Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير كورنثوس الثانية 5 – الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الثانية 5 – الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الثانية 5 – الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الثانية 5 – الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي

الاصحاح الخامس

خدمة المصالحة مع السماوي

يختم الرسول حديثه عن خدمة العهد الجديد برفع القلوب إلى العرش السماوي لكي يدخل الكل إلى حضن الآب، وجاءت دعوة خدمته كسفيرٍ للسيد المسيح: “تصالحوا مع اللَّه!”

١. بيتنا السماوي ينتظرنا ١-١١

٢. الكل قد صار جديدًا ١٢-١٧

٣. تصالحوا مع السماوي ١٨-٢١

١. بيتنا السماوي ينتظرنا

أراد الرسول إن يكشف عن السرّ الخفي الذي يدفع الخادم الحقيقي كي لا يفشل ولا ييأس وسط الضيقات اليومية بل والميتات الكثيرة. إنه يرى أبواب السماء مفتوحة وبيته غير المصنوع بيدٍ بشريةٍ ينتظره. يرى حياة جديدة فريدة نال عربونها الآن، ويتمتع بكمالها في الأبدية. يرى حضن الآب ينتظره ليستقر فيه أبديًا.

يتحدث الرسول هنا عن ما يتوقعه ويرجوه في يقين وعن الحياة المطوَّبة الأبدية التي ينعم بها في الدهر الآتي.

“لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي،

فلنا في السماوات بناء من اللَّه،

بيت غير مصنوع بيدٍ أبدي” [1].

بقوله: “نحن نعلم” يكشف عن يقين الرجاء الذي فيه أن له موضع في السماء يدعوه بيتًا، إما حياته هنا فيدعوها “خيمة” لأنها غير مستقرة. هناك يجد له بيتًا أو مسكنًا، أو موضع راحة، أو بيت أبيه أو البيت الأبدي. إنه في الأعالي قام ببنائه اللَّه نفسه أعده لمحبوبيه، لا يُقارن بأي قصرٍ في هذا العالم.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن البعض يقولون بأن المنزل الأرضي هو العالم، لكن يبدو له أنه بالأحرى يشير الرسول إلى الجسد[1].

يقصد بالخيمة جسم الإنسان الذي تقطن فيه النفس كما في خيمة أثناء رحلتها في برية هذا العالم حتى تدخل كنعان السماوية. حينما تنحل الخيمة أو الجسد تنطلق النفس إلى الفردوس لترى مسكنًا جديدًا اختبرت عربونه وهي في الجسد، تقيم فيه حتى يوم الرب فيلبس جسدها عدم الفساد ويعيش الإنسان بكل كيانه في السماء عينها.

ماذا يعني بالبناء من اللَّه؟ يرى البعض أن الرسول يشير هنا إلى مركبة سماوية معينة يبعث بها اللَّه إلى النفوس عند خروجها من الأجساد، والبعض يظن أنها تشير إلى قيامة الجسد، وآخرون يروا أنها إشارة إلى الحالة المطوَّبة للقديسين المتمتعين بملكوت اللَّه. جسمنا الحاضر هو خيمتنا الأرضية، جسمنا المُقام هو بيتنا السماوي.

جاء في العظة الخامسة للقديس مقاريوس أن المسيحي الحقيقي إذ صارت له شركة الروح القدس، لأنه مولود من اللَّه من فوق، قد صارت مدينته في السماوات (في 20:3)، يكشف له الروح “الخيرات الأبدية كما في مرآة“. إنه يهبه سلام المسيح ومحبة الرب وشهوة السماء، وذلك خلال الآلام والعرق والتجارب والحروب الروحية الكثيرة، لكنه ينعم بهذه الأمور بنعمة اللَّه[2]. المسيحي الحقيقي يدخل إلى خبرة مجدٍ سماويٍ خارج عن الجسد، إذ يُجرح بجمالٍ آخر (غير جسدي) لا ينطق به[3]: “أولئك الذين تساقط عليهم ندى روح الحياة، أي ندى اللاهوت، فجرح قلوبهم بحب إلهي للمسيح الملك السماوي، وارتبطوا بذلك الجمال والمجد الفائق الوصف والحسن عديم الفساد وغنى المسيح الملك الحقيقي الأبدي، الغنى الذي يفوق الوصف[4]“.

بهذا الغنى يتدرب الإنسان على الحياة الملوكية، حتى متى جاء يوم الرب العظيم يدخل الملكوت فلا يراه غريبًا عنه، إنما عاش في عربونه وتمتع بغناه بالروح القدس وهو على الأرض.

القديس مقاريوس الكبير

القديس ديديموس الضرير

القديس يوحنا الذهبي الفم

ثيؤدورت أسقف قورش

العلامة أوريجينوس

القديس أغسطينوس

النوع الأول هو الذي يختص بالجسد، فيزهد الإنسان الثروة والممتلكات التي في هذا العالم.

والنوع الثاني فيه ننبذ أساليب السلوك والرذائل القديمة الخاصة بالروح والجسد.

والنوع الثالث فيه تتحرر الروح من كل الحاضرات والمرئيات متأملة في الأبديات، فينشغل القلب بغير المنظورات.

لقد سمعنا أن اللَّه طلب من إبراهيم أن ينفذ هذه الأنواع الثلاثة (من الزهد) دفعة واحدة، إذ قال له: “اذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك” (تك 1:12)…

إذا نفذنا النوع الأول من الزهد بكل إخلاص وأمانة، لا ننتفع كثيرًا ما لم نكمله بالنوع الثاني بنفس الغيرة والاشتياق. فإذا ما نجحنا في هذا يمكننا أن نبلغ النوع الثالث حيث نخرج من “بيت أبينا” القديم، إذ “كُنَّا بالطبيعة أبناءَ الغضب كالباقين أيضًا” (أف 3:2)، مثبتين أنظارنا تجاه العلويات. ويُحدّث الكتاب المقدس أورشليم – التي احتقرت اللَّه الأب الحقيقي- عن الأب القديم قائلاً: “أبوكِ أَموريّ، وأمك حثّيَّة” (حز 2:16). وفي الإنجيل جاء: “أنتم من أبٍ هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا” (يو 24:8).

فإذ نترك هذا الأب عابرين من المنظورات إلى غير المنظورات نستطيع أن نقول مع الرسل: “لأننا نعلم أنهُ إن نُقِض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من اللَّه بيت غير مصنوعٍ بيدٍ أبديّ” (2 كو 1:5)، ونقول أيضًا: “فإن سيرتنا نحن هي في السماوات التي منها أيضًا ننتظر مخلّصًا هو الربُّ يسوع المسيح الذي سيغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجدهِ” (في 20:3، 21)، وننطق بما يقوله داود الطوباوي: “غريب أنا في الأرض” (مز 19:119)…

يلزمنا أن نكون مثل أولئك الذين يُحدّث الرب أباه عنهم قائلاً في الإنجيل: “ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم” (يو 16:17)، وأيضًا محدثًا التلاميذ أنفسهم قائلاً: “لو كنتم من العالم لكان العالم يحبُّ خاصَّتهُ. ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم” (يو 19:15)[12].

الأب بفنوتيوس

“فإننا في هذه أيضًا نئن،

مشتاقين إلى إن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء” [2].

إذ نحن في هذا الجسد نئن من الضعفات التي تحل بنا والتجارب التي تواجهنا، فنشعر أن الحياة مملوءة بالآلام والأحزان. وكأن كل ما حولنا يصرخ: “قم ارحل من هذا الجسد إذ ليس فيه راحة”. حتى القديسون يشعرون أحيانًا بثقل جسد الخطية والفساد الذي يحل فيه، فيصرخون: “ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟” (رو ٢٤:٧).

حقًا يشعر المسيحي بأن جسده هو عطية إلهية مفرحة، والحياة هبة من قبل اللَّه، لكن تذوقه لعربون الأبدية يلهب في داخله الحنين أن يلبس جسده ثوب عدم الفساد، لكي يتهيأ للحياة السماوية.

جاءت كلمة “يلبس” بالعبرية labash لتعني ما يحيط بالجسم أو يغطيه أو يغلفه. جاء في الكتابات اليهودية أن موسى إذ دخل السحابة التحف بها كثوب، كما قيل عن الأبرار إنهم ملتحفون بالنور كثوب.

إما المسكن هنا فجاء بالعبرية “بيتbeeyt وفي ترجومOnkelos بيت الوجه هو البرقع، وبيت الأصابع هو القفاز، وبيت القدمين الحذاءان. فارتداء النفس المسكن هنا يعني التحافها بسمات معينة كالفضيلة.

يرى بعض اليهود أن للنفس ثياب في هذا العالم وفي الدهر الآتي. فاللَّه أرسل النفوس لكي تلتحف بثوب خلال دراسة الناموس والعمل الصالح. آدم بعد سقوطه تعرى إذ صار في حالة الخطية بدون ثوبٍ يستر النفس.

يرون أن الإسرائيليين نالوا ثيابًا تلتحف بها نفوسهم على جبل سيناء، لكنهم إذ عبدوا العجل المسبوك تعروا. هنا الثوب يشير إلى تمتع الإنسان بأيقونة اللَّه خلال الحياة المقدسة.

جاء في Synopsis Sohar عن الحكمة العلوية: عندما يقترب الوقت لرحيل إنسانٍ من هذا العالم ينزع ملاك الموت عنه ثوبه القابل للموت ويلبسه ثوبًا من الفردوس، فيه يرى الحكمة السامية ويتأملها. لذلك يُقال أن ملاك الموت يكون مترفقًا جدًا بالإنسان إذ ينزع عنه ثوب هذا العالم ويلبسه ثوبًا أثمن بكثير مُعد في الفردوس.

عندما يقول الرسول بأنهم يشتاقون أن يلبسوا فوقها مسكننا الذي من السماء بالتأكيد يعني بأن الذين يؤمنوا باللَّه ويسلكون بالروح قد أُعدوا للتمتع برؤية الخالق والمخلص المبهجة للغاية.

النفوس المقدسة للرب لن توجد عارية في الدهر الآتي إذ ترتدي ثياب البرّ والتسبيح والمجد، إذ غسلوا ثيابهم في دم الحمل (رؤ ١٤:٧). هذه النفوس تشعر بيقين الرجاء في هذا الثوب السماوي لذا تشتاق أن ترتديه بخروجها من العالم.

نلبس ثوب العرس الأبدي “السيد المسيح نفسه“، فلا يمكن لقوةٍ ما أن تنتزعنا عن وليمة السماء، أو تطردنا خارجًا. إذ قيل: “لما دخل الملك لينظر المتكئين رأى هناك إنسانًا لم يكن لابسًا لباس العرس، فقال له: يا صاحب، كيف دخلت إلى هنا، وليس عليك لباس العرس؟ فسكت، حينئذ قال الملك للخدام اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية” (مت 11:22-13).

يدعو القديس يوحنا الذهبي الفم هذا الثوب:

الثوب الذي لن يمكن أن يوجد مثله”[13].

الثوب الملوكي.

الثوب الذي بلا عيب.

الثوب اللامع والمتلألئ بالبهاء[14].

القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ يتحدث القديس إكليمنضس الإسكندري عن ثياب المسيحي، يُطالبنا أن نرتدي الثياب اللائقة بنا كمسيحيين، وهي تختلف حسب سن الإنسان وطبيعته والظروف المحيطة به. فما يليق بشخصٍ ما قد يُحسب غير لائقٍ بالنسبة لغيره. لذا وجب أن يكون لنا روح التمييز لنختار الملبس اللائق بنا. وفي نفس الوقت يليق بنا أن ندرك أن لنا ثوبًا أهم يلتزم كل المؤمنين أن يرتدوه، ألا وهو شخص السيد المسيح، وهو ثوب ملوّن، يقدم لنا مواهب متعددة تبقى زاهية لا يقدر عامل الزمن أن يفقدها جمالها.

أعطني ربي جمال منظرك مأكلاً، وتجليات أسرارك المخفية في حضن جوهرك مشربًا مفرحًا.

اجعلني يا سيدي عضوًا في جسد وحيدك، فأشعر بسرّ اتحاده بك قدر ما تستطيع طبيعتي الضعيفة[16].

الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي)

القديس إكليمنضس الإسكندري

قبل العصيان اشترك آدم في الاستنارة بالبهاء الإلهي، وإذ بالحق التحف بثوب المجد لم يكن عاريًا ولا كان في موضع شائن لأنه كان عريانًا…

يدعو العظيم بولس هذا الاستنارة الإلهية والنعمة مسكننا السماوي… في طريقه من أورشليم إلى دمشق استلم بولس من اللَّه عربون هذه الاستنارة الإلهية وكسائنا… قبل أن يتطهر من اضطهاده عندما دخل في حوار مع ذلك الذي يضطهده، أو بالأحرى نال بريقًا خفيفًا من النور العظيم[19].

الأب غريغوريوس بالاماس

“وإن كنا لابسين لا نوجد عراة” [3].

من استعد للرحيل ونال عربون المجد لن يوجد عاريًا بل ينال المجد الأبدي الذي لا يزول.

يقول الرسول: “وإن كنا لابسين لا نوجد عراةً” (2 كو 3:5). فإذ نلبس الروح، ونكون هيكلاً مقدسًا له لا يترك حتى جسدنا عاريًا بل يسكب فيه مجد المسيح يسوع القائم من الأموات، كقول الرسول: “فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحهِ الساكن فيكم” (رو 11:8)، “لكي تُظهَر حياة يسوع أيضًا في جسدنا المائت” (2 كو 11:4)، “لكي يُبتلَع المائت من الحياة” (2 كو 4:5)…

بهذا إذ يُهدم بيت خيمتنا الأرضي أي جسدنا، لا نظهر عُراة بل يكون “لنا في السماوات بناء من اللَّه بيت غير مصنوع بيدٍ أبديّ” (2 كو 1:5)، أي يظهر مجد السيد المسيح السماوي الذي كان مخفيًا في جسدنا الضعيف. وكما يقول القديس مقاريوس الكبير “لنسعَ إذًا أن نقتني ذلك اللباس هنا بالإيمان والحياة الفاضلة، حتى حينما نخلع الجسد لا نوجد عراة ولا يحتاج جسدنا في ذلك اليوم إلى شيء يمجده، لأن كل واحدٍ بقدر ما يُحسب أهلاً لشركة الروح القدس بالإيمان والاجتهاد يتمجد جسده في ذلك اليوم، لأن كل ما خزنته النفس في داخلها في هذه الحياة الحاضرة سوف يُعلن يومئذ، ويُكشف ظاهرًا في الجسد[20]“.

هذا المجد الذي للسيد المسيح، الذي يُلبسه الروح القدس لنفوسنا في الداخل، يصير مجدنا نحن وليس عارية، لهذا نحيا في هذا العالم بالحق أغنياء في الروح، نكون كملكٍ غنيٍ حينما يدعو الآخرين للوليمة يقدم بسخاء وبلا خوف من نفاذ كنوزه الداخلية التي له، أما الفقير الذي لا يملك شيئا فانه عندما يدعو الآخرين يستعير أدوات الوليمة إلى حين ثم يعود بعد الوليمة إلى فقره من جديد[21]: “لهذا يليق بنا أولاً أن نطلب من اللَّه باجتهاد قلب وإيمان أن يهبنا أن نجد هذا الغنى في قلوبنا، أي نجد كنز المسيح الحقيقي بقوة الروح القدس وفاعليته[22]

القديس مقاريوس الكبير

القديس أغسطينوس

القديس إيريناؤس

القديس ديديموس الضرير

القديس كيرلس الأورشليمي

لكي لا يكون الكل متجاسرًا بسبب قيامة الجسد يقول: “إن كنا لابسين“، أي تسلمنا عدم الفساد والجسد غير الفاسد، “لا نوجد عراة” من المجد والأمان…

القيامة بالحقيقة هي عامة للجميع، لكن المجد ليس عامًا للجميع، إنما يقوم البعض في كرامةٍ، وآخرون في هوانٍ، البعض إلى الملكوت والآخرون إلى العقوبة[30].

القديس يوحنا الذهبي الفم

سفيريان أسقف جبالة

“فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين،

إذ لسنا نريد إن نخلعها،

بل إن نلبس فوقها،

لكي يُبتلع المائت من الحياة” [4].

نحن الذين في الخيمة مثقلين بالضعف الجسدي والمتاعب والضيقات نئن بسبب الحمل الذي نلتزم به. وكأنه يقول بأن الحياة البشرية ككل هي حالة من التعب، خاصة بالنسبة لنا نحن الذين نُضطهد على الدوام ونحمل إماتة جسد الرب يسوع وإن كنا نختبر الحياة المقامة المتهللة في المسيح يسوع.

إننا لا نريد إن نخلع هذه الحياة وتحل ساعة رحيلنا قبل الوقت الذي يراه اللَّه مناسبًا لنا ولبنيان الكنيسة ومجد اسمه القدوس.

نريد إن نلبس فوقها إن يكون لنا الاستعداد الكامل للمجد الأبدي. لسنا نطلب الموت حتى تتحقق فينا إرادة اللَّه ويتم كل شيء بحكمته الإلهية.

بتمتعنا بعربون الخلود نتحسس بأن المائت قد أُبتلع بالحياة الأبدية. لم يعد للخطية أو الفساد سلطان علينا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس مقاريوس الكبير

“صارت دموعي لي طعامًا نهارًا وليلاً” (مز ٣:٤٢).

“أعوم كل ليلة سريري بدموعي، بدموعي أبلل فراشي” (مز ٦:٦).

“تنهدي ليس بمستور عني” (مز ٩:٣٨).

“حزني قد تجدد” (مز ٢:٣٩)؟

أو أليس أولاد اللَّه الذين يئنون مثقلين لا يريدون أن يتعروا بل يلبسوا فوقها حتى يُبتلع المائت من الحياة؟ أليس حتى الذين لهم ثمار الروح يئنون داخلهم مترقبين التبني، خلاص أجسامهم؟ (رو ٢٣:٨). ألم بكن للرسول بولس نفسه مواطن أورشليم السماوية هذا كله عندما كان مثقلاً وفي حزن قلب مستمر من أجل إخوته الإسرائيليين؟ لكن سوف لا يكون موت في المدينة إلا عندما يُقال: “أين نضالك يا موت؟ أين شوكتك يا موت، فإن شوكة الموت هو الخطية”[34].

القديس أغسطينوس

البابا غريغوريوس (الكبير)

القديس إيريناؤس

القديس يوحنا الذهبي الفم

لو قلت أن بولس لم يحمل طبيعة جسدنا لاعترضتم بوجه حق على الضعفات البشرية فيه لإثبات عدم صحة كلامي. ولكن لو قلت بل أكدت أنه إنسان مثلنا وليس أفضل منا في الطبيعة، لكنه أسمى في قوة الإرادة فقط، فإن كل اعتراضاتكم بلا جدوى أو بالأحرى تتحول لصالح بولس، لأنه بذلك تثبت كيف انتصر على الطبيعة بالرغم من كل الضعفات البشرية. وبالإضافة إلى مدحه فإننا نُسكت شفاه من يعيبون فيه، ملتمسين لأنفسهم عذر ضعف الطبيعة البشرية، ونحثهم على ممارسة تقوية للإرادة.

ربما تعترض أنه في بعض الأحيان خاف من الموت، وهذا أيضًا شيء طبيعي جدًا. “فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين” (2 كو 4:5) وأيضًا: “نحن أنفسنا أيضًا نئن في أنفسنا” (رو 23:8). نرى كيف أنه وازن بين ضعف الطبيعة وقوة الإرادة، فكثير من الشهداء وهم في طريقهم للاستشهاد امتلأوا من الخوف وارتعدوا، لكن هذا هو الذي جعلهم متميزين: حقيقة أنهم خافوا الموت، وبالرغم من ذلك تقدموا لملاقاته من أجل المسيح، وهكذا أيضًا بولس… بالرغم من أنه ارتعد أمام الموت إلا أنه اشتاق أن يفنى ويضمحل[38].

القديس يوحنا الذهبي الفم

العلامة أوريجينوس

“ولكن الذي صنعنا لهذا عينه هو اللَّه،

الذي أعطانا أيضًا عربون الروح” [5].

اللَّه هو الذي وهبنا وجودنا وجسمنا، وذلك لنحيا خالدين بالجسد ويتمجد كياننا بالكامل. وهبنا الجوع والعطش إلى البرّ والخلود.

العربون هو دفع جزء من الدفعة يضمن سداد الدفعة كلها. فما ننعم به الآن من تعزيات الروح القدس والسلام الذي يفوق العقل والفرح المجيد هو عربون المجد الذي سنناله فيما بعد بالكامل.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس باسيليوس الكبير

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

إنه عمل العربون الذي سُلم بواسطة الكنيسة البتول عندما جاء عريسها إلى أسفل. إنها ستتزوج في مجيئه الأخير عندما يأتي في المجد وعندما تراه وجهًا لوجه، لأنه يعطينا الآن كعربون الذي هو الروح القدس كقول الرسول[44].

القديس أغسطينوس

“فإذا نحن واثقون كل حين،

وعالمون أننا ونحن مستوطنون في الجسد

فنحن متغربون عن الرب” [6].

إننا مدركون تمامًا ما هو نصيبنا، فقد تمتعنا بعربون الروح وصار لنا الرجاء الثابت.

جاءت الكلمات باليونانية تحمل لهجة اليقين، فإذ نحن مستوطنون في الجسد، وهو اصطلاح يحمل معنى السكنى وسط الشعب، متغربون عن الرب، أي راحلون وسط شعب غريب الجنس.

فالسماء هي بيت المؤمن الحقيقي، وسكانها هم الشعب المنتمي إليه. هكذا النفس وهي مستوطنه في الجسد بكونه بيتها فهي متغربة عن مدينتها وشعبها، إذ هي مهيأة للمجد الأبدي اللائق بها لتكون في حضرة الرب، تلتقي به وجهًا لوجه.

يتحدث الرسول بولس عن خبرة، فقد ذاق انطلاق نفسه إلى السماء الثالثة لترى ما أعده اللَّه لمحبيه، فشعر بالحق أن نفسه متغربة عن هذا العالم، رحِّالة، ترجو البلوغ إلى مكان استقرارها الأبدي.

القديس جيروم

أمبروسياستر

القديس أغسطينوس

“لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان” [7].

هنا نعيش بالإيمان، فنثق بكلمة اللَّه ووعوده الإلهية، ونتمتع بعربون المجد كتذوقٍ مقدم لما سنراه وجهًا لوجه بالعيان. الآن نسير بالإيمان لنتهيأ للحياة بالرؤية.

الذين يولدون بالروح من فوق يشعرون بالتغرب هنا حتى يلتقوا باللَّه أبيهم في سمائه. إنهم يغلقون أعين قلوبهم عما في العالم حتى يفتحونها في عالم المجد، حيث يتحول الإيمان إلى عيان.

لنا عينان للنفس، كما لنا عينان، وذلك كقول الآب.

لكن هاتين ليس لهما ذات عمل البصيرة، فبالواحدة نرى مجد اللََّه الخفي المختوم داخل الطبيعة، مع قدرته وحكمته وفكره الأبدي من نحونا، هذه الأمور كلها التي يمكن إدراكها خلال عنايته الإلهية لنا على وجه الخصوص. بنفس العين نرى أيضًا الطغمات الروحية، رفقائنا. وأما بالعين الأخرى فنرى مجد طبيعة اللََّه المقدِّسة.

عندما يرغب اللََّه في تقديم أسرار روحية، يفتح بحر الإيمان بطريقة متسعة في أذهاننا[53].

القديس مار اسحق السرياني

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

سفيريان أسقف جبالة

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

القديس أغسطينوس

“فنثق ونُسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد،

ونستوطن عند الرب” [8].

إذ نسلك الآن بالإيمان نشتهي أن نتمتع بما هو بالعيان، ففي وسط أتعابنا الكثيرة نثق بما نلناه من عربون الروح وبالمواعيد الإلهية مشتهين إن نخرج من الجسد ونتغرب عنه إلى حين لنتمتع بالمجد الذي ننعم به ونراه.

بتحاشيه الإشارة المباشرة للأمور المؤلمة مثل الموت والنهاية، يعالج بولس هذه الأمور بطريقة تجعل السامعين إليه مشتاقين إليها بدعوتها “حضور مع الرب“. بنفس الطريقة عبر على الأمور العذبة لهذه الحياة وعبّر عنها بعبارات مؤلمة إذ يدعوها “التغرب عن الرب“. فعل هذا لكي لا نولع بالتسكع بما نحصل عليه الآن بل نتهيأ للرحيل إلى ما هو أفضل[59].

القديس يوحنا الذهبي الفم

العلامة أوريجينوس

“لذلك نحترس أيضًا،

مستوطنين كنا أو متغربين،

أن نكون مرضيين عنده” [9].

على أي الأحوال سواء كنا لانزال في الجسد أو في طريقنا السريع لخلق ما يشغلنا فما نحرص عليه وما نجاهد من أجله هو سرور اللَّه بنا. جاءت كلمة “نحترسphilotimoumetha تعني كلمة محبة الكرامة، ومحبة المجد الأبدي أو الطموح في نواله، فإننا لا نكف عن أن ندرس ونجاهد عاملين لكي نحب ذاك الذي وهبنا الوجود وسيهبنا الأمجاد الأبدية ونرضيه ونخدمه. هكذا سواء كنا أحياء أو منتقلين ما يشغلنا وما نطمح فيه هو أن نكون موضع رضا اللَّه.

“لأنه لابد أننا جميعًا نظهر أمام كرسي المسيح،

لينال كل واحدٍ ما كان بالجسد،

بحسب ما صنع،

خيرًا كان أم شرًا” [10].

سرّ شهوة قلب المؤمن أن يكون موضع رضا اللَّه هو ترقبه للظهور أمام العرش الإلهي للدينونة، فيتمتع بعمل النعمة التي سندته وبررته، فينال حسب ما صنعه وهو في الجسد. فما يمارسه الإنسان في العالم الحاضر وهو في الجسد ينال ثمره بفيضٍ في يوم الرب العظيم.

استخدم القديس كيرلس الكبير هذه الآية للرد على القائلين بأن الجسد أُعطيَ للنفس كعقوبةٍ.

القديس كيرلس الكبير

العلامة أوريجينوس

تصالحوا مع اللَّه

 “فإذ نحن عالمون مخافة الرب نقنع الناس،

وأما اللَّه فقد صرنا ظاهرين له،

وأرجو أننا قد صرنا ظاهرين في ضمائركم أيضًا” [11].

إذ نتمتع بمخافة الرب ونترقب يومه العظيم نقنع الناس أن يقبلوا الإيمان بذاك القادر أن يبررهم ويقدسهم ويمجدهم في ذلك اليوم.

مخافة الرب التي هي رأس الحكمة تدفعنا للشهادة للَّه والاهتمام بخلاص البشر، ليس إرضاءً للناس ولا لنوال مكافأة منهم، وإنما إرضاء لذاك الذي يفحص قلوبنا ويعرف نياتنا الداخلية. وإذ نسعى هكذا باستقامة قلب نرجو إن يتكشف ذلك أمام ضمائر الناس الداخلية فيتمثلوا بنا ويجاهدوا معنا.

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

“لأننا لسنا نمدح أنفسنا أيضًا لديكم،

بل نعطيكم فرصة للافتخار من جهتنا،

ليكون لكم جواب على الذين يفتخرون بالوجه لا بالقلب” [12].

يعتذر الرسول بولس عن دفاعه عن نفسه وعن العاملين معه موضحًا أنه ليس من أجل نفسه ومن معه، ولا لأنه يطلب منهم شيئًا، وإنما التزم بذلك لكي يقدم لهم ما ينطقون به لدى المتهمين ضده. إنه لا يطلب لنفسه مديحًا، بل يقدم لهم مادة كي لا يعطل أحد خدمتهم بسبب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لأننا إن صرنا مختلين فللَّه،

أو كنا عاقلين فلكم” [13].

لم يكن بالأمر السهل على الرسول بولس أن يدافع عن نفسه، فقد حسب نفسه كمن صار مختل العقل أو مجنونًا. وقد فعل هذا من أجل اللَّه، حتى لا تتعطل الخدمة فإن ظهر كمجنونٍ أو كعاقلٍ لا يشغله هذا، لكنه يطلب ما هو للَّه، وما يسندهم في خدمتهم.

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن الرسول يقصد بقوله “مختلّين” الُسكر الروحي بالجمال الإلهي الذي يفوق كل تصورٍ.

إذ اضطر للدفاع عن خدمته رفع قلوبهم معه إلى السماء ليروا الرسول مشغولاً لا بالبقاء في خيمة الجسد الوقتية بل في البناء السماوي والسماويات فصار كمن سكر بحب اللَّه والانشغال بالأبديات، وهكذا دخل فيما يدعوه البعض بالسكر الروحي.

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

لا نجد شخصًا أخر لديه سببًا للافتخار وفي نفس الوقت خالٍ من أي كبرياء وتمجيد. تأمل في كلماته: “العلم ينفخ” (1 كو 1:8) كلمات يلزمنا جميعًا اقتنائها. ولكن بالتأكيد كان هو أكثر من أي إنسانٍ أخر ذا علم أو معرفة، وهذا لم يجعله متكبرًا بل متواضعًا، إذ يقول: “لأننا نعلم بعض العلم” (1 كو 9:13)، و”أيها الاخوة أنا لست أحسب نفسي إني قد أدركت” (في 13:3)، “فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئًا، فإنه لم يعرف شيئًا بعد كما يجب أن يعرف” (1 كو 2:8)[67].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لأن محبة المسيح تحصرنا،

إذ نحن نحسب هذا:

إنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع،

فالجميع إذًا ماتوا” [14].

لم يشغل قلب بولس دفاعه عن نفسه، إنما ما يشغله عشقه للسيد المسيح الذي حاصر قلبه بعذوبة الحب، وسحب كل كيانه إلى الصليب، ليراه قد مات عن الجميع كي يموت معه الكل ويرتفعوا معه إلى سمواته ويشتركوا معه في أمجاده السماوية.

هكذا سحب الرسول القراء من الحديث عن محبته هو ومن معه لهم وإخلاصهم في الخدمة إلى التمتع بالحب الإلهى العملي خلال الصليب، ورفع قلوبهم إلى السماوي. عند الصليب يموت الكل مع المسيح، خاصة الخدام، فلا يطلب الخادم ما لنفسه بل ما هو لمجد اللَّه وبنيان كنيسته.

مجد الملائكة ورؤساء الملائكة وأي شيء آخر أقل شأنًا عنده من محبة المسيح، فامتلك في أعماقه الداخلية أعظم ما يمكن للإنسان امتلاكه، أي محبة المسيح التي بها اعتبر نفسه أسعد الناس، وبدونها يفقد كل رغبة في أية سلطة أو مبادئ أو قوات.

بهذا الحب فضًل أن يُحسب ضمن الرُتب الوضيعة على أن يُحسب ضمن أعظم النبلاء بدونه. كان العقاب الوحيد في نظره أن يتجرًد من هذا الحب، فذاك هو الجحيم نفسه، والتأديب والشر الأبدي. على عكس ذلك فإن امتلاك محبة المسيح هي السماء، وهي الحياة، وهي العالم كله، وهي أن يصير ملاكًا، وهي الفرح الحاضر، والفرح المقبل، وهي أن يصير ملكًا، وهي الوعد، وهي الصلاح الأبدي.

خارج هذا لا يوجد أي شيء آخر، سواء كان مُبهجًِا أو مؤلمًا. احتقر العالم المنظور كله كأنه ورقة شجرة جافة متعفنة، فالطغاة والناس المملوءون بنار الغضب في نظره مجرد حشرات صغيرة، الموت والاستبداد والاضطهاد في نظره كلهو الأطفال، طالما أنه من أجل المسيح. فاحتضن كل هذا بفرحٍ، واعتبر قيوده في سلاسل جائزة أثمن وأغلى من تاج نيرون، فصار سجنه سماءً، واحتمل جراحات السياط باشتياق كاشتياق المتسابق نحو الجائزة[68].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وهو مات لأجل الجميع،

كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم،

بل للذي مات لأجلهم وقام” [15].

هذه هي خطة السيد المسيح في عمله الخلاصي إنه إذ يرتفع على الصليب يجذب الكل إليه (يو ٣٢:١٢)، فيعيشوا معه كجسدٍ له، يعيشون لو كما هو لهم. يموتون معه ويقومون معه، يتألمون معه ويتمجدون معه ويرتفعون إلى حيث هو قائم في سمواته.

القديس أغسطينوس

“إذًا نحن من الآن لا نعرف أحدًا حسب الجسد،

وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد،

لكن الآن لا نعرفه بعد” [16].

لا نعرف أحدًا حسب الجسد“، بمعنى أننا لا نرتبط بالشخص ونقدِّره من أجل علاقاته الأسرية أو الرباطات الدموية أو الإمكانيات الجسدية أو المادية إنما نتعرف عليه خلال محبة المسيح الفائقة كشريكٍ معنا في الآلام والأمجاد السماوية.

علامة الاتحاد الحقيقي مع السماوي من الجانب السلبي هو الفطم عن العالم ومن الجانب الإيجابي هو التمتع بالخليقة الجديدة التي على صورة الخالق.

يُفطم المؤمن عن العالم وعن الجسديات حتى في معرفته للمسيح نفسه لا تقف المعرفة عند حدود الجسد وإلا حُسب كمن لم يعرفه بعد. تنطلق محبة المسيح إلى قلوبنا وتنحدر محبة العالم تحت أقدامنا.

لم يتمتع بولس الرسول بالتعرف على شخص الرب يسوع وهو بعد في الجسد في هذا العالم كما تمتع به التلاميذ والرسل. هذا لن يقلل من رسوليته، فإنه التقى بالمسيح الساكن في السماء، وتجلى أمامه بل وفي أعماقه.

لقد قيم اليهود أنفسهم إذ رأوا أن إبراهيم هو أبوهم حسب الجسد، وأيضًا تشامخ بعض المعلمين الذين من أصل يهودي في كورنثوس لأنهم رأوا يسوع حين كان بالجسد على الأرض أثناء خدمته، وحسبوا أنفسهم أفضل من الرسول بولس الذي لم يرَ السيد أثناء خدمته.

أما الذين يرتفعون فوق الأعمال والأفكار الأرضية السفلية، ويصعدون على جبل الوحدة (العزلة) المرتفع، متحرّرين من الاضطراب بكل المتاعب والأفكار الأرضية، في أمان من تدخل الخطايا، ممجّدين بإيمانٍ قويٍ، هؤلاء يمكنهم أن يتطلعوا بعيون نقية إلى لاهوته، وفي أعالي الفضيلة يكتشفون مجده وصورة سموه

يُعلن يسوع للموجودين في المدن والقرى والمزارع، أي الذين لهم أعمال يقومون بها، لكن ليس بالبهاء الذي يظهر به لمن يصعدون معه على جبل الفضائل السابق ذكره… ففي الوحدة (العزلة) ظهر اللَّه لموسى وتحدث مع إيليا[70].

الأب اسحق

القديس أغسطينوس

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

“إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة،

الأشياء العتيقة قد مضت،

هوذا الكل قد صار جديدًا” [17].

ما أخطر إن يعتز الإنسان بتعرفه عن المسيح خلال القراءة وحدها أو خلال المعجزات الملموسة دون أن تتجدد طبيعته ليصير أيقونة له. فمن هو في المسيح، أي المؤمن الحقيقي، يتمتع بسكنى المسيح في قلبه بالإيمان وبالتجديد المستمر خلال عمل روحه القدوس، فيمارس بنوته للَّه جاحدًا بنوته القديمة التي لإبليس وأعماله الشريرة.

في المسيح ننال قلبًا جديدًا وفكرًا جديدًا وسلوكًا جديدًا وحياة جديدة، كما نعيش في خليقة جديدة، في السماويات.

من كان في المسيح يحيا حرًا من الخطية ومن محبة العالم وشهوات الجسد. إنه لا ينشغل بما يُرى وإنما بما لا يُرى.

المؤمن الحق ليس فقط يتمتع بالتجديد المستمر في داخله، وإنما يرى كل شيءٍ جديدًا؛ يتطلع خلال عيني المسيح فيرى حوله خليقة جديدة.

جاء الاسم هنا “الخليقة” Ktisis ktisoc في اليونانية بالمونث حيث أغلب الأسماء المؤنثة تنتهي بـ “sis” بينما المذكر بـ “ma”. فالمؤنث يشير إلى التحرك والعمل والانتاج. الخليقة هنا ليست جامدة لكنها عاملة ومثمرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يخلق النفس خلقةً جديدةً، النفس التي كانت قد انتكست بالشهوات بواسطة التعدّي,

جاء المسيح لكي يوحّد الطبيعة البشرية بروحه الخاص، أي روح اللاهوت، وقد أتى ليصنع عقلاً جديدًا، ونفسًا جديدة، وعيونًا جديدة، وآذانًا جديدة، ولسانًا جديدًا روحانيًا. وبالاختصار أُناسًا جددًا كلية، هذا هو ما جاء لكي يعمله في أولئك الذين يؤمنون به. إذ صيّرهم أوانٍ جديدة، ويمسحهم بنور معرفته الإلهية، لكي يصب فيهم الخمر الجديدة، التي هي روحه، لأنه يقول أن “الخمر الجديدة ينبغي أن توضع في زقاقٍ جديدة” (مت 17:9)[75].

القديس مقاريوس الكبير

القديس كيرلس الكبير

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

القديس يوحنا الذهبي الفم

“ولكن الكل من اللَّه،

الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح،

وأعطانا خدمة المصالحة” [18].

كل هذه العطايا التي تمس تجديدنا الداخلي، أو الخلقة الجديدة هو هبة من اللَّه تمتعنا بها خلال المصالحة مع الآب في المسيح يسوع. فإن كانت الخطية قد نزعت التصاقنا باللَّه وحطمت العلاقة به، فتحولت إلى عداوة، فإن عمل المسيح الخلاصي هو المصالحة. صالحنا اللَّه مع نفسه بابنه الوحيد الجنس يسوع المسيح.

كل النعم التي ننالها من اللَّه مصدرها المصالحة التي تحققت بالشفيع الكفاري يسوع المسيح.

قدم لنا إلهنا خدمة المصالحة، ووهبنا الكتاب المقدس، الكلمة الإلهية، بكونه كلمة المصالحة، حيث تمتعنا بالسلام مع اللَّه خلال دم الصليب. نزع الصليب روح العداوة التي سيطرت على القلب نحو الإلهيات والسماويات، وقدم روح المصالحة معها والالتصاق بها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“أي إن اللَّه كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه،

غير حاسب لهم خطاياهم،

وواضعًا فينا كلمة المصالحة” [19].

بقوله هذا يعلن إن اللَّه هو الذي يطلب من جانبه المصالحة. نحن بادرنا بالعداوة والمقاومة والتمرد والعناد وهو الذي يبادر بالحب وطلب المصالحة. هو الذي يسعى إلينا مقدمًا لنا إنجيله، “كلمة المصالحة”.

القديس أغسطينوس

العلامة أوريجينوس

“إذًا نسعى كسفراء عن المسيح،

كأن اللَّه يعظ بنا،

نطلب عن المسيح: تصالحوا مع اللَّه” [20].

إن كان اللَّه هو المبادر بطلب المصالحة يليق بخدامه كسفراء عنه أن يبادروا من جانبهم بطلب المصالحة. إنهم يتوسلون إلى الخطاة أن يقبلوا هذه المصالحة باسم اللَّه.

الخدام كسفراء للسيد المسيح يمثلونه، معلنين إرادته في مصالحتهم مع الآب، والكشف عن حب اللَّه الفائق لهم. كممثلين للمسيح الشفيع الكفاري يطلبون عن الخطاة ويسألون الخطاة أن يقبلوا عمله الكفاري، فيتمتعوا بأحضانه الإلهية التي تحملهم إلى حضن الآب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا،

لنصير نحن برّ اللَّه فيه” [21].

الذي لم يعرف خطية صار ذبيحة خطية مقدمة عنا. الكلمة العبرية hamarita الواردة هنا ترجمت في السبعينية في أسفار الخروج واللاويين والعدد “ذبيحة خطية offeringSin“.

إذ قبل مسيحنا أن يكون تقدمة خطية وضع كل البشرية أيديهم عليه ليحمل كل ثقل الخطايا.

إذ احتل مسيحنا موضعنا حُسب كمن هو أعظم الخطاة، وهبنا أن نحتل موضعه فنُحسب في عيني الآب أبرارًا، إذ نحمل برّ المسيح.

هكذا قدم لنا هذا الإصحاح عرضًا رائعًا لمفهوم الخلاص وخدمة المصالحة مع الآب وتمتعنا ببرّ المسيح، حيث صار المسيح في موضعنا وقدم نفسه عنا ذبيحة خطية. إنه عرض فريد ورائع يكشف عن خبرة الرسول الفائقة مع صليب رب المجد يسوع المسيح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس غريغوريوس أسقف نيصص.

جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا، فالمسيح نفسه الذي لم يعرف خطية جعله اللَّه خطية لأجلنا. ماذا يعني هذا يا أخوة؟ لو أنه قيل: “جعله يُخطئ” لكان الأمر لا يُحتمل، فكيف نقبل ما قيل: “جعله خطية“، فيصير المسيح نفسه خطية؟

الذين لهم معرفة بكتب العهد القديم يدركون ما أقوله. لأن هذا ليس بالتعبير الذي استخدم مرة واحدة بل تكرر باستمرار، فالذبائح من أجل الخطايا تُدعى “خطايا”. كمثال كان الماعز يقدم عن خطية، والكبش، وكل ما يُقدم عن خطية يُدعى خطية… ففي موضع تقول الشريعة: “يضع الكهنة أياديهم على الخطية” (لا ٢٩:٤)… كانت الخطية تقدم، وتبطل. قد سفك دم المخلص، قد أبطل صك المدين. هذا الدم الذي سفك عن كثيرين لمغفرة الخطايا (مت ٢٨:٢٦)[88].

القديس أغسطينوس

V V V

من وحي 2 كو 5

نفسي تسبحك في خيمة جسدها!

إنها تترقب مسكنها معك أبديًا!

خيمة جميلة من عمل يديك،

لكنها زمنية ومؤقتة.

بإرادتي الفاسدة أفسدتها،

خلالها ترحل نفسي منطلقة إليك.

متى أحمل جسدًا روحانيًا على مثال جسدك القائم من الأموات؟

ليس فيه فساد،

ولن يحل به الموت بعد!

لكنها لن تنزع عريي أمام السمائيين.

متى اختفي فيك فارتدي برّك ثوبًا أبديًا.

هوذا أنا على الأرض ارتدي ثيابًا لكني كمن هو عارٍ.

هناك لن ارتدي ثيابًا،

بهاؤك المنعكس عليَّ هو ثوب عرسي السماوي.

فأتمتع بثوبٍ لا يفسد ولا يضمحل.

أنعم بعربون الأبدية عِوض انشغالي بالزمنيّات.

لكنني إذ أنا مستوطن في الجسد متغرّب عنك.

لأستوطن معك وأتغرّب عن الجسد الفاني.

هل لي أن أقول:

ليس لشهوات الجسد موضع فيّ!

فحيث تسكن أنت ليس للخطية مكان!

تعال؛ لتقم في أعماقي.

فإن عشتُ هنا أو عبرت من العالم،

ليس ما يشغلني سوى مرضاتك!

لأرضيك، فمن يحبني مثلك؟

أحببتني ومتّ من أجلي ومن أجل كل اخوتي.

حبّك يحاصرني على الدوام.

ماذا أرد لك فأنا بكلّي ملكك!

لأحيا لك يا من أتيت إلى العالم لأجلي.

لأتمتع بالاتحاد معك فوق كل حدود الجسد،

وحطّمت فساد طبيعتي القديمة.

لك المجد يا مجدد حياتي!

أرى نفسي تختفي فيك,

متى أرى الكل معي فيك؟

أنا سفيرك،

ليس لي هدف غير رؤية كل البشرية أبرارًا فيك.

متى أرى الكل ينعمون بشركة المجد معك؟

[1] In 2 Cor. hom 10. PG 61:506

[2] عظات القديس مقاريوس 3:5-5.

[3] المرجع السابق 5:5.

[4] عظة 6:5.

[5] Sernon 5:7.

[6] Pauline Comm. From the Greek Church.

[7] In 2 Cor. hom 10:1.

[8] In 2Cor. hom 10. PG 62:506.

[9] PG 82:406.

[10] DE Principiis 3:6:6.

[11] The City of God, 14:3.

[12] St. John Cassian: Conferences, 3:6-7.

[13] In Exp. in Ps. 5 PG 55:63C.

[14] See ACW, Vol. 31, p. 316.

[15] Comm. in Gal. 3. PG 61:656C – D.

[16] رسالة 8:4.

[17] رسالة 2:13.

[18] Paedagogus 2:11.

[19] The One Hundred and Fifty Chapters, 66, 67.

[20] عظة 8:5

[21] عظة 5:18.

[22] عظة 6:18.

[23] Semon 32:6.

[24] Sernon 5:7.

[25] Sermons on New Testament Lessons, 8:13.

[26] Fragment 12 (P.N. Frs, 1:570).

[27] Pauline Comm. From the Greek Church.

[28] Catechetical Lectures 15:23, 25.

[29] Ibid 18:19, 7:139.

[30] In 2Cor. hom 10. PG 61: 506-607.

[31] Pauline Comm. From the Greek Church.

[32] In 2 Cor. hom 10:3.

[33] Sernon 5:10.

[34] The City of God, 20:17.

[35] The Resurrection of the Body from Moralium in Job 19:25.

[36] Adv. Haer. 5:37:1.

 في مديح القديس بولس، عظة 5.[37]

 في مديح القديس بولس، عظة 6.[38]

[39] Commentary of Matthew, 13:21.

[40] In 2 Cor. hom 10:3.

[41] 2 Cor. hom 10. PG 61: 507.

[42] On the Spirit 16 (40).

[43] PG 82:407.

[44] Question 59:4 (FC 70:114).

[45] Hom 63 on Ps.

[46] CSEL 81:231.

[47] Letter to Honoratus.

[48] The Harmony of the Gospels, 4:10:20

[49] Sermons on New Testament Lessons, 38:4.

[50] Sermons on New Testament Lessons, 77:5.

[51] Sermons on New Testament Lessons, 3:6.

[52] Sermons on New Testament Lessons, 41:9.

[53] A. J. Wensinck: Mystic Treatises by Isaac of Nineveh, 1923, p 210.

Dana Miller: The Ascetical Homilies of St. Isaac the Syrian, 1984, p.223.

 [54] من مجدٍ إلى مجدٍ، فصل 10:1.

[55] Pauline Comm. From the Greek Church.

[56] PG 82:407.

[57] On Christian Doctrine, 2:12 (17).

[58] To Proba, 130 (FC 18:370).

[59] In 2 Cor. hom 10:4.

[60] An Exhortation to Martyrdom, 4.

[61] Comm. On John, book 1, ch. 9:15.

[62] Commentary on Matthew, 12:30.

[63] Commentary on Matthew, 14:8.

[64] Commentary on Song of Songs, Homily 4.

[65] In 2 Cor. hom 11. PG 61: 513.

[66] من مجدٍ إلى مجدٍ، فصل 41:3.

 في مديح القديس بولس، عظة 5.[67]

 في مديح القديس بولس، عظة 2.[68]

[69] Sermons for Christmas and Epiphany (ACW), 12:1

[70] St. John Cassian: 10:6.

[71] On Christian Doctrine, 1:34 (38).

[72] Against Eunomius, 6:2

[73] On Virginity, 2.

[74] In 2Cor. hom 11. PG 61: 513.

[75] Sermon 44:1.

[76] Sernon 42 on Luke 8:9-21.

[77] Sernon 60 on Luke 10:1-3.

[78] Against Eunomius, 4:3

[79] Against Eunomius, 2:8.

[80] In Galat., hom 2

[81] In 2Cor. hom 11. PG 61: 515.

[82] Sermons on New Testament Lessons, 31:3.

[83] Sermons on New Testament Lessons, 71:1.

[84] Commentary on John, 1:6.

[85] In 2Cor. hom 11. PG 61: 517.

[86] In 2Cor. hom 11. PG 61: 517.

[87] Against Eunomius, 2:11.

[88] Sermons on New Testament Lessons, 84:5.

تفسير كورنثوس الثانية 5 – الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي

Exit mobile version