تفسير كورنثوس الثانية 5 – الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الثانية 5 - الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الثانية 5 – الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير كورنثوس الثانية 5 – الأصحاح الخامس – القمص تادرس يعقوب ملطي
الاصحاح الخامس
خدمة المصالحة مع السماوي
يختم الرسول حديثه عن خدمة العهد الجديد برفع القلوب إلى العرش السماوي لكي يدخل الكل إلى حضن الآب، وجاءت دعوة خدمته كسفيرٍ للسيد المسيح: “تصالحوا مع اللَّه!”
١. بيتنا السماوي ينتظرنا ١-١١
٢. الكل قد صار جديدًا ١٢-١٧
٣. تصالحوا مع السماوي ١٨-٢١
١. بيتنا السماوي ينتظرنا
أراد الرسول إن يكشف عن السرّ الخفي الذي يدفع الخادم الحقيقي كي لا يفشل ولا ييأس وسط الضيقات اليومية بل والميتات الكثيرة. إنه يرى أبواب السماء مفتوحة وبيته غير المصنوع بيدٍ بشريةٍ ينتظره. يرى حياة جديدة فريدة نال عربونها الآن، ويتمتع بكمالها في الأبدية. يرى حضن الآب ينتظره ليستقر فيه أبديًا.
يتحدث الرسول هنا عن ما يتوقعه ويرجوه في يقين وعن الحياة المطوَّبة الأبدية التي ينعم بها في الدهر الآتي.
“لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي،
فلنا في السماوات بناء من اللَّه،
بيت غير مصنوع بيدٍ أبدي” [1].
بقوله: “نحن نعلم” يكشف عن يقين الرجاء الذي فيه أن له موضع في السماء يدعوه بيتًا، إما حياته هنا فيدعوها “خيمة” لأنها غير مستقرة. هناك يجد له بيتًا أو مسكنًا، أو موضع راحة، أو بيت أبيه أو البيت الأبدي. إنه في الأعالي قام ببنائه اللَّه نفسه أعده لمحبوبيه، لا يُقارن بأي قصرٍ في هذا العالم.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن البعض يقولون بأن المنزل الأرضي هو العالم، لكن يبدو له أنه بالأحرى يشير الرسول إلى الجسد[1].
يقصد بالخيمة جسم الإنسان الذي تقطن فيه النفس كما في خيمة أثناء رحلتها في برية هذا العالم حتى تدخل كنعان السماوية. حينما تنحل الخيمة أو الجسد تنطلق النفس إلى الفردوس لترى مسكنًا جديدًا اختبرت عربونه وهي في الجسد، تقيم فيه حتى يوم الرب فيلبس جسدها عدم الفساد ويعيش الإنسان بكل كيانه في السماء عينها.
ماذا يعني بالبناء من اللَّه؟ يرى البعض أن الرسول يشير هنا إلى مركبة سماوية معينة يبعث بها اللَّه إلى النفوس عند خروجها من الأجساد، والبعض يظن أنها تشير إلى قيامة الجسد، وآخرون يروا أنها إشارة إلى الحالة المطوَّبة للقديسين المتمتعين بملكوت اللَّه. جسمنا الحاضر هو خيمتنا الأرضية، جسمنا المُقام هو بيتنا السماوي.
جاء في العظة الخامسة للقديس مقاريوس أن المسيحي الحقيقي إذ صارت له شركة الروح القدس، لأنه مولود من اللَّه من فوق، قد صارت مدينته في السماوات (في 20:3)، يكشف له الروح “الخيرات الأبدية كما في مرآة“. إنه يهبه سلام المسيح ومحبة الرب وشهوة السماء، وذلك خلال الآلام والعرق والتجارب والحروب الروحية الكثيرة، لكنه ينعم بهذه الأمور بنعمة اللَّه[2]. المسيحي الحقيقي يدخل إلى خبرة مجدٍ سماويٍ خارج عن الجسد، إذ يُجرح بجمالٍ آخر (غير جسدي) لا ينطق به[3]: “أولئك الذين تساقط عليهم ندى روح الحياة، أي ندى اللاهوت، فجرح قلوبهم بحب إلهي للمسيح الملك السماوي، وارتبطوا بذلك الجمال والمجد الفائق الوصف والحسن عديم الفساد وغنى المسيح الملك الحقيقي الأبدي، الغنى الذي يفوق الوصف[4]“.
بهذا الغنى يتدرب الإنسان على الحياة الملوكية، حتى متى جاء يوم الرب العظيم يدخل الملكوت فلا يراه غريبًا عنه، إنما عاش في عربونه وتمتع بغناه بالروح القدس وهو على الأرض.
- يلزمنا نحن جميعًا أن نجتهد ونسعى في كل نوعٍ من الفضيلة، وأن نؤمن أننا سنقتني ذلك البيت ونمتلكه منذ الآن. لأنه إن كان بيت جسدنا يُنقض فليس لنا بيت آخر للنفس لكي تدخل فيه[5].
القديس مقاريوس الكبير
- يتحدث بولس هنا عن عالمين مختلفين، واحد أرضي مصنوع بأيدٍ منظور، والآخر غير منظور مصنوع بغير أيدٍ، سماوي. على الأرض نفوسنا تلتحف بالجسد والدم وهما الجسم المنظور العضوي. لكن ما أن يُترك هذا الجسم تتحرك النفس نحو الجو السماوي حيث تستعيد جسمها لكنه جسم يتحول إلى جسمٍ سماويٍ[6].
القديس ديديموس الضرير
- مرة أخرى يلمح بولس إلى القيامة التي لم يفهمها كثير من الكورنثيين أو لم يقبلوها. الخيمة الأرضية هي جسمنا. ومما لا يمكن إنكاره أنها ليست من صنع أيدٍ، ولكن بولس في بساطة يقارنها بالبيوت التي نعيش فيها. لم يكن يحاول أن يقدم مغايرة دقيقة بين الأرضي والسماوي بل بالأحرى أن يمجد الأخيرة قدر المستطاع[7].
- ما هو المسكن؟ اخبرني. الجسم غير الفاسد الذي سنلبسه في القيامة. الآن نحن نئن، لأن ما سيحدث فيما بعد أفضل بكثير مما نحن عليه الآن… فإنه بالتأكيد ليس جسدًا ينزل إلينا من فوق. إنما التعبير يعلن عن النعمة التي تُرسل إلينا من فوق… لذلك يدعوها من هنا فصاعدًا ليست خيمة بل بيتًا، وهذا بالأحرى أكثر مناسبة. لأن الخيمة بالحق يمكن تمزيقها إلى قطع، أما المسكن فيبقى بلا تغيير[8].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الجسم السماوي ليس شيئًا مختلفًا، إنما هو ذات الجسم الذي لنا الآن والذي سيتحول[9].
ثيؤدورت أسقف قورش
- بخصوص طبيعتنا الجسمية يلزمنا أن نفهم أنه لا يوجد جسم واحد نستخدمه الآن في انحطاطٍ وفسادٍ وضعفٍ، وجسم مختلف نستخدمه فيما بعد في عدم فساد وفي قوةٍ ومجدٍ. وإنما هو ذات الجسم، تُنتزع عنه الضعفات الحاضرة، ويتحول إلى شيء من المجد ويصير روحانيًا. النتيجة هي أن ما كان إناءً للَّهوان هو نفسه يتنقى ويصير إناءً للكرامة ومسكنًا للطوباوية. ويلزمنا أن نؤمن أن جسمنا يبقى على هذا الحال إلى الأبد بدون تغيير كإرادة الخالق. لقد تحققنا من هذه الحقيقة الأكيدة بعبارة الرسول بولس حيث يقول: “لنا في السموات بيتًا غير مصنوعٍ بيدٍ أبدي”[10].
العلامة أوريجينوس
- من جانب فإن جسمنا الفاسد هو ثقل على نفوسنا، ومن جانب آخر فإن علة هذا العائق ليس في طبيعة الجسم وجوهره. لذلك إذ نعرف فساده لا نرغب في أن نتعرّى من الجسم بل بالأحرى أن يلبس عدم فساده. في الحياة الخالدة سيكون لنا جسم، لكنه لن يصير بعد ثقلاً إذ لا يكون بعد فاسدًا… لقد تثقلنا إذن بهذا الجسم الفاسد. لكننا إذ نعلم أن حالة الثقل هذه ليست من طبيعة الجسم وجوهره إنما من فساده، لذا فإننا لا نرغب في أن نتخلص منه بل أن نلبسه مع عدم فساده. عندئذ سيوجد جسم، لكنه لا يعود يكون ثقلاً لأنه لا يعود يكون فاسدًا[11].
القديس أغسطينوس
- لنتحدث الآن عن الزهد الذي أعلنه الكتاب المقدس والتقليد في أنواع ثلاثة. ليتأمله كل إنسان بدقة لكي يصير كاملاً.
النوع الأول هو الذي يختص بالجسد، فيزهد الإنسان الثروة والممتلكات التي في هذا العالم.
والنوع الثاني فيه ننبذ أساليب السلوك والرذائل القديمة الخاصة بالروح والجسد.
والنوع الثالث فيه تتحرر الروح من كل الحاضرات والمرئيات متأملة في الأبديات، فينشغل القلب بغير المنظورات.
لقد سمعنا أن اللَّه طلب من إبراهيم أن ينفذ هذه الأنواع الثلاثة (من الزهد) دفعة واحدة، إذ قال له: “اذهب من أرضك، ومن عشيرتك، ومن بيت أبيك” (تك 1:12)…
إذا نفذنا النوع الأول من الزهد بكل إخلاص وأمانة، لا ننتفع كثيرًا ما لم نكمله بالنوع الثاني بنفس الغيرة والاشتياق. فإذا ما نجحنا في هذا يمكننا أن نبلغ النوع الثالث حيث نخرج من “بيت أبينا” القديم، إذ “كُنَّا بالطبيعة أبناءَ الغضب كالباقين أيضًا” (أف 3:2)، مثبتين أنظارنا تجاه العلويات. ويُحدّث الكتاب المقدس أورشليم – التي احتقرت اللَّه الأب الحقيقي- عن الأب القديم قائلاً: “أبوكِ أَموريّ، وأمك حثّيَّة” (حز 2:16). وفي الإنجيل جاء: “أنتم من أبٍ هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا” (يو 24:8).
فإذ نترك هذا الأب عابرين من المنظورات إلى غير المنظورات نستطيع أن نقول مع الرسل: “لأننا نعلم أنهُ إن نُقِض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من اللَّه بيت غير مصنوعٍ بيدٍ أبديّ” (2 كو 1:5)، ونقول أيضًا: “فإن سيرتنا نحن هي في السماوات التي منها أيضًا ننتظر مخلّصًا هو الربُّ يسوع المسيح الذي سيغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجدهِ” (في 20:3، 21)، وننطق بما يقوله داود الطوباوي: “غريب أنا في الأرض” (مز 19:119)…
يلزمنا أن نكون مثل أولئك الذين يُحدّث الرب أباه عنهم قائلاً في الإنجيل: “ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم” (يو 16:17)، وأيضًا محدثًا التلاميذ أنفسهم قائلاً: “لو كنتم من العالم لكان العالم يحبُّ خاصَّتهُ. ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم” (يو 19:15)[12].
الأب بفنوتيوس
“فإننا في هذه أيضًا نئن،
مشتاقين إلى إن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء” [2].
إذ نحن في هذا الجسد نئن من الضعفات التي تحل بنا والتجارب التي تواجهنا، فنشعر أن الحياة مملوءة بالآلام والأحزان. وكأن كل ما حولنا يصرخ: “قم ارحل من هذا الجسد إذ ليس فيه راحة”. حتى القديسون يشعرون أحيانًا بثقل جسد الخطية والفساد الذي يحل فيه، فيصرخون: “ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟” (رو ٢٤:٧).
حقًا يشعر المسيحي بأن جسده هو عطية إلهية مفرحة، والحياة هبة من قبل اللَّه، لكن تذوقه لعربون الأبدية يلهب في داخله الحنين أن يلبس جسده ثوب عدم الفساد، لكي يتهيأ للحياة السماوية.
جاءت كلمة “يلبس” بالعبرية labash لتعني ما يحيط بالجسم أو يغطيه أو يغلفه. جاء في الكتابات اليهودية أن موسى إذ دخل السحابة التحف بها كثوب، كما قيل عن الأبرار إنهم ملتحفون بالنور كثوب.
إما المسكن هنا فجاء بالعبرية “بيت” beeyt وفي ترجومOnkelos بيت الوجه هو البرقع، وبيت الأصابع هو القفاز، وبيت القدمين الحذاءان. فارتداء النفس المسكن هنا يعني التحافها بسمات معينة كالفضيلة.
يرى بعض اليهود أن للنفس ثياب في هذا العالم وفي الدهر الآتي. فاللَّه أرسل النفوس لكي تلتحف بثوب خلال دراسة الناموس والعمل الصالح. آدم بعد سقوطه تعرى إذ صار في حالة الخطية بدون ثوبٍ يستر النفس.
يرون أن الإسرائيليين نالوا ثيابًا تلتحف بها نفوسهم على جبل سيناء، لكنهم إذ عبدوا العجل المسبوك تعروا. هنا الثوب يشير إلى تمتع الإنسان بأيقونة اللَّه خلال الحياة المقدسة.
جاء في Synopsis Sohar عن الحكمة العلوية: عندما يقترب الوقت لرحيل إنسانٍ من هذا العالم ينزع ملاك الموت عنه ثوبه القابل للموت ويلبسه ثوبًا من الفردوس، فيه يرى الحكمة السامية ويتأملها. لذلك يُقال أن ملاك الموت يكون مترفقًا جدًا بالإنسان إذ ينزع عنه ثوب هذا العالم ويلبسه ثوبًا أثمن بكثير مُعد في الفردوس.
عندما يقول الرسول بأنهم يشتاقون أن يلبسوا فوقها مسكننا الذي من السماء بالتأكيد يعني بأن الذين يؤمنوا باللَّه ويسلكون بالروح قد أُعدوا للتمتع برؤية الخالق والمخلص المبهجة للغاية.
النفوس المقدسة للرب لن توجد عارية في الدهر الآتي إذ ترتدي ثياب البرّ والتسبيح والمجد، إذ غسلوا ثيابهم في دم الحمل (رؤ ١٤:٧). هذه النفوس تشعر بيقين الرجاء في هذا الثوب السماوي لذا تشتاق أن ترتديه بخروجها من العالم.
نلبس ثوب العرس الأبدي “السيد المسيح نفسه“، فلا يمكن لقوةٍ ما أن تنتزعنا عن وليمة السماء، أو تطردنا خارجًا. إذ قيل: “لما دخل الملك لينظر المتكئين رأى هناك إنسانًا لم يكن لابسًا لباس العرس، فقال له: يا صاحب، كيف دخلت إلى هنا، وليس عليك لباس العرس؟ فسكت، حينئذ قال الملك للخدام اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية” (مت 11:22-13).
يدعو القديس يوحنا الذهبي الفم هذا الثوب:
“الثوب الذي لن يمكن أن يوجد مثله”[13].
الثوب الملوكي.
الثوب الذي بلا عيب.
الثوب اللامع والمتلألئ بالبهاء[14].
- إن كان المسيح هو ابن اللَّه، وأنتم قد لبستموه، إذ صار يغطيكم، وصرتم مثله، فإنكم قد صرتم واحدًا معه وتحملون شكله[15].
القديس يوحنا الذهبي الفم
إذ يتحدث القديس إكليمنضس الإسكندري عن ثياب المسيحي، يُطالبنا أن نرتدي الثياب اللائقة بنا كمسيحيين، وهي تختلف حسب سن الإنسان وطبيعته والظروف المحيطة به. فما يليق بشخصٍ ما قد يُحسب غير لائقٍ بالنسبة لغيره. لذا وجب أن يكون لنا روح التمييز لنختار الملبس اللائق بنا. وفي نفس الوقت يليق بنا أن ندرك أن لنا ثوبًا أهم يلتزم كل المؤمنين أن يرتدوه، ألا وهو شخص السيد المسيح، وهو ثوب ملوّن، يقدم لنا مواهب متعددة تبقى زاهية لا يقدر عامل الزمن أن يفقدها جمالها.
- إلهي! انزع عني بنعمتك ثوب الأهواء والجحيم المظلم، وألبسني رداء نورك القدوس الذي هو العالم الجديد بنفسه، قبل أن أخرج من الجسد.
أعطني ربي جمال منظرك مأكلاً، وتجليات أسرارك المخفية في حضن جوهرك مشربًا مفرحًا.
اجعلني يا سيدي عضوًا في جسد وحيدك، فأشعر بسرّ اتحاده بك قدر ما تستطيع طبيعتي الضعيفة[16].
- الويل للراهب الذي لا تفوح الخرق التي علي جسمه بالطيب، إذ يكون اللباس الذي يرتديه غريبًا![17]
الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي)
- الثوب الذي نلبسه هو ربنا يسوع المسيح، والذي ينسدل حتى أقدامنا، والألوان المتعددة لهذا الثوب هي ألوان زهور الحكمة والأسفار المقدسة والأناجيل المتنوعة التي لا تبهت ولا تضيع ألوانها مع الزمن[18].
القديس إكليمنضس الإسكندري
- إذ تعرت طبيعتنا عن الاستنارة الإلهية والبهاء الإلهي أخذ طبيعتنا وأعلنها مرة أخرى لتلاميذه المختارين، ملتحفة بطريقة ملحوظة على تابور (مت ٢:١٧؛ مر ٢:٩؛ لو ٢٩:٩). لقد أشار إلى ما كنا عليه يومًا ما وما سنصير عليه خلاله في الدهر المقبل إن اخترنا هنا ونحن أسفل أن نحيا حسب طرقه قدر المستطاع…
قبل العصيان اشترك آدم في الاستنارة بالبهاء الإلهي، وإذ بالحق التحف بثوب المجد لم يكن عاريًا ولا كان في موضع شائن لأنه كان عريانًا…
يدعو العظيم بولس هذا الاستنارة الإلهية والنعمة مسكننا السماوي… في طريقه من أورشليم إلى دمشق استلم بولس من اللَّه عربون هذه الاستنارة الإلهية وكسائنا… قبل أن يتطهر من اضطهاده عندما دخل في حوار مع ذلك الذي يضطهده، أو بالأحرى نال بريقًا خفيفًا من النور العظيم[19].
الأب غريغوريوس بالاماس
“وإن كنا لابسين لا نوجد عراة” [3].
من استعد للرحيل ونال عربون المجد لن يوجد عاريًا بل ينال المجد الأبدي الذي لا يزول.
يقول الرسول: “وإن كنا لابسين لا نوجد عراةً” (2 كو 3:5). فإذ نلبس الروح، ونكون هيكلاً مقدسًا له لا يترك حتى جسدنا عاريًا بل يسكب فيه مجد المسيح يسوع القائم من الأموات، كقول الرسول: “فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحهِ الساكن فيكم” (رو 11:8)، “لكي تُظهَر حياة يسوع أيضًا في جسدنا المائت” (2 كو 11:4)، “لكي يُبتلَع المائت من الحياة” (2 كو 4:5)…
بهذا إذ يُهدم بيت خيمتنا الأرضي أي جسدنا، لا نظهر عُراة بل يكون “لنا في السماوات بناء من اللَّه بيت غير مصنوع بيدٍ أبديّ” (2 كو 1:5)، أي يظهر مجد السيد المسيح السماوي الذي كان مخفيًا في جسدنا الضعيف. وكما يقول القديس مقاريوس الكبير “لنسعَ إذًا أن نقتني ذلك اللباس هنا بالإيمان والحياة الفاضلة، حتى حينما نخلع الجسد لا نوجد عراة ولا يحتاج جسدنا في ذلك اليوم إلى شيء يمجده، لأن كل واحدٍ بقدر ما يُحسب أهلاً لشركة الروح القدس بالإيمان والاجتهاد يتمجد جسده في ذلك اليوم، لأن كل ما خزنته النفس في داخلها في هذه الحياة الحاضرة سوف يُعلن يومئذ، ويُكشف ظاهرًا في الجسد[20]“.
هذا المجد الذي للسيد المسيح، الذي يُلبسه الروح القدس لنفوسنا في الداخل، يصير مجدنا نحن وليس عارية، لهذا نحيا في هذا العالم بالحق أغنياء في الروح، نكون كملكٍ غنيٍ حينما يدعو الآخرين للوليمة يقدم بسخاء وبلا خوف من نفاذ كنوزه الداخلية التي له، أما الفقير الذي لا يملك شيئا فانه عندما يدعو الآخرين يستعير أدوات الوليمة إلى حين ثم يعود بعد الوليمة إلى فقره من جديد[21]: “لهذا يليق بنا أولاً أن نطلب من اللَّه باجتهاد قلب وإيمان أن يهبنا أن نجد هذا الغنى في قلوبنا، أي نجد كنز المسيح الحقيقي بقوة الروح القدس وفاعليته…[22] “
- إن بقيت الطبيعة عارية وبنفسها فقط، ولم تنل الاتحاد والشركة مع الطبيعة الإلهية، فإنها لن تستقيم أبدًا أو تكتمل، بل تظل عارية ومستحقة للوم في طبيعتها الخاصة بسبب وضاعتها وأدناسها[23].
- إنه يعني عراة من شركة الروح القدس والاندماج فيه. هذا الروح الذي فيه وحده تستطيع النفس المؤمنة أن تجد راحة[24].
القديس مقاريوس الكبير
- اننا سنلبس إيماننا، هذا الإيمان هو رداء ودرع في نفس الوقت. رداء ضد العار ودرع ضد العدو[25].
القديس أغسطينوس
- بالرغم من أن الجسد ينحل في الوقت المعين بسبب عصيانه البدائي، يوضع كما في بوتقة الأرض، لكي يُعاد من جديد، ليس كجسدٍ فاسدٍ هكذا، بل يكون طاهرًا لا يخضع للفساد، ويسترد كل جسم نفسه… ويقتني في كل الجوانب كل ما يخصه، ليست أجسامًا مختلفة عما كانت عليه… لكنها كما رحلت من هذا الحياة إن كانت في الخطايا أو في أعمال بارة. كما كانت الأجسام عليها ستكون هكذا ملتحفة بالحياة المستأنفة، وكما كانت في عدم إيمان ستُحاكم بأمانة[26].
القديس إيريناؤس
- الإنسان الشرير غير المؤمن حتى أن افترضنا أنه يلتحف بجسمٍ سماويٍ يبقى عاريًا لأنه لا يفعل شيئًا لينال رداء الإنسان الداخلي[27].
القديس ديديموس الضرير
- كن في تهليلٍ صالحٍ، لكن اعمل، جاهد بكل غيرة، فإنه لن يضيع شيء ما. كل صلاةٍ، كل مزمورٍ تغنيه، كل عمل صالح، كل صوم، كل حفظ للواجب الزوجي، العفة التي تُحفظ من أجل اللَّه، كل هذا يُسجل… فإنك ستقوم ملتحفًا إما بخطاياك أو بأعمالك البارة[28].
- إن كان الإنسان بارًا فسيستلم جسمًا سماويًا قادرًا على الحديث مع الملائكة، أما إن كان الإنسان شريرًا فسينال جسمًا خالدًا يتلائم مع احتمال العقوبات عن الخطايا، فيحترق في نار أبدية دون أن يفنى. بعدل يعين اللَّه أية حالة تكون للجسم، لأننا لا نفعل شيئًا بدون الجسم[29].
القديس كيرلس الأورشليمي
- سوف لا نوجد هناك بدون جسم، بل نتقبل في السماء ذات الجسم في شكلٍ غير فاسدٍ…
لكي لا يكون الكل متجاسرًا بسبب قيامة الجسد يقول: “إن كنا لابسين“، أي تسلمنا عدم الفساد والجسد غير الفاسد، “لا نوجد عراة” من المجد والأمان…
القيامة بالحقيقة هي عامة للجميع، لكن المجد ليس عامًا للجميع، إنما يقوم البعض في كرامةٍ، وآخرون في هوانٍ، البعض إلى الملكوت والآخرون إلى العقوبة[30].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الكلٍ، الأبرار والأشرار على السواء، سيلبسون عدم الموت، لكن الأخيرين يُسلّمون لجهنم، وبنفس الشيء يوجدون عراة[31].
سفيريان أسقف جبالة
“فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين،
إذ لسنا نريد إن نخلعها،
بل إن نلبس فوقها،
لكي يُبتلع المائت من الحياة” [4].
نحن الذين في الخيمة مثقلين بالضعف الجسدي والمتاعب والضيقات نئن بسبب الحمل الذي نلتزم به. وكأنه يقول بأن الحياة البشرية ككل هي حالة من التعب، خاصة بالنسبة لنا نحن الذين نُضطهد على الدوام ونحمل إماتة جسد الرب يسوع وإن كنا نختبر الحياة المقامة المتهللة في المسيح يسوع.
إننا لا نريد إن نخلع هذه الحياة وتحل ساعة رحيلنا قبل الوقت الذي يراه اللَّه مناسبًا لنا ولبنيان الكنيسة ومجد اسمه القدوس.
نريد إن نلبس فوقها إن يكون لنا الاستعداد الكامل للمجد الأبدي. لسنا نطلب الموت حتى تتحقق فينا إرادة اللَّه ويتم كل شيء بحكمته الإلهية.
بتمتعنا بعربون الخلود نتحسس بأن المائت قد أُبتلع بالحياة الأبدية. لم يعد للخطية أو الفساد سلطان علينا.
- لسنا نريد أن نتخلص من الجسم، وإنما من الفساد الذي فيه. جسمنا هو ثقل علينا، ليس لأنه جسم بل لأنه فاسد وقابل للألم. ولكن إذ تحل الحياة الجديدة فإنها ستنزع هذا الفساد، أقول هذا الفساد لا الجسم نفسه[32].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- أرانا موسى النبي كمثالٍ، بواسطة مجد الروح الذي سطع على وجهه الذي لم يستطع أحد أن يتفرّس فيه، كيف أنه في قيامة الأبرار ستتمجد أجساد أولئك المستحقين، بمجدٍ تحصل عليه منذ الآن النفوس المقدسة الأمينة، إذ تُحسب أهلاً لاقتناء هذا المجد في داخلها، في الإنسان الباطن[33].
القديس مقاريوس الكبير
- أليست هذه هي منطوقات مواطن أورشليم السماوية:
“صارت دموعي لي طعامًا نهارًا وليلاً” (مز ٣:٤٢).
“أعوم كل ليلة سريري بدموعي، بدموعي أبلل فراشي” (مز ٦:٦).
“تنهدي ليس بمستور عني” (مز ٩:٣٨).
“حزني قد تجدد” (مز ٢:٣٩)؟
أو أليس أولاد اللَّه الذين يئنون مثقلين لا يريدون أن يتعروا بل يلبسوا فوقها حتى يُبتلع المائت من الحياة؟ أليس حتى الذين لهم ثمار الروح يئنون داخلهم مترقبين التبني، خلاص أجسامهم؟ (رو ٢٣:٨). ألم بكن للرسول بولس نفسه مواطن أورشليم السماوية هذا كله عندما كان مثقلاً وفي حزن قلب مستمر من أجل إخوته الإسرائيليين؟ لكن سوف لا يكون موت في المدينة إلا عندما يُقال: “أين نضالك يا موت؟ أين شوكتك يا موت، فإن شوكة الموت هو الخطية”[34].
القديس أغسطينوس
- بعد قيامتنا المقبلة سيكون جسدنا هو بعينه ويكون مختلفًا. هو بعينه من جهة الطبيعة، ومختلف من جهة المجد. هو بعينه في جوهره، ومختلف في قوته. حقيقة سيكون رقيقًا، لأنه سيكون غير قابلٍ للفساد. سيكون محسوسًا إذ لا يفقد طبيعته الحقيقية[35].
البابا غريغوريوس (الكبير)
- إنه بعدل ينالون مكافأة آلامهم في الجسم الذي تألم فيه الأبرار وحزنوا وتزكوا بالآلام بكل وسيلة. وفي ذات الجسم الذي فيه قُتلوا من أجل محبتهم للَّه، فيه ذاته سيحيون، وفي ذات الجسم الذي فيه احتملوا العبودية فيه سيملكون[36].
القديس إيريناؤس
- كانت حياة (الرسول) ثمينة عنده بسبب الفُرص الصالحة التي أُعطيت له، وفي نفس الوقت كانت رخيصة عنده بسبب اشتياقه للسماء والاتحاد مع المسيح هناك. وكما ذكرت عنه ولازلت أقول لا يوجد من هو أكثر تناقضًا في ميوله مثله. فهو مستعد دائمًا لأخذ الجانب الذي يمنح المميزات الأكثر، فلا يوجد من أحب الحياة هنا على الأرض مثله، وعلى النقيض الآخر لم يُفكر في الحياة هنا كثيرًا حتى ولو قارنته بهؤلاء الذين تخلوا عن هذه الحياة. لقد جّرد نفسه من كل الشهوات البشرية، فلم يربطه شيء على الأرض، فكان كل كيانه متحدًا بمشيئة اللَّه. تارة نراه يفكر في أن الحياة على الأرض والخدمة أكثر حاجة من أن يكون مع المسيح، ومرة أخرى نجده يئن ويطلب اللحظة التي فيها يخرج من الجسد، فكانت أمنيته الوحيدة أن يكون فيما يحقق له الربح الوفير مع المسيح حتى ولو كانت النتيجة عكس ما بدأه[37].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- لا يجب التوبيخ على الخوف من الضربات، ولكن ما يُلام فعلاً هو ارتكاب الخطية بسبب الخوف من الضربات. فالذي يخاف بدون اضطراب وفزع من الصراع يستحق الإعجاب أكثر من الذي لا يخاف مطلقًا، لأن ذلك يكشف عن قوة إرادته كدليلٍ واضحٍ. الخوف من الضربات أمر طبيعي، ولكن رفض الخطية الناتجة عن الخوف هو انتصار حقيقي للإرادة على ضعف الطبيعة البشرية، الحزن في حد ذاته لا يُلام، ولكن أن نجدف على اسم اللَّه بسبب الحزن خطية يجب التوبيخ عليها.
لو قلت أن بولس لم يحمل طبيعة جسدنا لاعترضتم بوجه حق على الضعفات البشرية فيه لإثبات عدم صحة كلامي. ولكن لو قلت بل أكدت أنه إنسان مثلنا وليس أفضل منا في الطبيعة، لكنه أسمى في قوة الإرادة فقط، فإن كل اعتراضاتكم بلا جدوى أو بالأحرى تتحول لصالح بولس، لأنه بذلك تثبت كيف انتصر على الطبيعة بالرغم من كل الضعفات البشرية. وبالإضافة إلى مدحه فإننا نُسكت شفاه من يعيبون فيه، ملتمسين لأنفسهم عذر ضعف الطبيعة البشرية، ونحثهم على ممارسة تقوية للإرادة.
ربما تعترض أنه في بعض الأحيان خاف من الموت، وهذا أيضًا شيء طبيعي جدًا. “فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين” (2 كو 4:5) وأيضًا: “نحن أنفسنا أيضًا نئن في أنفسنا” (رو 23:8). نرى كيف أنه وازن بين ضعف الطبيعة وقوة الإرادة، فكثير من الشهداء وهم في طريقهم للاستشهاد امتلأوا من الخوف وارتعدوا، لكن هذا هو الذي جعلهم متميزين: حقيقة أنهم خافوا الموت، وبالرغم من ذلك تقدموا لملاقاته من أجل المسيح، وهكذا أيضًا بولس… بالرغم من أنه ارتعد أمام الموت إلا أنه اشتاق أن يفنى ويضمحل[38].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- القديسون وهم “في الخيمة يئنون مثقلين” بجسم التواضع يفعلون كل شيء بطريقةٍ لائقةٍ ليوجدوا في سرّ القيامة. عندما يشكل اللَّه جسمًا جديدًا للذين يكونون بالحق تلاميذ المسيح لا يكون في تواضع بل في مجد المسيح (في ٢١:٣)[39].
العلامة أوريجينوس
“ولكن الذي صنعنا لهذا عينه هو اللَّه،
الذي أعطانا أيضًا عربون الروح” [5].
اللَّه هو الذي وهبنا وجودنا وجسمنا، وذلك لنحيا خالدين بالجسد ويتمجد كياننا بالكامل. وهبنا الجوع والعطش إلى البرّ والخلود.
العربون هو دفع جزء من الدفعة يضمن سداد الدفعة كلها. فما ننعم به الآن من تعزيات الروح القدس والسلام الذي يفوق العقل والفرح المجيد هو عربون المجد الذي سنناله فيما بعد بالكامل.
- هنا يظهر بولس أن هذه الأمور قد أُعدت من البداية. إنها لم تصدر الآن، وإنما منذ لحظات الخليقة، عندما خُلق آدم. فإن اللَّه لم يخلق الإنسان الأول لكي يموت وإنما ليجعله خالدًا. لتحقيق هذا يضيف بولس أننا قد نلنا الروح كعربونٍ (ضمان). يُقدمه اللَّه كمن صنع تعهدًا لنا بتحقيق وعوده. فعل بولس هذا لكي يُظهر أن ما يقول أكثر قبولاً للذين لا يعيرونه اهتمامًا[40].
- لم يُخلق آدم لكي يموت، بل لكي يجاهد من أجل الخلود. ولكي يظهر مصداقيته. هذا ويقدم برهانًا عليه أضاف: “الذي أعطانا غيرة الروح”… والآن يعمل خلال المعمودية، ويهبنا عربونا ليس بقليلٍ: الروح القدس[41].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- بالرغم من أن الروح لا يقبل المزج مع غير المستحقين، إلا أنه يبدو بطريقة أنه حاضر معهم متى خُتموا، منتظرًا الخلاص الذي يتبع تغييرهم… لكن عندئذ عندما يدين الرب العالم في برّ سيكون الروح حاضرًا معه… وسيُنزع الروح تمامًا من النفس التي دنست نعمته. لهذا السبب: “ليس في الموت من يذكرك ولا في الجحيم من يعترف لك” (مز ٤:٦). لأن لا يعود عون الروح يوجد بعد. كيف إذن يمكن إدراك أن الدينونة تتحقق بدون الروح القدس بينما تشير الكلمة إلى أنه هو نفسه مكافأة الأبرار؟[42]“
القديس باسيليوس الكبير
- إذ سبق اللَّه الخالق فرأى خطية آدم أعد العلاج لها. لأنه هو نفسه أعطانا باكورة الروح، حتى أنه بالمعجزات التي يفعلها الروح وسطنا نتأكد بأن الوعود الخاصة بالمستقبل صادقة[43],
الأب ثيؤدورت أسقف قورش
- على أي الأحوال، نحن نرى الآن في غموضِ، لكن عندئذ سيكون وجهًا لوجهٍ. الآن نرى ما هو جزئي، أما بعد فسيكون كاملاً (1كو12:13). الإمكانية الحالية أن نرى في الكتب المقدسة بطريقة غامضة وجزئية إلى حد ما، ومع ذلك فهي في توافقٍ مع الإيمان الجامعي.
إنه عمل العربون الذي سُلم بواسطة الكنيسة البتول عندما جاء عريسها إلى أسفل. إنها ستتزوج في مجيئه الأخير عندما يأتي في المجد وعندما تراه وجهًا لوجه، لأنه يعطينا الآن كعربون الذي هو الروح القدس كقول الرسول[44].
القديس أغسطينوس
“فإذا نحن واثقون كل حين،
وعالمون أننا ونحن مستوطنون في الجسد
فنحن متغربون عن الرب” [6].
إننا مدركون تمامًا ما هو نصيبنا، فقد تمتعنا بعربون الروح وصار لنا الرجاء الثابت.
جاءت الكلمات باليونانية تحمل لهجة اليقين، فإذ نحن مستوطنون في الجسد، وهو اصطلاح يحمل معنى السكنى وسط الشعب، متغربون عن الرب، أي راحلون وسط شعب غريب الجنس.
فالسماء هي بيت المؤمن الحقيقي، وسكانها هم الشعب المنتمي إليه. هكذا النفس وهي مستوطنه في الجسد بكونه بيتها فهي متغربة عن مدينتها وشعبها، إذ هي مهيأة للمجد الأبدي اللائق بها لتكون في حضرة الرب، تلتقي به وجهًا لوجه.
يتحدث الرسول بولس عن خبرة، فقد ذاق انطلاق نفسه إلى السماء الثالثة لترى ما أعده اللَّه لمحبيه، فشعر بالحق أن نفسه متغربة عن هذا العالم، رحِّالة، ترجو البلوغ إلى مكان استقرارها الأبدي.
- نحن الذين في هذا العالم “متغربون عن الرب” نسلك على الأرض. هذا حق، لكننا نسرع في طريقنا إلى السماء. إذ ليس لنا موضع دائم، بل عابرو السبيل ورحالة مثل سائر آبائنا[45].
القديس جيروم
- اللَّه لازال حاضرًا، لكن لأننا لا نستطيع أن نراه نقول بأننا متغربون عنه مادمنا في الجسد[46].
أمبروسياستر
- بالحقيقة جلب الإنسان لنفسه الموت، وأيضًا لابن الإنسان، غير أن ابن الإنسان جلب بموته وقيامته الحياة للإنسان… لقد رغب في أن يحتمل هذا أمام أعين أعدائه، حتى يظنوا كأنه متروك، ولكي ما يهب لنا نعمة العهد الجديد، حتى نتعلم أن نطلب سعادة أخرى، هذه التي نملكها الآن بالإيمان، لكننا سنراها بعد ذلك… الآن نعيش على رجاء، أما بعد ذلك فسنتمتع بالحقيقة[47].
- ليكن مثل هذا الشخص بالأحرى إذ يقبل السلطة أن يكون ساميًا متحررًا من كل خداع كما قيل لنا أننا مادمنا في الجسد نحن متغربون عن الرب، وأننا نسلك بالإيمان لا بالعيان[48].
- لذلك قبل أن يمكنك أن ترى آمن بما لم تره الآن. لتسلك بالإيمان لكي تنال العيان. فإن العيان سوف لا يبهج الشخص في بيته ما لم يعززه الإيمان في الطريق. هكذا يقول الرسول: “مادمنا في الجسد فنحن متغربون عن الرب“. وقد أضاف للحال لماذا نحن لا نزال في حالة سياحة وإن كنا قد آمنا قائلاً اننا نسلك نحن بالإيمان لا بالعيان[49].
- إذ ونحن في هذا الجسد متغربون عن الرب فاننا بالنسبة للملائكة القديسين الذين يرون هذه الأمور نُحسب أطفالاً نرضع الإيمان. أما بعد ذلك فسنندهش بالعيان… سنأتي يومًا إلى العيان الذي وعد به يوحنا في رسالته: “أعزائي المحبوبين نحن أولاد اللَّه، ولم يظهر بعد ما سنكون عليه.” (١ يو٢:٣)[50].
- في الوقت الحاضر تستنير هذه الأعين حسب ما يناسب ضعفها وذلك بالإيمان. فيما بعد تستنير بالعيان بما يناسب قوتها… الآن مادمنا في حالة الإيمان ماذا يقال عنا؟ “الآن نرى في مرآة مظلمة، ولكن عندئذ وجها لوجه” (١ كو ١٢:١٣)[51].
- يقول إشعياء: “ما لم تؤمنوا لا تفهمون” (١٠:٦١ LXX). لنسلك بالإيمان مادمنا في سياحة عن اللَّه، حتى نبلغ العيان حين نراه وجهًا لوجه (٢ كو ٦-٧). إذ نسير بالإيمان لنصنع أعمالاً صالحة. في هذه الأعمال الصالحة لنحب اللَّه من أجل شخصه، ونكون عاملين في محبة قريبنا[52].
القديس أغسطينوس
“لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان” [7].
هنا نعيش بالإيمان، فنثق بكلمة اللَّه ووعوده الإلهية، ونتمتع بعربون المجد كتذوقٍ مقدم لما سنراه وجهًا لوجه بالعيان. الآن نسير بالإيمان لنتهيأ للحياة بالرؤية.
الذين يولدون بالروح من فوق يشعرون بالتغرب هنا حتى يلتقوا باللَّه أبيهم في سمائه. إنهم يغلقون أعين قلوبهم عما في العالم حتى يفتحونها في عالم المجد، حيث يتحول الإيمان إلى عيان.
- الإيمان هو مدخل الأسرار. ما تقوم به عينا الجسد بالنسبة للأشياء الحسّية يقوم به الإيمان بعينيّ النفس، إذ يتطلع إلى الكنوز الخفيّة.
لنا عينان للنفس، كما لنا عينان، وذلك كقول الآب.
لكن هاتين ليس لهما ذات عمل البصيرة، فبالواحدة نرى مجد اللََّه الخفي المختوم داخل الطبيعة، مع قدرته وحكمته وفكره الأبدي من نحونا، هذه الأمور كلها التي يمكن إدراكها خلال عنايته الإلهية لنا على وجه الخصوص. بنفس العين نرى أيضًا الطغمات الروحية، رفقائنا. وأما بالعين الأخرى فنرى مجد طبيعة اللََّه المقدِّسة.
عندما يرغب اللََّه في تقديم أسرار روحية، يفتح بحر الإيمان بطريقة متسعة في أذهاننا[53].
القديس مار اسحق السرياني
- يقول الإنجيل: “بالإيمان إبراهيم لما دُعي أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيدًا أن يأخذه ميراثًا، فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي” (عب 8:11)… توقف عن المعرفة الأرضية، ولم يتعلق فكره بأي شيء على الأرض، فتفوّق إبراهيم في الفهم والحكمة على كل أهل جيله، وعلى فلسفة الكلدانيين المعروفة وقتئذ. وفاق كل ما يُمكن إدراكه بالحواس، وكل جمالٍ جسدي آخر، ولذلك أبصر الجمال الإلهي الأصلي، وأبصر كل ما يمكن أن يُنسب إلى اللَّه من صفاتٍ مثل البرّ والقدرة على عمل أي شيء في الوجود الذاتي والحب. لقد فهم إبراهيم كل هذا حينما تقدم في الفكر، وأخذ كل هذه كمئونة في رحلته إلى السماء، وتقوى بالإيمان، وطبع كل هذا في قلبه، وارتفع فوق مستوى رؤية الأشياء المادية[54].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- بالإيمان لنا رجاء في اللَّه لأن شكله ليس منظورًا لنا. لكننا نعتقد إننا سنقطن معه وسنراه قدر ما يمكن للكائن البشري أن يراه. لأن موسى رآه عندما كان لايزال في الجسد (خر9:24-11؛ 11:33)، وتراه الملائكة بالطريقة التي تناسبهم[55].
سفيريان أسقف جبالة
- لا نستطيع الآن أن نرى ما سنكون عليه فيما بعد، وإنما ندرك هذا بالإيمان وحده. هذه هو السبب لماذا بعد موت الجسد نريد أن نقف في حضرة اللَّه[56].
الأب ثيؤدورت أسقف قورش
- لما كان الفهم يكمن في العيان وفي اللقاء الدائم، أما الإيمان فيقوتنا كالأطفال كابنٍ في قماط الأمور الزمنية (إذ نسلك الآن بالإيمان لا بالعيان)، علاوة على هذا فإننا ما لم نسلك بالإيمان لن نبلغ العيان الذي لن يزول بل يبقى دومًا، إذ يتنقى فهمنا بتمسكنا بالحق[57].
- وسط ظلال هذه الحياة التي فيها نحن “متغربون عن الرب” ما دمنا نسلك بالإيمان لا بالعيان، تعتبر النفس المسيحية مهجورة، ولا تكف عن الصلاة، وعن التطلع بعيني الإيمان إلى كلمة الكتاب المقدس الإلهي[58].
القديس أغسطينوس
“فنثق ونُسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد،
ونستوطن عند الرب” [8].
إذ نسلك الآن بالإيمان نشتهي أن نتمتع بما هو بالعيان، ففي وسط أتعابنا الكثيرة نثق بما نلناه من عربون الروح وبالمواعيد الإلهية مشتهين إن نخرج من الجسد ونتغرب عنه إلى حين لنتمتع بالمجد الذي ننعم به ونراه.
- وضع بولس أعظم الأمور في النهاية، فإن المعية (الاستوطان) مع المسيح أعظم من نوال جسدٍ غير فاسد.
بتحاشيه الإشارة المباشرة للأمور المؤلمة مثل الموت والنهاية، يعالج بولس هذه الأمور بطريقة تجعل السامعين إليه مشتاقين إليها بدعوتها “حضور مع الرب“. بنفس الطريقة عبر على الأمور العذبة لهذه الحياة وعبّر عنها بعبارات مؤلمة إذ يدعوها “التغرب عن الرب“. فعل هذا لكي لا نولع بالتسكع بما نحصل عليه الآن بل نتهيأ للرحيل إلى ما هو أفضل[59].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- أطلب أن لا تنزعج نفوسنا قط، بل بالأكثر أننا في وسط المصاعب والسيوف المصوّبة ضد أعناقنا نتحصّن بسلام اللَّه الذي يفوق كل فهم، وتكون هادئة عندما نحسب أن الذين هم غرباء عن الجسد هم مستوطنون مع رب الكل[60].
العلامة أوريجينوس
“لذلك نحترس أيضًا،
مستوطنين كنا أو متغربين،
أن نكون مرضيين عنده” [9].
على أي الأحوال سواء كنا لانزال في الجسد أو في طريقنا السريع لخلق ما يشغلنا فما نحرص عليه وما نجاهد من أجله هو سرور اللَّه بنا. جاءت كلمة “نحترس” philotimoumetha تعني كلمة محبة الكرامة، ومحبة المجد الأبدي أو الطموح في نواله، فإننا لا نكف عن أن ندرس ونجاهد عاملين لكي نحب ذاك الذي وهبنا الوجود وسيهبنا الأمجاد الأبدية ونرضيه ونخدمه. هكذا سواء كنا أحياء أو منتقلين ما يشغلنا وما نطمح فيه هو أن نكون موضع رضا اللَّه.
“لأنه لابد أننا جميعًا نظهر أمام كرسي المسيح،
لينال كل واحدٍ ما كان بالجسد،
بحسب ما صنع،
خيرًا كان أم شرًا” [10].
سرّ شهوة قلب المؤمن أن يكون موضع رضا اللَّه هو ترقبه للظهور أمام العرش الإلهي للدينونة، فيتمتع بعمل النعمة التي سندته وبررته، فينال حسب ما صنعه وهو في الجسد. فما يمارسه الإنسان في العالم الحاضر وهو في الجسد ينال ثمره بفيضٍ في يوم الرب العظيم.
استخدم القديس كيرلس الكبير هذه الآية للرد على القائلين بأن الجسد أُعطيَ للنفس كعقوبةٍ.
- إن كان فقط من أجل الأمور التي صُنعت بالجسد ينال الإنسان إما عقابًا على يد الديّان أو يُحسب أهلاً لمكافأةٍ لائقةٍ، فإنه لا توجد إشارة إلى خطايا سابقة قبل الوجود في الجسد، ولا سؤال عما حدث قبل مولده، فكيف يكون للنفس وجود سابق على وجودها في الجسد؟ وكيف أُذلت بسبب الخطية كما يقول البعض، لأن الدينونة تكون على ما فعله الإنسان في حياته على الأرض؟[61]
القديس كيرلس الكبير
- أما بالنسبة لنا نحن الذين نحتل الموقف الوسط بين الإنسان الكامل والمرتد عن الإيمان، عندما نقف أمام كرسي الحكم الذي للمسيح، يرتد إلينا ما فعلناه، خيرًا كان أم شرًا. فإننا لسنا طاهرين تمامًا حتى أن أفعالنا الشريرة لا تلتصق بنا، ولا نحن سقطنا تمامًا حتى أن أفعالنا الصالحة تكون منسية[62].
- حساب الحياة كلها بأكملها تقدم بدقةٍ فيما يدعى بملكوت السماوات الذي يشبه ملكًا حيث نقف أمام كرسي المسيح للحكم، وينال كل واحد ما قد فعله في الجسد إن كان خيرًا أو شرًا. وإذ يتم الحساب يقدم فيه كل كلمة بطالة نطق بها البشر (مت ٣٦:١٢)، وكل كأس ماء بارد قُدم للشرب باسم تلميذٍ (مت ٤٢:١٠)[63].
العلامة أوريجينوس
تصالحوا مع اللَّه
“فإذ نحن عالمون مخافة الرب نقنع الناس،
وأما اللَّه فقد صرنا ظاهرين له،
وأرجو أننا قد صرنا ظاهرين في ضمائركم أيضًا” [11].
إذ نتمتع بمخافة الرب ونترقب يومه العظيم نقنع الناس أن يقبلوا الإيمان بذاك القادر أن يبررهم ويقدسهم ويمجدهم في ذلك اليوم.
مخافة الرب التي هي رأس الحكمة تدفعنا للشهادة للَّه والاهتمام بخلاص البشر، ليس إرضاءً للناس ولا لنوال مكافأة منهم، وإنما إرضاء لذاك الذي يفحص قلوبنا ويعرف نياتنا الداخلية. وإذ نسعى هكذا باستقامة قلب نرجو إن يتكشف ذلك أمام ضمائر الناس الداخلية فيتمثلوا بنا ويجاهدوا معنا.
- يجب أن نغرس الفضيلة في نفوسنا من الداخل على أن لا نهمل أن يكون منظرنا الخارجي حسنًا فيلزم أن نعتني بما هو شريف أمام اللَّه والناس (2 كو 11:5)[64].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
“لأننا لسنا نمدح أنفسنا أيضًا لديكم،
بل نعطيكم فرصة للافتخار من جهتنا،
ليكون لكم جواب على الذين يفتخرون بالوجه لا بالقلب” [12].
يعتذر الرسول بولس عن دفاعه عن نفسه وعن العاملين معه موضحًا أنه ليس من أجل نفسه ومن معه، ولا لأنه يطلب منهم شيئًا، وإنما التزم بذلك لكي يقدم لهم ما ينطقون به لدى المتهمين ضده. إنه لا يطلب لنفسه مديحًا، بل يقدم لهم مادة كي لا يعطل أحد خدمتهم بسبب.
- إنهم يفتخرون بما هو منظور، وبما هو مكشوف للعيان. لهذا يمارسون كل عمل لأجل محبة الكرامة. بينما هم فارغون داخليًا يرتدون بالحقيقة مظهر التقوى والأمور المكرمة، لكنهم مهجورون من الأعمال الصالحة[65].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لأننا إن صرنا مختلين فللَّه،
أو كنا عاقلين فلكم” [13].
لم يكن بالأمر السهل على الرسول بولس أن يدافع عن نفسه، فقد حسب نفسه كمن صار مختل العقل أو مجنونًا. وقد فعل هذا من أجل اللَّه، حتى لا تتعطل الخدمة فإن ظهر كمجنونٍ أو كعاقلٍ لا يشغله هذا، لكنه يطلب ما هو للَّه، وما يسندهم في خدمتهم.
يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن الرسول يقصد بقوله “مختلّين” الُسكر الروحي بالجمال الإلهي الذي يفوق كل تصورٍ.
إذ اضطر للدفاع عن خدمته رفع قلوبهم معه إلى السماء ليروا الرسول مشغولاً لا بالبقاء في خيمة الجسد الوقتية بل في البناء السماوي والسماويات فصار كمن سكر بحب اللَّه والانشغال بالأبديات، وهكذا دخل فيما يدعوه البعض بالسكر الروحي.
- قد يتهمنا البعض بالخلل العقلي… قال الرسول بولس لفستوس الوالي: “لست أهذي أيها العزيز فستوس، بل أنطق بكلمات الصدق والصحو” (أع 25:26). وقد اختبر بطرس الرسول أيضًا هذا السُكر الروحي خلال الجوع والعطش (أع 10:10)[66].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- ملاحظاتي هذه ليست عشوائية، بل تشرح صعوبة حكمة بولس الرسول. فإنك تمدحه عندما يهرب من المخاطر بنفس المقدار حينما يواجهها، إذ كان يرى في الأولى حكمة، وفي الثانية شجاعة. وفي استخدامه الكلام بافتخار أو عدم افتخاره يحمل الاثنان نفس معنى التواضع، ففي الأولى يتحدث بتمييز وفي الثانية بوداعة… هدف كل أعماله وميوله هو خلاص نفوس الجموع وبالتالي يقول: “لأننا إن صرنا مختلين فللَّه، أو كنا عاقلين” (2 كو 13:5).
لا نجد شخصًا أخر لديه سببًا للافتخار وفي نفس الوقت خالٍ من أي كبرياء وتمجيد. تأمل في كلماته: “العلم ينفخ” (1 كو 1:8) كلمات يلزمنا جميعًا اقتنائها. ولكن بالتأكيد كان هو أكثر من أي إنسانٍ أخر ذا علم أو معرفة، وهذا لم يجعله متكبرًا بل متواضعًا، إذ يقول: “لأننا نعلم بعض العلم” (1 كو 9:13)، و”أيها الاخوة أنا لست أحسب نفسي إني قد أدركت” (في 13:3)، “فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئًا، فإنه لم يعرف شيئًا بعد كما يجب أن يعرف” (1 كو 2:8)[67].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لأن محبة المسيح تحصرنا،
إذ نحن نحسب هذا:
إنه إن كان واحد قد مات لأجل الجميع،
فالجميع إذًا ماتوا” [14].
لم يشغل قلب بولس دفاعه عن نفسه، إنما ما يشغله عشقه للسيد المسيح الذي حاصر قلبه بعذوبة الحب، وسحب كل كيانه إلى الصليب، ليراه قد مات عن الجميع كي يموت معه الكل ويرتفعوا معه إلى سمواته ويشتركوا معه في أمجاده السماوية.
هكذا سحب الرسول القراء من الحديث عن محبته هو ومن معه لهم وإخلاصهم في الخدمة إلى التمتع بالحب الإلهى العملي خلال الصليب، ورفع قلوبهم إلى السماوي. عند الصليب يموت الكل مع المسيح، خاصة الخدام، فلا يطلب الخادم ما لنفسه بل ما هو لمجد اللَّه وبنيان كنيسته.
- لا تحدثوني عن المدن أو الشعوب والملوك والجيوش والمال والولايات والسلطات، فهذه كلها فانيات، ولكن اهتموا بالفرح السماوي لتروا المحبة الفائقة التي في المسيح.
مجد الملائكة ورؤساء الملائكة وأي شيء آخر أقل شأنًا عنده من محبة المسيح، فامتلك في أعماقه الداخلية أعظم ما يمكن للإنسان امتلاكه، أي محبة المسيح التي بها اعتبر نفسه أسعد الناس، وبدونها يفقد كل رغبة في أية سلطة أو مبادئ أو قوات.
بهذا الحب فضًل أن يُحسب ضمن الرُتب الوضيعة على أن يُحسب ضمن أعظم النبلاء بدونه. كان العقاب الوحيد في نظره أن يتجرًد من هذا الحب، فذاك هو الجحيم نفسه، والتأديب والشر الأبدي. على عكس ذلك فإن امتلاك محبة المسيح هي السماء، وهي الحياة، وهي العالم كله، وهي أن يصير ملاكًا، وهي الفرح الحاضر، والفرح المقبل، وهي أن يصير ملكًا، وهي الوعد، وهي الصلاح الأبدي.
خارج هذا لا يوجد أي شيء آخر، سواء كان مُبهجًِا أو مؤلمًا. احتقر العالم المنظور كله كأنه ورقة شجرة جافة متعفنة، فالطغاة والناس المملوءون بنار الغضب في نظره مجرد حشرات صغيرة، الموت والاستبداد والاضطهاد في نظره كلهو الأطفال، طالما أنه من أجل المسيح. فاحتضن كل هذا بفرحٍ، واعتبر قيوده في سلاسل جائزة أثمن وأغلى من تاج نيرون، فصار سجنه سماءً، واحتمل جراحات السياط باشتياق كاشتياق المتسابق نحو الجائزة[68].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وهو مات لأجل الجميع،
كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم،
بل للذي مات لأجلهم وقام” [15].
هذه هي خطة السيد المسيح في عمله الخلاصي إنه إذ يرتفع على الصليب يجذب الكل إليه (يو ٣٢:١٢)، فيعيشوا معه كجسدٍ له، يعيشون لو كما هو لهم. يموتون معه ويقومون معه، يتألمون معه ويتمجدون معه ويرتفعون إلى حيث هو قائم في سمواته.
- بمعنى أن الحياة البشرية تعني في ذاتها أقل فأقل، لكنها تنمو في المسيح حتى أن الذين يعيشون لا يعيشون لأنفسهم بل لذاك الذي مات من أجل الكل وقام؛ فيقول كل واحدٍ منا ما يقوله الرسول: “أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ”. حقًا ينبغي أن ذاك يزيد وأنا أنقص[69].
القديس أغسطينوس
“إذًا نحن من الآن لا نعرف أحدًا حسب الجسد،
وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد،
لكن الآن لا نعرفه بعد” [16].
“لا نعرف أحدًا حسب الجسد“، بمعنى أننا لا نرتبط بالشخص ونقدِّره من أجل علاقاته الأسرية أو الرباطات الدموية أو الإمكانيات الجسدية أو المادية إنما نتعرف عليه خلال محبة المسيح الفائقة كشريكٍ معنا في الآلام والأمجاد السماوية.
علامة الاتحاد الحقيقي مع السماوي من الجانب السلبي هو الفطم عن العالم ومن الجانب الإيجابي هو التمتع بالخليقة الجديدة التي على صورة الخالق.
يُفطم المؤمن عن العالم وعن الجسديات حتى في معرفته للمسيح نفسه لا تقف المعرفة عند حدود الجسد وإلا حُسب كمن لم يعرفه بعد. تنطلق محبة المسيح إلى قلوبنا وتنحدر محبة العالم تحت أقدامنا.
لم يتمتع بولس الرسول بالتعرف على شخص الرب يسوع وهو بعد في الجسد في هذا العالم كما تمتع به التلاميذ والرسل. هذا لن يقلل من رسوليته، فإنه التقى بالمسيح الساكن في السماء، وتجلى أمامه بل وفي أعماقه.
لقد قيم اليهود أنفسهم إذ رأوا أن إبراهيم هو أبوهم حسب الجسد، وأيضًا تشامخ بعض المعلمين الذين من أصل يهودي في كورنثوس لأنهم رأوا يسوع حين كان بالجسد على الأرض أثناء خدمته، وحسبوا أنفسهم أفضل من الرسول بولس الذي لم يرَ السيد أثناء خدمته.
- كل عقل يرتفع ويتشكل في الصلاة حسب نقاوته. فإن كان مهتمًا بالأمور المادية الأرضية يحمل هذه النظرة أمامه، وتبقى هذه النظرة قدام عينيْ نفسه الداخليتين في رؤيته للرب يسوع، سواء عندما جاء في تواضعه في الجسد، أو عند مجيئه في عظمته. أمثال هؤلاء لا يقدرون أن يروا الرب يسوع آتيًا في ملكوته، إذ هم مُمسكون بنوع من الضعف اليهودي (أي النظرة المادية)، ولا يستطيعون القول مع الرسول: “وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفهُ بعدُ” (2 كو 16:5).
أما الذين يرتفعون فوق الأعمال والأفكار الأرضية السفلية، ويصعدون على جبل الوحدة (العزلة) المرتفع، متحرّرين من الاضطراب بكل المتاعب والأفكار الأرضية، في أمان من تدخل الخطايا، ممجّدين بإيمانٍ قويٍ، هؤلاء يمكنهم أن يتطلعوا بعيون نقية إلى لاهوته، وفي أعالي الفضيلة يكتشفون مجده وصورة سموه…
يُعلن يسوع للموجودين في المدن والقرى والمزارع، أي الذين لهم أعمال يقومون بها، لكن ليس بالبهاء الذي يظهر به لمن يصعدون معه على جبل الفضائل السابق ذكره… ففي الوحدة (العزلة) ظهر اللَّه لموسى وتحدث مع إيليا[70].
الأب اسحق
- لاحظوا أنه حتى ذاك نفسه الذي هو الحق والكلمة، والذي به كان كل شيء، وقد صار جسدًا ليسكن بيننا، مع ذلك يقول الرسول: “وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد“، لأن المسيح لم يرد فقط أن يهب ممتلكات لمن يكمل الرحلة، بل أيضا أن يكون هو نفسه الطريق للذين يشرعون في السير[71].
القديس أغسطينوس
- فإننا نتعلم من الرسول ألا نعرف المسيح بنفس الطريقة الآن كما كان قبلاً… بمعنى أن معرفة إحداهما تعلن لنا عن تدبيره المؤقت، والثانية عن وجوده الأبدي[72].
- لكي يفضي بهذا السرّ العظيم عن طريق تجسده وهو إن الطهارة هي المؤشر الوحيد الكامل لحضرة اللَّه ومجيئه؛ وأنه لا يستطيع أحد بالحقيقة أن يضمن هذا لنفسه ما لم يتغرب تمامًا عن أهواء الجسد. ما حدث مع مريم التي بلا دنس عندما أشرق خلالها كمال اللاهوت الذي في المسيح يحدث مع كل نفسٍ تسلك حياة البتولية. حقًا لا يعود يأتي السيد بحضور جسدي: “لا نعرف المسيح بعد حسب الجسد“، بل هو حضور روحي. يسكن فينا ويأتي معه الآب كما يخبرنا الإنجيل[73].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
“إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة،
الأشياء العتيقة قد مضت،
هوذا الكل قد صار جديدًا” [17].
ما أخطر إن يعتز الإنسان بتعرفه عن المسيح خلال القراءة وحدها أو خلال المعجزات الملموسة دون أن تتجدد طبيعته ليصير أيقونة له. فمن هو في المسيح، أي المؤمن الحقيقي، يتمتع بسكنى المسيح في قلبه بالإيمان وبالتجديد المستمر خلال عمل روحه القدوس، فيمارس بنوته للَّه جاحدًا بنوته القديمة التي لإبليس وأعماله الشريرة.
في المسيح ننال قلبًا جديدًا وفكرًا جديدًا وسلوكًا جديدًا وحياة جديدة، كما نعيش في خليقة جديدة، في السماويات.
من كان في المسيح يحيا حرًا من الخطية ومن محبة العالم وشهوات الجسد. إنه لا ينشغل بما يُرى وإنما بما لا يُرى.
المؤمن الحق ليس فقط يتمتع بالتجديد المستمر في داخله، وإنما يرى كل شيءٍ جديدًا؛ يتطلع خلال عيني المسيح فيرى حوله خليقة جديدة.
جاء الاسم هنا “الخليقة” Ktisis ktisoc في اليونانية بالمونث حيث أغلب الأسماء المؤنثة تنتهي بـ “sis” بينما المذكر بـ “ma”. فالمؤنث يشير إلى التحرك والعمل والانتاج. الخليقة هنا ليست جامدة لكنها عاملة ومثمرة.
- إن آمن بي أحد يأتي إلى خليقة أخرى، إذ يولد ثانية بالروح… يليق بنا أن نعيش له… يحثنا بولس على حياة الفضيلة… مظهرًا كيف أنها “خليقة جديدة“. يضيف: “الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا”. ما هي الأشياء العتيقة؟ إما الخطايا أو عدم التقوى أو حفظ الممارسات اليهودية. نعم بالأحرى يعني هذه وتلك[74].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- هذا هو نفس الغرض الذي من أجله جاء ربنا يسوع المسيح، أن يغير الطبيعة البشرية، ويحوّلها، ويجدّدها.
يخلق النفس خلقةً جديدةً، النفس التي كانت قد انتكست بالشهوات بواسطة التعدّي,
جاء المسيح لكي يوحّد الطبيعة البشرية بروحه الخاص، أي روح اللاهوت، وقد أتى ليصنع عقلاً جديدًا، ونفسًا جديدة، وعيونًا جديدة، وآذانًا جديدة، ولسانًا جديدًا روحانيًا. وبالاختصار أُناسًا جددًا كلية، هذا هو ما جاء لكي يعمله في أولئك الذين يؤمنون به. إذ صيّرهم أوانٍ جديدة، ويمسحهم بنور معرفته الإلهية، لكي يصب فيهم الخمر الجديدة، التي هي روحه، لأنه يقول أن “الخمر الجديدة ينبغي أن توضع في زقاقٍ جديدة” (مت 17:9)[75].
القديس مقاريوس الكبير
- صارت طبيعة الإنسان كلها خاطئة في شخص الذي خُلق أولاً. لكنها الآن قد تبرّرت من جديد في المسيح، لأنه صار لنا بداية ثانية لجنسنا بعد تلك البداية الأولى، ولذلك فكل الأشياء قد صارت جديدة فيه[76].
- قد برز لنا عالم جديد (بمجيء مخلصنا)، وقد صارت لنا فيه كل الأشياء جديدة[77].
القديس كيرلس الكبير
- عندما شاخت الخليقة الأولى وتلاشت كانت هناك حاجة إلى خليقة جديدة في المسيح (كما يقول الرسول الذي يؤكد أننا لا نعود نرى في الخليقة الثانية أي أثر لما قد شاخ، قائلا: “إذ نخلع الإنسان العتيق بكل أعماله وشهواته نلبس الإنسان الجديد المخلوق حسب اللَّه”، “إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا”)، لأن خالق الطبيعة البشرية في الخليقة الأولى… أخذ ترابًا من الأرض وشكل الإنسان، مرة أخرى أخذ ترابًا من العذراء ولم يشكله إنسانًا مجردًا بل إنسانًا له. لقد خلق ثم صار خليقة. الكلمة خلق جسدًا، ثم صار الكلمة جسدًا حتى يحول جسدنا إلى روح، إذ صار شريكًا معنا في الجسد والدم. هذه الخليقة الجديدة في المسيح التي بدأ هو نفسه بها، دُعي البكر، بكر الجميع، كلاً من الذين ولدوا في الحياة والذين حيوا بالقيامة من الأموات[78].
- مرة أخرى إذ جعل نفسه بكر القيامة، نال اسم “بكر الراقدين”، إذ له الأولوية في كل شيء. بعد ذلك كما يقول الرسول: “الأشياء القديمة قد مضت”. إنه يصير بكر الخليقة الجديدة للبشر في المسيح بميلادٍ جديدٍ مزدوج، واحد بالمعمودية المقدسة والآخر كنتيجة للقيامة من الأموات، صار بالنسبة لنا في كليهما رئيس الحياة والبكر… هذا البكر له أيضًا اخوة يتحدث عنهم مع مريم: “اذهبي اخبري اخوتي، أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم”. في هذه الكلمات لخص كل غايته من تدبيره كإنسان[79].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
- يقول لكي نثبت بأعمالنا ما نعلنه بالكلمات أن “الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا” “وإذا كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة”[80].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ولكن الكل من اللَّه،
الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح،
وأعطانا خدمة المصالحة” [18].
كل هذه العطايا التي تمس تجديدنا الداخلي، أو الخلقة الجديدة هو هبة من اللَّه تمتعنا بها خلال المصالحة مع الآب في المسيح يسوع. فإن كانت الخطية قد نزعت التصاقنا باللَّه وحطمت العلاقة به، فتحولت إلى عداوة، فإن عمل المسيح الخلاصي هو المصالحة. صالحنا اللَّه مع نفسه بابنه الوحيد الجنس يسوع المسيح.
كل النعم التي ننالها من اللَّه مصدرها المصالحة التي تحققت بالشفيع الكفاري يسوع المسيح.
قدم لنا إلهنا خدمة المصالحة، ووهبنا الكتاب المقدس، الكلمة الإلهية، بكونه كلمة المصالحة، حيث تمتعنا بالسلام مع اللَّه خلال دم الصليب. نزع الصليب روح العداوة التي سيطرت على القلب نحو الإلهيات والسماويات، وقدم روح المصالحة معها والالتصاق بها.
- إذ ترون قوله: “أعطانا خدمة المصالحة” يستخدم قول مُصلح قائلاً: لا تظنوا أننا نعمل بسلطاننا. نحن خدام. الذي يعمل كل الأشياء هو اللَّه، الذي صالح العالم بواسطة ابنه الوحيد[81].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أي إن اللَّه كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه،
غير حاسب لهم خطاياهم،
وواضعًا فينا كلمة المصالحة” [19].
بقوله هذا يعلن إن اللَّه هو الذي يطلب من جانبه المصالحة. نحن بادرنا بالعداوة والمقاومة والتمرد والعناد وهو الذي يبادر بالحب وطلب المصالحة. هو الذي يسعى إلينا مقدمًا لنا إنجيله، “كلمة المصالحة”.
- يوجد عالم شرير وعالم صالح، العالم الشرير هو كل البشر الأشرار في هذا العالم، والعالم الصالح هو كل الصالحين في العالم[82].
- “كون العالم (بالرب) ولم يعرفه العالم” (يو ١٠:١). أي عالم كوِّن به؟ وأي عالمٍ لم يعرفه؟ إنه ليس العالم الذي كُوِّن به؟ السماء والأرض، كيف لم تعرفه السماء هذه التي عند آلامه اظلمت الشمس؟ كيف لم تعرفه الأرض التي عندما عُلق على الصليب تزلزلت؟ لكن “العالم لم يعرفه” هذا الذي “رئيس هذا العالم يأتي ولا يجد فيّ شيئًا” (يو ٣٠:١٤). يُدعي الاشرار العالم، غير المؤمنين يدعون العالم. لقد نالوا هذا الاسم من أجل ما يحبونه. فبحبنا للعالم نُدعى “العالم”. بحبنا للَّه نصير آلهة. هكذا بحب العالم ندعى العالم، لكن اللَّه صالح العالم معه في المسيح[83].
القديس أغسطينوس
- الأناجيل أربعة. هذه الأربعة كما لو كانت عناصر إيمان الكنيسة، خلالها قد اجتمع حقا العالم الذي صولح مع اللَّه في المسيح[84].
العلامة أوريجينوس
“إذًا نسعى كسفراء عن المسيح،
كأن اللَّه يعظ بنا،
نطلب عن المسيح: تصالحوا مع اللَّه” [20].
إن كان اللَّه هو المبادر بطلب المصالحة يليق بخدامه كسفراء عنه أن يبادروا من جانبهم بطلب المصالحة. إنهم يتوسلون إلى الخطاة أن يقبلوا هذه المصالحة باسم اللَّه.
الخدام كسفراء للسيد المسيح يمثلونه، معلنين إرادته في مصالحتهم مع الآب، والكشف عن حب اللَّه الفائق لهم. كممثلين للمسيح الشفيع الكفاري يطلبون عن الخطاة ويسألون الخطاة أن يقبلوا عمله الكفاري، فيتمتعوا بأحضانه الإلهية التي تحملهم إلى حضن الآب.
- كسفراء عن المسيح، أي نيابة عنه، لأننا خلفناه في أعماله. لا تظنوا أنه يُطلب عنكم بواسطتنا، وإنما المسيح نفسه يطلبكم بواسطتنا… لقد هوجم ذاك الذي يمنح عشرات الالوف من البركات. وإذ هوجم ليس فقط لم يستخدم العدالة، وإنما أيضًا بذل ابنه الوحيد لكي يُصالح… ماذا يطلب؟ “تصالحوا مع اللَّه“. لا يقول “صالحوا اللَّه معكم”. إنه لا يحمل كراهية بل أنتم تحملونها. لن يحمل بغضة قط[85].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا،
لنصير نحن برّ اللَّه فيه” [21].
الذي لم يعرف خطية صار ذبيحة خطية مقدمة عنا. الكلمة العبرية hamarita الواردة هنا ترجمت في السبعينية في أسفار الخروج واللاويين والعدد “ذبيحة خطية offering–Sin“.
إذ قبل مسيحنا أن يكون تقدمة خطية وضع كل البشرية أيديهم عليه ليحمل كل ثقل الخطايا.
إذ احتل مسيحنا موضعنا حُسب كمن هو أعظم الخطاة، وهبنا أن نحتل موضعه فنُحسب في عيني الآب أبرارًا، إذ نحمل برّ المسيح.
هكذا قدم لنا هذا الإصحاح عرضًا رائعًا لمفهوم الخلاص وخدمة المصالحة مع الآب وتمتعنا ببرّ المسيح، حيث صار المسيح في موضعنا وقدم نفسه عنا ذبيحة خطية. إنه عرض فريد ورائع يكشف عن خبرة الرسول الفائقة مع صليب رب المجد يسوع المسيح.
- يعني أن ذاك الذي هو بار صار خطية، أي تألم كخاطي مُدان كمن لُعن ليموت[86].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- حدث أن صار مطيعًا إذ “أخذ ضعفاتنا وحمل أمراضنا” شافيًا عصيان البشر بطاعته، حتى بجلداته يشفي جرحنا، وبموته يطرد الموت العام لكل البشر. فمن أجلنا صار مطيعًا، ومن أجلنا صار “خطية” و”لعنة ” لأجل التدبير لحسابنا، وليس بحسب الطبيعة، إنما صار هكذا في حبه للبشر[87].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص.
- من هو هذا الذي لم يعرف خطية إلا ذاك الذي قال: “هوذا رئيس العالم يأتي ولا يجد فيّ شيئًا” (يو ٣٠:١٤).
جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا، فالمسيح نفسه الذي لم يعرف خطية جعله اللَّه خطية لأجلنا. ماذا يعني هذا يا أخوة؟ لو أنه قيل: “جعله يُخطئ” لكان الأمر لا يُحتمل، فكيف نقبل ما قيل: “جعله خطية“، فيصير المسيح نفسه خطية؟
الذين لهم معرفة بكتب العهد القديم يدركون ما أقوله. لأن هذا ليس بالتعبير الذي استخدم مرة واحدة بل تكرر باستمرار، فالذبائح من أجل الخطايا تُدعى “خطايا”. كمثال كان الماعز يقدم عن خطية، والكبش، وكل ما يُقدم عن خطية يُدعى خطية… ففي موضع تقول الشريعة: “يضع الكهنة أياديهم على الخطية” (لا ٢٩:٤)… كانت الخطية تقدم، وتبطل. قد سفك دم المخلص، قد أبطل صك المدين. هذا الدم الذي سفك عن كثيرين لمغفرة الخطايا (مت ٢٨:٢٦)[88].
القديس أغسطينوس
V V V
من وحي 2 كو 5
نفسي تسبحك في خيمة جسدها!
إنها تترقب مسكنها معك أبديًا!
- لك المجد يا من وهبتني خيمة الجسد!
خيمة جميلة من عمل يديك،
لكنها زمنية ومؤقتة.
بإرادتي الفاسدة أفسدتها،
خلالها ترحل نفسي منطلقة إليك.
- تُرى متى اَلتقي بك وأتمتع بالمسكن السماوي!
متى أحمل جسدًا روحانيًا على مثال جسدك القائم من الأموات؟
ليس فيه فساد،
ولن يحل به الموت بعد!
- كثيرًا ما تشغلني ثياب جسدي!
لكنها لن تنزع عريي أمام السمائيين.
متى اختفي فيك فارتدي برّك ثوبًا أبديًا.
هوذا أنا على الأرض ارتدي ثيابًا لكني كمن هو عارٍ.
هناك لن ارتدي ثيابًا،
بهاؤك المنعكس عليَّ هو ثوب عرسي السماوي.
- تُرى هل أتمتع بعربون روحك القدوس؟
فأتمتع بثوبٍ لا يفسد ولا يضمحل.
أنعم بعربون الأبدية عِوض انشغالي بالزمنيّات.
- أراك بالإيمان وأنعم بك.
لكنني إذ أنا مستوطن في الجسد متغرّب عنك.
لأستوطن معك وأتغرّب عن الجسد الفاني.
هل لي أن أقول:
ليس لشهوات الجسد موضع فيّ!
فحيث تسكن أنت ليس للخطية مكان!
- نفسي تئن في داخلي:
تعال؛ لتقم في أعماقي.
فإن عشتُ هنا أو عبرت من العالم،
ليس ما يشغلني سوى مرضاتك!
لأرضيك، فمن يحبني مثلك؟
أحببتني ومتّ من أجلي ومن أجل كل اخوتي.
حبّك يحاصرني على الدوام.
- بحبك قبلت أن تموت لكي أحيا أنا ومعي اخوتي.
ماذا أرد لك فأنا بكلّي ملكك!
لأحيا لك يا من أتيت إلى العالم لأجلي.
لأتمتع بالاتحاد معك فوق كل حدود الجسد،
- صيرتني خليقة جديدة،
وحطّمت فساد طبيعتي القديمة.
لك المجد يا مجدد حياتي!
- صالحتني وأنا العدوّ المخطئ.
أرى نفسي تختفي فيك,
متى أرى الكل معي فيك؟
أنا سفيرك،
ليس لي هدف غير رؤية كل البشرية أبرارًا فيك.
متى أرى الكل ينعمون بشركة المجد معك؟
[1] In 2 Cor. hom 10. PG 61:506
[2] عظات القديس مقاريوس 3:5-5.
[3] المرجع السابق 5:5.
[4] عظة 6:5.
[5] Sernon 5:7.
[6] Pauline Comm. From the Greek Church.
[7] In 2 Cor. hom 10:1.
[8] In 2Cor. hom 10. PG 62:506.
[9] PG 82:406.
[10] DE Principiis 3:6:6.
[11] The City of God, 14:3.
[12] St. John Cassian: Conferences, 3:6-7.
[13] In Exp. in Ps. 5 PG 55:63C.
[14] See ACW, Vol. 31, p. 316.
[15] Comm. in Gal. 3. PG 61:656C – D.
[16] رسالة 8:4.
[17] رسالة 2:13.
[18] Paedagogus 2:11.
[19] The One Hundred and Fifty Chapters, 66, 67.
[20] عظة 8:5
[21] عظة 5:18.
[22] عظة 6:18.
[23] Semon 32:6.
[24] Sernon 5:7.
[25] Sermons on New Testament Lessons, 8:13.
[26] Fragment 12 (P.N. Frs, 1:570).
[27] Pauline Comm. From the Greek Church.
[28] Catechetical Lectures 15:23, 25.
[29] Ibid 18:19, 7:139.
[30] In 2Cor. hom 10. PG 61: 506-607.
[31] Pauline Comm. From the Greek Church.
[32] In 2 Cor. hom 10:3.
[33] Sernon 5:10.
[34] The City of God, 20:17.
[35] The Resurrection of the Body from Moralium in Job 19:25.
[36] Adv. Haer. 5:37:1.
في مديح القديس بولس، عظة 5.[37]
في مديح القديس بولس، عظة 6.[38]
[39] Commentary of Matthew, 13:21.
[40] In 2 Cor. hom 10:3.
[41] 2 Cor. hom 10. PG 61: 507.
[42] On the Spirit 16 (40).
[43] PG 82:407.
[44] Question 59:4 (FC 70:114).
[45] Hom 63 on Ps.
[46] CSEL 81:231.
[47] Letter to Honoratus.
[48] The Harmony of the Gospels, 4:10:20
[49] Sermons on New Testament Lessons, 38:4.
[50] Sermons on New Testament Lessons, 77:5.
[51] Sermons on New Testament Lessons, 3:6.
[52] Sermons on New Testament Lessons, 41:9.
[53] A. J. Wensinck: Mystic Treatises by Isaac of Nineveh, 1923, p 210.
Dana Miller: The Ascetical Homilies of St. Isaac the Syrian, 1984, p.223.
[54] من مجدٍ إلى مجدٍ، فصل 10:1.
[55] Pauline Comm. From the Greek Church.
[56] PG 82:407.
[57] On Christian Doctrine, 2:12 (17).
[58] To Proba, 130 (FC 18:370).
[59] In 2 Cor. hom 10:4.
[60] An Exhortation to Martyrdom, 4.
[61] Comm. On John, book 1, ch. 9:15.
[62] Commentary on Matthew, 12:30.
[63] Commentary on Matthew, 14:8.
[64] Commentary on Song of Songs, Homily 4.
[65] In 2 Cor. hom 11. PG 61: 513.
[66] من مجدٍ إلى مجدٍ، فصل 41:3.
في مديح القديس بولس، عظة 5.[67]
في مديح القديس بولس، عظة 2.[68]
[69] Sermons for Christmas and Epiphany (ACW), 12:1
[70] St. John Cassian: 10:6.
[71] On Christian Doctrine, 1:34 (38).
[72] Against Eunomius, 6:2
[73] On Virginity, 2.
[74] In 2Cor. hom 11. PG 61: 513.
[75] Sermon 44:1.
[76] Sernon 42 on Luke 8:9-21.
[77] Sernon 60 on Luke 10:1-3.
[78] Against Eunomius, 4:3
[79] Against Eunomius, 2:8.
[80] In Galat., hom 2
[81] In 2Cor. hom 11. PG 61: 515.
[82] Sermons on New Testament Lessons, 31:3.
[83] Sermons on New Testament Lessons, 71:1.
[84] Commentary on John, 1:6.
[85] In 2Cor. hom 11. PG 61: 517.
[86] In 2Cor. hom 11. PG 61: 517.
[87] Against Eunomius, 2:11.
[88] Sermons on New Testament Lessons, 84:5.