Site icon فريق اللاهوت الدفاعي

تفسير كورنثوس الثانية 2 – الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الثانية 2 – الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الثانية 2 – الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير كورنثوس الثانية 2 – الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

الباب الثاني

مفهوم الخدمة

ص 2 – ص 5

مفهوم الخدمة

قدم لنا الرسول في هذه الإصحاحات المفهوم الإنجيلي للخدمة وطبيعتها:

أ. يطلب توبة الخطاة لا حزنهم (ص 2). لقد أجّل الرسول زيارته لهم لكي لا يراهم حزانى. كما أظهر الحب لمن سبق فأدبّه (5:2-11). كان في رسالته الأولى حازمًا بالنسبة لمن أراد الزواج بامرأة أبيه. الآن إذ قدم الشاب توبة صادقه بعد عزله من الكنيسة طلب الرسول عودته بمحبةٍ شديدةٍ حتى لا يبتلعه الحزن المفرط (7:2). اتسم بحزمه الشديد ضد الخطية، وحبه الفائق للتائبين مهما كانت خطاياهم. لقد أظهر رائحة المسيح للجميع (12:2-17).

ب. يقدم خدمة العهد الجديد (ص 3). خدمته ليست شكليات، يقدمها معلم لتلاميذه، إنما هى خدمة حب. يحمل تلاميذه في قلبه، فيصيرون رسالته المقروءة من جميع الناس. يقرأ الكل قلب بولس، فيجدون النفوس التي خدمها المسيح منقوشة بالروح القدس الحي في أعماقه! لا فضل للرسول فيها، إنما هى انعكاس لمجد الله الذى يسكب بره في مجدٍ على مخدوميه. خدمة العهد الجديد هى دخول في المجد الأبدي، ولا وجه للمقارنة بين بهاء مجد برّ المسيح ومجد وجه موسى الزائل.

ج. خدمة الرجاء بروح القوة بلا فشل (ص 4): “كما رُحمنا لا نفشل” (4 :1). يقدم خبرة مراحم الله معه، فقد كان قبلاً أعمى الذهن، فأناره إنجيل مجد المسيح. هكذا لا يقدم الرسول نفسه بل نور معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح (6:4).

إنها خدمة الضيق حتى الموت لكن بلا يأس: “حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا”. (10:4)

يقدم للموتى خدمة القيامة المستمرة التي اختبرها ولا يزال يذوقها كل يوم. “وإن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدد يومًا فيومًا”. (16:4)

د. خدمة سماوية (1:5-10): “لنا في السموات بناء من الله، بيت غير مصنوع بيدٍ، أبدي”. (1:5)

ه. خدمة تجديد خلال الإماتة: “إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا”. (17:5)

و. خدمة مصالحة: “إذا نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا، نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله”. (20:5)

 

الإصحاح الثاني

الرعاية والاصلاح

 

في هذا الإصحاح يفتح الرسول قلبه أمام أهل كورنثوس ليدركوا مدى حبه لهم [١-٤]. قدم أحد أسباب تأجيل زيارته لهم وهو أنه قد لمس حزن الجميع على الشخص الساقط في الزنا. في محبته لم يرد أن يزورهم في هذا الجو المحزن، لكن إذ تاب الرجل يفرح الكل به ويحضر هو ليشارك فرحهم بتوبته.

يعتصر قلب الرسول حقًا، ويطلب أن تشاركه كل الكنيسة هذه المشاعر فيتوسل إليهم أن يمَّكنوا له المحبة حتى يدرك الساقط أن حزنهم لم يكن نابعًا عن انتقام أو كراهية بل هو حب لخلاص نفسه [٥-١١].

ها هو قادم ليبشرهم بأعمال الله العجيبة معه، فقد فُتح أمامه باب للعمل الكرازي، وفاحت رائحة المسيح الذكية لخلاص الكثيرين [١٢-١٧].

١. فرحي هو فرح جميعكم             ١-٤.

٢. شفاعته في الساقط التائب          ٥-١١.

٣. انفتح لي باب في الرب             ١٢-١٧.

١. فرحي هو فرح جميعكم

شهوة قلب الرسول ألا يزورهم وقت حزنهم، لأن حزنهم هو حزن له، وفرحهم هو فرح له. وأيضًا ما يحل به من فرحٍ أو حزنٍ إنما يحل بجميعهم. لقد أحزنهم حين وبخهم على تهاونهم مع القائد الساقط في الزنا، وإذ استجابوا إلى طلبته وحزنوا يود أن يحضر إليهم بعد أن يفرحوا بتوبته، ويتهللوا بعمل الله معه، فتصير الكنيسة أيقونة السماء المتهللة برجوع الخطاة.

في أبوته يعلن عن عجزه عن الحضور إليهم بينما هم وهو أيضًا في حزن، إذ يقول:

“ولكني جزمت بهذا في نفسي،

أن لا آتي إليكم أيضًا في حزنٍ” [1].

ولعل الرسول هنا يكشف عن مشاعر حبه، فقد سجل رسالته الأولى في الكثير من الحزم مما سبب حزنًا ولو لقليلين، وربما تعثر بعض الضعفاء فيه بسبب حزمه. الآن يود إن يكشف عن حنوه الأبوي ولطفه حتى إن وبخ وأدب، وأنه لا يحتمل أن يراهم في حزنٍ.

أمبروسياستر

“لأنه إن كنت أحزنكم أنا،

فمن هو الذي يفرحني إلا الذي أحزنته؟!” [2]

لم يرد أن يزورهم قبل التوبة لئلا يستخدم سلطانه الرسولي لتأديب العصاة مما يسبب حزنًا جماعيًا، بينما يود أن يسود الكنيسة روح التعزيات والفرح.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس باسيليوس الكبير

         سبق فأعلن الرسول بولس في رسالته الأولى عن ضرورة حزن الكنيسة من أجل الخطاة. تظل الكنيسة، مع رأسها ربنا يسوع، في حزنٍ حتى يعود الخطاة إلى إلههم ويخضعوا للآب. ويعلق العلامة أوريجينوس على الكلمات، “وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي” (مت29:26)، بقوله إن الخمر في الكتاب المقدس يرمز إلى الفرح الروحي. لقد وعد الله شعبه أنه سوف يبارك في خمرهم، أي سيمنحهم وفرة من الفرح الروحي. لهذا يمنع الكهنة من شرب الخمر عند دخولهم الهيكل، إذ يريدهم أن يكونوا في حزنٍ، بينما تُقدم القرابين عن الخطاة. فإذا تمت مصالحة الخطاة مع الله، عندئذ يكتمل فرحهم. يعتقد أوريجينوس أن المسيح نفسه مع قديسيه في انتظار توبة الخطاة، ففرحهم إذًا لا يزال غير كاملٍ.

العلامة أوريجينوس

“وكتبت لكم هذا عينه،

حتى إذا جئت لا يكون لي حزن من الذين كان يجب إن أفرح بهم،

واثقًا بجميعكم أن فرحي هو فرح جميعكم” [3].

كأنه يقول: “أنا أعرف تمامًا أنكم تطلبون مسرتي، هذه التي تتحقق بقداستكم. وإذ تتهلل نفسي بكم تتهللون أنتم أيضًا، لأن فرحي هو فرح جميعكم. إني لا أستطيع أن أصمت على الخطية والعصيان، وفي نفس الوقت ملتزم أن آتي بروح الوداعة وأترفق بكل التائبين”. إنه يود أن يكون ينبوع فرح للكل ما استطاع.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لأني من حزن كثير وكابة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة،

لا لكي تحزنوا،

بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي،

ولا سيما من نحوكم” [4].

يكشف هذا القول عن أن المقاومين للرسول قد شوهوا صورته تمامًا بأنه رجل عنيف ومستبد، يُسر بجراحات الآخرين ومرارتهم. ويبرر الرسول نفسه من هذا الاتهام بتأكيد التكلفة التي دفعها وهو يكتب الرسالة الأولى الحازمة وهي الدموع الكثيرة والحزن الشديد وكآبة القلب! دوره كرسولٍ الزمه بالكتابة، لكنه سجلها بتنهدات قلبه الداخلية ومرارة نفسه ودموعه الغزيرة.

العلامة أوريجينوس

لنحزن على أمور كهذه، لأجل هذه الأمور نتألم، من أجل هذه الأمور يُنخس قلبنا.

هكذا حزن بولس على الخطاة، وهكذا بكى: “من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة“.

فإذ لم يجد علة ليحزن على نفسه فعل ذلك لحساب الآخرين، أو بالأحرى حسب هذه الأمور خاصة به، على الأقل حتى ينتهي الحزن.

آخرون تعثروا، وهو احترق؛ آخرون كانوا ضعفاء، وهو كان ضعيفًا. مثل هذا الحزن صالح يفوق كل فرح عالمي.

إني أفضل ذاك الذي يحزن هكذا عن كل البشر، بل بالأحرى يعلن الرب نفسه أن الذين يحزنون مطوبون، هؤلاء الذين يتعاطفون مع الآخرين.

لست أعجب من هذا ففي اخطاره يتعرض للموت يوميًا، ولا يزال هذا يأسرني. فإن هذا يصدر عن نفسٍ مكرسةٍ لله، مملوءة حنوًا صادرًا عن حب يطلبه المسيح نفسه، به حب أخوي وأبوي، أو بالأحرى، ما هو أعظم من هذا. هكذا يليق بنا أن نحزن، وهكذا ننتحب، ونسكب دموعًا كهذه، إذ تحمل هذه بهجة عظيمة. إن حبًا كهذا هو أساس للفرح[11].

القديس يوحنا الذهبي الفم

٢. شفاعته في الساقط التائب

عالج الرسول بولس موضوع قبول هذا الساقط التائب بفكرٍ إنجيليٍ روحيٍ حي. بدأ بالحديث أنه وإن حزن عليه بسبب سقوطه، فإن الجماعة ككل حزنت عليه. حزنه يعتبر جزئيًا بالنسبة لحزن الكنيسة كلها عليه. فإن كان الرسول قد حزن فليس لأنه فوق الجماعة، بل كواحدٍ منهم يشاركهم حزنهم عليه. أما من جهته هو فإنه لا يريد أن يثقل عليهم بعدما تحركوا كجماعة في حزنٍ عليه، إذ حان الوقت ليفرحوا بتوبته، ولا يعيشوا بعد في مرارة.

“ولكن إن كان أحد قد أحزن،

فإنه لم يُحزنّي،

بل أحزن جميعكم بعض الحزن لكي لا أثقل” [5].

يرى أمبروسياستر أنه يقصد بالجميع هنا القديسين من أهل كورنثوس الذين يتألمون بسبب ارتكاب أحدٍ ما خطية. فالكنيست، رعاة ورعية، لن تستريح متى أخطأ شخص واحد.

لا تقل هذا عبد هارب، أو ذاك لص، أو قاتل، أو إنسان مثقل بخطايا غير محدودة، أو متسول أو حقير… بل تأمل أنه لأجله مات المسيح. أما يكفي هذا ليكون أساسًا لنعطيه كل اهتمام؟![12]

القديس يوحنا الذهبي الفم

مثل هذا يكفيه هذا القصاص الذي من الأكثرين” [6].

لقد تواضع الساقط وقدم توبة، وأطاعت الجماعة وقامت بتأديبه. هذا يكفي له ولهم. في أبوته الحانية قدم الرسول شفاعةً وتوسلاً من أجل هذا الساقط التائب أمام الكنيسة في كورنثوس.

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

إنها أكثر فائدة من حياة الوحدة وذلك من أجل الحفاظ على الأمور الصالحة التي يهبها الله لنا، ومن أجل المكافأة عن هجمات العدو الخارجية…

فبالنسبة للخاطي الانسحاب من الخطية أسهل بكثير إن خشي عار توجيه اللوم إليه من كثيرين يعملون معًا. حقًا ينطبق القول: “مثل هذا يكفيه هذا القصاص الذي من الأكثرين.” [6]. وبالنسبة للإنسان التقي، يجد كفاية عظيمة وكاملة في تقدير الجماعة وتذكية سلوكه[15].

القديس باسيليوس الكبير

حتى تكونوا بالعكس تسامحونه بالحري وتعزونه،

لئلا يُبتلع مثل هذا من الحزن المفرط” [7].

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على تعبير”تسامحون بلطفٍ graciously وتعزونه” قائلاً: [إن ما يقوله هو أنه ليس لأنه يستحق ذلك (تسامحونه)، ولا لأنه أظهر بوضوح ندامة كافية وإنما لأنه ضعيف، من أجل هذا أسأل… لئلا ييأس[16].]

نال ما فيه الكفاية وبلغ التأديب غايته، وصار الأمر في غاية الخطورة، فإن لم يجد التائب أحضان الكنيسة الحانية يستعبده اليأس وتهلك نفسه. كما كانوا ملزمين بتأديبه بالعزل الآن ملزمون بتمكين المحبة له وتجديدها لكي تتهلل نفسه بالخلاص.

قاوم المرض، تغّلب على الفساد، اقطع انتشار البلاء السرطاني.

يتحدث بولس عن هذه الأشياء وعن أكثر من هذا. إذ أمر المسيحيين في كورنثوس أن يسلموا الزاني بينهم للشيطان، عاد بعد ذلك يقول: “لقد تغيّر الزاني”. صار إلى حالٍ أفضل “مثل هذا يكفيه هذا القصاص الذي من الأكثرين… حتى تُمكّنوا له المحبة” [6-8].

فمع أن بولس جعله عدوًا عامًا، وخصمًا للكل، واستبعده عن الجمهور، وقطعه من الجسم. انظروا كيف أظهر اهتمامًا لكي يربطه من جديدٍ برباط لا ينحل، ويضمّه إلى الكنيسة. إذ لم يقل مجرد “حِبّوه” بل “أعيدوا تثبيت المحبة له“.

بمعنى آخر: اعلنوا صداقتكم إنها صادقة وثابتة ومملوءة غيرة ومتقدة ونارية. قدموا محبتكم بنفس القوة التي للكراهية (للخطية) السابقة. ماذا حدث؟ اخبرني! ألم تسلمه للشيطان؟ يقول: “نعم، لكن ليس ليبقى في يدي الشيطان، بل لكي يتخلص سريعًا من سلطانه الطاغي”.

لاحظوا باهتمام كيف أنه لنفس الأمر كما قلت يخشى بولس من الإحباط كسلاح قوي للشيطان. يقول: “مكّنوا له المحبة“، ويضيف السبب: “لئلا يُبتلع مثل هذا من الحزن المفرط” [7][17].

العلامة أوريجينوس

لاحظوا كيف يحفظ بولس الرجل نفسه في تواضعٍ حتى لا يصير إلى حال أردأ نتيجة العفو عنه. فإنه وإن كان قد اعترف وتاب، فقد أظهر بولس بوضوح أنه نال المغفرة لا بتوبته قدر ما نالها خلال عطية الله المجانية[20].

القديس يوحنا الذهبي الفم

أمبروسياستر

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

“لذلك أطلب أن تُمكّنوا له المحبة” [8].

لم يتشك الرسول في محبتهم للخاطي، لكن الموقف حساس للغاية، ويحتاج هذا التائب إلى فيض من الحب وتأكيدات لنفسه إن الكنيسة قد نست خطأه وأعادته إلى مركزه الأول.

وأنتِ تدركين الآن معي أننا حين نغتم فوق ما يجب نعمل لحساب إبليس. كما تدركين حيلة الشيطان، وهي أن يدفعنا إلى التطرف. بهذا نحول الدواء الذي يخلصنا إلى سمٍ قاتلٍ. فالتطرف هو سُم فعلي يجعلنا في يدي الشيطان[25].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لأني لهذا كتبت لكي أعرف تزكيتكم

هل أنتم طائعون في كل شيء” [9].

بعد أن قدم شفاعة في الخاطي أراد أن يثيرهم للتصرف السريع بالحب، فحسب ذلك الطلب مقياسًا يدرك به مدى طاعتهم له. يرى البعض أنه يسهل على الإنسان (أو الكنيسة) أن يؤدب، لكن يصعب عليه أن يرد الساقط إلى موضعه الأول داخل القلب وفي الكنيسة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“والذي تسامحونه بشيء فأنا أيضًا،

لأني أنا ما سامحت به إن كنت قد سامحت بشيء،

فمن أجلكم بحضرة المسيح” [10].

ما يحمله من حبٍ غافر به ينسى ما سبق ففعله هذا التائب إنما يتحقق خلال حب الرسول للكنيسة كلها، إذ يريدها العروس الطاهرة. وأن ما يمارسه من نسيان إنما من أجل المسيح الذي هو في حضرته. وكأن هذا التائب عزيز جدًا لدى الكنيسة وعريسها المسيح، وليس لدى بولس وحده! ما يفعله الرسول وما يحمله من مشاعر ليس ضد الكنيسة في كورنثوس ولا ضد فكر المسيح، إنما هذا كله متناغم مع فكر الكنيسة والتي تحمل فكر المسيح.

أمبروسياستر

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس ديديموس الضرير

“لئلا يطمع فينا الشيطان،

لأننا لا نجهل أفكاره” [11].

يقدم الرسول تعليلاً أخر بجانب تناغم فكره مع فكر الكنيسة والمسيح، إلا وهو لئلا يستغل إبليس الفرصة ويحطمه بروح اليأس. وكما يقول القديس مار فيلوكسينوس أنه إن سقط إنسان في اليأس تدخله كل الشياطين.

القديس أغسطينوس

٣. انفتح لي باب في الرب

بعد معالجته موضوع تأجيل زيارته لهم وتشفعه في الساقط التائب، استطرد يحدثهم عن عمل الله معه، إذ فتح له الرب بابًا للخدمة والكرازة. وهو بهذا يهدف إلى خلق جوٍ من الفرح بالأخبار السارة، ولكي يكشف لهم عن شعوره بالصداقة القوية معهم فيحدثهم في أمورٍ خاصة به لا تمس الكنيسة في كورنثوس مباشرة. كما تحدث معهم عن مشاعره الشخصية نحو تلميذه المحبوب لديه تيطس. فمن جانب أنه لا يكف عن العمل المستمر في بلاد كثيرة، ويد الرب معه تنجح طريقه، ومن جانب آخر أن انشغاله المستمر بالخدمة وأتعابه لن تنزع عنه عواطفه ومشاعره نحو أحبائه.

“ولكن لما جئت إلى ترواس لأجل إنجيل المسيح،

وانفتح لي باب في الرب” [12].

بعد كتابته للرسالة الأولى وسط دموعه الغزيرة وحزنه الكثير وكآبة قلبه [٤] لم يرد الله أن يتركه في هذه المرارة، بل أبهج قلبه بانفتاح بابٍ جديدٍ للخدمة والكرازة.

“لم تكن لي راحة في روحي،

لأني لم أجد تيطس أخي،

لكن ودّعتهم،

فخرجت إلى مكدونية” [13].

كان يترقب مجيء تيطس بفارغ الصبر ليخبره عن أحوالهم، فاضطر أن يذهب إلى مكدونية متوقعًا أن يجده هناك، وبالفعل جاء تيطس يبشره بالأخبار المفرحة [٦-٧].

القديس ديديموس الضرير

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

في مثل هدوء الأرواح الملائكية، كان يحيا على الأرض حياة سماوية. وكان يعيش في رفقة الشاروبيم، يشاركهم أنغامهم السرية.

كان يحتمل كل الاضطهادات. كأن جسده لا يخصّه: السجن والقيود والنفي والتشريد والتهديد وخوض البحار والضرب والرجم والموت، وما كان يتأثر من شيء أو يخشى شيئًا.

كان يتحمل كل هذا ولكن انفصاله عن عزيز عليه كان كافيًا لأن يقلقه ويعذبه إلى حد أنه لم يستطع البقاء في مدينة جاء ليكرز بالإنجيل بين أهلها، فإذا هو مُلزم على مغادرتها حالاً [12-13]…

“أجل!” يجيب الرسول: “إن حزنًا قد استولى عليّ لعدم وجود تيطس الحبيب. وما أجبرت على المغادرة إلا حين وجدت نفسي مغلوبًا لا أستطيع أن احتمل ما بي من الشوق[35].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“ولكن شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين،

ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان” [14].

كأنه يقول: “مجيء تيطس نزع عني مخاوفي، وأشبع أعماقي، وتحولت حياتي إلى ذبيحة شكر لله مصدر كل صلاح الذي وهبكم ووهبني إن ننضم إلى موكب نصرته تحت قيادته”.

كان من عادة الرومان كما اليونان قبلهم متى غلب القائد في معركة يدخل العاصمة في موكبٍ مهيبٍ حيث يخرج الشعب كله يكرم الجيش الغالب. وكان القائد غالبًا ما يرتدي ثوبًا من الأرجوان الثمين مُوشى بالذهب، ويرتدي تاجًا على رأسه، ويحمل في يده إكليلاً علامة النصرة، وباليد الأخرى صولجانه. يركب مركبة عظيمة مزينة بالعاج وطبقات من الذهب، غالبًا ما يجرها فرسان بيض، وأحيانًا تجرها فيلة كما حدث مع بومباي Pompey عندما هزم أفريقيا، أو أسود كما حدث مع مرقس أنطونيوس، أو نمورٍ كما مع Helisgabalus، أو غزلان كما مع أوريليوس Aurelius. وكان أبناؤه يجلسون عند قدميه في المركبة أو يركبون فرسان مركبة. وفي وسط هذه العظمة الفائقة يقف عبد خلفه ممسكًا بحجاب وذلك حتى لا ينتفخ القائد ويتعجرف.

يقود الموكب فرق موسيقية تعزف للقائد أناشيد النصرة، خلفها مجموعة من الشباب يحملون ذبائح لتقديمها للآلهة، وقد طلوا قرون الذبائح بالذهب، وزينوا رؤوسها بأشرطة جميلة وأكاليل.

يلي ذلك مركبات تحمل الغنائم التي استولى عليها الجيش من العدو وفرسانهم ومركباتهم الخ. يتبع ذلك الملوك والأمراء والقادة الذين أسروا في المعركة وقد ربطوا بسلاسل حديدية.

بعد هذا كله تظهر مركبة القائد المنتصر حيث يلقي عليه الشعب الورود، ويصرخون بتهليلات النصرة.

يلي ذلك موكب الأشراف المتهللون بنصرة جيشهم وقائدهم.

يُختم الموكب بالكهنة ومساعديهم الذين يقدمون ثورًا أبيض كأعظم ذبيحة مع ذبائح أخرى. أثناء هذا الموكب تُفتح المعابد ويُقدم بخور وذبائح على المذابح.

كان أهل كورنثوس يعرفون كل هذا، لكنهم منذ قرنين سقطت مقاطعة أخائية، ودُمرت كورنثوس بواسطة القنصل الروماني Lucius Mummius.

شتان ما بين موكب النصرة الذي كان القائد الروماني يحلم به وبين موكب النصرة الذي يعيشه الرسول بولس حيث يسقط إبليس في الأسر، ويتمجد الرسول بولس مع كل العاملين معه، وكل الشعب، وتفوح رائحة بخور سمائية، هي رائحة المسيح الذكية.

المؤمن الحقيقي إذ يختفي في الصليب يشعر دومًا بنصرته في المسيح يسوع وتحت قيادته على كل قوات الظلمة: على شهوات الجسد الشريرة والخطية واغراءات العالم الشرير وابليس وكل قواته. وكما يقول القديس أغسطينوس [لقد غلب العالم كله كما نرى أيها الأحباء… لقد قهر لا بقوة عسكرية بل بجهالة الصليب… لقد رُفع جسده على الصليب فخضعت له الأرواح.]

القديس أغسطينوس

         السيد المسيح السماوي نزل إلينا لكي يصير قائد نصرتنا الذي يعبر بنا إلى السماء، إذ هو وحده قادر أن يحملنا فيه ويفتح أبواب السماء أمامنا.

         حقًا إنه بخطية واحد، أي آدم، ملك الموت على العالم، فإنه إن كان بمعصية واحد ملك على العالم، فكم بالأحرى تملك الحياة ببر واحد؟!

         إن كانوا قد طردوا من الفردوس بسبب الشجرة التي أكلوا منها أليس من الأسهل أن يدخل المؤمنون الفردوس بسبب شجرة يسوع؟!

         إن كان الإنسان الأول، الذي وجد من الأرض، جلب العالم للموت أليس بالأولى يجلب خالقه الحياة الأبدية إذ هو نفسه الحياة؟! إن كان فينحاس في غيرته رد غضب الله بقتله فاعليّ الشر (عد6:25-12)، كم بالأحرى يسوع الذي لم يقتل آخر بل “أسلم نفسه فدية” ينزع غضب الله عن الإنسان؟![37]

القديس كيرلس الأورشليمي

القديس يوحنا ذهبي الفم

“لأننا رائحة المسيح الذكية لله،

في الذين يخلصون،

وفي الذين يهلكون” [15].

القديس يوحنا الذهبي الفم

جاء في الإنجيل أنَّ سَكبْ الطيب على رأس ربنا قد فاح رائحة ذكية في أرجاء المنزل حيث أقيمت المأدبة، وكأن المرأة ساكبة الطيب قد تنبأت بسرّ موت المسيح. وقد شهد الرب لعملها هذا قائلاً: “إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني” (مت 12:26).

المنزل الذي امتلأ بهذه الرائحة يمثل الكون بأكمله، العالم كله: “حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كل العالم” تنتشر رائحة عملها هذا مع الكرازة بالإنجيل، ويصير الإنجيل “تذكارًا لها”، إذًا الناردين في نص نشيد الأناشيد يفيح رائحة العريس لعروسه (نش 1 : 12)، وفي الإنجيل أيضًا تصير رائحة المسيح الذكية التي ملأت كل المنزل كطيبٍ يطَّيب كل جسد الكنيسة في كل المسكونة والعالم أجمع[39].

عندما نتفهم النص نجد أنه لا فرق بين أن نتحدث عن أشعة الشمس، وتدفق الفضيلة أو رائحة العطور الذكية. أيًا كان التعبير الذي نختاره، فهناك فكرة عامة واحدة للكل، أَلاَ وهى أننا نكتسب معرفة الصلاح من الفضيلة، ذلك الصلاح الذي يتجاوز كل فهمً، تمامًا مثلما نستدل على جمال أي نموذج من صورته.

هكذا تشبَّه بولس العروس بالعريس في فضائله، وصور بعطره الجمال الذي لا يُدنى منه، وذلك من ثمار الروح: الحب، الفرح، السلام وما شابه ذلك. صنع عطره، واستحق أن يصير “رائحة المسيح الذكية” (2 كو 15:2). لقد استنشق القديس بولس هذه النعمة غير المدركة التي تجاوزت كل نعمة، وأعطى نفسه لآخرين كرائحة ذكية ليأخذوا منها على قدر طاقتهم، حسب تدبير كل إنسان. صار بولس الرسول عطرًا إما لحياةٍ أو موتٍ، فإنه إذا ما وضعنا العطر ذاته أمام خنفس وأمام حمامة، فلن يكون له تأثير مماثل على الاثنين: فبينما تصير الحمامة أكثر قوة حين تستنشقه إذا بالخنفس يموت[40].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

إذ يعيش الرسول في سلسلة لا تنقطع من مواكب النصرة يشتم الآب فيه وفي الكنيسة كلها رائحة المسيح الذكية، حيث يرى فيهم أن إرادته الإلهية قد تحققت.

“لهؤلاء رائحة موت لموت،

ولأولئك رائحة حياة لحياة،

ومن هو كفوء لهذه الأمور؟” [16]

كانت مواكب النصرة تحمل فريقين، فريق غاية في الفرح والتهليل وعلى رأسهم القائد الغالب وجنوده، وفريق غاية في البؤس والمرارة وهم الملوك المأسورون وأبناؤهم وقادتهم، هؤلاء الذين أظهروا ثورةً وعصيانًا.

وفي موكب النصرة المستمر يتهلل المؤمنون الغالبون حاملين رائحة الحياة، بينما ينهار غير المؤمنين المصممون على العصيان والتمرد في عدم إيمان.

يهب المسيح، شمس البرّ، حياةً ونموًا للأشجار المغروسة في كرمه، المرتوية بمياه الروح، ويجفف تلك التي قُطعت وألقيت على سطح الأرض ولا تتمتع بينابيع المياه الحية.

بقوله: “ومن هو كفوء لهذه الأمور” يعني من هو مستحق أن يقوم بهذا العمل العظيم الذي له أثره الفائق: حياة أو موت؟ إنه عمل إلهي فائق ليس في قدرة إنسان ما أن يحققه أو يقاومه. إنه عمل الله نفسه، لن يستطيع الرسل الكذبة مقاومته.

سبق فأدرك إشعياء هذا العمل الإلهي فقال: “أتمجد في عيني الرب، وإلهي يصير قوتي” (إش ٥:٤٩). هكذا يتمتع المؤمن بالمجد لا في أعين الناس والملائكة فحسب، بل وفي عيني الرب نفسه، ويحمل المؤمن في داخله الرب إلهه قوته.

القديس إيريناؤس

العلامة أوريجينوس

أمبروسياستر

القديس يوحنا الذهبي الفم

يدعو الرسول بولس معرفة الله رائحة، تُشتم أكثر منها تُرى.

القديس يوحنا الذهبي الفم

القديس أغسطينوس

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

أمبروسياستر

“لأننا لسنا كالكثيرين غاشين كلمة الله،

لكن كما من إخلاص،

بل كما من الله،

نتكلم أمام الله في المسيح” [17].

إذ يشهد له ضميره عن إخلاصه وبساطته لا يخلط مفاهيم المسيح وتعاليمه بمفاهيمه الخاصة وتعاليمه. بولس الرسول بذاته غير كفوء لهذا العمل لكنه خلال إخلاصه يعمل الله به ويتمم رسالة المصالحة في المسيح يسوع.

إنه لن يسمع ذلك القول الموجه للرسل والأنبياء الكذبة: “صارت فضتك زغلاً، وخمرك مغشوشة بماء” (إش ٢٢:١). وجاءت الترجمة السبعينية “تاجر خمورك يمزج خمرك بماء”، حيث كان الأنبياء الكذبة والكهنة الأشرار يفسدون كلمة الله بأفكارهم الذاتية الخاصة.

أكد الرسول أنه مرسل من الله، وينطق بما يتحدث به معه مباشرة كسفيرٍ له، وأنه يتحدث أمامه وفي حضرته. إنه يطلب تحقيق رسالة المسيح: “تصالحوا مع الله” (٢ كو ٢٠:٥).

القديس يوحنا الذهبي الفم

 

من وحي 2 كو 2

فرِّح قلوبنا معًا فيك!

   شاركتنا آلامنا لنشاركك بهجتك الفريدة.

   تئن مع أنّاتنا، وتتهلل بأفراحنا.

   هب لنا هذه الشركة معًا.

   ولتتحول بهجة خلاصي بهجة لكل المحيطين بي.

   لأتغنّى مع بولس الطوباوي:

   فرحي هو فرح جميعكم.

   ووهبتني القيامة من الموت.

   كيف لا أفرح بقيام الساقطين؟

   كيف لا يتسع قلبي للتائبين؟

   لا تعود تذكر خطاياي،

   فكيف أذكر خطايا اخوتي؟

   افتح لي بابًا للشهادة لعملك الخلاصي أمام الكثيرين.

   متى أرى كل البشرية تنعم ببهجة خلاصك؟

[1] CSEL 81:205.

[2] In Acts, homily 24..

[3] In Joan. PG 59:115.

[4] In Hebrews. PG 62:46.

[5]  الحب الرعوي، ص 616.

[6] The Long Rules, 52.

[7] Homilies on Leviticus, 7:2.

[8] In 2 Cor. Hom. 4:2.

[9] In 2 Cor. Hom. 4:3.

[10]In Num. Hom 10:2.

[11] In  Philip., hom. 15.

[12]  الحب الرعوي، ص 678.

[13] In 2 Cor. Hom. 4:4.

[14] PG 82:387.

[15] The Long Rules, 7.

[16] PG 61: 459

[17] On Repentance and Almsgiving 1:3:22.

[18] In Psalmum 37 Homilia 1:1 PG 12:1370.

[19] In 2 Cor. Hom. 4:4.

[20] In 2 Cor. Hom. 4:4.

[21] On Priesthood, book 3:17.

[22] CSEL 81:207.

[23] PG 82:387.

[24] The Beatitudes, sermon 3, (ACW)

[25] To Olympias, 8.

 في مديح القديس بولس، عظة 3.[26]

[27] In 2 Cor. Hom. 4:5.

[28] CSEL 81:207-8.

[29] In 2 Cor. Hom. In 2Cor. Hom. 4:5.

[30] In 2 Cor. Hom. 4:5.

[31] Pauline Commentary from the Greece Church.

[32]  Robert Llewelyn, The Joy of the Saints, Spiritual Readings throughout the Year, Springfield, Illinois, 1989, p. 56.

[33] Pauline Commentary from the Greece Church.

[34] PG 82:390.

[35] To Olympias,8.

[36]  Robert Llewelyn, The Joy of the Saints, Spiritual Readings throughout the Year, Springfield, Illinois, 1989, p. 56.

[37] Catechetical Lectures, 13 :2

[38] Sunday Sermons of the Great Fathers, vol. 1, p. 113.

[39] Commentary on Song of Songs, Homily 3.

[40] Commentary on Song of Songs, Homily 3.

[41] Adv. Haer. 4:28:3

[42] In Exod. Hom. 9.

[43] CSEL 81:210.

[44] PG 61: 468

[45] In 2 Cor. Hom 5, PG 61:469.

[46] In 2 Cor. Hom. 5:2.

[47] In 2 Cor. Hom. In 2Cor. Hom. 5:3.

[48] To Simplinian – On Various Questions, 1:17.

[49] Eighty Three Different Questions, 27.

[50]  من مجدٍ إلى مجدٍ فصل 4:3.

[51]  من مجدٍ إلى مجدٍ، فصل 31:3.

[52] Commentary on Song of Songs, Homily 1.

[53] CSEL 81:211.

[54] In 2 Cor. Hom. In 2Cor. Hom. 5:3.

تفسير كورنثوس الثانية 2 – الأصحاح الثاني – القمص تادرس يعقوب ملطي

Exit mobile version