفرح المشترك. أنا حزنت لأني كتبت لكم بحزمٍ، وأنتم حزنتم على ما فعلتموه، ها نحن نتعزى معًا ونفرح الآن معًا. حزنتم إلى حين ها أنتم ونحن نفرح إلى الأبد بخلاص الرب وعمله معكم.
“الآن أنا أفرح لا لأنكم حزنتم،
بل لأنكم حزنتم للتوبة،
لأنكم حزنتم بحسب مشيئة اللَّه،
لكي لا تتخسَّروا منّا في شيء” [9].
حزنكم للتوبة ولِّد تغييرًا شاملاً في الفكر والسلوك. حزن العالم يحطم النفس ويفسد السلام ويضعف الجسد، أما حزنكم فحزن التوبة الذي جدد ما في داخلكم، وأبهج الكل، ولم يسبب أدنى خسارة بسببنا.
كم كانت فرحة الرسول بولس بتوبتهم، لقد جددت طاقات الرسول الذي كان حزينًا على بعث الرسالة إليهم. تهللت نفسه بتوبتهم للخلاص المفرح.
- هنا يعلمنا بولس أن هذا النوع من الحزن له قيمته الذي غايته هو اللَّه لا العالم. يقول إنه بالحق قد صرتم حزانى إذ تشعرون بالتوبة أمام اللَّه… لاحظوا أولئك الذين كانوا في العهد القديم حزانى في وسط أتعابهم الجسيمة. والذين نالوا نعمة، بينما الذين وجدوا بهجتهم في الملذات استمروا تحت العقوبة. لهذا فإن العبرانيين الذين تنهدوا في أنين في أعمال مصر (خر 23:2) نالوا نعمة الأبرار، والذين أكلوا خبز الحزن والخوف تمتعوا بالصلاح الروحي[16].
القديس أمبروسيوس
“لأن الحزن الذي بحسب مشيئة اللَّه ينشئ توبة لخلاص بلا ندامة،
وأما حزن العالم فينشئ موتًا” [10].
يميز الرسول بين نوعين من الحزن:
أولاً: حزن حسب مشيئة اللَّه، حزن بسبب كسر للوصية الإلهية. هذا الحزن المقدس هو من أجل التمتع ببهجة الخلاص. فلا يستريح الإنسان التائب حتى يجد موضعًا في الأحضان الإلهية خلال عمل المسيح الخلاصي، فيرتفع قلب التائب إلى السماء.
ثانيًا: حزن العالم الذي يقوم على فقدان بعض أمور العالم المادية أو المعنوية، سواء كانت ممتلكات أو حقوق زمنية أو كرامة أرضية. هذا الحزن يحطم النفس ويسبب هزالاً للجسم مع أمراض، يدفع إلى الموت والهلاك الزمني والأبدي.
هنا يقدم الرسول مفهومًا إنجيليًا رائعًا للحزن حسب مشيئة اللَّه، فإنه يدفع إلى التوبة بمعنى الرجوع إلى أحضان اللَّه لا اليأس، ويولد إصلاحًا وتجديدًا مستمرًا، ويصحبه سلام اللَّه وفرح داخلي. فلا يندم الإنسان أو يحزن على ممارسته للحزن المقدس.
- يقول انه يوجد أكثر من نوع من الحزن، الواحد حزن العالم والآخر حزن حسب مشيئة اللَّه. حزن العالم ينشئ موتًا، بينما الحزن الآخر ينشئ توبة للخلاص. فإنه بالتأكيد متى ناحت نفس على حياتها الشريرة لأنها تشعر بآثارها الشريرة، مثل هذا الألم لا يمكن نزعه عن الحزن الذي يُدعى مطوبًا[17].
- ليس شيء يرد القلب إلى الحكمة مثل الحزن، وليس شيء أعذب من الحزن الورع[18].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- الذي يحزن حسب اللَّه يحزن في توبةٍ عن خطاياه، ويحزن على شروره فيجلب عدلاً. أولاً دع ما لا يسرّك حتى يمكنك أن تصير على ما أنت ليس عليه[19].
- إني وجّهت أذنيّ إلى صلاة هذا الإنسان، وسمعته يقول: اللَّهم ارحمني، اشفي نفسي فإني أخطأت إليك (مز7:108). إنه يندب خطاياه؛ إني أعرف الحقل، إني أتطلع إلى الثمرة. شكرًا للَّه. فإن الحفر في مكانٍ صالح، فإنه ليس بالعمل غير النافع، إنه ينتج ثمرة. حقًا إنه وقت للحزن المثمر، حتى نحزن على حال موتنا، وعلى كثرة التجارب، وهجمات الخطاة الخاطفة السرية، الاصطدام ببين الرغبات، الصراع بين الأهواء التي تتمرد دومًا على الأفكار الصالحة. لهذا فلنحزن ونكتئب على هذا الحال[20].
القديس أغسطينوس
في وسط بهجة قيامة المسيح المتألم المصلوب يحدثنا القديس أغسطينوس عن هذا الحزن الصالح الذي يراه حقلاً مثمرًا، يثمر بهجة سماوية.
- على أي الأحوال إني أتعجب كيف أن اللَّه الذي من البداية قدم للبشرية الألم النابع عن الخطية، أنه ينزع هذا القرار بحكم وقرار بحله. اسمع الآن: الخطية تنتج ألمًا، وخلال الألم تبطل الخطية. تطلّع بحرصٍ. اللَّه يهدد المرأة، يجلب عليها العقوبة بسبب عصيانها، ويخبرها: “بالوجع تلدين أبناء” (تك 16:3). أظهر الألم كحصادٍ للخطية. على أي الأحوال أي سخاءٍ هو هذا! فإنه يحوّل العقوبة ذاتها التي قدّمها إلى خلاصٍ. الخطية تلد ألمًا، والألم يحطم الخطية. وذلك كما أن شجرة تلد دودة تقوم هي نفسها بإبادة الشجرة عينها. هكذا الألم الذي تلده الخطية يقتل الخطية حين يرافقه بالتوبة…
الألم صالح للذين يتوبون بإخلاص. الحزن الذي يتبع الخطية يناسب الذين يخطئون”.
لتحزن على الخطية فلا تنتحب على العقوبة. اعتذر للقاضي قبل امتثالك في المحكمة. أما تعلم أن كل الذين يرغبون في ملاطفة القاضي يفعلون ذلك ليس عندما تقدم القضية، بل قبل دخولهم إلى المحكمة، أو خلال الأصدقاء او بطرق أخرى بها يلاطفون القاضي؟
نفس الأمر بالنسبة للَّه، فإنك لا تقدر أن تقنع الديّان خلال وقت المحاكمة. إنه يمكنكم أن تترافعوا مع الديّان قبل وقت الدينونة[21].
- التوبة نار تلتهم كل ضعف بشري، تنزع التهاون والكسل وثقل الجسد، وتعطي للنفس جناحًا تطير به نحو السماء، وتظهر لها خلال هذه القمّة المرتفعة بطلان هذه الحياة الحاضرة.
من لا يرتفع إلى مركز المراقبة لا يستطيع أن يلتقط صورة صادقة للأرض ومحتوياتها. فإن أمورًا كثيرة تظلم مجال الرؤية وتصم الأذنين وتلعثم اللسان. لهذا يليق بالإنسان أن ينتزع نفسه من هذا الصخب، ويبتعد عن الدخان، ويدخل إلى الوحدة ليجد السلام العميق والهدوء والسكون مع الاستنارة.
عندما تركز الأعين على حب اللَّه، ولا تعود تسمع الأذن إلا كلماته وكأنها سيمفونية روحية عذبة، تصبح النفس أسيرة (اللَّه) تشعر بتقزز من الطعام والنوم.
حقًا أن ضجة العالم والاهتمامات المادية تنزلق على النفس لكنها لا تدخل إليها، وبارتفاع النفس هكذا لا تعود تبالي بفرقعات العواصف الأرضية.
وكما أن سكان الجبال لا يعودون يسمعون أصوات المدينة ولا يرون ما يدور فيها، إنما يحسبون هذه كلها أشبه بضجيج مبهم، هكذا الذين تركوا العالم بإرادتهم وانطلقوا يطيرون في مرتفعات الفلسفة (الحكمة) لا يعودون يدركون شيئًا عن أحوال العالم، لأن كل حواسهم متجهة نحو السماء.
إذن لنبحث لا عن وحدة البرية فحسب، إنما عن وحدة الرغبة الداخلية. لنختبئ فوق أعلى قمة النفس حيث لا يسكن فيها شيء أرضي.
إن قوة التوبة كمثل هواء يطرد الغبار ويكتسح الشهوات أسرع من الدخان.
القديس يوحنا ذهبي الفم
“فإنه هوذا حزنكم هذا عينه بحسب مشيئة اللَّه كم أنشأ فيكم من الاجتهاد،
بل من الاحتجاج،
بل من الغيظ،
بل من الخوف،
بل من الشوق،
بل من الغيرة،
بل من الانتقام،
في كل شيء أظهرتم أنفسكم أنكم أبرياء في هذا الأمر” [11].
يكشف الرسول بولس عن ثمار الحزن المقدس، ألا وهي:
أولاً: الاجتهاد أو الاهتمام العملي بالنفوس لكي تتمتع بالحياة المقدسة في الرب. الاجتهاد في التمتع ببركات الطاعة للوصية الإلهية، والتخلص من كل فساد لحق بها بسبب الخطية.
- تنقسم الفضيلة الى أمرين: ترك الشر وفعل الخير. الانسحاب من الشر ليس كافيًا لبلوغ الفضيلة، إنما هو بداية الطريق الذي يقود اليها ، لا تزال تبقى هناك حاجة لنشاط عظيم[22].
- ان نزعت الأشواك وتركت الحقل عاطلاً يعود فيمتلئ أعشابًا غير نافعة. إذن الضرورة ملحة لشغل الحقل وزرع البذور الصالحة والنباتات المفيدة.
لنطرد الغضب ونصنع الشفقة.
لننزع كل مرارة ونثبت الحنان.
لنستبعد الحقد والسخط ونزرع التسامح عوضًا عنهما[23].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ثانيًا: الاحتجاج والغيظ، بمعنى رفض التجاوب مع أية خطية تسللت إلى الجماعة. التوبة تولد ثورة مقدسة ضد الفساد.
- اندم على إثمك طالما لا يزال في القلب، قبل أن يصبح فعلاً. نقِ ضميرك وليقم الميت في بيت الضمير. أما إذا خرج الاثم من الفكر إلى الفعل فلا تيأس. فإن الميت لا يقوم وهو في داخل البيت بل وهو محمول على الاكتف.
القديس أغسطينوس
ثالثًا: الخوف على المشاعر الإلهية الأبوية، فيود التائب أن يلتزم بعلاقات الحب المقدسة مع اللَّه، ولا يجرحها بأية خطية ظاهرة أو خفية. كما يعني هنا الخوف من أن يحزن قلب الرسول بولس الذي يطلب خلاصهم.
- يليق بك أن تظل على هذا الصليب حياتك كلها لأنه لا مجال لنزع الصليب في هذه الحياة التي قيل عنها في المزمور “اللهم، سمرْ خوفك في لحمي” (مز 130:119)
للجسد ميول لحمية، والمسامير هي وصايا عدلك، ومخافة الرب هي التي ترفعك على الصليب وتجعلك قربانًا مقبولاً لديه تثبت الجسد بالمسامير…
عشْ دومًا هنا، فإن أردت ألا تغوص في وحل الأرض فلا تنزل عن الصليب .
القديس أغسطينوس
رابعًا: الشوق نحو الالتقاء باللَّه والتمتع بالشركة معه، وشوقهم للرسول بولس الذي كان حازمًا معهم في رسالته الأولى.
- هلم الى المسيح؛ ففيه غايتك وما دونه طريق…
ليكن مخلصك غاية تتوق إليها يا من لم تُدعى للارض بل للسماء. إنك لست مدعوًا لسعادةٍ أرضية بل لسعادة سماوية… لحياة مع الملائكة إلى الأبد.
ليكن فاديك هو آخر ما تصبو إليه وتتوق، فهو رجاؤك وقوتك…
اركض وراءه فتستريح، فقد جاء المسيح إليك لكي تتبعه…
اركض الآن لتفرح فيما بعد في الوطن.
القديس أغسطينوس
خامسًا: الغيرة على قدسية الكنيسة والعمل الكرازي الذي يقوم به الرسول.
سادسًا: الانتقام من عدو الخير إبليس، أو من الخطية لا الخاطي.
بسلوكهم أظهر أهل كورنثوس أنهم أبرياء hegnous ليس فقط بمعنى أنهم لا يحملون روح التمرد والعصيان عليه والمقاومة، ولا أنهم متشبثون بأخطائهم وسلوكهم الشائن، وإنما أنهم بلا لوم من جهة سعيهم لإزالة الفساد والخطأ. هذا لا يعني أنهم أبرياء بلا سلوك خاطئ تمامًا، لكن جادون في الإصلاح وفي الاهتمام بخلاص نفوسهم وإرضاء اللَّه.
البعض وهم يتوبون يخشون أن يخطئوا مرة أخرى. لكن الإنسان الذي يعرف أنه قد تشوّه بواسطة الخطية يشتاق أن يُصلح نفسه. الإنسان الذي يعرف أنه يُنتهر لأجل صالحِه يبدأ يختبر الغيرة ليدخل إلى الكمال في الأعمال الصالحة.
- من يثير حزنًا صالحًا فينا هو المحسن إلينا[24].
القديس باسيليوس الكبير
- يحدثهم عن الصفات التي تعمل فيهم خلال الغيرة. “كم أنشأ فيكم من الاجتهاد بل الاحتجاج” للدفاع عني. “بل من الغيظ” نحو الذي يخطئ. “بل من الخوف” لأنه بالحق الغيرة الزائدة والتصحيح السريع هما من عمل الذين يخافون. ولئلا يبدو أنه يمجد نفسه انظر كيف أنه يخفف من هذا بسرعة قائلاً: “نعم أي شوق عندكم من نحوي“. “نعم أية غيرة” لأجل اللَّه. “نعم، أي انتقام، لأنكم تدافعون عن شرائع اللَّه التي انتهكت“[25].
القديس يوحنا الذهبي الفم
٥. الحب غاية كتابته
“إذًا وإن كنت قد كتبت إليكم فليس لأجل المذنب،
ولا لأجل المذنب إليه،
بل لكي يظهر لكم أمام اللَّه اجتهادنا لأجلكم” [12].
أظهر القديس بولس بكل وضوح أن المغفرة يلزم منحها للذين أخطأوا ليس فقط من أجلهم هم أنفسهم، وإنما أيضًا لأجل الكنيسة، لأنه عندما يخطئ شخص يسبب تعبًا لكثيرين.
أوضح الرسول غايته من الرسالة الأولى بخصوص الشاب الذي ارتكب الخطأ مع امرأة أبيه مبينًا أنه لم يرتكب ذلك لكي يعاقب الشاب المخطئ، ولا لكي يهدئ من الأب الذي أخطأ ابنه في حقه، وإنما ما يشغله هو قداسة الكنيسة كلها. كتب لأجل الكل وليس لأجل إنسانٍ معين أو آخر. إنه ليس بالقاضي الذي يحكم على هذا أو ذاك، إنما الرسول الذي يهتم بخلاص كل أحدٍ وتقديس الجماعة كلها.
- يلمح هنا إلى أمر أبعد، وهو كما اننا تحدثنا بكل الأمور بينكم بالحق (ربما يقصد هنا مديحه لتيطس أمامهم) هكذا ما قلناه عنكم لتيطس ظهر أنه حق.[26]
القديس يوحنا الذهبي الفم
٦. تعزيات وأفراح مشتركة
“من أجل هذا قد تعزّينا بتعزيتكم،
ولكن فرحنا أكثر جدًا بسبب فرح تيطس،
لأن روحه قد استراحت بكم جميعًا” [13].
كثيرًا ما يكشف الرسول في هذه الرسالة عن شركة الحب وشركة الفرح كما عن شركة الحزن. فإذ تعزوا بالتوبة تعزى هو معهم ؛ وإذ قادهم الحزن حسب مشيئة اللَّه إلى الفرح فرح بالتالي تيطس وفرح بولس جدًا لفرح تيطس. سرّ فرح تيطس أن نفسه استراحت بجميعهم أو بقداسة الكنيسة وخلاصها.
“فإني إن كنت افتخرت شيئًا لديه من جهتكم لم أخجل،
بل كما كلّمناكم بكل شيء بالصدق
كذلك افتخارنا أيضًا لدى تيطس صار صادقًا” [14].
لم يخجل الرسول من إبراز اعتزازه بأهل كورنثوس وافتخاره بهم إمام تلميذه تيطس. لا يقوم هذا الافتخار على مجاملات بشرية ولا كنوعٍ من المداهنة، بل على الصدق والحق الإنجيلي، إذ يقوم على اهتمامهم بخلاص أنفسهم ونموهم روحيًا.
“وأحشاؤه هي نحوكم بالزيادة متذكرًا طاعة جميعكم
كيف قبلتموه بخوفٍ ورعدةٍ” [15].
“أحشاؤه هو نحوكم بالزيادة” تعبير يكشف عن فرحه الشديد، سرّه طاعته للرسول بولس في الرب، وحبه المتزايد نحوهم كرد فعلٍ لمحبتهم للرسول بولس. هذا بجانب قبولهم لتيطس في وقارٍ شديدٍ كمن له سلطان من قبل الرب المخوف.
يقول بولس الرسول أن ذهن تيطس وعاطفته كانا يهتمان بهم، إذ لاحظ تقدمهم، لأن ذهن القديس يهتم بكل ما هو صالح.
“أنا افرح إذًا إني أثق بكم في كل شيء” [16].
واضح أن الرسول بولس مقتنع تمامًا بصدق توبتهم، وقد انعكس فرح تيطس بهم على الرسول بولس ففرح بدوره واطمأنت نفسه في ثقة أنه لن تستطيع رياح التعاليم الكاذبة ولا مثيرات المعلمين الكذبة أن تهزهم.
كان الرسول بولس مسرورًا ليس فقط من أجل الحل الصالح للمشكلة، لكن أيضًا من أجل الأعمال الصالحة التي بها يصلحون ممارستهم السابقة القديمة. هذا هو السبب الذي لأجله كان له ثقة كاملة فيهم.
- ليست كثرة الخطايا هي التي تجلب اليأس للبشر، إنما فساد نيتهم…
ليس السقوط في ذاته خطيرًا، إنما بالأحرى يكمن الخطر في البقاء فى حالة السقوط!
الجرح في ذاته لا يميت، إنما بالأكثر إهمال الجريح للعلاج!
لا أقول هذا لكي تهملوا، إنما لكي تكفوا عن اليأس”.
له أيضًا تعبير رائع في التشجيع علي الجهاد في طريق التوبة والفضيلة بغير يأس: “عندما تبدأون في الإصلاح فإنكم وإن كنتم تعصون شريعتكم مرة ومرتين وثلاثا وعشرين مرة، لا تيأسوا. قوموا من جديد، استعيدوا نشاطكم مرة أخري فإنكم بالتأكيد منتصرون[27].
القديس يوحنا الذهبي الفم
من وحي 2 كو 7
احملني بالحب اليك،
فأحمل بالحب اخوتي!
v وعودك الالهية تتلألأ أمام عيني.
ُترى متى تتحقق في كمالها؟
متى التقى بك فتحملني إلى حجالك.
هناك أدرك بهاء قداستك !
قل كلمة فيهرب كل دنس من نفسي كما من جسدي.
قل كلمة فأتمتع مع اخوتي بالحياة المقدسة.
قل كلمة فنعيش جميعًا فيك يا أيها القدوس.
- سمرْ خوفك في لحمي فاشتهى القداسة.
يدخل بي إلى حبك فابلغ إلى أحضانك.
مخافتك هي طريق الحب!
مخافتك هي طريق القداسة!
- هب لي أن أخدم اخوتي.
لا أطمع إلا في حملهم إلى عرشك بروحك القدوس.
أحملهم بالحب، فأحيا معهم وأموت معهم
أرتدى ثياب الحب، ثياب الكهنوت الخفية.
بها أستطيع الدخول إلى قدس الأقداس,
وبدونها لن أقدر على اللقاء معك.
- هب لهم محبتهم لي,
يكرمونني بتوبتهم لك، والتصاقهم بك.
أراهم في حضنك دومًا ينمون ,
فتمتلئ نفسي ثقة ويقينا بخلاصهم.
أفتخر بعملك في حياتهم.
تنسكب تعزيات الروح عليَّ.
افرح بالحق ولا يقدر حتى الموت
أن يحطم فرحي بهم!
- هب لي أن أتلمس حزن توبتهم.
يحزنون على خطاياهم، وأنا أحزن معهم.
أنا شريك معهم في الضعف.
ليفرحوا ببهجة خلاصهم،
فاشترك معهم في بهجتهم وأتََعزى.
بعمل روحك القدوس فيهم وفيّ.
- ليكن لي ولهم حزن التوبة المثمر.
أمد يدي فأقطف من شجرة التوبة.
ثمارًا هذه عذوبتها.
أقطف اجتهادًا في التمتع ببرك.
فيلتهب قلبي ثورة ضد الفساد.
اقتني مخافتك التي تحملني إلى حبك الإلهي.
يزداد شوقي الى الشركة معك،
وحنيني إلى رؤياك.
أحمل غيرتك على مقدساتك.
أخيرا اقتني أسلحة البرّ لأحطم إبليس عدوي الخطير.
هذه ثمار حزني المفرح!
هذا هو عمل روحك فيَّ وفي كل شعبك.
الذي يهبنا تعزية سماوية، ويستريح هو فينا.
لأقطف مع كل شعبك ثمر التوبة،
فنسير معًا في موكب نصرتك.
[1] Concerning Baptism 1:2.
[2] الفيلوكاليا، 1993، ص 177.
[3] تأملات في مديح للقديس غريغوريوس النزينزي.
[4] Letter, 9.
[5] الفيلوكاليا، 1993، ص 142.
[6] الفيلوكاليا، 1993، ص 187.
[7] In 2 Cor. hom 14. PG 61: 537.
[8] In 2Cor. hom 14. PG 61: 538.
[9] الحب الرعوي، ص 458.
[10] الحب الرعوي، ص 458-460.
[11] In Matt. Hom 17:6.
[12] Statues, Hom 2:10.
[13] PG 82:418.
[14] In 2 Cor. hom 14. PG 61: 540.
[15] Against Eunomius, 2:14.
[16] Paradise 15:77.
[17] The Beatitude, sermon 3. (ACW)
[18]. In Ephes., hom. 24.
[19] Easter Season 254:2.
[20] Easter Season 254:4.
[21] Hom. On Repentance and Compunction 7:6:19.
[22] In Thess, Hom., 5.
[23] In Eph., Hom. 16.
[24] The Long Rules, 52.
[25] In 2Cor. hom 16. PG 61: 552.
[26] In 2Cor. hom 16. PG 61: 555.
[27] In 1 Cor. Hom. 88.